الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
مذكرات هدى شعراوي
مذكرات هدى شعراوي
تأليف
هدى شعراوي
الفصل الأول
عندما أقف أمام ذكريات طفولتي، يتبين لي منذ البداية ذلك الفارق الكبير بين حياة الطفل وتربيته في الماضي، وبين ما أصبحت عليه أساليب التربية في الوقت الحاضر.
لقد كان الاهتمام منصبا على تغذية الطفل ونموه الجسماني، دون أدنى اهتمام أو التفات إلى مشاعره ونمو مداركه، ولذلك كان هناك فارق هائل بين النمو الجسماني والنمو العقلي. أما الآن فإن هناك توازنا بين الجانبين، لذلك ينشأ الطفل قادرا على الفهم والاستيعاب في سن مبكرة.
وكان الأهل يخفون عن الأطفال كل الحوادث والأحداث المحيطة بهم، فإذا مات أحد أفراد الأسرة، قيل للطفل: إنه قد سافر، وإذا أراد أن يسأل عن حقيقة من حقائق الحياة، أجابوه بخرافات لا تروي ظمأه لمعرفة الحقيقة، أو قيل له: إنه ليس من الأدب أن يتدخل فيما لا يعنيه.
ولقد كنت واحدة من هؤلاء الأطفال، وكان يعنى بنا خدم جهلاء يخفون عنا ما كان يجب أن نعرفه من حقائق، ويحيطوننا بسياج من الخرافات التي تؤثر في العقول الصغيرة الساذجة.
ولأنني كنت قليلة الالتصاق بوالدي، فإنني لا أذكر من حياتنا العائلية في طفولتي إلا القليل، ومن ذلك أنني كنت أذهب إلى غرفة والدي كل صباح لأقبل يده، وكان يصحبني في هذه الرحلة الصباحية أخ لي من أم ثانية اسمه «إسماعيل»، وكنا نجد أبي متربعا على سجادة الصلاة يسبح بمسبحته، فنقبل يده ويقبلنا، ثم ينهض ويفتح خزانة كتبه ويخرج لكل واحد منا قطعة من الشيكولاته، فنأخذها ونخرج متهللين.
ثم جاء ذلك اليوم الذي لا يمكن أن أنساه أبدا ... كنت ألعب مع شقيقي «عمر» عندما تناهى إلينا فجأة صراخ عال يملأ أرجاء البيت وملأ الخوف قلبي، وتعلقت أنا وأخي بمربيتنا، وفي ذلك الوقت أقبلت مرضعتي مهرولة، وهي تتشح بالسواد، وتصيح قائلة: لقد تحقق خبر الباشا ... فأعطني يا «سياج» الطفلين لأذهب بهما إلى منزل مسعود باشا ... حتى لا يزعجهما الصراخ والعويل.
إن هذه الجملة لا تزال ترن في أذني حتى اليوم، ولا تزال تحدث صداها في أعماقي ... ولا تزال حرارتها في قلبي ونفسي ...
كنت في الخامسة من عمري عندما وقع هذا الحدث الجسيم، فقد توفي والدي المرحوم محمد سلطان باشا يوم 14 أغسطس 1884 في مدينة جراتس بالنمسا، كان قد سافر إلى سويسرا للاستشفاء، ثم ذهب إلى جراتس بعد ذلك، وكان يعاني من صدمتين عنيفتين أثرتا في حالته الصحية إلى حد بعيد؛ لدرجة أن الأطباء لم يجدوا دواء لدائه إلا أن يسافر بحثا عن العلاج، وكانت الصدمة الأولى هي وفاة أخي إسماعيل الذي كان يعقد عليه أبي كل آماله في المستقبل، فقد كان ذكيا يبدو أكبر من عمره في كل شيء، في الوقت الذي كان فيه شقيقي «عمر» ضعيف البنية والأمل في حياته ضئيل جدا ... أما الصدمة الثانية فكانت تلك المأساة التي أودت باستقلال البلاد إثر الحوادث العرابية، وما ظهر من سوء نية الإنجليز بعد دخولهم مصر؛ حيث بدا واضحا أنهم لن يفكروا في الجلاء عنها! ...
ولقد كان بودي أن أتحدث طويلا وتفصيليا عن حياة أبي وأعماله، ولكن للأسف عندما فكرت في كتابة مذكراتي، كان كثيرون من الذين عاشوا هذا التاريخ وعرفوا أبي عن قرب قد فارقوا الحياة، ولم يكن أمامي إلا فهمي باشا الذي لازم أبي خلال سنواته الأخيرة.
