وأمضينا بقية يومنا فوق ظهر الماء، وتحركت الباخرة في المساء، ثم تنفس صبح الجمعة عن شواطئ بيروت، وعند الساعة العاشرة كانت السيارة تقطع بنا الطريق من بيروت إلى برمانا.
بيروت عاصمة لبنان الكبير، ولم يدع لبنان كبيرا إلا بعد أن ضم الانتداب الفرنسي بيروت إليه وجعلها عاصمته، أما قبل ذلك فكان لبنان لبنان فقط، وكان وسط بلاد الدولة العلية إيالة تمتعت بالاستقلال الذاتي منذ سنة 1868.
ومن بيروت تتفرع الطرق إلى ربوع لبنان، فينبعث أحدها شمالا إلى طرابلس وإلى شمال لبنان، ويسير الآخر جنوبا إلى عاليه وصوفر والشام، ويتوسط هذين طريق يمر ببرمانا وبكفيا إلى ظهور الشوير، وتتفرع من هذه الطرق الثلاث الرئيسية الصاعدة من الشاطئ إلى قمم سلاسل لبنان طرق كثيرة أخرى بعضها يحاذي الأولى ويهبط البعض الآخر إلى بطن الوادي، يسير عليه من يريد أن ينتقل من إحدى سلاسل لبنان إلى سلسلة أخرى.
وليس في لبنان طريق لسكة حديد إلا ذلك الطريق القديم الصاعد من بيروت إلى صوفر فزحلة والمعلقة ورياق حيث يتفرع فيذهب فرع إلى الشام ويذهب آخر إلى سوريا، وهذا الطريق ممل بطيء يحتاج المسافر عليه من بيروت إلى دمشق لأكثر من ثمان ساعات، وقد كان الناس به راضين فرحين يوم لم يكن له منافس إلا العربات تجرها الجياد، أما اليوم لوى الناس عنه وجوههم وكادوا ينسونه لأن الأوتموبيلات قد قصرت الوقت وأذهبت الملال، والأتومبيلات في لبنان كثيرة يزيد عددها على الألفين، ونفقتها يسيرة إلى جانب سائر نفقات المصطاف، فلست تجد ما يدفعك إلى ركوب عربات سكة الحديد ولو كانت البلدة التي تقصد إليها واقعة عليها.
وأكثر الأوتموبيلات في لبنان من الطراز الأمريكي، والفورد عظيم الرواج، كذلك تجد الدودج والبويك والهدسن، أما الطراز الأوروبي كالفيات والرينو فنادر جدا؛ لأن طرق الجبل عسيرة، ولأن السيارات الأوربية عالية الثمن والبلاد ليست غنية وأهلها أحوج إلى النافع منهم إلى الجميل.
وتصعد الأوتموبيلات من الشاطئ على مستوى سطح البحر إلى صوفر أو إلى ظهور الشوير أو إلى أهدن، أي إلى أماكن ترتفع ما يناهز ألفا وخمسمائة متر فوق سطح البحر، وتصل إلى هذا الصعود في زمن وجيز لا يتجاوز الساعة ونصف الساعة، وتلك معجزة لمن لم يرها، كيف تتسلق السيارات الجبال الصاعدة إلى السماء؟ كيف يفكر إنسان في زيارة أرز لبنان وهو مطمئن إلى مقاعده الوثيرة في سيارته حتى يصل إلى بلدة بشرى المرتفعة فوق سطح البحر بمقدار 1550 مترا، وكيف يفكر أهل الجبل في تمهيد باقي الطريق إلى الأرز لتتسلق عليه الأوتموبيلات مرتفعة أربعمائة متر أخرى فوق مستوى بشرى؟ ليس تصور هذا الأمر يسيرا
لكنك تتصوره وتطمئن له وتسر به متى رأيته، فليست سلاسل لبنان ذاهبة في ارتفاعها إلى السماء توا من عند سطح البحر، ولست تجد هذا المنظر البديع الذي تجده حين تمر في الرفييرا بفرنسا وبإيطاليا فترى الجبال الشامخة تقوم على شاطئ البحر المتوسط لا يفصل بينهما إلا طريق تمر به العجلات ويجري فوقه الترام، فإذا نظرت عن جانب رأيت الأفق الأزرق الدائم الصفاء، ورأيت فيما بينك وبين الأفق الأمواج المتتالية تتدافع نحو الشاطئ لتنكسر عليه في دوي ورغاء وزبد، وإذا نظرت عن الجانب الآخر حال الجبل دون امتداد النظر فإذا رفعت طرفك كان الجبل دائما هو الذي يلقاه حتى يلقى الجبل السماء ... لست تجد هذا المنظر البديع في سلاسل لبنان إلا في بعض الطريق ما بين بيروت وطرابلس، فأنت في هذا البعض من الطريق ترى سيارتك تطير بين الماء والصخر على طريق لا تزيد سعته على ثمانية أمتار، ويقابلك أثناءه نفقان يلتقي عندهما البحر والجبر من غير واسطة، على أن بين جبال الرفييرا وهذا القسم من جبال لبنان فرق كبير، جبال الرفييرا رفيعة معطرة بالزهر مختلفة الوجوه ونباتية الصور، أما هذا القسم من جبال لبنان فلا تأخذ رفعته ولا يأخذ عبيره بالنظر، وإنما يأخذ بالنظر منه وجوم واستجمام وتقشف، وقد يكون للوجوم وللتقشف أثر على النفوس لا يقل عما لروعة البهاء والعطر من أثر.
