[مقدمة في تعريف التوحيد وبيان الحكم وأقسامه]
مذكرة التوحيد
Halaman tidak diketahui
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. وبعد:
فهذه كلمة مختصرة في جملة من مسائل التوحيد، كتبتها وفق المنهج المقرر على طلاب السنة الثالثة من كلية اللغة العربية، وأسأل الله أن ينفع بها، وتشتمل على مقدمة، ومسائل، وخاتمة.
مقدمة في تعريف التوحيد
وبيان الحكم وأقسامه ١ - تعريف علم التوحيد التّوحيد لغة: جعل المتعدّد واحدًا، ويُطلق على اعتقاد أن الشيء واحد متفرد، ويطلق شرعًا على تفرّد الله بالربوبية والألهية، وكال الأسماء والصفات.
وعلم التوحيد يبحث عما يجب لله من صفات الجلال والكمال، وما يستحيل عليه من كل ما لا يليق به، وما يجوز من الأفعال، وعما يجب للرسل والأنبياء، وما يستحيل عليهم، وما
1 / 3
يجوز في حقهم، وما يتصل بذلك من الإيمان بالكتب المنزلة، والملائكة الأطهار، ويوم البعث والجزاء، والقدر والقضاء، وفائدته تصحيح العقيدة، والسلامة في العواقب، ونيل السعادة في الدارين، واسمه: " علم التوحيد، وعلم أصول الدين ".
٢ - بيان الحكم وأقسامه الحكم إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه. مثاله: محمد رسول الله، ومسيلمة ليس برسول.
وينقسم إلى ثلاثة أقسام: عقلي، وشرعي، وعادي.
فالعقلي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على تفكير دون توقف على شرع، ولا تجربة أو تكرار. مثاله: الله موجود، لا إله إلا الله.
والشرعي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على وحي من الله، مثل: الصلوات الخمس فريضة على المكلفين، ولا يجوز شرب الخمر.
والعادي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على تجربة أو تكرار مثل: الأمطار تكثر بالشواطئ.
وينقسم الحكم الشرعي إلى تكليفي: كوجوب الزكاة، وتحريم القمار، واستنان ركعتي الفجر، وكراهية الأكل باليسار،
1 / 4
وإباحة الطيبات من الطعام، والشراب، واللباس ونحوها.
ووضعي: كسببية دخول الوقت لوجوب الصلاة، وشرطية الطهارة لصحتها، وكمنع الجنون من وجوبها، والحدث من صحتها، ومن ذلك: الصحة، والفساد، والرخصة، والعزيمة.
وينقسم العادي إلى أربعة أقسام:
ربط وجود بوجود، كربط الشبع بالأكل، وربط عدم بعدم: كربط عدم المطر بعدم السّحاب، وربط وجود بعدم: كربط البرد بعد اللباس والغطاء، وربط عدم بوجود: كربط عدم الصحة بوجود ميكروب المرض.
وينقسم الحكم العقلي إلى ثلاثة أقسام: الوجوب، والاستحالة، والجواز.
فالواجب: هو الثّابت الذي لا يقبل الانتفاء لذاته: كثبوت العلم، والقدرة، والمحبَّة، والرِّضا، والوجه، واليدين، ونحوها من الكمالات للهّ، فإنها صفات ثابتة له- تعالى- لا تقبل الانتفاء.
والمستحيل: هو المنفي الذي لا يقبل الثبوت: كشريك الباري، والجمع بين النقيضين، ورفعهما، والجمع بين الضّدّين.
1 / 5
والجائز: ويقال له: "الممكن" هو ما يقبل الوجود والعدم: كالمخلوقات التي نشاهدها، فإنها كانت معدومة فقبلت الوجود، ثم بعد وجودها فهي قابلة للعدم. "وقد يطلق الواجب على الأمر الثابت من حيث تعلق علم الله بثبوته، وإن كان ممكنًا في ذاته ". ويسمى الواجب لغيره، كوجود إنسان على كيفية معينة في عصر معين، فإن وقوعه على تلك الصفة في ذلك العصر واجب، باعتبار تعلّق علم الله به كذلك، وإن كان ممكنا في ذاته.
