لما انتهت المأساة، ورأى الألبانيون أنه لم يعد هناك مملوك إلا وهو مردى، برزوا من مكامنهم، ونظروا بدون خوف لأول مرة في حياتهم إلى أولئك الفرسان المجزورين، فأجهزوا على الجرحى، ومثلوا بالقتلى، واستولوا على الأسلاب. •••
وأما محمد علي، فإنه بعد أن رتب كيفية خروج الموكب، عاد إلى قاعة الديوان الكبرى وأقام فيها، يحيط به أمناؤه، ومع أنه لم يهمل في اتخاذ احتياطاته شيئا، إلا أن القلق كان باديا عليه في روحاته وجيئاته الصامتة في طول تلك القاعة وعرضها، ولما سمع طلقة المدفع المنذرة ببدء المجزرة وقف بغتة، وجرى دمه نحو قلبه بسرعة، فعلا وجهه الاصفرار، ولكنه ما أطل من نافذة، ورأى الفرسان تردى تباعا، والرؤوس تقطع إلا وانتظمت دورة الدم في عروقه، وفارق الاصفرار وجهه، غير أنه لم ينبس بكلمة واحدة، ولما وافاه الجنوي مندرتشي - أحد أطبائه - وقال له مهنئا: «أجل، هذا أمر قد فرغ منه، واليوم يوم سعيد لسموكم!» لم يجب بشيء، ولكنه طلب ماء وشرب جرعا طويلة! •••
وبينما كانت المأساة تجري في القلعة مجراها، سارت النجب بكتب الباشا إلى حكام الأقاليم، تأمرهم بقتل كل مملوك يوجد في دائرة أحكامهم، وكل مملوك يقع تحت أيديهم، فنفذ الكشاف الأوامر، وتباروا فيمن يرسل إلى القاهرة رؤوسا أكثر من زميله، حتى بلغ عدد القتلى في الأقاليم ألفا وزاد.
ولما سمع المماليك الذين كانوا لا يزالون في الصعيد بأنباء الكارثة التي حلت بهيئتهم، سقطت قلوبهم، وخارت هممهم، فأرسلوا إلى محمد علي يطلبون أن يعين لهم المكان الذي يختاره لإقامتهم، فيعيشوا حياتهم الباقية في سلام، فبعث إليهم جيشا تعقبهم بعنف وبلا ملل، وما زال يطاردهم حتى أجلاهم عن البلاد، وألجأهم إلى الإقامة بدنقلة، حيث عاشوا معيشة مهينة، وماتوا موتا لم يلفت أحدا.
هكذا كانت آخرة هذه الطائفة التي حكمت مصر ما يزيد على خمسة قرون ونصف، وهكذا فرغ محمد علي من أمرهم، فزالت بزوالهم آخر الأشواك المحيطة بسلطته، وأخذ خشب سدته يملس وينعم تحته.
وكأني بالتمثال المقام له في الإسكندرية يمثله في هذه الآونة من حياته، حين نزوله من القلعة، ليهدئ روع العاصمة المضطربة، وليتقبل التهانئ في بيت الشيخ الشرقاوي؛ فإنك إذا ما مررت أمامه، وشخصت إليه برهة، كما تشخص إلى رجل حي تصمت أمام أعماله الأرض إعجابا، رأيت كأن نارا تتقد في حدقتيه، وشعرت بأنها نار هزة المجد وعزة القلب الذي بلغ مقصوده، فتسود أمام مخيلتك - في تلك اللحظة - لحيته البيضاء، وتدرك من جلال اليد الموضوعة على خاصرته القوية، ومن عظمة اليد القابضة على زمام حصانه النافر تحته والمختال تيها بالراكب على صهوته، أن محمد علي أدرك مناه، وأذل الصعاب حوله، وتغلب على مقاوميه وأعدائه، وثبت قدميه فوق القمة التي بلغ إليها. •••
وأما صعوبة المال، فإن محمد علي عالجها في بادئ الأمر بالقبض على متولي الحسبة العام - وكان اسمه جرجس الجوهري - ومطالبته بحساب السنوات الخمس الفائتة، فتحصل منه بذلك على أربعة آلاف وخمسمائة كيس.
وما عمله بالمعلم جرجس الجوهري، عمله بباقي متولي الحسبة في الأقاليم، فاجتمع لديه من المتأخر بين أيديهم مال وفير.
ثم أعاد العمل عينه مرة أخرى، فاستخلص مالا جزيلا، ولكن المعلم جرجس الجوهري خاف تجدد هذا الإرهاق في المستقبل ، ففر والتجأ إلى المماليك.
ثم عمد محمد علي إلى طرق أخرى، فاستولى يوما على بضائع قافلة أتت مصر من السويس، ولم يرفع يده عنها إلا بعد أن دفع له أصحابها ألف كيس، واتهم يوما آخر البطرك الرومي بأنه ساعد جرجس الجوهري على الهرب، وفرض عليه مائة وخمسين كيسا، ووضع يوما ثالثا يده على عقارات نساء المماليك، ولم يردها إلى صاحباتها، إلا مقابل ذهب رنان فاضت أيديهن له به، وضبط مرة خمسمائة جمل محملة تبنا، ولم يخل سبيلها إلا مقابل أن يدفع التجار له ثلاثين فرنكا عن كل إردب.
Halaman tidak diketahui