ثم قام اليونان بثورتهم، وتحركت جيوش السلطنة وأساطيلها وجيوش محمد علي وأساطيله لقمع تلك الثورة، وبدأ بذلك فصل جديد في سياسة محمد علي؛ فصل يمكنه من أن يتبين أمرين أساسيين، الأول: مدى إمكان التعاون بينه وبين حكومة السلطنة في إحياء القوة العثمانية، الثاني: موقف الدول الأوروبية منه ومن حكومة السلطنة، ولم تكف حوادث الثورة اليونانية وحدها لجلاء الأمرين وإنارة الطريق أمام محمد علي وأمام السلطنة والدول الأوروبية، بل احتاج ذلك أيضا لمفاوضاته مع فرنسا بشأن إخضاع داي الجزائر، ويشغل هذا الفصل - فصل التبين - السنوات من 1824 إلى 1830 تقريبا، وسنبحث حوادثه من هذه الوجهة. •••
في أبريل سنة 1821 انتهز يونان المورة فرصة عصيان علي باشا والي يانينا لإعلان استقلالهم، وأكدوا عزمهم وكشفوا عن خططهم بإبادة الحاميات الإسلامية المنبثة في أنحاء بلادهم، وبالفتك بكل من فيها من المسلمين غير الجنود شيوخا ونساء وأطفالا وامتدت الثورة للجزائر اليونانية، وانضم رجالها وسفنهم لتأييد الحركة، وأصبح بذلك لدى الحكومة الوطنية اليونانية أداة قوية جدا لمنع السلطان من استخدام المواصلات البحرية لنقل جيوشه لبلاد اليونان، وفي البحر أيضا أكد اليونان عزمهم وكشفوا عن خططهم، فسلطوا سفنهم ومحرقاتهم على تجارة العدو وتجارة الصديق على حد سواء.
قابلت حكومة السلطنة خطط الثائرين بمثلها، وأجابت على ذبح غير المحاربين بمثلة أو بأحسن - أو بأسوأ - منه، ولم يغن هذا عن السلطنة شيئا ولم يرد لها ولاياتها المفقودة، فاستنجدت بمحمد علي، وقبل أن ينجد السلطان في إخضاع جزيرة كريد أولا ثم في إخضاع بلاد اليونان كلها ثانيا، قبل أن يتولى ذلك؛ لأن محيي العالم العثماني لا يستطيع أن يتجاوز عن حركات العصيان في أقطاره وعما صحبها من ذبح الأبرياء ومن تعطيل التجارة في حوض البحر المتوسط الشرقي، ولأن ذلك المحيي أراد أن يثبت لأهل العالم العثماني ولأوروبا قدرته، ولأنه أيضا يتمكن بذلك من أن يتبين مدى إمكان نجاح توجيه تشترك فيه القاهرة والقسطنطينية للخطط الحربية والسياسية، ولأنه أخيرا يستطيع أن يزيد في تقوية قاعدته (مصر) بوضع جزيرة كريد تحت إدارته المباشرة.
ولم يخش عندما قبل أي اصطدام بأوروبا؛ فإن الدول إذ ذاك لما عرفت أن اتخاذ أية خطوة إيجابية لتسوية ما بين السلطان واليونان يكشف عن انقسامها، ويفتح الباب لما لا تحمد عقباه؛ آثرت السلامة في إعلان حياد رسمي، وتركت حرية العمل لمن يريد من رعاياها شفاء غليل من المسلمين، أو رد جميل اليونان الأقدمين لأبنائهم الثائرين، أو رفع صوت الحرية عاليا في ركن من أوروبا عل صداه يتجاوب في أركانها الأخرى.
أخضع محمد علي جزيرة كريد وما اقترب منها من الجزائر الصغرى بوسيلتي اللين في موضعه والشدة في موضعها، ثم وجه الحملة الكبرى بقيادة ابنه إبراهيم: جيشه المصري الجديد وأسطوله الأول، وهدف الحملة الأول (وهذه خطة وضعها محمد علي بنفسه) تطهير الجزائر، وتنظيف الجيوب والأوكار المنبثة فيها لتأمين المواصلات البحرية، ثم محاولة النزول في أرض المورة بعد ذلك، ولكنه سرعان ما اكتشف أمرا له دلالته؛ اكتشف أن الحكومة العثمانية فصلت عن القيادة العامة للقوات البرية والبحرية (قيادة إبراهيم) قيادة أسطولها، ولم تكتف بهذا الإجراء المعرقل الضار فاختارت لرياسة أسطولها عدوا شخصيا لمحمد علي هو محمد خسرو باشا صديقنا القديم في مستهل القرن التاسع عشر.
