مكان كهذا يشتاق لزيارته! ... ولكنى لم أذهب إليه إلا بعد ثمانية أيام من مقامي بلندرة، ذهبت إليه قبيل المغرب مع أصدقاء يوم أحد: اليوم الذي يموج فيه المكان بالمتنزهين فإذا فيه فتيات لا يعلم عددهن أحد ... كثيرات جدا، وقل أن تجد من بينهن عجوز، فإذا ما تصفحت الوجوه والملابس وكنت على علم بعض الشيء بالقوم وجدتهن جميعا خادمات.
قلت في نفسي هل المساء أحسن من هذا وأضمن لبيان حقيقة المكان كما أملت أن يحوي وجوها أصبح مما أرى، أصبح من تلك الأشكال أطل منها الفقر وقضى على بهجتها نحس الطالع، فرجعت في المساء فإذا هن أكثر عددا ويزحمن كل ما حول مكان الموسيقى، ويسرن عديدات في الطرقات ولكن أشكالهن هي هي لم تتغير.
ولكن ما لي أنا وهذا، هل هاتيك القبيحات لا يقعن فيما تقع فيه غيرهن، وعلى حد قولنا لكل قوتة كيال، والمكان واسع فسر فيه فإنك لا شك راء ما رأى غير ما دام الكيل هنا من غير حساب ... ولكنى لم أكن ذا حظ ولم أر شيئا ولما سألت إخواني من بعد قالوا إن أحد المصريين رأى هذا الأمر مرة بعينه.
أما رتشمند بارك فسعته الهائلة تسمح له أن يكون مكانا لشيء من هذا.
ثم قصدته من بعد أكثر من مرة لأسمع الخطباء، فإذا هم حقا كثيرون ولكن ما هم؟ عدد كبير أكثرهم داعين للدين وبأشكال مضحكة حقيقة، بلغ من تعصبهم حتى فيما بين مختلف طوائفهم أن يتشاتم المتكلم مع أحد السامعين على مسمع من البوليس: داع ديني بروتستانتي يدعو الناس لاتباع تعاليم السيد المسيح، وقد وزع على عدد منهم - العجائز والأطفال - كتبا فيها الصلوات، وقبل أن يبدأ جعل يقدم فضل المسيح وفض البروتستانية ثم مال بكله على البابا قائلا: والبابا يدعي أن في يده تغيير كلمة المسيح، إنه لمدع كذاب.
فقام إليه فتى من بين المحيطين به يبلغ الثالثة والعشرين وناداه خائفا: اسكت هناك، لا تقل عن البابا شيئا. - ها ها، فتى دخل الشيطان لنفسه ويعتقد بقدرة البابا. - إنما دخل الشيطان لنفسك أنت فأصبحت ضالا. - كان الشيطان يوسوس لي من خمس وعشرين سنة مضت، ثم عرفت كلمة المسيح، الكلمة الحق كلمة الله لا كلمة البابا ... البابا الكذاب. - لا تتكلم، سفيه وقح.
واستمروا في مثل هذا والبوليس إلى جانبهم ينتظر أن يقتتلا، ولكن الله سلم وابتدأ الداعي صلواته يرتلها مع المحيطين به بصوت حزين عال تحت سماء رائقة وجو فرح وخضرة ناضرة وكون ضاحك من أوله إلى آخره.
قلت في نفسي إذ ذاك، لو علم القوم أني أنا الواقف بينهم لا أدين بدينهم، وأن اسمي محمد لمال علي الكاثوليكي والبروتستانتي معا، وقضموني بأسنانهم قضما ثم لقالوا إنني متعصب، والتعصب يلمع بين عيونهم وينادون به بأعلى أصواتهم. أيام وجودي بلندرة ذهبت إلى ضاحية رتشمند مرتين: الأولى لثاني يوم من نزولي والثانية بعد مقامي مدة ليست بالقصيرة، ولقد وجدت لهاته الضاحية من البهاء والبهجة شيئا كثيرا، فهناك ساعات العصر وقبيل الغروب إذا وقفت فوق الرصيف
terrace
المفروش بالأشجار والنامية إلى جانبه الأعشاب الصغيرة، ثم التفت إلى جهة التاميز رأيت الأرض تنحدر مع النظر رويدا رويدا، وقد قامت عليها الزهور وفرشتها الحشائش ببساط سميك، وأرسلت عليها الشمس من الأشعة ما تلألأ على أوراق بعض النباتات الجميلة المنثورة في كل مكان من ذلك المنحدر البديع، وفي نهايته يسيل النهر هادئا تتهادى موجاته واحدة بعد واحدة وقد ركبه الكثيرون رجالا ونساء وفتيات، وكلهم ينسابون مع الماء راضين مسرورين.
Halaman tidak diketahui