إهداء الكتاب
1 / 1
-بكل خضوع وخشوع، أقدّم كتابي هذا إلى محمد رسول الله ﷺ.
إلى من أُنزل عليه الفُرقان. ونشر لواء الإسلام. وعلَّم الخلق كيف يعملون لدنياهم الفانية وآخرتهم الباقية.
إلى نور الهُدى الذي بلغ من حسن الخلُق ورُجحان العقل وثبات العقيدة، غايةً ليس وراءها مُطَّلَعٌ لناظر، ولا نهايةٌ لمستزيد ولا فوقها مُرْتَقىً لِهمَّة. من أثنى عليه رب العالمين فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .
هذه يا رسول الله سيرتك الطاهرة العاطرة، أرجو أن تنال عَطْفَك وتحظى برضاك. فإني لم أُرِدْ غيرَ وجه الله الكريم والتبركَ برسوله الأمين. وخدمة المسلمين أجمعين.
1 / 2
المقدمة
1 / 3
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبيّ العربيّ الأميّ الأمين، الذي سطعت أنواره من مكة المكرمة فأضاءت الأنام وبددت جحافل الظلام، ومحت الوثنية ومحقت الأصنام وثبتت بفضل جهوده دعائم الوحدانية وأسس الإيمان وانتشرت الفضائل بالاقتداء بسيرته والاهتداء بتعاليمه.
وبعد فهذه قطرة من بحر السيرة النبوية عنيت بتأليفها وتنسيقها لتكون درسًا ومرجعًا لطلاب التاريخ الإسلامي. وقد بذلت المجهود في البحث والتنقيب والاطلاع على ما ألف في هذا الموضوع المترامي الأطراف الذي قضى العلماء فيه أعمارهم من قديم الزمان إلى الآن، واستعنت بأوثق المصادر وحققت ما وجدت من خلاف وجمعت شمل ما تشتت في بطون الأسفار، فلم أقتصر على كتب السير وهي تفوق حد الكثرة، بل اعتمدت أيضًا على تفاسير القرآن الشريف وكتب الحديث الموثوق بها وتراجم الصحابة رضوان الله عليهم ومعاجم اللغة وساقني البحث إلى مطالعة كتب المستشرقين في السيرة النبوية للوقوف على طرائق بحثهم وسردهم الحوادث ومواطن شبههم واعتراضاتهم، فمنهم المنصفون وهم الأقلون وقد استشهدت بآرائهم في الدفاع عن صاحب الشريعة، ومنهم المعتدلون لكن لا تخلو تعليقاتهم من اعتراضات ومغامز خفية وشبهات لا يستطيع ردها إلى الصواب من الوجهة التاريخية إلا من درسها ودرس معها التاريخ الإسلامي بتوسع من مصادره الأصلية وينابيعه الصافية، ومنهم من لا هم له إلا الطعن بدافع التعصب والحقد، كزمرة المبشرين الذين لا يبغون غير إفساد العقائد وهؤلاء لا يمكن أن نسميهم علماء محققين بل هم في الواقع تجارٌ مضللون فقد ينسب الواحد منهم إلى الإسلام ورسوله الكريم من الخرافات والمفتريات ما لا أصل له إلا في مخيلته ومخيلة كل متعنت نغرض، ولذا اضطررت بعد أن وقفت على حقائق التاريخ الإسلامي أن أترجم إلى قراء العربية بعض هذه الشبهات والاعتراضات ورددت عليها من المصادر الصحيحة ردودًا يضمحل أمامها كل شبهة ويزول كل شك حتى تتطهر النفوس من أدران الشبهات وتعود إلى الهدى وتسلك المحجة الواضحة، ولا يخفى أن ترك هؤلاء المتعصبين الحانقين على الإسلام أو المتجرين باسم الذين يلقون بذور الفساد وينشرون المفتريات والاعتراضات من غير أن ينهض من يذود عن الحقائق بسلاح العلم الصحيح وإقامة الحجج الناصعة والبراهين القاطعة، تهاون وتقصير يجب أن ينزه عنهما كل من آتاه الله عقلًا راجحًا.
