مأزق حرج
وافتتحنا موسم سنة 1931 التمثيلي برواية «أموت في كده». وفي هذا الحين بدأت الحكومة (تحت ضغط الرأي العام) تهتم بالمسرح، فتألفت في وزارة المعارف لجنة من أفاضل العلماء والأدباء، وكانت مهمتها الإشراف على ما تخرجه المسارح من الروايات، وتخصيص إعانات تتناسب مع مجهود كل فرقة، وأثرها في تقدم هذا الفن في البلاد.
ندع هذا جانبا لنذكر حادثة طريفة وقعت حين إعداد رواية «أموت في كده». كان المرحوم إسماعيل (بك) شرين مديرا لإدارة المطبوعات، وكان يرأس لجنة ينحصر اختصاصها في مشاهدة تمثيل الروايات قبل عرضها في المسارح، وكان رحمه الله من أشد المعجبين بفرقتي ومجهودات العبد لله المتواضعة في خدمة فن التمثيل. ولما كنت لا أجد غضاضة في التصريح بنقائصي وعيوبي، فإنني أعترف بأن الفصل الثالث من كل رواية جديدة تظهر على مسرحي لا يتم تأليفه إلا في يوم ظهور الرواية. واديني عقلك بقى ... متى نستطيع إجراء البروفة له مثنى وثلاث ورباع ومش عارف كام؟!
فلما انتهينا من بروفات الفصلين الأول والثاني على ما يرام بدأنا (بديع وأنا)، نضع فكرة الفصل الأخير، ونرتب حوادثه، وكنا قد حددنا يوم ظهور الرواية، حتى إذا جاء الموعد لم يكن الممثلون قد رأوا أدوارهم في هذا الفصل، بل لم أكن قرأته لهم. وفي الساعة الثانية بعده ظهر ذلك اليوم شرفت لجنة إدارة مطبوعات المسرح وعلى رأسها المرحوم شرين (بك).
ومثلنا أمامها الفصل الأول على ما يرام، وتبعه الفصل الثاني على ما يرامين: كل ذلك واللجنة مغتبطة مستريحة. وأسدل الستار وجاء أوان عرض الفصل الثالث، وهو على ما وصفت، فما العمل؟ يقولون في الأمثال إن الحاجة تفتق الحيلة، فلتسعفنا الحيلة إذن! توكلنا على الله ورفعنا الستار بين استحسان السادة الأماجد أعضاء اللجنة، وابتساماتهم العريضة وأذهانهم المهيأة لسماع بقية ما رأوا من فكاهات الفصلين السابقين.
وكان حسين إبراهيم يمثل دور امرأة من النوع «القباقيبي المصفح»، فلما رفع الستار ظهر حسين على المسرح يتمخطر في الملاية والبرقع، وما كاد ينطق جملة واحدة حتى سقط مغشيا عليه، وتقدمنا جميعا لإسعافه، وشاركنا في هذا الإسعاف أعضاء اللجنة، جزاهم الله عن المروءة كل خير! ولم يكتفوا بهذه المعاونة الشخصية، بل خرج واحد منهم يعدو في الخارج باحثا عن طبيب. ورأى المرحوم شرين (بك) ألا يرهقنا بتمثيل الفصل الثالث أمام اللجنة، مكتفيا بالفصلين الأول والثاني، وتفضل رحمه الله بالتصريح بالرواية كلها! ولم أنس أن أشدد عليه في التريث لحظة حتى يفيق حسين إبراهيم، فنستأنف التمثيل! ولكنه شكر لي ذلك، ونصحني أن نذهب لنستريح بضع ساعات إلى موعد التمثيل مساء!
وخرج رحمه الله مع أعضاء اللجنة، وتركونا - لا للنوم والراحة - لاستئناف الشقاء وإجراء بروفة الفصل الطازة، وليس القارئ بالطبع في حاجة إلى إفهامه أن حسين إبراهيم أفاق في اللحظة نفسها التي غادرت اللجنة فيها المسرح!
لجنة تشجيع التمثيل
قلنا إن وزارة المعارف فكرت في تشجيع التمثيل إذ ذاك بمنح إعانات للفرق، ولذلك كانت اللجنة التي يرأسها الأستاذ العشماوي، بين أعضائها الأساتذة الأدباء مصطفى عبد الرازق، وطه حسين، تزور المسارح مرة في الأسبوع لتشاهد رواياتها وتحكم على قيمتها الفنية.
وكان مسرحي من بين المسارح التي تتشرف بزيارة هذه اللجنة، وكم سمعت من حضرات أعضائها، وخاصة الدكتور طه حسين كلمات الثناء والإعجاب، وكيف أننا نستحق أكثر العطف والتقدير. وزاد الدكتور على ذلك قوله أنه يلمس الصدق في رواياتنا، ومماشاة الطبيعة دون خروج على أوضاعها، أو مغالاة في تصويرها، ذلك بينما يسمع عند غيرنا ألفاظا جوفاء كالطبل صوتها عال، جوفها خال.
Halaman tidak diketahui