وليت خسرو كان قد أثبت مقدرة في حرب البحر تبرر تعيينه، أو استطاع أن ينزع من صدور رجاله الرعب الذي كان يملأها من المحرقات اليونانية، فكانت خططه كلها تدور على تجنب اللقاء، ولم يتجنب اللقاء بأعدائه اليونان فحسب بل بأصدقائه المصريين أيضا بدعوى الإصلاح والتجديد والاحتفال بانتصار صغير جدا ناله على الأسطول اليوناني، فترك خسرو البحر لإبراهيم، وأنزل هذا عسكره في كريد مترقبا فرصة نقله لبلاد المورة وتجول في تلك البحار، وكانت لأسطوله منازلات مع الأسطول اليوناني خرج منها سالما، ولنذكر أنه ينازل برجال - لم يطل عهدهم لا بحرب البحر فحسب بل بسفر البحر أيضا - رجالا ركوب البحار وتجارة البحار والتلصص في البحار في دمهم آلاف السنين ، ثم انتهز فرصة تمرد رجال البحرية اليونانية على حكومتهم لتأخرها في دفع مرتباتهم ونقل جيوشه لبلاد المورة، وهنا أيضا أول عهد الجيش الجديد بالحرب الجدية، وسار إبراهيم من نصر إلى آخر إلى أن أتم اكتساح بلاد المورة وانتقل منها إلى الأقطار اليونانية الأخرى شماليها.
واتهمه الأوروبيون بأنه عمل على استئصال الأمة اليونانية وتطهير أرضها قضا وقضيضا لينزل بها عربا أو سودانا مسلمين، وقد دفع المؤرخون الأوروبيون المحدثون هذه التهمة عنه وبينوا أنها فرية لا أصل لها، وشرحوا أن في مثل حرب المورة؛ أي في الحرب ضد ثورة قومية؛ يصعب على القائد - أو يستحيل عليه - أن يفرق في عملياته الحربية بين أعدائه المحاربين من الجنود وأعدائه المحاربين من غير الجنود، كما أن سلامة عسكره قد تقتضي تخريب القرى والحقول، وشرحوا أيضا ما أدت إليه طبيعة تلك الحرب من أن الأسر لا يسري على الجنود فقط بل يمتد إلى نسائهم وصغارهم، ثم بينوا ما بذله محمد علي - من الجهد والمال - لجمع من بيع بمصر من سبي المورة وتحريره ورده إلى بلاده، وأشادوا بحسن معاملته لليونان المقيمين بمصر، وتركه لهم حرية كاملة لكسب رزقهم، بل وللعمل لأغراض ثورتهم أحيانا، وذلك في أوقات تقدمت فيها السفن اليونانية نحو الإسكندرية للاستيلاء على السفن التجارية الخارجة منها أو الداخلة إليها، بل ولمحاولة إحراق ما في مينائها من السفن التجارية والحربية، كما أشادوا باستطاعته بث الهدوء والطمأنينة في أهل كريد مسلميهم ونصاراهم، وباستطاعته اجتذاب بحريين من اليونان غير قليلين للعمل في أسطوله!
ولما ظهر للأوروبيين أن لهيب الحرية اليونانية سوف ينطفئ في بحر من الدم؛ تحركت الدول للعمل الإيجابي الذي حاولت تجنبه زمنا، وآن لها أن تفعل شيئا فقد أصبح اعتداء البحرية اليونانية على التجارة أمرا لا يكفي الاحتجاج عليه لدى السلطان ولي الأمر الرسمي ولدى اليونان أصحاب الأمر الفعلي في البحار، ثم حدث أن توفى الإسكندر قيصر الروسيا وكان حريصا على ألا ينفصل عن الدول الأخرى من أجل اليونان وتولى بعده أخوه نيقولا وكان رجلا من طراز آخر، لا يتردد في تنفيذ ما يراه إما بالاتفاق مع أوروبا - إن أمكن - وإما وحده إذا لم يكن من ذلك مناص، فقامت مفاوضات انتهت باتفاق يولية 1827 بين الروسيا وإنجلترة وفرنسا، مؤداه السعي لإقناع الفريقين المتحاربين بوقف القتال، وإذا لم ينجح المسعى تستخدم الدول الثلاث ما تشير به ظروف الحال من الوسائل لمنع استمرار الحرب، ومن هذه الوسائل إعلان الحصار البحري للسواحل اليونانية بواسطة أسطول أوروبي مشترك.
وقد رفض السلطان رفضا تاما أن يقبل أي تدخل أوروبي فيما اعتبره شأنا داخليا عثمانيا صرفا، بل وأقسم ودموعه تسيل على خديه ليقتلن كل يوناني في مملكته، وإذا لم يصد هذا الأوروبيين، ليقتلن الأرمن وغيرهم من رعاياه، بل ليخلطن دماء الفرنجة بدماء الرعايا من أهل الذمة، والظاهر أن محمودا لم يتوقع بقاء الجبهة الأوروبية دون تصدع، والثابت أن الحكومة النمسوية - وكانت غير راضية عن سياسة اتفاق يولية - شجعت محمودا على رفض التدخل الأوروبي، وعملت من جانبها على الحض على الإسراع في سحق الثورة قبل أن يتحول التدخل الأوروبي إلى حقيقة.
وسحق الثورة أو عدم سحقها قد خرج من يد السلطان وانتقل إلى يد محمد علي، صاحب الجيوش والأساطيل، فاتجه السعي نحوه، خطر ذلك للإنجليز أولا، وأدركوا أن انسحاب محمد علي من الميدان يبطل القتال توا.
Halaman tidak diketahui