وقد يُطلق المستحيل على أمر معدوم يجوز أن يوجد لكنه امتنع وجوده لتعلق علم الله ببقائه على العدم، ويقال له: المستحيل لغيره.
والذي يُحتاج إليه من أقسام الحكم في مباحث التوحيد، وعليه تدور مسائله، الحكم العقلي.
أما الشرعي: فيُبحث عنه في علم الفقه، وأصوله، وفي الأخلاق، وآداب السلوك.
وأما العادي: فله اتصال وثيق بالكونيات، وسنن الله فيها، وما يُجريه البشر عليها من التجارب، وما يُستفاد منها بالتَكرار.
ومعنى كون الوجوب والاستحالة والجواز حكما عقليا أنها لازمة لما حكم له بها، لا تقبل التخلف عنه ولا الانفكاك،
1 / 6
فقولنا: الله عليم وحكيم، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والضدان لا يجتمعان، قضايا لا تختلف أحكامها كما تختلف الأحكام العادية إكرامًا من الله لأوليائه، أو إثباتًا لرسالة رسله، وكما تختلف الأحكام الشرعية الفرعية بنسخ أو استثناء، وليس المراد أنها تثبت بالعقل دون نصوص الشرع، فإن نصوص الشرع قد جاءت بأصول الدين، وكشفت للعقل عما خفي عليه، وقصر عن إدراكه من تفاصيل عقائد التوحيد، وسلكت به طريق الحق، وهدته إلى سواء السبيل.
ولولا ما جاء فيها من البيان لارتَكَسَ العقل في حمأة الضلالة، وقام للناس العذر، وسقطِ عنهم التكليف، قال الله - تعالى-: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] وقال: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٦٥] وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه: ١٣٤] بل جاءت الرسل بما تُحار في إدراك حقيقته العقول، وتعجز عن فهم كُنْههِ الأفكار: كسؤال الميت في قبره، ونعيمه، وعذابه، وحياة أهَل النار في
1 / 7
النار، ولكنها لا تحيله، ولا تقوى على ردّه، ولا تجد لديها من الأدلة الصحيحة ما ينقضه، بل وصلت العقول بتيسير الله لها، وهدايته إياها إلى ما يصدق هذا، وأمثاله مما جاءت به الرسل، ووقفت بما أتاح اللهّ لها من الوسائل، وسخر لها من الكون، وهداها إليه من التجارب على حقائق سبق أن أنكرتها، وسخرت ممن تحدث بها، وربما رمته بالسحر، والكهانة، أو الخيال، والجنون.
وليس ذلك لشيء أكثر من أنها لم تقع تحت حسها، ولم تكن من إلفها، ومعهودها، فوجب أن تعترف بقصورها، وأن تقرّ بأن لِإدراكها غاية لا تعدوها، وحدا تقف عنده، وتؤمن بما صح من وحي الله لرسله، وأن تسلم وجهها إلى الله. فإن اتهمت فلتتَّهم نفسها بالقصور والتَقصير، دون أن تتَهم الله ورسله، فإنها بذلك أولى، وهي به أقعد.
قال- تعالى-: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ [فصلت: ٥٣ - ٥٤]
فإن حجب الإِنسان بعد ذلك ركوبه لرأسه، لجهالة، أو كبر،
1 / 8
أو هوى في نفسه، وحاول بالباطل ليدحض به الحق، غلب على أمره، ودارت عليه الدوائر. قال- تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ - لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: ٥٦ - ٥٧] وقال- تعالى-: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: ٢٣]
1 / 9
[مسائل المسألة الأولى إثبات أن العالم ممكن]
مسائل
1 / 11
المسألة الأولى
إثبات أن العالم ممكن إنَ ما شاهدناه في ماضينا من الكائنات، وما نشاهده منها في حاضرنا ممكن: أي جائز الوجود، والعدم؛ وذلك لأنَّا نراه يتحول من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى عدم، وهذا التغير والتحوُّل دليل إمكانه، إذ لو كان واجبًا لما سبق وجوده العدم، ولما لحقه فناء، ولو كان مستحيلا لما قبل الوجود لأن المستحيل لذاته لا يوجد، وحيث إننا قد شاهدناه موجودًا بعد عدم ثبت أنه ممكن.
