وبعد ذلك بمدة، تخلف خالي إدريس وبقي بيننا يتعلم، ولما ألحت عليه والدتي في الزواج، أراد أن يتزوج من مصر ويبقى بجوارنا، فخطبت له إحدى فتيات البيوت العريقة، وعندما تحدد موعد القران اشترط أهل العروس ألا تفارقهم ابنتهم، وألا تسافر معه إذا سافر، ورفض هو هذا الشرط قائلا: إن الزوجة لا بد أن تتبع زوجها في حياته وتنقلاته، وسافر إلى بلاده وتزوج هناك، وأنجب ابنتيه حواء وحورية.
وذات يوم دعي هو وأخوه مع أهل القرية لحضور فرح في قرية مجاورة، وكانت العادة هناك أن يركب المدعوون عربات تجرها الثيران، وطلب خالي الكبير من أخيه أن يصحبه في هذه العربات، ولكنه اعتذر لوجود ضيوف عنده، ووعد بأن يلحق به على ظهر جواده الجديد السريع، وكان الجواد قويا فجمح به أثناء الطريق وصدمه مقدم السرج في صدره؛ فسقط من فوق الجواد ميتا، وانقلبت الأفراح أتراحا، وتحقق بذلك اعتقاد خالي الخبير بأن من يتم تعليمه من أفراد الأسرة يموت ميتة غير طبيعية، وهكذا قضى خالي المسكين تاركا طفلتيه الصغيرتين حواء وحورية، وكبراهما لم تبلغ الثانية بينما الصغرى ما زالت رضيعا.
والحقيقة أنني لم أجرؤ في يوم من الأيام على سؤال والدتي عن أصلها وسبب نزولها في مصر، فقد كانت رحمها الله زاهدة في الكلام عن نفسها، قليلة الشكوى والجهر بآلامها، تتحكم في عواطفها وتخفي في قرارة نفسها كل ما يؤلمها، على إنني كنت تواقة لمعرفة شيء عن حياتها وأهلها. ولذلك سألت خالي يوسف عن سبب هجرة عائلته من القوقاز إلى الأناضول، وكيف وصلت والدتي إلى مصر إلى أن تزوج أبي منها، فقص علي أنه عندما شبت الحرب بين الجراكسة وروسيا القيصرية حوالي عام 1860، دافع الجراكسة عن القوقاز بكل شجاعة وبسالة، وكان جدي لأمي أحد القواد المشهورين، وكان يدعى «شار الوقه جواتيش»، وكان هو الذي يقود المعركة في القرم. وأثناء الحرب هزمت فرقته ووقع أسيرا وكان له بين القواد المعروفين خصم هو القائد الداغستاني الشهير «الشيخ شامل» فانتهز هذا القائد فرصة أسره للتشهير به، وأشاع أنه انضم إلى الروس وخان بلاده، فقبضت السلطة المحلية على ولده يوسف الذي كان دون السادسة عشرة من عمره، وألقت به رهينة في الحبس توطئة للحكم عليه بالإعدام إذا لم يعد أبوه؛ وعندئذ قررت جماعة من حزبه وأقارب والده وأصدقائه، التطوع لتخليص والده وأصدقائه من أسر الروس؛ إنقاذا لابنه المسكين. فارتدوا ملابس الجنود الروس واندسوا بينهم وقد ساعدهم على ذلك معرفتهم للغة الروسية، وصحبتهم في هذه المغامرة ابنة أخيه «حورية»، وكانت مع جمالها مغامرة فلم تتردد في الاندماج مع الرجال الذين تطوعوا لخلاص عمها، وقد ساعدهم الحظ، فوفقوا إلى تحقيق خطتهم وتمكنوا من تخليصه، ولكن الروس فطنوا إلى خلاصه فتعقبوه وقاتلوهم في الطريق، ولما كانوا قليلي العدد والعدة، فقد تغلب عليهم الروس، ومات وجرح معظمهم، وكان بين الجرحى جدي «جواتيش» الذي احتمى ببعض الصخور وظل يحارب المتعقبين من الروس في انتظار نجدة من الجراكسة كانت «حورية» قد ذهبت لإحضارها، وما زال يحارب حتى أصابته رصاصة أودت بحياته، وحمله منقذوه ميتا إلى مسقط رأسه ليدفن هناك، وليثبتوا كذب الشائعات التي روجها خصمه الشيخ شامل وبذلك أنقذ ابنه من السجن والموت.
وقد روت «حورية» عن عمها أنه أنبأها خلال فترة الخلاص، أن الروس عندما أسروه بدءوا يلاطفونه ويطرون شجاعته ومعرفته بأصول الحرب وقيادة المعارك، ثم طلبوا منه أن ينضم إليهم ويحارب في صفوفهم للاستفادة من خبرته الحربية ومن شجاعته النادرة. فما كان منه عندئذ إلا أن خلع «الكلبق» من على رأسه وألقى به على الأرض، ثم أمسك بسيفه وكسره على ركبته وألقى به في وجه القائد الروسي الذي كان يفاوضه في هذا الأمر، وكان معنى ذلك أنه يمتهن كرامة الدولة التي أهانت شرفه.