إن الينابيع التي تُسقى منها السيرة النبوية واقية لكنها مع ذلك مشتتة في بطون كتب التواريخ العامة والأدب واللغة والطب والفلك فقد تعثر فيها على بحوث قيمة قد لا توجد في كتب السير فلقطف هذه الثمار لا بد من البحث والاطلاع بصبر وتأن وهذا يحتاج إلى جهد شاق ووقت طويل.
أما كتب السير نفسها فهي على ما يعلم كل باحث ومحقق غير مرتبة ترتيبًا يسهل على الطالب العثور على بغيته من ضبط تواريخ الوقائع والحوادث وتسلسلها ومعرفة مواقع البلدان والأماكن والوقوف على سير الرجال بصورة واضحة جلية، وهي إما مطولة تطويلًا مملًا أو مختصرة اختصارًا مخلًا.
تلك الكتب تنقصها الفهارس الوافية التي لا يخلو منها كتاب حديث، فهارس بأسماء الرجال والقبائل والنساء والأماكن. هذا غير الفهرس العام بالموضوعات، وقد قمت بتحريره وترتيب هذه الفهارس بأنواعها لسهولة البحث والمراجعة إذ قد لا يتسع وقت الباحث في موضوع خاص لتلاوة الكتاب من أوله إلى آخره.
أضف إلى ذلك ما في السير من الحشو والخروج عن الموضوع والتضارب والاختلافات التي لا يخلو منها كتاب والتي لا يكاد يستخلص القارئ منها واقعة صحيحة أو رأيًا قاطعًا يرتاح إليه.
هذه حالة المؤلفات العربية التي بين أيدينا. وقد تعرّض بعض المصنفين في العصر الحاضر إلى تحليل شخصية رسول الله ﷺ تحليلًا نفسيًا باعتبار أنه شخص عاديّ إلا أن ذلك قد يؤدي إلى الشطط وطمس الحقائق التاريخية وتشويهها، لأن سيرة رسول الله ليست كسيرة أي فرد من الأفراد أو عظيم من العظماء ممن يطبق على حياتهم وسلوكهم أصول علم النفس ويحكم عليهم بمجرد الرأي والملاحظة. نعم إنه ﵊ إنسان لكنه إنسان ممتاز بلغت عظمته الكمال البشري فلا يمكن مقارنته بغيره من عظماء القادة والزعماء. إنسان اختاره الله ﷾ واصطفاه لتبليغ رسالته للناس كافة وأنزل عليه الوحي وأتى بمعجزات خارقة للطبيعة يقف أمامها العقل البشري حائرًا لا يفقه لها تعليلًا. ولا يزال العقل عاجزًا عن إدراك كنهها وكيفية وقوعها بالرغم من تقدم العلوم والاكتشافات الحديثة.
ولا يفوتني أن أذكر أن التاريخ لا يعتبر الآن كما كان في سالف الأزمان قصصًا تكتب وتتلى بل أصبح علمًا يدرس كما تدرس العلوم المؤسسة على البحث والتحقيق.
إن للعلماء السابقين مزيد الفضل فقد حرصوا على تدوين الأحاديث النبوية وتحروا صحتها وألفوا السير فاغترفنا من مناهلهم العذبة وقطفنا من ثمار مجهوداتهم الصادقة.
وها أنا ذا أتقدم بهذا الكتاب إلى العالم الإسلامي راجيًا المولى جل شأنه أن أكون بعملي هذا قد أديت بعض الواجب عليّ نحو سيدي وحبيبي رسول الله ونحو الدين الحنيف دين الطهر والتوحيد والأخلاق الفاضلة.