1 / 13
[المسألة الثانية الممكن محتاج إلى موجد ومؤثر]
المسألة الثانية
الممكن محتاج إلى موجد ومؤثر وحيث ثبت أن العالم ممكن، والممكن ما استوى طرفاه - الوجود والعدم- بالنسبة إلى ذاته، فوجوده ليس من ذاته، وعدمه بعد وجوده ليس من ذاته، إذن لا بد له من سبب يرجح وجوده على العدم، إذ لو وجد بدون سبب خارج عن ذاته وحقيقته للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، وهو باطل؛ ولو أوجد الممكن نفسه للزم من ذلك أن يكون متقدمًا على نفسه باعتباره خالقًا لها، ومتأخرا على نفسه باعتباره مخلوقًا لها، وتقدّم الشيء على نفسه، وتأخره عنها محال بالضرورة لما فيه من التناقض الواضح، فثبت أن الممكن لا بدّ له من مُوجد غير ذاته وحقيقته، يوجده ويدبر شئونه في كل أحواله، هذا المغاير: إما المستحيل، وإما الواجب، لا جائز أن يكون موجده هو المستحيل؛ لأن المستحيل غير موجود فلا يؤثر، ولأن فاقد الشيء لا يُعطيه. فثبت أن مُوجده هو الواجب، وهو الله- تعالى-.
1 / 14
وقد أرشدنا الله- تعالى- إلى ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم.
قال- تعالى-: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: ٣٥]
فقد أنكر- سبحانه- أن يكونوا قد خُلقوا بلا خالق، وأن يكونوا قد خَلقوا أنفسهم، فإذن لا بدّ لهم من خالق موجود مغاير لهم وهو الله- تعالى-.
ومن ذلك يتضح اتفاق الفطرة، والعقل السليم والسمع، على أن العالم محتاج إلى صانع، ومستند إلى موجد أوجده.
1 / 15
[المسألة الثالثة في إثبات وجوب الوجود لله ﷾]
المسألة الثالثة
في إثبات وجوب الوجود لله
﷾ إن لفظ الوجود، ومعناه المطلق، يشترك فيهما كل من الممكن والواجب، والحادث والقديم الأزلي. فالله يُوصف بأنه موجود، والحادث يُقال له- أيضًا-: إنه موجود، ولكن للممكن وجود يخصّه، فإنه حادث سبق وجوده عدم، ويلحقه الفناء، وهو في حاجة دائمة ابتداءً، ودوامًا، إلى من يكسبه، ويعطيه الوجود، بل يحفظه عليه. ولله- تعالى- وجود يخصّه، فهو- سبحانه- واجب الوجود لم يسبق وجوده عدم، ولا يلحقه فناء، ووجوده من ذاته لم يكسبه من غيره.
وذلك لأنه- تعالى- الغني عن كل ما سواه، وبذلك جاء السمع، وشهد العقل. أما السمع: فمنه قوله- تعالى-: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [الحديد: ٣]
وأما العقل: فبيانه أنه- تعالى- لو كان مستحيل الوجود لم يصح أن يستند إليه الممكن في حدوثه بداهة؛ لأن المستحيل ما
1 / 16
لا يتصور في العقل وجوده، وفاقد الشيء لا يُعطيه.
ولو كان ممكنًا لافتقر في حدوثه إلى من يرجّح وجوده على عدمه لما تقدم، فإن استمرت الحاجة، فاستند كل في وجوده إلى نظير له من الممكنات لزم إما الدور القبلي (١) وإما التسلسل في
_________
(١) الدور السبقي، ويقال له القبلي: هو توقف الشيء على ما توقف عليه، وهو قسمان: مصرح، ومضمر.
