وكانت تلك المخلوقة المسكينة لا تكف عن الحضور إلى كنيستنا الصغيرة، وكثيرا ما كانت تلوح عليها آثار القسوة والعذاب الذي كانت واجدته منه، ولا تستطيع لتلك الآثار إخفاء، فكانت لا تفتأ في كل أحد، صباحا وأصيلا، تأتي فتتخذ مجلسا بعينه، والغلام بجانبها، ولئن كانا يلوحان في ثياب مهلهلة، بل أسوأ مظهرا من كثير من جيرانهما، الذين هم أقل منهما شأنا، ودونهما في العيش مكانا، فقد ظلا أبدا حريصين على الظهور أمام الناس نظيفين وضاءين، وكان كل امرئ يومئ إيماءة مودة، ويعد كلمة رقيقة حانية للسيدة أدموندز المسكينة، وأحيانا إذا وقفت لتتبادل بضع كلمات مع جارة لها بعد انتهاء الصلاة، وسط أشجار الدردار المؤدية إلى السقيفة، أو تتخلف قليلا عن الخارجين لتلقي نظرة فخار وزهو وحب على وجه ولدها اليافع، وهو يستبق في صحبته بعض الرفاق الصغار، وقد تهلل وجهها الذي علاه الهم وغمرته الكآبة، بعرفان صادق، وشكر جميل، فكانت تبدو على الأقل هادئة النفس، قانعة راضية، وإن لم تلح مبتهجة سعيدة هانئة ...
وانصرفت خمس سنين أو ست، فأصبح الغلام شابا قويا صلب العود ناميا، ولكن الزمان الذي أكسب الصبي القوة، وحبا كيانه الواهن بأسا، وأحال أوصاله الواهية مفتولة، في قوة الرجولة وأيدها - قد أحنى ظهر أمه، وأضعف من خطاها، ولكن الذراعين اللتين كان أولى بهما أن تسنداها لم تعودا بين أحضانها، ولا مشتبكتين وذراعيها، وذلك الوجه الذي كان أحق به أن يؤنسها في وحشتها، لم يعد ينظر إلى وجهها، فكانت تأتي إلى الكنيسة، فتجلس في مقعدها القديم، وإن ظل المقعد الملاصق خاليا، ولبث الكتاب المقدس مصونا لديها، محفوظا كعهده، والصفحات تنشر بين يديها وتطوى كدأبها، ولكن لم يكن ثم أحد يقرأها معها، فكانت الدموع تتساقط غزارا سراعا على الكتاب، وتجعل الكلمات متراقصة أمام عينيها، وظل جيرانها على ما ألفوه، رحماء بها، حناة عليها، ولكنها جعلت ترد على تحياتهم بإشاحة وجهها، ولم تعد تبطئ الخطى بين أشجار الدردار كعادتها، ولم يبق في قرارة نفسها من أمل مداعب يوحي إليها أن السعادة قادمة على الأيام، بل بقيت المرأة المنهكة ترخي قبعتها على وجهها، وتنصرف مهرولة مسرعة.
وهل أحدثك عما كان من أمر ذلك الفتى ... إنه لم يعد كلما رجع بخاطره إلى أيام الطفولة الأولى، التي لا بد من أن تعيها الذاكرة، فيذكر شيئا من تلك السلسلة المستطيلة من صنوف الحرمان الطائع المختار، الذي كانت تقاسيه أمه من أجله، إلى جانب من المساءة والإهانة والبطش الذي كانت تحتمله في سبيله، وهل أحدثكم عنه، كيف استخف بفؤادها الكسير، وكيف نسي عامدا كل ما فعلته وقاسته بسببه، فمضى بصحبة الفاسدين وسيئي السيرة والمنبوذين من الناس، ومضى في غيه لا يبالي، وينحدر إلى الهاوية، ولا يعبأ هل هو ملاق في هذا الضلال مصرعه، وجالب العار عليها والشنار بسوء مسلكه؟ واأسفا للطبيعة البشرية ... وما أحسبكم إلا عرفتم النتيجة المحتومة، قبل أن أصفها لكم، فقد كادت تلك المرأة الشقية المنكوبة تصل إلى نهاية حدود شقائها وبأسائها، لقد وقعت جرائم كثيرة في هذه الربوع، وظل أمر الجناة مجهولا؛ مما زادهم جرأة، وأغراهم بالمعاودة والإمعان، ووقع حادث سطو جسيم يدل على جرأة جناته، فاقتضى الأمر السهر في البحث عنهم، وتشديد مطاردتهم، ولم يكن الجناة يحسبون لهذا التعقب الملح حسابا، وقد وقعت الشبهة على الفتى أدموندز وثلاثة من أصحابه؛ فقبض عليه وحوكم، وحكم عليه بالموت.
وإن الصرخة الموحشة النفاذة، التي ارتفع بها صوت المرأة، فترددت أصداؤها في جنبات ساحة القضاء، حين نطق القاضي بهذا الحكم الرهيب؛ لترن اللحظة في أذني، وقد ألقت تلك الصيحة المدوية الرعب في قلب الجاني، وكانت المحاكمة والإدانة والحكم بالموت قد عجزت جميعا عن إيقاظ ضميره، فلم تلبث الشفتان اللتان ظلتا مرفوعتين في عبسة كظيمة طيلة الجلسة أن رعشتا وانفرجتا على الرغم منه، وارتد وجهه شاحبا كرماد نار خابية، وتفصد العرق البارد من كل مسامه، ورجفت أوصاله القوية، ووقف مرنحا متمايلا في القفص لا تحمله ساقاه.