ثم أتقدم بالشكر الخالص للفاضلين عبد العزيز أفندي الحلبي ومحمد أفندي الحلبي لعنايتهما بطبع الكتاب طبعًا متقنًا وتولى نشره في العالم الإسلامي. جزاهما الله خير الجزاء، وأشكر جميع أصدقائي الذين أبدوا غيرتهم واهتمامهم لإظهار الكتاب حبًا منهم في العلو وخدامه.
محمد رضا.
1 / 4
[متن الكتاب]
1 / 5
نسبه ﷺ
1 / 6
-هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف (١) بن قصي (٢) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي (٣) بن غالب بن فهر (٤) بن مالك بن النضر (٥) بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس (٦) بن مضر (٧) بن نزار (٨) بن سعد (٩) بن عدنان (١٠) .
إن نسب سيدنا محمد ﷺ لا يختلف النسابون فيه إلى معد بن عدنان كما هو مذكور ههنا. إنما اختلف النسابون من عدنان إلى إسماعيل، لكنهم أجمعوا على أنه ينتهي إلى إسماعيل. وكره الإمام مالك رفع النسب إلى آدم، وعن ابن عباس ﵁ أن النبي ﷺ لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال "ههنا كذب النسابون".
ومضر وربيعة هم صريح ولد إسماعيل باتفاق جميع أهل النسب.
_________
(١) مناف اسم صنم أضيف "عبد" إليه، كما يقولون عبد يغوث وعبد العزى وعبد اللات.
(٢) قصي يقال اسمه زيد ويقال اسمه مجمع.
(٣) لؤي تصغير لأي وهو الثور الوحشي، وقد يكون تصغير لأي وهو البطء. والمشهور فيه الهمز.
(٤) فهر: الحجر على مقدار ملء الكف يذكر ويؤنث.
(٥) النضر الذهب الأحمر.
(٦) إلياس مختلف فيه فمنهم من يقول اليأس موافق للذي هو خلاف الرجا وهو مصدر يئس، وبعضهم يقول فيه إلياس بكسر الهمزة.
(٧) مضر: الأبيض مشتق من اللبن الماضر وهو الحامض.
(٨) نزار من النزارة وهي القلة.
(٩) معد من تمعد إذا أشتد.
(١٠) عدنان مأخوذ من عدن في المكان إذا أقام فيه، ومنه جنات عدن أي جنات إقامة وخلود.
1 / 7
مناقب أجداده ﷺ
1 / 8
-النبي ﷺ من سلالة آباء كرام وكلهم سادة وقادة ولهم مكان مكين ومقام بَيِّنُ العِزِّ عظيم، وقد اشتهروا بالحكمة والشجاعة والإقدام والكرم كما يتبين ذلك من ن؟؟ ذكره بالاختصار من مناقبهم وأخبارهم.
فقد كان (معد) صاحب حروب وغارات على بني إسماعيل ولم يحارب أحدًا إلا رجع بالنصر.
وكان (نزار) أجمل أهل زمانه وأرجحهم عقلا.
وكان (مضر) جميلا كذلك ولم يره أحد إلا أحبه، ومن حكمه المأثورة: "خير الخير أعجله فاحملوا أنفسكم على مكروهها واصرفوها عن هواها فيما أفسدها فليس بين الصلاح والفساد إلا صَبْرُ فواق" والفواق ما بين الحلبتين. ومضر أول من حدا للإبل وكان من أحسن الناس صوتًا.
وكان (إلياس) في العرب مثل لقمان الحكيم في قومه، ومن حكمه: "من يزرع خيرًا يحصد غبطة، ومن يزرع شرًا يحصد ندامة".
وأما (فهر) فإليه جماع قريش وما كان فوق فهر فلا يقال له قرشي بل يقال له كناني، واسمه قريش وكان فهر كريمًا يفتش على حاجة المحتاج فيسدها بماله وهو الجد السادس لأبي عبيدة بن الجراح.
(كعب) وهو الجد الثامن لعمر بن الخطاب. كان يجمع قومه يوم العروبة أي يوم الرحمة وهو يوم الجمعة فيعظهم ويذكرهم بمبعث النبي ﷺ وينبئهم بأنه من ولده ويأمرهم باتباعه.
