وأي منا في هاته الساعات حين يرى العالم تخلى عنه والصدف جاءت على عكس مقصوده، وجلس هو مهموما يريد مناجاة ما أمامه، فإذا وجه الوجود عابس، وإذا الحوادث كلها مقطبة الجبين، أي منا في هاته الساعات لا يحس بالضعف المركب في نفسه يريد أن يستولي عليه ويخرجه من طوقه ويسوق إلى أعماق قلبه اليأس في من الحياة يأسا قاتلا، فليجأ إلى صدر حنون يوجده ولو من مجرد خياله، ويسميه بالاسم الذي يحلو له ويروق في عينه، يسميه الطبيعة إن كان من عشاقها، ويسميه نجمه إن كان من عشاق النجوم، ويسميه شيطانه إن كان من الشعراء، ويسميه إلهه إن كان من المتدينين أو من عامة الناس. فإذا ما التجأ إليه وجد منه ما يبعث إلى قلبه قوة ويقينا يعوضانه عن الضعف ويعزيانه عن المصائب التي وقع فيها ويعطيانه أملا طويلا عريضا في هذه الحياة، بل وفي حياة أخرى يصورها لنفسه خالدة بعد موته هذا الخيال العزيز المحبوب، هذا الإله الذي يمد في آمالنا ويخفف من الآمنا. هذا الموجود الذي وضعناه نحن على ما أردنا، والذي أعطيناه من الصفات ما يكفي لسد عظيم أطماعنا إنما يستمد أصله من ضعفنا وصغرنا أمام الطبيعة العظيمة الهائلة.
إني لأحسب الناس قد نجحوا كثيرا في عملهم هذا، وقدموا حقيقة عزاء ذا قيمة للنفوس البسيطة والممتلئة باليقين، ولست أشك لحظة في أن كثيرين من الذين يعانون شقاء العيش وبؤس الحياة إنما يخفف عنهم هذا الويل القاتل ما يعزيهم به الدين عن آلامهم وما يسوقهم إليه الطمع الإنساني من الاعتقاد بحياة أخرى، وإن امرأتي الشديدة اليقين في عقيدتها الواثقة تمام الثقة من إيمانها لتحمل في صورها قوة لا تجدها كثيرات بل ويضعف دونها رجال كثيرون، ولقد شاهدتها مرارا ساهرة إلى جانب ابنتنا الصغيرة في بعض أيام مرضها وهي أقل مني جزعا لأنها أكبر مني يقينا.
لكن، أسائل نفسي دائما: هل يحسن بالناس أن يجعلوا عزاءهم في أوهام وأضاليل؟ وألا يكفي للقيام بمأمورية الدين الذي يجعلنا نطمع بالخلود أن يهزأ الناس بحياتهم القصيرة، ثم أرجع عن هذا حين أرى أن الحياة أوهام وأضاليل، فليس حمقا أن نتعزى عنها بأوهام وأضاليل ...
وفي مثل هذا القول استمر المسيو ه.ج. وخرج أخيرا بنتيجته المعتادة، أي بأن لا نتيجة، وأن هذه الحيرة التي تخالط نفسه لتجعله محببا وخفيف الروح مهما كان في قوله مما يصادم أرسخ العقائد، وقد علمت أن حاله هذه سبب مستمر لمناقشات طويلة ذات ذيول تحدث بينه بين زوجته التي ربيت بين آباء من القسيسين ونشأت نشأة دينية، ومن غير أن أسمع هذه المناقشات فإني شديد الاعتقاد بأن المسيو ه.ج. المحبوب من زوجته يسلم لها أحيانا كثيرة - ربما أغلب الأحيان - لكنه يترك دائما وفي آخر لحظة كلمة شك تثير نفس مدام ه.ج. وتترك له مجالا ليستعيد المناقشة من جديد لأقل سبب.
على كل حال فإن كلامه وحيرته مملوءان بالمعنى، ويستدعيان تفكيرا عميقا بالرغم من شديد معارضتنا له أحيانا في نظرياته.
19 سبتمبر
أسفر النهار عن شمس جميلة تملأ بنورها الجو الصافي وتبعث إلى الطقس الباريسي الحزين ابتسامة تنعشه، وأسفر أيضا عن الكثيرين الذي سيتركون باريس ممن امتلأت بهم عربات الأمنيبوس التي كنت أرقبها من شباكي تمر محملة قاصدة محطات سكك حديد الضواحي، وأسفر عني أنا جالسا في مقعدي أتثاءب من حين لآخر، وأحول نظراتي التي بقي بها أثر النوم ساعة من الزمان جهة الشارع القليل الحركة والذهاب والجيئة إلا ساعات مرور عربات الأمنيبوس.
أخيرا طلبت طعام الإفطار، وفيما أنا أتناوله دق الباب ودخل ب. يدل شكله ونظراته والاستغراب الذي علاه حين رآني في مقعدي على أنه ينوي بنا أن نمضي الأحد بعيدين عن المدينة، وأجبت أنا على كل هذا النشاط من صديقي بتثاؤب طويل ثم رجعت إلى طعامي من غير أن نتبادل أثناء ذلك كله كلمة، وأخيرا قال: أما أمرك غريب! أتريد أن تقضي نهارك كله في غرفتك والشمس أشد ما تكون إغراء على النشاط والحركة. - نهارك سعيد، ماذا أعددت لنا؟ - وأنا عارف.
واتفقنا بعد مناقشة قصيرة على أن نذهب إلى انجان لي بن (انجان الحمامات).
نزلنا متأخرين طبعا - لأنا لم ننزل إلا بعد أن لبست أنا هدومي - وكنا في انجان بعد منتصف النهار بقليل، فأخذنا سمتنا من المحطة نريد أن نبحث عن مطعم نتناول فيه غذاءنا، فقابلتنا البلد لأول ما نزلنا بشوارعها المتسعة تقوم الأشجار الباسقة عن جانبيها وقد فرشت أرضها ببساط ذهبي من أوراق الخريف التي ابتدأت تتساقط بالرغم من بقاء الأشجار بخضرتها القائمة بعض الشيء، يصفر الريح في ورقها من حين لآخر منذرا بفصل الموت القريب أجله، وامتدت عن يميننا بحيرة أنجان تتلاعب أمواجها الخفيفة بنور الشمس تقلبه على وجوهه، وبعض المنازل تعلق بحديد أسوارها شجر العليق وامتدت على جدرانها ست الحسن فكستها خضرة عابسة، يشتمل ذلك كله سكون خافت لا يقطعه أحيانا إلا دوي الريح أو صدى عصفور ينط فوق قمة الشجر.
Halaman tidak diketahui