وإنني أنقل من مفكرتي الخاصة ما كتبته عن هذه الفاجعة.
يوم الخميس 10 أغسطس 1914
عدمت في هذا اليوم أعز إنسان لدي، وحرمت بزواله من أعظم نعيم كنت أتمتع به، ما أتعسني!
بعدت وكنت أظن في القرب التلاقي، وعدت فعز في القرب المزار، لا يمكنني أن أصف وقع النبأ المروع على نفسي، فما تلك الساعة المشئومة يمكن أن يغيب هولها عن خاطري مهما طال الأبد.
يا لسخرية القضاء وقسوة القدر، أفي الساعة التي تطأ قدماي أرض بلادي، وفي اللحظة التي كنت أمني نفسي فيها بقرب لقاء والدتي، وأسعد بأني سأطمئن خاطرها وأدخل بعض السرور على نفسها الحزينة، أفي تلك الساعة تغادر والدتي الحياة بما في قلبها الرحيم من لوعة الفراق والجزع على حياتنا. وقد علمت أنها لما فقدت النطق، كانت تحول نظرها من الساعة إلى الباب ومن الباب إلى الساعة مخافة أن يدركها القضاء فتفارق هذا العالم دون رؤية ولديها والاطمئنان عليهما، وكانت «عطية هانم» التي لازمتها مدة غيابي قد اصطنعت لها برقية توهمها بوصولنا إلى الإسكندرية.
كانت الساعة حوالي الثانية بعد الظهر لما وصلنا المنزل، فتركت ولدي مع مربيتهما والمعلمة، وسافرت أنا وزوجي فورا إلى مصر بقطار الساعة الثالثة. ولما وصلنا القاهرة أمضيت الليلة بجانب فراشها أبكيها حتى الصباح. ثم نقلنا جثمانها إلى المنيا ومنها إلى مقابرنا في الشرق، ودفناها بجوار قبر والدي؛ حيث كانت قد أعدت لنفسها قبرا هناك. وعدت في اليوم التالي كاسفة البال حزينة النفس.
لا يمكنني أن أصف ما انتابني من حزن عميق بفقد أمي التي كنت أشعر نحوها بعاطفتين مختلفتين ... عاطفة البنوة وعاطفة الأمومة اللتين امتزجتا أثناء مرضها الطويل ، وما كانت تستلزمه حالتها المحزنة من ملاطفة واهتمام مستمرين.
نعم، شعرت عند موتها بيتم وثكل في وقت واحد. شعور غريب مؤلم أضناني، وكنت أظنه أقصى ما يكون من درجات الحزن، وما كنت أحسب أن القدر يخبئ لي بين طيات غيبه نكبة أفدح وأقسى ... وفاة أخي العزيز وعمادي الوحيد، وأن أحتمل هذه المصيبة كما احتملت غيرها. وكم حمدت الله أن اختار والدتي إلى جواره قبل هذه الفاجعة الكبرى.
ماتت والدتي، وكان يخفف من حزني عليها زيادة عطف أخي علي وملاطفته لي في كل لحظة، إذ ما من يوم يمر إلا وأراني وجهه المحبوب في الصبح والمساء، وغمرني بجميع أنواع البر والحنان، وقد كان هذا من جانب أخي المحبوب يعوضني ما فقدته، كأنه كان يحس بأنني سأحرم منه عاجلا، فكان يفيض علي من حبه وحنانه ليمتعني بأكبر قسط من محبته، وقد عشت بعد ذلك ثلاث سنوات كدت أنسى خلالها مصابي في أمي العزيزة بفضل رعاية أخي وعنايته.
كان أخي يأتي لزياراتي إن لم يكن صباحا ففي المساء، وكنا نتحدث في الأمور السياسية، وكان رأيه مخالفا لرأيي، فقد كنت أعجب بالحلفاء، بينما كان يرى أنهم أناس مستعمرون وأنهم الذين أثاروا الحرب، وكان يطلب النصر للألمان والأتراك.
Halaman tidak diketahui