الفصل السابع والثلاثون
لم يكن المرحوم قاسم أمين رجلا عاديا في تاريخ الحركة النسائية المصرية، فقد كان صاحب تحرير المرآة، وكان الصوت الذي لفت الأنظار إلى هذه القضية، وكان صاحب أكبر رصيد من الهجوم عليه والتجريح في شخصه، رغم أنه لم يكن صاحب أول صوت نادى بتحرر المرأة.
ومن الغريب أن قاسم أمين بدأ حياته الفكرية وهو يقف في صفوف أعداء المرأة، ولكنه عندما رأى صالون الأميرة نازلي فاضل يجمع العلماء والفضلاء وأصحاب الرأي والفكر ورجال الأدب والثقافة، وعندما استمع إلى حديثها بدعوة من صديقه سعد باشا زغلول، لم يلبث أن انتقل من صفوف الأعداء ليقف في مقدمة الصفوف نصيرا لقضية تحرير المرأة.
وفي مايو 1928 انتهزنا فرصة مرور عشرين عاما على رحيل المصلح الاجتماعي قاسم أمين لنقيم احتفالا لتكريم ذكراه، وقد أقيم هذا الاحتفال في دار مسرح حديقة الأزبكية، وضم عديدا من الشخصيات العامة والقيادات النسائية ... وكان مهرجانا لرد اعتبار الرجل العظيم الذي قضى نحبه حزينا محسورا بعد أن تكاثرت عليه سهام الأعداء من كل جانب، وبعد أن وصل التجريح إلى بيته وأسرته.
وقد كتبت جريدة السياسة في عددها الصادر في 6 مايو 1928 عن هذا الاحتفال بإفاضة، وكان من بين ما قالته عن هذه المناسبة: «إن الوفاء وعرفان الجميل من أخلاق المرأة، فالاتحاد النسائي بدعوته إلى الاحتفال بتكريم ذكرى قاسم أمين زاد شأن المرأة رفعة، وأرضى روح ذلك المصلح العظيم، وبرهن على أن المرأة خليقة بالمقام الرفيع الذي تسعى إلى تبوئه بمساعدة أفضل المصلحين من الرجال.» وأضافت الصحيفة قائلة: «وحسبنا أن ندل على مقام الحفلة بذكر الذين حضروا وفي مقدمتهم صاحبة العصمة أم المصريين، وأصحاب المعالي: واصف غالي باشا، وعلي الشمسي باشا، ومحمد صفوت باشا، وأحمد طلعت باشا، ومحمد علي باشا، وتوفيق دوس باشا، وأحمد شفيق باشا، ولطفي السيد بك، وعلي عمر بك، والدكتور طه حسين، والدكتور مصطفى فهمي، والأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق، وإسماعيل شيرين بك، وعدد كبير من السيدات والأوانس.»
وقد ألقيت بهذه المناسبة كلمة قلت فيها:
سادتي وسيداتي ...
اسمحوا لي أن أبدأ كلمتي بآخر كلمة نطق بها المرحوم قاسم بك أمين في حفلة نادي المدارس العليا وهو يحيي الطلبة الرومانيين ليلة وفاته، إذ قال: (كم أكون سعيدا في اليوم الذي أرى فيه سيداتنا يزين مجالسنا كما تزين طاقات الزهور قاعات الجلوس)، هذه هي آخر جملة نطق بها المرحوم قاسم قبل أن يلبي دعوة ربه ببرهة وجيزة، وهي كما ترون تتضمن أمنية غالية لم يمهله الموت حتى يشهدها.
ولما كان من أجل مظاهر البر بالموتى والوفاء لهم، القيام بما كان يجلب سرورهم لو أنهم على قيد الحياة، رأت جمعية الاتحاد النسائي أن أقل ما عليها نحو روح الفقيد العظيم إنما هو تحقيق تلك الأمنية بالاشتراك في هذه الحفلة اشتراكا عمليا، فإذا كانت الأرواح في عالمها الأعلى متصلة بعالمنا الذي نحن فيه، فلا شك في أن روح قاسم أمين ترفرف علينا الآن في هذه الحفلة الرهيبة، وهي ممتلئة غبطة وسرورا؛ لتحقيق المبدأ الذي طالما ناضل في سبيل الدعوة إليه حتى مات وهو في ميدان جهاده.
أيها السادة ... إذا قمنا اليوم بهذا الواجب لفقيدنا العظيم، فليس الدافع لنا محض الاعتراف بفضله وجهاده في نصرة المرأة فقط، بل لنحيي فيه العدالة أيضا وأثره في القضاء، ولنحيي فيه حب الخير ومعونته الصادقة في تكوين الجمعية الخيرية الإسلامية، ولنحيي فيه ابتكار فكرة الجامعة المصرية، ثم لنحيي فيه بعد ذلك الشجاعة الأدبية النادرة في تأليف كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» في وقت كان النطق باسم المرأة يعد سبة وخزيا.
Halaman tidak diketahui