أما سائر سلاسل لبنان فتنبت عند الشاطئ وترتفع رويدا رويدا حتى تبلغ غاية ارتفاعها بعد عدة كيلو مترات، فإذا أنت وقفت عند ملتقى الطرق بظاهره بيروت ومددت ببصرك رأيت القرى والضياع منثورة بعضها فوق بعض، ويتسنم بعضها الجبل ويحتمي البعض الآخر بالسفح، فإذا كان موقفك في إحدى ساعات الليل رأيت هذه القرى والضياع أنوارا يبدو لالأؤها إلى أن تنتهي عند القمم بلقيا نجوم السماء، وكأنها لولا لونها المحمار صورة هذه النجوم انطبعت على الأرض انطباعها على الماء، وكأن القمم هي الأفق الذي تلتقي عنده الصورة بالخيال.
تدرج الجبال في ارتفاعها من الشاطئ إلى القمة هو الذي جعل سير الأوتمبيلات فوق ظهرها ممكنا. لكن ... لا تحسب هذا التدرج هينا ترتقي وإياه في طريق مطمئن مستقيم يصل بين البدء والغاية كسيرك من شاطئ النيل إلى سفح الهرم، وإنما يتحايل الأوتموبيل على تسلق هذه السفوح تحايلا، فقد اختط الناس الطرق عليها في صورة شبه حلزونية عجب شكلها، تسير بك السيارة في طريق صاعد وتستمر في سيرتها خمسون مترا ثم يقابلها الوادي فتدور متسلقة في دورانها كوعا يمتد بعده طريق يحاذي الطريق الذي كانت تسير من قبل عليه، ولكنه يرتفع عنه ويظل صاعدا حتى لترى الطريق الأول أسفل منك بمقدار يبلغ في بعض الأحايين خمسة أمتار أو يزيد، ثم لا تمر بك دقيقة أو دقيقتان حتى إذا كوع آخر وإذا الأوتموبيل يتسلق، والويل له إن لم يكن قويا، فقد تراه في بعض هذه المواقف (متعسرا) يرسل البنزين إرسالا ويفحر في الأرض بعجلاته، ويدور كأنما يدور حول نفسه، ويحدث من الضجة ما يحدثه اللاهث المستغيث، وبينما يدور الأوتموبيل دوراته مسرعا مرة مبطئا أخرى تنجلي أمامك السفوح هابطة إلى الوادي مغطاة بأشجار الصنوبر تبدو خضرتها زاهية تحت ضوء الشمس أو قتاما إذا كانت على السفح المقابل، ويمتد الصنوبر في غاباته جليلا جميلا وتتموج هاماته تحت الضوء ويحدث فيها الهواء اهتزازات لطيفة تزيد موجها جلالا وجمالا.
اختط بنا الأوتموبيل الطريق من بيروت إلى برمانا، قد أذكرتنا بيروت ساعة نزلناها بحر القاهرة بعدما نسيناه ثلاثة أيام تباعا فوق سطح البحر، وسار يتعرج في هذه الطرق ويتسلق السفح مسرعا آنا مبطئا آونة، فلما علا فوق منازل بيروت وانكشف البحر وبدت السفوح الخضراء، هب نسيم رقيق كان يزداد رقة كلما ازددنا ارتفاعا، وبعد مسيرة نصف الساعة وقف بنا عند نبع ماء تقابله قهوة تدعى الخروبة؛ لأنها واقعة تحت شجرة خروب تظلها، وهناك وجدنا أوتومبيلات سبقتنا تستقي من هذا النبع؛ ذلك أن صعود السيارات يحوجها للماء كي تهدئ ما بجوفها من حرارة تكاد تحرقها.
Halaman tidak diketahui