وعندما وضعت الحرب أوزارها وخسر الجراكسة، لم تشأ جدتي البقاء في القوقاز فهاجرت مع من هاجروا إلى الآستانة، مصطحبة أولادها الخمسة بنتين وثلاثة ذكور، وقد قص علي خالي يوسف ما قاسوه في هذه الهجرة من ألم الجوع ومرارة الحرمان طوال المدة التي قضتها الحكومة التركية في إجراءات البحث في أمر المهاجرين، وتعويضهم عن بعض أملاكهم وأموالهم. وأثناء ذلك مات أصغر الذكور، وكان يدعى «يعقوب»؛ نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، كما سرقت أخته الرضيع من مرضعتها، وخوفا من سرقة الأخت الباقية - وهي والدتي - قرروا إرسالها إلى مصر للإقامة عند خالها الضابط يوسف باشا صبري، فقد صادف أن كان أحد أصدقائهم قاصدا مصر لزيارة عائلة راغب بك، فسلموها له ليوصلها إلى خالها، ولكنه عندما وصل مصر، كان خالها في رحلة حربية في السودان، وذهب بالطفلة إلى زوجة يوسف باشا، فأنكرت أن يكون لزوجها أقارب، ورفضت قبولها وهكذا بقيت والدتي في بيت راغب بك على أمل أن يعود خالها ويطلبها، ولكن يبدو أن زوجته أخفت عنه هذا الخبر، وكان أن استمرت والدتي في رعاية ابنة راغب بك التي أحبتها كثيرا وعنيت بأمرها ولكن بعد أن تزوجت هذه السيدة، دبت الغيرة في قلبها من والدتي التي كانت على جانب كبير من الجمال، وأرادت التخلص منها، وكان من حسن حظها أن اختارها والدي زوجة له.
وذات يوم، كانت تساعد والدي على ارتداء ملابسه، وتصادف أن كانت قريبة من النافذة المطلة على الحديقة، فدمعت عيناها، وهنا سألها والدي عن سبب بكائها، فقالت له: إنها لمحت بين الزائرين الوافدين إلى السلاملك شابا يشبه أخاها يوسف، فلم تتمالك نفسها من البكاء، فسألها والدي عن أهلها وعشيرتها، ولما قصت عليه قصتها، أرسل على الفور إلى منزل علي بك راغب من يستفسر عن عنوان أهلها، ولحسن الصدف كان قريبهم الذي أحضر والدتي موجودا في مصر، فحضر عند والدي الذي كلفه بإحضار العائلة بعد أن سلمه تكاليف السفر، وبالفعل سافر إلى بندرته وأحضرهم؛ فكان لهذا اللقاء فرحة عظيمة وتأثير كبير في حياة والدتي التي أنزلها والدي المنزلة الأولى من نفسه وبيته، وبعد ذلك دعوا خاليها للتعارف، وهما يوسف باشا والد منيرة هانم حرم المرحوم المهندس علي باشا فهمي، وموسى بك والد اللواء محمد رفقي باشا، والبكباشي أحمد فخري، وعلي بك رضا؛ فأصبحت بذلك بين أهلها وعشيرتها.
هذا عن والدتي ...
أما والدتي الكبيرة، فلقد كنت أطمئن إلى عشرتها لما كنت ألقاه منها من عطف وحنان وصراحة تزيد من ثقتي بها، وتخفف من أحزاني التي كنت أبثها إياها، إذا ضاقت بي الحال وأزعجتني الهواجس والأفكار. وكثيرا ما كنت استأذن والدتي في تمضية بعض الليالي مع والدتي الكبيرة، فكانت تأذن لي رغم علمها بمرضها ولكنها لم تكن تخشى العدوى. وكنت أقضي معها ليالي عديدة، أنام معها في سرير واحد مسرورة قريرة العين منتعشة؛ لأنها كانت مثلي تحب الهواء الطلق، ولا تنام إلا والنوافذ مفتوحة وبخاصة في الصيف، وذلك على خلاف والدتي التي كانت تغلق علينا الأبواب والنوافذ خشية أن يصيبنا البرد، فكنت أسهر معها حتى يغلبني النعاس، وأستيقظ في الصباح الباكر على صوت الأطيار وتغريدها، وكانت الطبيعة بما فيها من جمال وجلال تأخذني فأسبح في جمالها إلى ما لا نهاية، وأشعر بالسعادة والهناء لما ألقاه من عطف وما أسبح فيه من خيال.
وكان يلذ لي أن أشارك هذه السيدة البارة الرحيمة أفكارها لتشابه أذواقنا في كل شيء، كانت تحب اللبن البارد المغلي في المساء والمغطى بالقشدة، فكنا نغمس فيه الخبز اليابس ثم ننتهي بالفاكهة. وفي ليالي الشتاء كنت أجلس القرفصاء بجانب الموقد للتدفئة وأضع الكستناء على الفحم المتوهج واحدة بعد الأخرى، وكلما فرقعت إحداها، قفزت من مكاني ضاحكة، فتضحك هي الأخرى وهي ترنو لي بعين الشفقة والحنان.
وأتذكر إنني طلبت منها ذات يوم أن تفسر لي حكمة تفضيل شقيقي علي، فأجابتني في ابتسامتها الحلوة: ألم تشعري الآن بالفارق الذي بينك وبينه، قلت: نعم ولكني أنا الأكبر وأنا الأولى، ويجب أن يكون نصيبي أوفر منه ومركزي أعلى من مركزه.
Halaman tidak diketahui