الفصل الثالث
تسلم مصر من الفرنسيين ممثلا الدولة الصدر الأعظم يوسف ضيا والقبطان باشا حسين، وسلطان الزمان - على حد تعبير الوقت - سليم الثالث، وهو السلطان الذي بدأ خطة الإصلاح التي سار عليها خلفاؤه سلاطين القرن التاسع عشر: محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وعبد الحميد، ومحور الإصلاح عندهم إنشاء قوة عسكرية برية بحرية نظامية، مدربة على نمط الجيوش الأوروبية، وهذه القوة يستخدمونها في غرضين: في دفع الاعتداء الخارجي، وفي استرداد حقوق السلطان من مغتصبيها؛ أي في إقامة الحكومة المركزية المطلقة.
وها هي مصر شاءت العناية الإلهية أن تعود لصاحبها بعد أن قام الفرنسيون بعمل نافع؛ زحزحوا الأمراء وشردوهم، وانتزعوا ما كان في أيديهم، وفتكوا بالكثير منهم، أفيعقل بعد ذلك ألا يكمل الوزيران العثمانيان ما بدأه بونابرت بإقصاء الأمراء البارزين عن مصر؟ وبذلك يخلص للسلطان ملك مصر، وتكون قصتها بعد ذلك قصة غيرها من الولايات التي خلص ملكها للسلطان في القرن التاسع عشر إلى أن يأتي اليوم الموعود: يوم انحلال الملك العثماني.
وكاد تنفيذ تلك الخطة أن يتم لولا تدخل السلطات العسكرية الإنجليزية - ولم يكن الجيش الإنجليزي قد غادر مصر بعد - وقد تدخلت تلك السلطات وأرغمت ممثل السلطان على إطلاق سراح الأمراء؛ وكان تدخلها لأسباب: أحدها؛ الاشمئزاز من عنصري المكيدة والغدر اللذين قام عليهما القبض على الأمراء. وثانيها: الاعتقاد الراسخ بأن القوات العسكرية العثمانية سواء منها الآتية من الولايات الآسيوية أو الآتية من الولايات الأوروبية لا تصلح لشيء ما، بل إن عدمها خير من وجودها؛ فما هي إلا شراذم من النهابيين الهمج، وأن الدفاع عن مصر إذا ما حاول بونابرت إعادة الكرة عليها يقتضي إعادة الأمراء - وقد أعجب القواد الإنجليز مظهرهم وفروسيتهم - إلى ما كانوا عليه.
وثالثها: وعد سبق أن أعطاه القائد الإنجليزي في أثناء الأعمال الحربية ضد الجيش الفرنسي للأمراء بأن انضمامهم للحليفتين إنجلترة والدولة لن يضيرهم في شيء، بل على العكس يضمن لهم حقوقهم بعد الانتهاء من الحرب، وقد توهم الإنجليز - إذ ذاك - أن نظام الأمراء وقواتهم الخاصة عنصر أصيل في الحكومة المصرية، وما دروا أنه ليس من جوهرها في شيء، وأنه يكفي جدا لاجتثاثه من جذوره قطع التجارة في الرقيق الأبيض، وأن كل مشكلة الأمراء في مصر لم تكن البحث عن اتخاذهم أساسا لنظام حكومي مصري جديد - كما توهم الإنجليز - بل تنحصر في تدبير أمر أشخاص بالذات مدى أعمارهم الطبيعية، وهذا التدبير لا يستلزم أكثر من توفير العيش الهنيء لمن يريده من الأمراء - وأكثرهم لا يطلب القوة ولا يجمع الأتباع إلا لذلك - وفتح وظائف الجندية والإدارة لمن يريدها من تابعيهم، والضرب على أيدي من يأبى الاستقرار منهم.
ولو خلص الأمر لمحمد علي في السنوات الأولى من حكمه لتم حل المشكلة على هذا الوجه، ولكن جرى كل شيء على عكس ذلك تماما؛ فبينما رجال الدولة يدركون حقيقة مركز الأمراء فيعملون على منع إرسال الغلمان لأسواق الرقيق في القاهرة؛ نراهم في نفس الوقت يتعجلون حل المشكلة دفعة واحدة بالقبض على الأمراء لإقصائهم عن مصر، ولما أخفقوا في ذلك؛ لتدخل السلطات الإنجليزية عجزت القوات العسكرية العثمانية الباقية في مصر عن إخضاعهم، فكانت الحوادث الممهدة لبلوغ محمد علي باشوية مصر.
قدم محمد علي لمصر مع القوة العثمانية التي جمعت في تركية أوروبا، وقد اصطلح على تسميتها بالقوة الألبانية؛ لأن أكثر رجالها كان منهم، وخدم محمد علي في تلك القوة العثمانية الأوروبية وترقى سريعا في رتبها العسكرية، ولكنه لم يكن منها ولا فيها في أكثر من ذلك؛ فلا هو ألباني ولا ارتباط وثيق بيننا وبينهم، بل كان الارتباط الوثيق - قبل تولية محمد علي وبعد توليته إلى أن تلاشى أمر القوة الألبانية تماما - بين الألبانين وزعمائمم الطبيعيين من رجال العشائر الألبانية ورؤساء العصابات في بلادهم، أمثال: طاهر باشا وحسن باشا وصالح قوج ومن إليهم، وكان محمد علي وحيدا فريدا في أوانه، لم يصطنعه أمير ولا وزير، بل ولا سلطان، ولم يقدمه سفير أو قنصل، بل ولا إمبراطور، ولم يكن مخلوق حزب أو أداة جماعة:
نفس عصام سودت عصاما
وعودته الكر والإقداما
وصيرته ملكا هماما
Halaman tidak diketahui