(مرة) وهو الجد السادس لرسول الله ﷺ والجد السادس أيضًا لأبي بكر الصديق ﵁، وفي مرة أيضًا يجتمع نسب الإمام مالك بنسب الرسول ﷺ.
و(كلاب) اسمه حكيم وقيل عروة. ولقب بكلاب لأنه كان يكثر الصيد بالكلاب وهو الجد الثالث للآمنة أمه ﷺ فهو ملتقى نسب أبيه بنسب أمه. وقيل أنه أول من سمى الأشهر العربية المستعملة إلى الآن.
و(قصي) اسمه زيد ويقال له مجمع وبه جمع الله القبائل من قريش في مكة بعد تفرقها فأنزلهم أبطح مكة وكان بعضهم في الشعاب ورءوس الجبال بمكة فقسم منازلهم فسمى مجمعًا، وهذا عمل جليل وفضل عظيم لا يتم إلا على يد ذوي النفوس الأبية والهمم العالية. وقصي أول من أوقد نار المزدلفة وكانت توقد حتى يراها من دفع من عرفة.
وله يقول مطرود وقيل إن قائله حذافة بن غانم
أبوكم قصي كان يدعى مجمعًا ... به جمع الله القبائل من فهر
وكان إلى قصي في الجاهلية حجابة البيت وسقاية الحاج وإطعامه المسمى بإرفادة، والندوة وهي الشورى لا يتم أمر إلا في بيته ولا يعقد عقد نكاح إلا في داره ولا يعقد لواء حرب إلا فيها فكان بيته عبارة عن برلمان للعرب بل هو ملجأهم في جميع المشكلات سواء كانت هذه المشكلات قومية أو شخصية.
ولما حضرته الوفاة نهى بنيه عن الخمر ولا بد أنه أدرك مضرتها فنهى أحب الناس إليه عن احتسائها.
ومن كلامه الدال على تجاربه ورجاحة عقله:
"من أكرم لئيما شاركه في لؤمه. ومن استحسن قبيحًا ترك إلى قبحه. ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان. ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان. والحسود هو العدو الخفي" وإذا كنا نحكم على الإنسان بكلامه فهذا يدل على أن قصيًا كان يبغض اللؤم والقبح بغضًا شديدًا وكان شجاعًا كارها للغرور والحسد.
و(عبد مناف) اسمه المغيرة وكان يقال له "قمر البطحاء" لحسنه وجماله، وكانت قريش تسميه الفياض لكرمه، وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان والجد التاسع للإمام الشافعي
(هاشم) واسمه عمرو بن عبد مناف ويقال له عمرو العلا لعلو رتبته وقد ساد قومه بعد أبيه عبد مناف، وقد وقعت مجاعة شديدة في قريش بسبب جدب شديد حصل لهم فخرج هاشم إلى الشام فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر جزرًا (١) وجعل ذلك ثريدا وأطعم الناس حتى أشبعهم فسمى بذلك "هاشما" وكان يقال له "أبو البطحاء" و"سيد البطحاء" -والبطحاء مَسِيل الوادي- ولم تزل مائدته منصوبة في السراء والضراء، وكان موسرا يؤدي الحق ويؤمن الخائف. وهو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة وفي الصيف إلى الشام.
(عبد المطلب) وأمه سلمى بنت زيد النجارية. واسم عبد المطلب شيبة الحمد لأنه ولد وله شيبة مع رجاء حمد الناس له. وكان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال وهذا إحساس لطيفٌ ورفيقٌ بالحيوان الأعجم ولذا كان يقال له "مطعم الطير" ويقال له "الفياض". وكان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور وشريفهم وسيدهم كمالًا وفعالًا. عاش مئة وعشرين سنة أو أكثر وقد انتهت إليه الرياسة بعد عمه المطلب. وكان يأمر أولاده يترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دَنِيّات الأمور. ورفض عبد المطلب في نهاية عمره عبادة الأصنام ووحده لله. وقال دغفل النسابة أن عبد المطلب كان أبيض. مديد القامة. حسن الوجه. في جبينه نور النبوة وعز الملك. يطيف به عشرة من بنيه كأنهم غاب.
