وغمغم السجين قائلا وهو يصرف بأسنانه: «أبي ... أيها الشيطان!» واندفع هائجا، وأمسك الشيخ من عنقه، ولكنه كان أباه، فما لبثت ذراعه أن تراخت إلى جنبه عاجزة لا حراك بها.
وأما الشيخ، فقد أرسل صيحة عالية تردد صداها في الحقول الساكنة كأنها زمجرة مارد رجيم، وارتد وجهه مسودا، وانبجس الدم من فمه وأنفه؛ فلطخ العشب بحمرة قاتمة، وترنح الشيخ ثم هوى ... فقد انفجر شريان فيه، وأدركه الموت قبل أن يتقدم ابنه إليه ليرفعه.
وسكت السيد الكبير لحظات، وعاد يقول: «وفي ذلك الركن من فناء الكنيسة، ذلك الركن الذي تحدثت عنه، يرقد رجل قضى ثلاث سنين في خدمتي عقب ذلك الحادث، ظل خلالها سحيق القلب، تائبا نادما خاشعا كل الخشوع الذي يتسنى لأحد من البشر الإخلاد إليه، وما عرف أحد سواي خلال السنين التي قضاها قبل أن يوافيه الموت من يكون ذلك الرجل، ومن أين أتى ... لقد كان جون أدموندز ... السجين العائد!»
الفصل السابع
كيف رأينا المستر ونكل، بدلا من أن يسدد الرماية إلى الحمامة ويقتل الغراب، سددها إلى الغراب وجرح الحمامة، وكيف تبارى فريق نادي الكريكت في «دنجلي ديل» مع فريق «ماجلتون»، وكيف تناول هذا الفريق طعام العشاء على مائدة رب الضيعة في دنجلي ديل، وشئون طريفة طلية أخرى. ***
واصطلحت متاعب النهار، أو أثر القصة التي قصها القسيس ومفعولها المنوم، على معاقد أجفان المستر بكوك ولهفته على النعاس، فلم تكد تنقضي بضع دقائق على اقتياده إلى حجرة نومه المريحة، حتى هبط في سبات عميق لا أحلام فيه، ولم يوقظه منه إلا شمس الصباح، وقد نفذت بأشعتها الباهرة في جوانب المخدع، كأنما تعتب عليه طول المكث في سريره، ولم يكن السيد بكوك بالرجل المكسال المتبلد، فما عتم أن وثب من فراشه وثبة جندي محارب، متحمس للقتال من جوف خيمته.
وغمغم ذلكم السيد المتحمس، وهو يفتح باب الشرفة المتشابك قائلا، وهو يرسل تنهدا مستطيلا: «ريف جميل ... ريف جميل ... من ذا يطيق العيش في بلد لا يشهد فيه كل يوم غير الطوب والقرميد، بعد أن أحس سلطان مشهد كهذا وأثره في نفسه؟ ومن ذا الذي يحتمل الحياة في موضع لا أبقار فيه غير الأبقار المرسومة على غطاء المدخنة، ولا شيء فيه من عطر إله الرعاة، غير رائحة الآجر، ولا إنتاج فيه غير الحجر؟ ... ومن ذا الذي يحتمل أن يحيا تلك الحياة السقيمة في موضع كهذا؟ إنني أسأل: من ذا الذي يطيقها، لعمري، ومن ذا يحتملها؟»
وبعد طول التساؤل والمناجاة بينه وبين خاطره، على هذا النحو، راح السيد بكوك يخرج رأسه من خلال الباب المتشابك الأجزاء، ويجيل البصر فيما حوله.
وتصاعدت رائحة الدريس الزكية الحلوة إلى شرفة حجرته، وتأرج الفضاء المترامي حوله بأنفاس الزهر وشذى الشجر الفواح، وفي البساتين القائمة من تحته، ولمعت المروج النضر بندى الصباح المتلألئ على أوراق الأفنان، وهي تنثني وتتمايل في الهواء العليل، والأطيار تشدو، كأن كل قطرة براقة من قطر الندى فوارة تبعث الوحي، وتدفع الإلهام، فتصدح وتغني، فلم يلبث المستر بكوك أن ذهب في حلم فاتن، وخيال ممتع بديع، لم يوقظه منه غير صوت ينادي: «من هنا.»
فنظر عن يمينه، فلم ير أحدا، وتلفت عن شماله، وأرسل بصره يشق الفضاء، ورفعه إلى السماء، ولكنه لم يكن مطلوبا فيها، وعندئذ فعل ما يفعله كل إنسان في الحال ... نظر إلى الحديقة، فإذا هو يبصر السيد واردل.
Halaman tidak diketahui