نعم لقد هتف سيد درويش حين سمع نداء السقا فقال لصديقه: «خلاص خلاص يا فلان، لقيت اللحن اللي أنا عاوزه!».
وفي المساء حضر رحمه الله وأسمعني اللحن فكدت أطير به فرحا، وفي الوقت نفسه حضر الأستاذ بديع فأسمعني زجلا رائعا مطلعه: «نبين زين ونخط الودع وندق لكم ونطاهر ... ونحبل اللي ما تحبلش ونفك كمان اللي تشاهر».
وفي اليوم التالي كان الشيخ سيد قد وضع له اللحن المناسب، ثم لحن عقب ذلك زجل استقبال كشكش «ألفين حمد الله على سلامتك ... يا أبو كشكش فرفش أدي وقتك» ... فكان اللحن كذلك بدعة.
وهكذا ظل بديع يتحفني بأزجال من النوع الممتاز فيلحنها سيد تلحينا شائقا، ومن ثم ظهرت رواية «ولو» للجمهور في ثوب قشيب من بديع البيان، وصفاء الألحان، وقد أحسست أن المتفرج كان يسبح في أثناء التمثيل في عالم علوي تهزه نشوة السرور والإعجاب، فيقابل كل كلمة أو نغمة بالتصفيق والترحيب. ولست أجد وصفا وجيزا لنجاح «ولو» غير أن أقول إنها جاءت آية وكفى ....
وفي هذا الحين كانت شهرتي قد امتدت وصيتي قد بعد، وأرى ألا يقف التواضع في سبيلي إذ صرحت بأنني أصبحت موضع أحاديث الناس في كل مكان ... حتى لم يعد يتردد على ألسنتهم غير تلغراف الحرب العالمية، وروايات نجيب الريحاني. وهنا يحلو لي أن أعود إلى ذكرى حلوة، ذلك أن والدتي كانت إلى هذا الحين تأنف من مهنة التمثيل، وتكره أن يعرف عني أنني ممثل وقد سبق أن رويت الكثير في هذا الشأن.
أسعد أيام حياتي
حدث إذ ذاك أن كانت رحمها الله في عربة «المترو» عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة، فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد في أثنائها اسمي، فأرهفت دون أن تشعرهم، وما أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي وامتداح عملي والإشادة بمجهودي!!
أتدري يا سيدي القارئ ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة التي تحتقر التمثيل وتنكره؟ لقد وقفت وسط عربة المترو، واتجهت إلى أولئك المتحدثين وقالت بأعلى صوتها: «الراجل اللي بتكلموا عنه ده يبقى ابني! أنا والدة نجيب الريحاني الممثل!»، وخلي بالك من الممثل دي! «الممثل» هذه الكلمة التي كانت أمي تأنف أن «أوصم» بها، أضحت موضع زهوها وفخارها! فاللهم سبحانك ربي ما أعمق حكمتك؟!
وفي هذا اليوم، يوم المترو الذي لا أنساه، تفضلت والدتي رحمها الله فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجبسيانة، خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها، ويمتدحونه؟! فكان هذا اليوم من أسعد، إن لم أقل أسعد أيام حياتي.
ومما زاد في اغتباطي إلى جانب ذلك ما لمسته من رقي الطبقات التي كانت تقصد إلى مسرحنا، وفي مقدمتهم شباب الهاي لايف وفتياته، وأكرم الأسر في مصر، وأعلاها مكانة، وقد كان صاحب السمو الأمير إسماعيل داود في مقدمة الذين أعجبوا بي، فتفضل وأبرز هذا الإعجاب في إطار من التكريم لست أنساه، إذ كان يتفضل بدعوة الفرقة بجميع أفرادها إلى مسكنه العامر حيث تحيي حفلات خاصة ما كان أحلاها وأبهاها.
Halaman tidak diketahui