فالمصرح ما كانت الواسطة فيه واحدة، مثاله كأن يقال مثلا: خالد أوجد بكرًا، وبكر أوجد خالدا، فبكر متوقف في وجوده على خالد ثم خالد توقف في وجوده على بكر والواسطة واحدة وهي بكر.
ويقال له: هذا دور بمرتبة. فإن تعددت المراتب كانت بحسبها، وهذا الدور باطل لما يلزمه من التناقض، إذ يلزمه أن يكون الشيء سابقًا لا سابقًا مؤثرًا لا مؤثرًا إلخ. بل يلزم أن يكون الشيء نقيض نفسه ضرورة المغايرة بين المتقدم والمتأخر، والأثر والمؤثر.
أما الدور المعي مثل توقف الأبوة على البنوة، والبنوة على الأبوة، فجائز. لأنه من باب الإضافات، وهي اعتبارية لا وجود لها، والتسلسل هو ترتب أمور بعضها على بعض بحيث يكون كل متأخر منها يتوقف في وجوده على سابق عليه. يكون علة له في وجوده إلى غير نهاية. ويسمى هذا النوع التسلسل في العلل، وفي المؤثرات، وهو باطل باتفاق العقلاء لما يلزمه من عدم وجود شيء من الحوادث، وهذا باطل بالمشاهدة.
وقد عرف السعد [هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، سعد الدين، من أئمة العربية، والبيان، والمنطق، ولد بتفتازان عام ٧١٢ هـ، وأقام بسرخس وأبعده تيمورلنك إلى سمرقند وتوفي فيها عام ٧٩٣ هـ. له مصنفات عديدة] . في "شرح المقاصد" الدور، والتسلسل بعبارة جامعة لهما فقال: هما أن يتوالى عروض العلية والمعلولية لا إلى نهاية، بأن يكون كل ما هو معروض للعلية معروضا للمعلولية، ولا ينتهي إلى حالة تعرض له العلية دون المعلولية، فإن كانت المعروضات متناهية، فهو الدور بمرتبة إن كان اثنين، وبمراتب إن كانت المعروضات فوق اثنين، وإلا فهو التسلسل.
1 / 17
المؤثرات إلى ما لا نهاية، وكلاهما محال. وإذا انتفى عنه الإمكان. والاستحالة ثبت له الوجوب ضرورة. لأن أقسام الحكم العقلي ثلاثة، وقد انتفى اثنان، فتعين الثالث، وهو الوجوب فالله- تعالى- واجب الوجود.
وقد أرشدنا الله إلى ذلك في كثير من الآيات.
منها قوله- تعالى-:
1 / 18
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤]
وهذه الآية، وإن سيقت للاستدلال على توحيد الألوهية الذي تقدم قبلها في قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] إلا أنها تدلّ دلالة قاطعة على توحيد الربوبية، فإن استحقاقه- تعالى- للعبادة، واختصاصه بها فرع عن وجوده، وانفراده بالخلق، والتدبير، والتصريف، والتقدير.
ومنها قوله- تعالى-: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ - نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ - عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ - أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ - أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ - لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾ [الواقعة: ٥٨ - ٦٥] إلخ الآيات من سورة الواقعة.
فهذه الآيات، وإن ذكرت لتنزيه الله- تعالى- وتقديسه عما
1 / 19
ظنه به منكرو البعث، وسيقت لِإثبات قدرته على المعاد. كما يرشد إليه ما قبلها من الآيات، فهي دليل- أيضًا- على وجوب وجوده- تعالى- لاستناد ما ذكر في الآيات من المخلوقات إليه. وحدوثه بقدرته، ولا يعقل ذلك إلا إذا كان واجب الوجود.
