فبادرت بوضع بحث مفصل في مساوئ المعاهدة وإظهارها على حقيقتها، وجعلت عنوان البحث «استقلال أم حماية» وعرضته على المرحوم أنطون بك الجميل «باشا» رئيس تحرير الأهرام لينشره في الأهرام، وكتبت له جوابا خاصا بأن من حقنا على الأهرام أن تنشر رأينا كمعارضين إلى جانب رأي المروجين والمحبذين. فلم يتردد رحمه الله في الاستجابة إلى طلبي، ونشر رسالتي كاملة في عدد 26 سبتمبر سنة 1936، وقد استغرقت أكثر من صحيفتين كاملتين من الأهرام، فكانت أول صوت للمعارضة ارتفع بالطعن في المعاهدة بعد توقيعها. وقد بدأتها بقولي: «الآن وقد نشرت نصوص المعاهدة وانقضت فترة كافية لمن أرادوا الابتهاج بها، يجب على الأمة أن تبحثها وتفهمها على حقيقتها؛ لأنها لا ترتبط بحقوق الأفراد وحدهم، بل تتعلق بحقوق الوطن في حاضره ومستقبله، ولا تقتصر نتائجها على الجيل الحاضر فحسب بل تتعدى إلى الأجيال المقبلة. وإذا كانت عقود التصرفات بين الأفراد كالبيع والإيجار والرهن وما إلى ذلك لا يبرمها أصحاب الشأن فيها إلا بعد بحثها وتمحيصها وإنعام النظر في شروطها ومحتوياتها، فأجدر بالعقود التي يرتبط بها مصير أمة أن تكون موضع الدرس والعناية من طبقات الأمة كافة حتى يتبين أي مصير هي قادمة عليه إذا هي قبلت المعاهدة.»
وقد كان لنشر رسالتي في الأهرام صدى بعيد في الرأي العام، وانبرى مروجو المعاهدة ومؤيدوها للرد عليها في الأهرام وغير الأهرام، ولكن لا أظن أنهم استطاعوا أن يزيلوا تأثير ما احتوت عليه من الحجج والأدلة المنطقية القوية، وقد لاقت الرسالة اهتماما كبيرا حتى اضطررت إلى طبعها على حدة بعد نشرها بالأهرام، وأعدت طبعها مرتين؛ أي إني طبعتها ثلاث مرات عدا نشرها في الأهرام، وكنت أوزعها مجانا لمن يطلبها، وقد وقعتها بصفتي سكرتيرا للحزب الوطني، فكانت معبرة عن رأي الحزب في رفض المعاهدة، وأعلن رئيس الحزب وأعضاؤه البارزون بحوثهم وآراءهم وكلها متفقة على رفض المعاهدة. (5) عودتي إلى الحياة البرلمانية (1939-1951)
إن القدر وحده هو الذي أعادني إلى الحياة البرلمانية سنة 1939 بعد أن أقصتني عنها الحزبية الوفدية نيفا وثلاث عشرة سنة.
في سبتمبر من تلك السنة توفي المرحوم محمد محمد الشناوي بك عضو مجلس الشيوخ عن دائرة كفر بدواي بمديرية الدقهلية،
2
وهي تضم بلادا من مركز المنصورة ومركز فارسكور وتمتد إلى شطوط دمياط، وأهل هذه البلاد يعرفونني حق المعرفة ويذكرون مواقفي في مجلس النواب الأول والذي يليه، وكثيرون منهم كانوا يتوقون إلى أن أعود إلى الحياة البرلمانية سواء في مجلس النواب أو في مجلس الشيوخ. وكان الوفد قد قرر عدم الترشيح للمراكز التي تخلو وقتئذ في البرلمان بحجة تدخل الحكومة في انتخابات سنة 1938، وهذا القرار لم يكن له مدى زمني معلوم. على أنني قد أعربت لإخوة الشناوي بك عن رغبتي في ترشيح نفسي لهذه الدائرة وسألتهم هل أحد منهم يرغب في الترشيح لها، فأجابوني بالسلب، فاستخرت الله واعتزمت ترشيح نفسي لهذه الدائرة، وقدمت أوراق ترشيحي بمديرية الدقهلية يوم 14 أكتوبر سنة 1939. ولكن سرعان ما ظهر لي منافس من حزب الأحرار الدستوريين الذين كانوا أصحاب الغالبية في انتخابات سنة 1938، وأعرب عن رغبته في ترشيح نفسه، وأيده حزبه في ذلك. ومن حسن الحظ أن حزبه كان قد ترك الحكم قبيل ذلك؛ إذ استقال محمد محمود باشا أو طلب إليه أن يستقيل في سبتمبر سنة 1939، وتولى الوزارة علي ماهر باشا ولم يشترك فيها حزب الأحرار الدستوريين، على أنهم بوصف كونهم أصحاب الغالبية في مجلس النواب كان لهم صوت مسموع في الحكومة، وقد أرادوا أن يرشحوا واحدا منهم لهذه الدائرة التي خلت ليزيدوا من عدد ممثليهم في مجلس الشيوخ.