وهو الذي كشف عن زمزم بئر إسماعيل وأقام سياتها [سياقتها؟؟] للحجاج فكانت له فخرا وعزا على قريش وعلى سائر العرب.
وكان يكرم النبي ﷺ ويعظمه وهو صغير ويقول "أن لابني هذا لشأنًا عظيما" وذلك مما كان يسمعه من الكهان والرهبان قبل مولده وبعده. وكانت كنية عبد المطلب "أبا الحارث" كني بذلك لأن الأكبر من ولده الذكور اسمه الحارث.
_________
(١) جزر جمع الجزور من الإبل يقع على الذكر والأنثى.
1 / 9
أولاد عبد المطلب: أعمام رسول الله وعماته
1 / 10
-أولاد عبد المطلب عشرة ذكور: عبد الله. أبو طالب "واسمه عبد مناف" الزبير (أمهم فاطمة بنت عمرو المخزومية) . العباس. ضرار (أمهما نتيلة العمرية) حمزة. المقوم (أمهما هالة بنت وهب) أبو لهب وهو عبد العزى (أمه لبنى الخزاعية) الحارث (أمه صفية من بني عامر بن صعصعة) الغيداق (أمه ممنعة) واسمه حجل.
وست نسوة هن: صفية وأم حكيم البيضا وعاتكة وأميمة وأروى وبرة (١) أما (عبد الله) فهو أبو رسول الله ﷺ ويكنى أبا قثم وقيل أبا محمد وقيل أبا أحمد.
وقيل أن عبد المطلب أول من خضب بالوسمة أي السواد لأن الشيب أسرع إليه وكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر وكان صعوده للتخلي عن الناس يتفكر في جلال الله وعظمته.
ويؤثر عن عبد المطلب سنن جاء القرآن وجاءت السنة بها منها الوفاء بالنذر والمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق والنهي عن قتل الموءودة وتحريم الخمر والحد عليه وأن لا يطوف بالبيت عريان وتعظيم الأشهر الحرم.
وكان نديمه في الجاهلية حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وكان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب من قتله علم عبد المطلب بذلك ترك منادمة حرب ولم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي. ثم نادم عبد الله بن جدعان التيمي.
_________
(١) لم يسلم من أعمام رسول الله إلا حمزة والعباس وسلمت عمته صفية إجماعا وعي أم الزبير بن العوام وعاشت كثيرا وتوفيت سنة عشرين في خلافة عمر بن الخطاب ولها ثلاث وسبعون سنة.
1 / 11
نذر عبد المطلب جد النبي ﷺ
1 / 12
-كان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العنت (١) في حفر بئر زمزم لئن ولد له عشرة نفر وبلغوا معه حتى يمنعونه لينحرن أحدهم عند الكعبة لله تعالى. وقد ارتاب بعضهم في حكاية هذا النذر لكنا لا نرى مندوحة من ذكرها لأنها وردت في أمهات كتب التاريخ التي استقينا منها، فقد رواها ابن إسحاق ونقلها الطبري وابن الأثير وطبقات ابن سعد.
