وقد شبهه أستاذنا أرنولد توينبي بالكلاب التي يدقق الراعي - كل التدقيق - في اختيارها وإعدادها وتناسلها وهي (...) الأيمن في قيادة القطيع، في حفظه من التردي في المهالك وفي منع الضواري عنه، وبالجملة في منع القطيع من الشرود عن جادة الطاعة والانقياد. والمطلعون على تاريخ النظم العثمانية يعرفون كيف خرج «الكلاب» على راعيهم وأبوا - على توالي الزمن - إلا أن يملوا هم شروطهم وأن يعيشوا عيشتهم على النحو الذي يرضيهم، فكان فساد الحكومة العثمانية، وكان بحث السلاطين ابتداء من القرن الثامن عشر عن أسس جديدة لتنظيم الحكومة العثمانية.
أخذ محمد علي عن النظم العثمانية الأولى ضرورة خلق الصفوة الفعالة، كما أخذ عنها أيضا ضرورة ربطها بولي الأمر بأقوى الروابط، ولكن الشبه يقف عند هذين الحدين، فالصفوة المحمدية العلوية لا تتكون إلا لحد محدود من المماليك والعتقاء والسبي، وحتى هذا كان في أوائل عهده فقط، وفيما بعد جرى محمد علي على طريقة الاختيار - أو الفرز، في اصطلاح ذلك الوقت - من بين تلاميذ معاهده الدراسية.
أما عن الروابط بين الأرستقراطية وولي الأمر فقد رأينا كيف وضعها محمد علي على أساس علاقة المحبة والتضامن في اكتساب المجد وفعل الخير والإصلاح المعمر، وكان أمله أن يبقى هذا بعد موته بين أبنائه وأبناء رجاله، وعلى هذا الأمل بنى عهده السياسي، واكتفى - في أمر الناحية التنظيمية بمعناها الضيق - بما سنه من لوائح تنظيم الإدارة متعلقا بواجبات الرؤساء والمرءوسين وما إليها - ونظر إليهم - كما رأينا - نظرة تغاير نظرة السلطان إلى أعوانه - أو بعبارة أصح إلى أداته - فلم يعتبرهم مجرد آلات للتنفيذ، بل أشركهم في وضع الخطة وفي تنفيذها على اعتبار أن الخطة خطتهم وأن النجاح أو الفشل مما يهمهم مباشرة.
قال في الخطبة التي سبق أن أشرنا إليها واعتبرناها عهده السياسي: «المحاشاة والموافقة في الأمور المضرة بالمصلحة والأصول الموضوعة من أعظم الجرائم، فيجب الاجتناب عن ذلك حتى إذا كنت آمرا أحدكم شفاها أو تحريرا بقولي له: أجر المادة الفلانية بهذه الصورة وحصل منه اعتراض علي وذكرني وأفادني شفاها أو تحريرا بأن المادة المذكورة مضرة فهذا يكون منه عين ممنونيتي الزائدة، وقد أثبت لكم مرارا كسب محظوظيتي من الإخطارات الواقعة حتى الآن التي يترتب عليها ممنونيتي في أعلى درجة وها أنا مرخص لكم في ذلك الرخصة التامة، المرة بعد المرة.»
ولم تتكون الأرستقراطية المحمدية العلوية - كما كان الحال في الهيئات الحاكمة الإسلامية القديمة - من رجال السيف ورجال القلم فقط بل هي أرستقراطية الفنيين، وذلك بحكم ما أخذته الدولة المحمدية العلوية على نفسها من الشئون التي لم تر الدولة الإسلامية - أو الدولة الأوروبية حتى عصر الانقلاب الاقتصادي الكبير - أنها من شأنها، وبحكم القاعدة التي أخذت تسود في القرن التاسع عشر وقضت بوجوب إسناد تلك الشئون الجديدة إلى فنيين قد أعدوا إعدادا خاصا لمواجهة التطورات الجديدة وتعقيداتها، وهذا فن القيادة العسكرية مثلا، كان حتى ذلك العهد يكفي للإعداد له حسن الاستعداد الطبيعي وإتقان ركوب الخيل واللعب بالسيف، فقد أصبح فنا معقدا، يقتضي من أصحابه دراسات علمية نظرية تقوم عليها أخرى تطبيقية بالإضافة إلى ما كان يقتضيه من التدريب الجسماني والخلقي. وقس على ذلك ما اقتضته دائما خطة محمد علي الشاملة من اصطناع قوة الحديد والمال والعلم.
وإذ قد أصبح «للفنية» هذا الشأن في تكوين رجال الصفوة، فلم يبق محل لاشتراط الإسلام فيهم. والواقع أن استخدام محمد علي لغير المسلمين يختلف تماما عما جرى من استخدام الكثير من الحكام المسلمين القدماء لهم، فظروف هؤلاء الحكام لا تقتضيه، بل تقتضي ألا يكون، والدواعي التي دعتهم إليه حقيقية بالاستنكار، ما هي تلك الدواعي؟ سلطان يشتط في جمع المال فيسلط على رعاياه «من لا يخشى الله ولا يرحمهم» من أهل الذمة ثم يجزيه في النهاية جزاء سنمار، أو سلطان يخشى اغتيال أقرب الناس إليه من أهله فلا يركن إلا إلى طبيب نصراني وهلم جرا.
