وهكذا بلغ محمد علي باشوية مصر، ولا جديد في هذه القصة؛ فإن مقدماتها ووقائعها تكاد تكون سنوية في تاريخ مصر منذ الفتح العثماني، والجديد تماما هو أن الذي تولى الباشوية كان محمد علي ولم يكن غيره، هذا وحده هو وجه الأهمية في الأمر كله؛ فقد أدرك محمد علي منذ أيامه الأولى في مصر أنه لم يتول أمر باشوية عثمانية عادية، بل جلس على عرش مملكة عظيمة كل ما حوله فيها يشهد بما كان لملوكها وسلاطينها ، وأن عناية الله سلمته حكم أمة واحدة يدر نيلها وأرضها الفيض العميم، وأن الميدان خليق بالأبطال.
كما أدرك بالفكر الثاقب الذي وهبه الله أن لا بد لحكم مصر من انتهاج مناهج جديدة وأن طرق الباشوات والأمراء وإنفاقهم العمر في جمع المال وبعثرته، وتوطيدهم أقدامهم بصلم الآذان وخزم الأنوف، وقطع الرءوس، لم تؤد إلا إلى الخراب الشامل؛ فهدته مواهبه لسياسة من نوع آخر، يحقق بها رجاء الناس فيه؛ فيصون أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، ويرتقي بهم درجات إلى ما لم يكونوا يعهدون.
وكانت الساعة أيضا حقيقة بالبطولة: فقد فتحت الحوادث أعين السياسة الأوروبية لمصر ولغيرها من البلاد الإسلامية، ألم يسبق توليته نزول الفرنسيين بمصر؟ ألم يكن إجلاؤهم عنها إلا بشق الأنفس وبفضل معاونة دولة أوروبية أخرى؟ ألم تتداع القوة الإسلامية في الهند نحو الانهيار النهائي؟ ألا يحس كل عثماني بضغط الدول الأوروبية على السلطنة العثمانية وتوغل الروسيين في اتجاه فارس والإمارات الإسلامية الآسيوية؟ فالأمر إذن لا يحتمل التأجيل، وإعزاز مصر والإسلام يتطلب: العمل السريع، الإصلاح الشامل، القوة التي تصون الكرامة؛ قوة الحديد والمال والعلم.
الفصل الرابع
جاشت في صدر محمد علي هذه المعاني ومثيلاتها من أول الأمر، وجال بصره في الميدان حوله فوجده ممتلئا بأنقاض الماضي، فكان لا بد له من شق طريقه بينها وحولها قبل أن يستطيع أن يزيح الأنقاض ويمهد الأرض للبناء.
وقد ورث محمد علي فيما ورث عن الماضي القريب والبعيد أن تكون مصر مما يهم بعض الدول امتلاكه ومما يهم البعض منع ذلك الامتلاك وقد خفي ذلك الوضع المؤلم الجارح للكرامة في السنوات الواقعة بين جلاء الفرنسيين عن مصر وولاية محمد علي أمرها (أي بين 1801 و1805)؛ ففي تلك السنوات كانت وقائع الكفاح بين فرنسا - وقد قبض الجنرال بونابرت على أزمة حكمها - وحلف أوروبي قوي يرمي إلى نقض ما أبرمه بونابرت في داخل فرنسا وخارجها، وانصرف جهد بونابرت كله إلى إفساد خطة أعدائه وتوطيد نظامه الجديد.
وقد نجح في ذلك نجاحا كبيرا؛ فتوج عمله الداخلي بإعلان الإمبراطورية، وهزم النمسا والروسيا هزائم مضعضعة، وربط فتوح فرنسا بشخصه عن طريق أقاربه، ولكن النجاح لم يكن تاما والتسوية لم تكن نهائية؛ فإنجلترة لم يتغلب عليها بعد (وما بقيت إنجلترة قائمة فلا سيادة لأحد على أوروبا)، وضرباته الحربية لأعدائه في القارة كانت مضعضعة ولكنها لم تكن قاتلة، ولم يظهر بعد أن أواصر الرحم بين الحاكمين أقوى على ربط الفتوح بفرنسا من اتفاق المصالح والعواطف بين المحكومين، وكان من شأن انهماك كل من فرنسا وأعدائها - فيما وصفنا - أن انعدم التأثير الأوروبي انعداما يكاد يكون تاما في الحوادث التي جرت في مصر فيما بين 1801-1805 والتي انتهت - كما رأينا - ببلوغ محمد علي ولاية الأمر.
ولا صحة لما اختلقوه من بحث القنصل الفرنسي عن رجل جدير بعطف الحكومة الفرنسية واهتدائه إلى محمد علي وكتابته لحكومته بهذا «الترشيح» وتأييد فرنسا لذلك لدى الباب العالي، لم يحدث شيء من هذا قطعا، ولم يتجاوز هم القنصل الفرنسي حماية نفسه ومواطنيه في الاضطراب السائد في القاهرة، وقد ضعف النفوذ الفرنسي في القسطنطينية في تلك السنوات لدرجة أن حكومة الباب العالي رفضت الاعتراف بنابليون إمبراطورا على الفرنسيين، وكان ذلك تحت إملاء الروسيا، وانسحب السفير الفرنسي وانقطعت العلاقات بين الدولتين زمنا، ولكن انتصار نابليون في أوسترلتز قرب نهاية سنة 1805، وتمزيقه التأليب الأوروبي بإخراج النمسا من الحرب؛ غير الموقف للدولة العثمانية ولمصر تغييرا كبيرا وواجه محمد علي بعد 1805 نتائج ذلك التغيير.
فقد اتخذ نابليون ابتداء من سنة 1806 من الميدان العثماني الفسيح عنصرا هاما في خططه السياسية والحربية وعمل على ما سماه: «إحياء ما لأراضي السلطان من أهمية حربية وسياسية»، وسعى إلى بث روح التحمس في السلطان وحكومته ضد الروسيا، وأن يقنع السلطان بربط مصيره بالإمبراطورية الفرنسية لإحياء مجد الدولة، وقد قبلت الدولة أن «تتحمس» ولكن بقدر وحساب؛ بالقدر الذي يدفع عنها الضغط الروسي دون أن يربطها بالتنظيم النابليوني الأوروبي ربطا محكما أو نهائيا.
ورأت الحكومة البريطانية - بإزاء ذلك - أن تضغط هي أيضا على الدولة العثمانية لتعاونها على التخلص من النفوذ الفرنسي والبقاء داخل نطاق النفوذ الروسي ، واختارت إنجلترة القيام «بمظاهرة بحرية» أمام العاصمة يتلوها احتلال عسكري لثغر الإسكندرية إن أخفقت المظاهرة في حمل الدولة العثمانية على إبعاد السفير الفرنسي وقطع علاقاتها بفرنسا، وكانت حجة الإنجليز أن رفض قطع العلاقات معناه الخضوع العثماني لفرنسا، وتكون إنجلترة إذن في حل من أن تستولي على ما يهمها من أرض السلطان حذر وقوع الكل في أيدي الفرنسيين.
Halaman tidak diketahui