لما بلغ أولاد عبد المطلب عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا كيف نصنع؟ قال يأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه. ففعلوا وأتوه بالأقداح فدخلوا على هبل في جوف الكعبة وكان أعظم أصنامهم وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة، فقال عبد المطلب لصاحب القداح اظرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره الذي نذر وكان عبد الله أصغر بني أبيه وأحبهم أليه، فلما أخذ صاحب القداح يضرب قام عبد المطلب يدعو الله تعالى، ثم طرب صاحب القداح فخرج قدح عبد الله فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى (أساف ونائلة) وهما الصنمان اللذان ينحر الناس عندهما. فقامت قريش من أنديتها فقالوا ماذا تريد أن تصنع؟ قال أذبحه. فقالت قريش وبنوه والله لا ندعك تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بابنه حتى يذبحه. فقال له المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن المخزوم: والله لا تذبحه حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها فإن أمرتك بذبحه ذبحته وأن أمرتك بمالك وله فيه فرج قبلته. فانطلقوا حتى أتوها بخيبر فقص عليها عبد المطلب خبره فقالت لهم ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها ثم غدوا عليها فقالت نعم قد جاءني الخبر فكم دية الرجل عندكم؟ قالوا عشرة من الإبل وكانت كذلك. قالت ارجعوا إلى بلادكم فزيدوا في الإبل عشرا ثم اضربوا أيضا حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.
فخرجوا حتى أتوا مكة ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل فخرجت القداح على عبد الله، فزادوا عشرا فخرجت القداح على عبد الله فما برحوا يزيدوا عشرا وتخرج القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل. فقال من حضر قد رضي ربك يا عبد المطلب. فقال عبد المطلب لا والله حتى أضرب ثلاث مرات فضربوا ثلاثا فخرجت القداح على الإبل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
إن خروج القداح على عبد الله في كل مرة حتى بلغت الإبل مئة من غرائب الصدف ولولا معارضة قرش وبنيه ومشورة الكاهنة لذهب عبد الله فربانا لنذر عبد المطلب، ولكن شاء الله ﷾ أن يحفظ أبا محمد حتى يظهر رسول الله ﷺ.
قد التجأ عبد المطلب إلى هذا النذر لما عارضه عدي بن نوفل بن عبد مناف في حفر زمزم وأذاه وقال له: "اعبد المطلب أتستطيل علينا وأنت فذ لا ولد لك؟ " فقال "أبا لقلة تعيرني فو الله لئن أتاني الله عشرة من الولد ذكورا لأنحرن أحدهم عند الكعبة" وقيل سفه عليه وعلى ابنه ناس من قريش ونازعوهما وقاتلوهما فاشتد بذلك بلواه وكان معه ولده الحارث ولم يكن له سواه فنذر ذلك النذر الذي ذكرناه.
انصرف عبد المطلب بعد أن نحر الإبل آخذا بيد ابنه عبد المطلب فمر به على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي عند الكعبة فقالت له حين نظرت إلى وجهه أين تذهب يا عبد الله؟ قال مع أبي، قالت له مثل الإبل التي نحرت عنك وقع عليَّ الآن. فأبى وقال إن معي أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه وكان عبد الله أحسن رجل رؤى في قريش، وكان ذا عفة وسماحة. وكانت ولادة عبد الله نحو سنة ٥٤٥ م.
_________
(١) العنت: الوقوع في أمر شاق.
1 / 13
زواج عبد الله
1 / 14
-خرج عبد المطلب بعبد الله يريد تزويجه حتى أتى بن عبد مناف بن زهرة وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب (١) وهو يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا فحملت برسول الله ﷺ ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه نفسها فقال لها "مالك لا تعرضين عليَّ اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس؟ " فقالت له فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة. وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر واتبع الكتب أنه كائن لهذه الأمة نبيّ. وكان تزويج عبد الله من آمنة بعد حفر زمزم بعشر سنين، وكان اسم عبد الله عبد الدار، فلما كان في السنة التي فدي فيها قال عبد المطلب "هذا عبد الله" فسماه يومئذ كذلك.