فمن نظر إلى ما ترشد إليه هذه الآيات، ونحوها من سنن الله في العالم نظرًا ثاقبًا، وفكر في عجائب خلقها، وحسن تنسيقها، وشدة أسرِها تفكيرًا عميَقَا، وبحث في أحكامها، وبديع صنعها بحثًا بريئَا من الهوى، والحمية الجاهلية، وأنصف مناظره من نفسه، فلم يمنعه من فهم ما عرض عليه من الحق، والإذعان له كبر يرديه، ولا عناد يطغيه، اتضح له طريق الهدى.
واضطره ذلك أن يستيقن النتيجة، ويؤمن من أعماق قلبه، بأن للعالم ربّا خلَاقًا فاعلًا مختارًا حكيمًا في تقديره، وتدبيره أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء قدير.
ومع قيام الدليل، ووضوح السبيل، تعامى فرعون موسى عن الحق، وتجاهل ما استيقنته نفسه، وأنكر بلسانه ما شهدت به الفطرة، ودل عليه العقل من وجود واجب الوجود، فأقام موسى عليه الحجة، بدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع، ووجود العالم، وعظم خلقه على وجود الخالق، وعظيم
1 / 20
قدرته، وسعة علمه، وكمال حكمته، فغلبه بحجته.
وذلك بيّن واضح فيما حكاه اللهّ عنهما من الحوار، والسؤال، والجواب:
قال- تعالى-: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ - قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ - قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ - قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ - قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ - قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ - قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣ - ٢٩]
فانظر كيف وقف موسى موقف من يصدع بالحق، ويقيم عليه البرهان؟
وكيف وقف فرعون من موسى موقف السفهاء، لا يملك إلا الشتم، والسباب، والسخرية، والاستهزاء، والتهديد بأليم العذاب؟!! .
وقال- تعالى-: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا - قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء: ١٠١ - ١٠٢]
1 / 21
وقال- تعالى-: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ - وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: ١٣ - ١٤]
وإن فرعون حينما أخذته الحجة، وانتصر عليه موسى، لم يبق بيده سلاح إلا التمويه على قومه، وإنذار موسى، ومن آمن به أن يذلهم، ويذيقهم العذاب الأليم.
وأنى له ذلك! والله من ورائهم محيط؟! وقد كتب على نفسه أن يجعل العاقبة للمتقين.
وقال- تعالى-: ﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا﴾ [الإسراء: ١٠٣]
وقد ورث ذلك الزيغ، والإلحاد أناس ظهروا في عصور متعاقبة بأسماء مختلفة، واشتهروا بألقاب متنوعة.
فتارة يسمون بالدهريين: وأخرى برجال الحقيقة، ووحدة الوجود. وأحيانًا بالشيوعيين، وأخرى بالوجوديين. (اللقب الجديد) وآونة بالبهائيين.
إلى غير ذلك من العبارات التي اختلفت حروفها ومبانيها،
1 / 22
وائتلفت مقاصدها، واتحدت معانيها، فكلها ترمي إلى غرض واحد، وتدور حول محور واحد، هو أنه ليس للعالم رب يخلق ويدبر، وليس له إله يُعبد ويقصد.
وبما تقدم من دليل حاجة الممكن إلى موجد، ودليل وجوب وجوده- تعالى- يظهر لك فساد مذهبهم، وخروجه عن مقتضى النظر، وموجب العقل، وما يصدَق ذلك، ويؤيده من أدلة السمع.
فإن زعم زاعم منهم بعد ذلك، أن وجود العالم وليد الصدفة والاتفاق.
أو أنه نشأت أطواره عن تفاعل بين عناصر المادة، فتفرقت إلى وحدات بعد اجتماع، أو اجتمعت، وائتلفت بعد تفرق، واختلاف.
وصار لتلك الوحدات، أو المركبات من الخواص ما لم يكن لها قبل هذا التفاعل، وبذلك تجدّدت الظواهر، وحدث ما نشاهده من تغيير وآثار مع جريانها على سنة لا تتبدل، وناموس لا يختلف، ولا يتغير.
قيل له: من الذي أودع تلك المادة طبيعتها، وأكسبها خواصها، فإنها إن كانت لها من ذاتها، ومقتضى حقيقتها لم تقبل
1 / 23