وفي الغثيات الأولى، من أثر ألمها البالغ وعذابها الشديد، راحت هذه الأم المعذبة تلقي بنفسها جاثية عند قدمي، ضارعة إلى الله من أعماق صدرها - وهو الذي أضفى عليها رحمته في مختلف الخطوب التي اجتازتها، والمحن والأهوال التي مرت بها - أن يخلصها من هذا العالم المليء بالويلات والأحزان ، وينقذ حياة ولدها الوحيد.
وأعقب ذلك انفجار في أحزانها، وصراع عنيف أرجو الله أن لا أشهد مثله مرة أخرى فيما بقي من حياتي، وكنت أحس أن قلبها قد تحطم من تلك اللحظة، ولكني لم أكن قد سمعت يوما منها شكاة، ولا أفلتت أمامي أنات من بين شفتيها.
ولقد كان مشهدا يثير الشفقة، منظر تلك المرأة في فناء السجن، تغدو إليه في كل يوم؛ محاولة في لهفة وحرارة أن ترقق بالحب والتوسل والتضرع قلب ابنها القاسي، وتلين من فؤاده الجمود المتحجر، ولكن محاولتها ذهبت أدراج الرياح، فقد ظل واجما عنيدا، لا تتحرك في نفسه خالجة، ولا تجيش في صدره عاطفة، بل إن استبدال حكم الموت ذاته بالنفي أربعة عشر عاما لم يستطع أن يلين ولو لحظة من قسوته، أو يرقق من غلظته، ولم تلبث روح الاستسلام وقوة الجلد التي طالما أعانتها من قبل، وشدت من نفسها الواهنة، أن عجزت عن مقاومة ضعفها، ومغالبة وهنها، فمرضت، ولكنها ظلت تجر قدميها المتعثرتين، تاركة فراشها إلى السجن لتزور ابنها مرة أخرى، وإذا قوتها تخذلها؛ فتهوي إلى الأرض مهدمة لا تستطيع حراكا.
وكانت القسوة التي كان ذلك الفتى يباهي بها، وعدم مبالاته، قد امتحنا حقا، وجربا إلى آخر الحدود، فكاد الانتقام الذي ألقى بجرانه عليه، يذهب بلبه، وانقضى يوم ولم تأت أمه لتزوره، وفات آخر ولم تقترب منه، حتى كان مساء اليوم الثالث، ولم يرها، ولم يبق إلا أربع وعشرون ساعة أخرى فيفترق عنها، ومن يدري فقد يكون فراق الأبد ... يا لله! لشد ما عادت إلى خاطره ذكريات الأيام الخوالي التي كان قد نسيها، فراح يقطع الفناء الضيق، ذهوبا وجيئة بخطى مسرعة، كأن أخبارها ستوافيه سراعا كلما أسرع في غدوه ورواحه على تلك الصورة، يا لله ... لشد ما آلمه الإحساس المرير بأنه قد بات وحيدا مهجورا، مقطوع الصلة بالدنيا، حين سمع النبأ اليقين، وهو أن أمه الوالدة التي لم يعرف من أبويه غيرها، مريضة في فراشها، أو من يدري فقد تكون محصورة في سكرات الموت ، على مبعدة ميل واحد من الموضع الذي وقف فيه، ولو أنه كان حرا طليقا من الأغلال؛ لاستطاع في بضع دقائق أن يكون بجانبها، فاندفع نحو باب السجن، وأمسك بقضبانه الحديدية بكل قوة الاستيئاس، وراح يهزها هزا، وهي تعود جامدة مرتدة إلى مكانها، ومضى يلقي بكل قوته على الجدار السميك، كأنما يريد أن يشق لنفسه طريقا من خلال هذا الحجر الأصم، ولكن البناء المكين سخر من جيده الضعيف، فوقف يقلب يديه حسرة، ويبكي كالطفل من فرط اليأس.
وحملت مغفرة الأم وبركتها إلى ولدها في السجن، ونقلت إليها وهي في فراشها أقسامه المغلظة على توبته وندامته، وتضرعاته الحارة لها أن تعفو عنه، واستمعت إليه في إشفاق ورحمة ورثاء له، وهو يصف لي عشرات الوسائل التي سينتهجها ليكفل لها الراحة والمعونة عند عودته، ولكني كنت أعلم أن أمه لن تكون من أهل هذه الدنيا قبل أن يعود إليها بعد عدة أشهر.
ونقلوه ليلا، ولم تنقض على نقله بضعة أسابيع، حتى رحلت أمه من هذا العالم، وأرجو موقنا، وأومن حقا، إلى مكان تجد فيه السعادة الأبدية، والراحة السرمدية، وقمت بالصلاة على رفاتها، وهي اليوم ترقد في فناء كنيستنا الصغيرة، وليس على قبرها حجر، ولا فوق جدثها من أثر، فقد عرف البشر أحزانها، وعرف الله ما في نفسها من فضيلة وخير.
Halaman tidak diketahui