Muhammad Ali Jinnah
القائد الأعظم محمد علي جناح
Genre-genre
بل علمه القائد الأعظم قبل أن يعلمه طبيب، وكأنه لم يعلمه ولم يقع في خلده أن يعلمه، فلم يستمع إلى تحذير ولم يحفل بنذير.
وكلما وعد أن يمسك عن العمل، أو أن يجعل لعمله حدا، غلبته شهامة قلبه فنسي الوعد الذي لم يتعود قط أن ينساه، وأكب على عمل جديد، تعقبه أعمال جديدة؛ لأن الكف عن العمل - وهو ناظر إلى مطالبه - يتقاضاه من القلق والجهد أضعاف ما يتقاضاه شغلان فكره بالأعمال، وعذره لنفسه سائغ معقول.
إلا أن الشيخوخة في السبعين، ومعها إعياء القلب، لا تسيغ ذلك العذر ولا تعقله، ويستوي عندها من يجترئ على حكمها القاهر معذورا أو غير معذور.
إلى أن بلغ الكتاب غايته وحم الأجل في يوم من أيام الصيف التالي لقيام الدولة الفتية، فشوهدت في سماء العاصمة طائرة قادمة من «بلوخستان» في ساعة الغسق، قل من كان يعلم ما فيها تلك الساعة ... وفيها القوة المحركة للدولة كلها، جاءت إلى عاصمتها لتصبح رفاتا بعد ساعات.
وكان حرس المطار من العارفين بوديعة تلك الطائرة المدلجة في الظلام، فأدوا لها التحية، وشاهدوا - لفرط دهشتهم - آخر حركة «رسمية» لذلك البنيان النحيل الذي ما كف يوما عن الحركة: يتحامل على نفسه ليرد التحية وهو بين الحياة والموت.
وبلغت الساعة العاشرة منتصفها حين أذن القضاء بختام تلك الحياة، وسرى النبأ بطيئا بطيئا كأنه ينوء بحمله الثقيل، وخف الوزراء إلى الدار يمشون كالأشباح بين حجرات غارقة في الضياء.
وعجت الدار بالنشيج المختنق، وانفجر النشيج بعد مغالبة لم تفلح، فترامى في جوانب القصر رجال أشداء، جبابرة من جنود الحرس في موكب القائد المسجى على فراشه، تعودوا أن يذهبوا به وأن يعودوا به من حيث ذهبوا، وعلموا أنهم عما قليل سيذهبون به إلى حيث لا عودة، وسيذهبون به ولا يسمعون له صوتا، وقد عهدوا له - حيث ذهب - صوتا مسموعا يتجاوب صداه في الدنيا، ويصغي إليه المنصتون في كل مكان.
وإلى جوار الجثة ظل لا يهتز ولا ينشج ولا يهم بالنشيج: تلك هي الآنسة الشقيقة في السواد، وهول الصمت في عينيها الجامدتين أشد من هول الدموع في أعين أولئك المردة الناحبين.
وما هو إلا أن سرى النبأ المرهوب في أنحاء العاصمة حتى غص الطريق بالوافدين: مائة ألف، مائتان ثم اشتملت الطرق المحيطة بالدار كل من في المدينة من قادر على المسير، لم يتخلف رجل ولا امرأة ولا طفل صغير.
وفتحت الأبواب للجموع المشيعة تلقي النظرة الأخيرة على الوجه الذي لن تراه بعد اليوم، فتعاقبت في نظام لم ينظمه أحد غير ما في باطن النفوس من خشوع، واستند بعضهم على أكتاف بعض يبكون، وألعج قلوبهم بالحزن وفجر عيونهم بالدموع تلك الابتسامة التي ارتسمت على الوجه القوي الوقور، رسمها الموت حيث ضنت متاعب الحياة أن تتركها هنالك مرتسمة عليه كل يوم.
Halaman tidak diketahui