وبعد زواج عبد الله بقليل خرج من مكة قاصدا الشام في تجارة ثم لما أقبل من الشام نزل بالمدينة وهو مريض وبها أخواله من بني النجار فأقام بها حتى توفي لشهرين من الحمل بابنه محمد ﷺ ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة، وهذا هو المشهور. وقيل ثمان وعشرون سنة. وترك عبد الله جاريته أم أيمن بركة الحبشية وخمسة جمال وقطعة من غنم. وقد رثته آمنة بهذه الأبيات:
عفا جانب البطاء من آل هاشم ... وجاور لحدا خارجا في الغماغم
دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت في الناس مثل ابن هاشم
عشية راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه في التزاحم
فإن تك غالته المنون وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم
_________
(١) تجتمع آمنة هي وعبد الله في كلاب.
1 / 15
قصة الفيل
1 / 16
-من الحوادث المهمة التي وقعت عام مولده ﷺ حوالي سنة ٥٧٠ م قدوم أبرهة الأشرم ملك اليمن إلى مكة لهدم الكعبة وهذه خلاصتها:
إن الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير فلما صار الملك إلى أبرهة بن الصياح الأشرم بنى كنيسة عظيمة بصنعاء يقال لها القليس (١) لم ير مثلها في زمنها بناها بالرخام وجيد الخشب المذهب وقصد أن يصرف حج العرب إليها ويبطل الكعبة، فلما تحدث العرب بذلك غضب رجل من النساءة من بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن ملك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر.
النساءة الذين كانوا ينسؤون المشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهير من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله ﵎ ﴿إنَّما النَّسيءُ زِيَادَةٌ في الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحلِوُّنَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لِيُواطِئوُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّوا مّا حّرَّمَ الله﴾ قال ابن هشام ليواطئوا ليوافقوا.. وكان أول من نسأ الشهور على العرب فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيفة بن عبد الله بن فقيم ... وأول الأشهر الحرم "محرم".. فخرج الكناني حتى أتى القليس "الكنيسة" وتقوط فيها ليلا ثم خرج فلحق بأرضه فلما أخبر بذلك أبرهة غضب وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه (وسمى هذا العام بعام الفيل) فلما وصل إلى الطائف بعد أن هزم من تعرض له من العرب بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود إلى مكة فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وأحضرها إلى أبرهة وأرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قال له إن الملم يقول أني آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فقال له عبد المطلب والله ما نريد حربه ولا لنا بذلك منه طاقة. هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فإن لم يمنعه منه فهو بيته وحرمته وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه. ثم أنطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة هذا سيد قريض فأذن له. فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال له. حاجتك؟ فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له فقال أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتك، أتكلمني عن مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: أنا رب الإبل وإن للبيت ربًا سيمنعه فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل فأنصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز بالجبال والشعاب تخوفا عليهم معرة الجيش (٢) وقد كانوا أكثر من قريش عددًا. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجيشه. فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم أن العبد يمنع رحله ... فامنع حلالك (٣)
لا يغلبن صليبهم ومحالهم ... غدوا محلك (٤)
إن كنت تاركهم وقبلتنا ... فأمر ما بدا لك
فما تهيأ أبرهة لدخول مكة وهيأ فيه "محمودًا" وهو مجمع لهدم البيت فكانوا كلما وجهوا الفيل إلى مكة برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى سائر الجهات قام يهرول. ويقال كان عدد الفيلة في هذه الموقعة ثلاثة عشر فيلا. وبينما هم كذلك أرسل الله طيرًا أبابيل (٥) أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار واحد في منقاره واثنان في رجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمس والعدس ولا تصيب أحدًا منهم إلا هلك. وليس كلهم أصابت. ثم أرسل الله تعالى سيلا فألقاهم في البحر والذي سلم منهم ولى هاربًا مع أبرهة إلى اليمن يبتدر الطريق وأصيب أبرهة بتساقط أعضائه وخرجوا به معهم تتساقط أعضاؤه حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وقيل أو ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام. ولما مات أبرهة ملك مكانه يكسوم.