ولكن أعيان المنطقة وقفوا بجانبي موقفا مشرفا كان له أثره في نجاحي بالتزكية، ذلك أنهم صارحوا عبد الجليل أبو سمرة باشا بأنهم مع صداقتهم له ولعائلة أبو سعدة «عائلة المرشح الدستوري» وعائلة أبو سمرة فإنهم لا يمكن أن يؤثروا مرشح الأحرار الدستوريين علي ولا بد أنهم سيكونون في صفي إذا حصلت المزاحمة بيننا. فاستجاب عبد الجليل باشا إلى ندائهم، وارتضى أن يقنع قريبه بتنازله عن التقدم للترشيح، ولم يرض هذا الموقف زعماء الحزب في مصر ولاموا عبد الجليل باشا على تسببه في خسارة الدائرة وتضييعها على حزبهم. فاعتذر بأن أقرباءه وأصدقاءه في المنطقة أصروا على خذلان مرشحهم إذا هو تقدم ضدي. فسكتوا على مضض؛ ومن ثم لم يتقدم ضدي أي مرشح آخر وانتهت العشرة الأيام المحددة للترشيح بسلام. وبذلك صرت عضوا في مجلس الشيوخ منذ الساعة الخامسة من مساء يوم الأحد 22 أكتوبر سنة 1939.
ومن الحق في هذا المقام أن أنوه بفضل علي ماهر باشا في نجاحي؛ فإنه رحب بترشيحي ترحيبا حارا، وكان وقتئذ رئيسا للوزارة، فكان لترحيبه صداه في رجال الإدارة، كما كان له أثره في تسهيل انسحاب مزاحمي الدستوري؛ إذ قطع الأمل من مساعدة الإدارة له.
عدت إذن إلى الحياة البرلمانية وانتظمت في صفوف المعارضين، وكان الوفد يومئذ في المعارضة يشغل مقاعدها في مجلس الشيوخ، وكان له عدد وافر فيها، بخلاف مجلس النواب، وقد تضامنت معهم (عن عقيدة) في المعارضة. وفي خطبتي الأولى التي ألقيتها في المجلس بجلسة 11 ديسمبر سنة 1939 لمناسبة الرد على خطاب العرش نوهت إلى أنهم فيما مضى (سنة 1924) كانوا لا ينظرون بعين الارتياح إلى مواقفنا كمعارضين، وها قد دارت الأيام فجمعتنا صفوف المعارضة، وكانت خطبتي تحمل في طياتها معنى عتابهم على محاربتهم لي في الماضي، قلت في هذا الصدد ما يأتي: «زملائي الأعزاء! أرجو أن تسمحوا لي وأنا أقف بينكم لأول مرة أن أرجع قليلا إلى ذكريات الماضي. لقد كنت عضوا في مجلس النواب الأول سنة 1924، ووقفت مثل هذا الموقف مبديا آرائي وملاحظاتي على خطاب العرش، وقد ألقاه وقتئذ المغفور له سعد زغلول باشا، وكانت الحياة البرلمانية في مستهل عهدها، وتقاليدها جديدة علينا، ففكرت مليا مع طائفة عزيزة من النواب في أي خطة نسلكها في البرلمان. فاتفقنا على أن تكون خطتنا هي الدفاع عن المبادئ التي نؤمن بها والتي صارت جزءا من حياتنا السياسية، وأن نؤيد الوزارة في كل ما يتفق وهذه المبادئ وفي كل ما تعمل لصالح البلاد، وأن ننقدها بالرفق واللين فيما نعتقد أنها أخطأت فيه. وقد اصطلح الناس على تسمية هذه الخطة بالمعارضة، فرضينا بهذه التسمية؛ إذ جعلناها خالصة لوجه الله والوطن، ودار الجدل الطويل وقتئذ على المعارضة في ذاتها: هل هي لازمة أم غير لازمة، نافعة أم ضارة؟ ثم جاءت انتخابات سنة 1925 لمجلس النواب الثاني ، فانتخبت فيه ولكن لم يطل عهده كما تعلمون، ثم انقطعت صلتي بالحياة البرلمانية من الناحية الرسمية مع استمرارها من الناحية الروحية والفكرية، إلى أن انتخبت في أكتوبر الماضي عضوا بمجلسكم الموقر. فلما زرت معاهد البرلمان لأرى مدى التغييرات التي طرأت عليها في خلال هذه السنين رأيت الأوضاع هي هي، غير أني لاحظت أن قاعة فخمة قد أعدت للمعارضة في مجلس النواب، وقاعة فخمة أخرى قد أعدت للمعارضة في مجلس الشيوخ، وهذا هو الشيء الجديد. وهكذا بعد أن كانت فكرة المعارضة موضع القيل والقال، والجدل والحوار، صارت نظاما مستقرا معترفا به من الجميع، وقد زادني هذا التطور اعتقادا بأننا كنا على حق سنة 1924 وسنة 1925، وأن المعارضة ما دامت تنشد الحق والمصلحة الوطنية هي ركن من أركان الحياة النيابية، وهي خير معوان للحكومة فيما تضطلع به من الأعباء الجسام.»
ثم حملت على معاهدة سنة 1936 وذكرت إهدارها للجلاء وإقرارها الوضع الباطل في السودان، وقلت فيما قلت: «أنا لست فيما أقول نظريا، بل إني أستلهم آرائي من المشاهدات الدولية التي نراها كل يوم؛ فالذي نشاهده أن معاهدات التحالف أو الصداقة أو مواثيق الضمان بين إنجلترا وغيرنا من الدول التي تربطها بها المصالح المشتركة قائمة على أساس عدم وجود قوات حربية بريطانية مستديمة في تلك البلاد، فتطبيق هذه القاعدة يقتضي أن يكون الجلاء هو أساس التحالف والتعاون بيننا وبين بريطانيا. لقد تعاهدت بريطانيا مع تركيا كما تعهدت لليونان ورومانيا وغيرها بمساعدتها في رد أي اعتداء عليها، ومع ذلك لم يكن في أي عهد لها مع هذه الدول وجود قوات حربية بريطانية مستديمة في أراضيها، وغير خاف أن اليونان ليست أكثر منا قوة ولا أعز نفرا ولا هي أقل استهدافا لخطر الغزو الخارجي، ومع ذلك لم يقل أحد أن درء هذا الخطر يكون بوجود قوات مستديمة لبريطانيا فيها، ولا يمكننا ونحن من المؤمنين بمبدأ الجلاء أن نقر الوضع الحالي للتحالف، وكذلك لا نقر الوضع الحالي للسودان كما هو وارد في المعاهدة. إن الأساس الصحيح للتعاون بين الدول التي تحترم استقلالها هو ما صرح به المستر تشمبرلين في مجلس العموم البريطاني يوم 12 أبريل الماضي (1939) إذ قال إن كل عمل يهدد استقلال اليونان ورومانيا وترى اليونان أو رومانيا أن مصلحتها الحيوية تقضي عليها بمقاومته بقواها الوطنية هو عمل يلزم الحكومة البريطانية بأن تقدم في الحال المساعدة للحكومة اليونانية أو الحكومة الرومانية، هذا الأساس هو الذي نريده ونبغيه.»
Halaman tidak diketahui