فما جرى من استخدام أهل الذمة إذ ذاك كان في الواقع مما بعثه فساد المجتمع وأدى إليه، والأمر على عكس ذلك تماما في دولة محمد علي ومجتمعه، من شئون الدولة ما هو فني صرف لا معنى لأن تشترط في من يقوم به سوى الكفاية الفنية، واشتراط غيرها من الشروط تضييق وضيق لا يتفقان مع مصلحة المسلمين ولا تستسيغهما نفسه السمحة، ولا ترفعه عن هذا اللون من التعصب، ولم يكن محمد علي بالرجل الذي يسترد باليسرى ما يعطيه باليمنى، فكان إذا أحسن غير المسلم الخدمة وأخلص لولي النعم وخدمة مصر أحسن إليه محمد علي جزاء إحسانه وأعطاه كل حقه حيا وميتا، علم أن محافظ الإسكندرية لم يقم بواجبه في الاحتفال بتشييع جنازة بوغوص بك، مدير الأمور الخارجية والتجارية الأمين فساءه ذلك وكتب إليه موبخا «لعدم إرسال العساكر وخلافه: ولا أدري ما الداعي لذلك ولا يخفى عليكم الخدم المبرورة التي أداها بوغوص بك في نحو 41 سنة» ونبه عليه بتدارك ما فاته.
وإذا كان هذا شأنه في تقدير الكفاية - على الرغم من اختلاف الدين - أفيعقل أن تتأثر خططه بالتعصب لجنس على جنس؟ كان أرجح حلما من أن يعتد بما ليس في الواقع من اجتهاد أو فضل أي إنسان، كأن يكون مولده في الموطن الفلاني لا في غيره، ومثل هذا التعصب يؤدي إلى حرمان العمل ممن يصلحون له، وهذا إسراف، والرجل يمقته، وهذا التعصب أيضا مما يصرف الناس عن الجد ويصرفهم إلى السفاسف، ويثير فيما بينهم البغضاء والحزازات والوقت وقت الجد وفي خدمة الوطن متسع للجميع، فلا تعصب على المصريين ولا إيثار لغيرهم عليهم، وأبواب «الأرستقراطية» مفتوحة لهم - وولجوا إليها فعلا - وما ذاع عن حرمانهم من مناصب القيادة في الجيش والأسطول لمصريتهم وهم يحتاج أمره إلى تبديد، لم يعرف جيش من جيوش العالم في ذلك الوقت حتى جيوش الثورة الفرنسية - على عكس ما يتوهم الناس - شيوع خطة الترقية من تحت السلاح إلى رتب القيادة ولا تعرفها جيوش وقتنا الحاضر إلا في حدود ضيقة جدا نسبيا، وهذا على الرغم من شيوع التعليم والاستنارة في جيوش المعسكرين.
والحال أن ضباط الجيوش الأوروبية في وقت محمد علي وفي وقتنا الحاضر ينتمون للطبقة الوسطى أو لطبقة الأشراف، من شباب الطبقتين - كما هو الحال في مصرنا الآن - من يختار العسكرية ويلحق بمعاهدها اختارها ليعد لوظائف القيادة، وهذا صحيح على الأمم التي اختارت سياسة الجندية الإجبارية لتكوين قوتها العسكرية؛ كفرنسا مثلا، وعلى الأمم التي اختارت سياسة التطوع لتأليف قواتها الحربية كإنجلترة في معظم أدوار تاريخها العسكري. إذا تحققنا ذلك وعرفنا أن ذوي اليسار الكبير أو الصغير من أهل مصر، الذين يصح أن نقابلهم بالطبقة الوسطى في الأمم الأوروبية، لم يقبلوا بعد في عهد محمد علي على اختيار العسكرية لأبنائهم لابتعادهم عنها قرونا عديدة.
كما أننا إذا تحققنا أن جيوش العالم كلها لا تعرف الترقية من تحت السلاح أساسا لتكوين الضباط؛ إذا تحققنا هذا كله أدركنا لم خلت وظائف القيادة في الجيش المصري في عهده من المصريين - وأن لا أساس لم زعموه من تعصبه للترك عليهم - بل إن كبار رجال العسكرية الأوروبيين كثيرا ما عبروا له ولإبراهيم عن رأيهم بأن أضعف ما في جيشه ضباطه غير المصريين، وشاركهم في هذا الرأي مؤرخ الجيش المصري الجنرال فيجان المشهور، ونسب ضعف الضباط إلى عدم إقبال أبناء الطبقة الوسطى في مصر إذ ذاك على احتراف العسكرية، وهذا النفور مما لا يمكن علاجه بالإجبار.
Halaman tidak diketahui