ونظرًا لأهمية هذا الحديث صار العرب يؤرخون به إذ لو تغلب أبرهة على قريش وتم له هدم الكعبة لأدخلت الديانة المسيحية مكة وأرغم العرب على اعتناقها لأن اليمن كانت تابعة لأمراء الحبشة المسيحين وأرغم كثير من أهلها سواء من عباد الأصنام أو اليهود على اعتناق المسيحية. وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصى بن كلاب لجلالة قصى. فلما كان عام الفيل أرخت به.
_________
(١) القليس مشتق من قلس الشيء إذا ارتفع.
(٢) معرة الجيش شدته.
(٣) لا هم أصله "اللهم" فإن العرب تحذف الألف واللام وتكتفي بما يبقى. والحلال بكسر الحاء جمع حله وهي جماعة البيت. والحلال بفتح الحاء خلاف الحرام.
(٤) المحال اتقوه والشدة. والغدو أصله الغد.
(٥) الأبابيل الجماعات ولم يتكلم لها العرب بواحد، قال بعضهم واحده آبيل وآبول.
1 / 17
مولده ﷺ
1 / 18
-ولد النبي ﷺ في فجر يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول (وأهل مكة يزورون موضع مولده في هذا الوقت) في عام الفيل ولأربعين سنة خلت من حكم كسرى أنوشروان خسرو بن قياذ بن فيروز ٢٠ أغسطس سنة (٥٧٠) بمكة (١) في الدار التي صارت تدعى لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج. وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب ونزل على يد الشفا أم عبد الرحمن بن عوف فهي قابلته رافعًا بصره إلى السماء واضعًا يده بالأرض وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها فقالت له يا أبا الحارث ولد لك مولود عجيب فذعر عبد المطلب وقال أليس بشرًا سويًا؟ فقالت نعم ولكن سقط ساجدًا ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء فأخرجته ونظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة وعوذه ودعا له ثم خرج ودفعه إليها. وهو الذي سماه محمدًا.. فقيل كيف سميت بهذا الاسم وليس لأحد من آبائك فقال أني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم. وكانت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله ﷺ سنة الفتح والابتهاج فإن قريشًا كانت قبل ذلك في جدب وضيق في تلك السنة ... ومن عجيب ولادته ما روى من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة [من؟؟] شرفاته وذلك إشارة إلى أنه لم يبق من ملوكهم المستنين بالملك إلا أربعة عشر ملكا فهلك عشرة في أربع سنين وهلك أربعة إلى زمن عثمان ﵁. وغيض بحيرة طبرية وخمود نار فارس وكان على ما يقال لها ألف عام لم تخمد كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في الهواتف وابن عساكر. ومن ذلك أيضًا ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب وقطع رصد الشياطين ومنعهم من استراق السمع. ولقد أحسن الشقراطيسي حيث قال:
ضاءت لمولده الآفاق واتصلت ... بشرى الهواتف في الإشراق والطفل
وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقض منكسر الأرجاء ذا ميل
ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل
خرت لمبعثه الأوثان وانبعثت ... ثواقب الشهب ترمى الجن بالشهب
وينسب بعضهم ذلك إلى أنه حدث في ذلك الوقت زلزال عظيم. قال اليعقوبي في تاريخه: "وأصابت الناس زلزلة عمت جميع الدنيا الخ". ويروى أن الرشيد أراد هدم إيوان كسرى فقال له وزيره يحيى بن خالد البرمكي يا أمير المؤمنين لا تهدم بناء هو آية الإسلام. وقال البوصيري في الهمزية:
وتدعى إيوان كسرى ولولا ... آية منك ما تداعى البناء
وغدا كل بيت نار وفيه ... كربة من خمودها وبلاء
وعيون للفرس غارت فهل كا ... ن (كان) لنيرانهم بها إطفاء
_________
(١) كان علماء الجغرافيا من الإغريق يطلقون على اسم مكة ما كورابا Makoraba
1 / 19
الاحتفال بمولده ﷺ
1 / 20