ولقد عرف عن أبي أنه كان يميل إلى مجالس الأدب والعلم، وقد تغنى كثير من الأدباء والشعراء بصفاته الطيبة وأخلاقه الحميدة، وكان من أبرز شيمه: الكرم والوفاء والترفع والتمسك بشعائر الدين، وتميز بالإخلاص والصراحة والشجاعة في إبداء الرأي والنزاهة والتجرد عن الغايات. كذلك فقد كان بارا بأهله في حياته وبعد مماته؛ حيث أوقف عليهم جانبا كبيرا من ممتلكاته، كما فعل الشيء نفسه بالنسبة للفقراء، حتى لا يجد واحد من الذين كان يعولهم مشقة في الحياة من بعده، وقد أوقف على الحرمين الشريفين والأزهر الشريف والمساجد والمدارس جانبا من أوقافه.
وإذا كانت هذه هي شخصية أبي في حياته الخاصة، فقد كان له مثل هذا الدور في الحياة العامة. وإذا أردنا أن نتناول الجانب الاجتماعي في هذا الدور، فسوف نجد أنه كان وراء إلغاء نظام السخرة والكرباج؛ حيث قدم اقتراحا بذلك إلى نوبار باشا رئيس مجلس النظار، وانتهى الأمر بإلغاء هذا النظام الذي كان يعتبر وصمة في جبين مصر في ذلك الوقت. كذلك فقد قدم اقتراحا بإلغاء جميع الضرائب الإضافية التي كانت ترهق كاهل الفلاحين.
وقد بعثني إلى فضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعه، أسأله عن ذكرياته حول والدي ؛ حيث إنه كان في ذلك الوقت لا يغادر منزله بسبب شيخوخته فقال: إنه في ليلة سفره إلى أوروبا للاستشفاء، وهي الرحلة التي صاحبه فيها، كان يجلس في مجتمع من الأصدقاء، وفي هذا المجلس تلا أبياتا من شعره يقول فيها:
أتذكر مصر إنني منذ نشأتي
أدافع عن أبنائها وأذود
وأمنع من رام اهتضام حقوقهم
ولو خفقت فوق الرءوس بنود
وفي تلك الليلة، تحدث عن ابنه الراحل «إسماعيل»، وتلا أبياتا من قصيدة كان قد كتبها في رثائه. وفيها يقول:
دعوني في اكتئابي وابتئاسي
أقاسي من زماني ما أقاسي
دعوني أسكب العبرات وحدي
فما لجراح قلبي قط آسي
ولقد عاش أبي صدر حياته بعيدا عن المناصب الحكومية، فقد كان عليه أن يرعى إخوته وأسرته، ثم اختير مأمورا لقسم قلوصنا، وحاول أن يعتذر عنه، فلم يجد إلا الإصرار.
وتدرج بعد ذلك ليصبح وكيلا لمديرية بني سويف، ثم مديرا لها، ثم مديرا للفيوم، ثم مديرا لأسيوط، ثم مديرا للغربية، ثم مفتشا عاما للوجه القبلي، ثم رئيسا لمجلس النواب ومجلس شورى القوانين ثم قائم مقام الخديوي.
وقد سمعت من بعض أقاربنا نقلا عن آبائهم وأجدادهم أن والدي من أصل عربي، وقد استوطن أجداده أرض الحجاز، وهاجر نفر منهم إلى مصر قبل عهد علي باشا واتخذوها موطنا لهم، وتزوجوا من مصريات.
وعلى ما قيل كان جدي الحاج سلطان عميد الجيل الخامس من عائلته في مصر، وكان ولعا بالزراعة وبالأخص زراعة القصب واستخراج العسل الأسود، وكان مشهورا بالكرم وطيبة القلب ودماثة الخلق، حتى إنه من كثرة استرساله في عمل الخير والبر ومن فرط تقواه، كان يقول عنه معاصروه: إنه ولي تشمل بركته أهله وكل من حوله.
ومن طريف ما سمعته عن سماحته وعطفه، أن بعض عملائه التجار كانوا يتقاضون حقوقهم أكثر من مرة؛ ظنا منهم أنه قد نسي ما دفعه لهم، وقد جاءه ذات مرة رجل كان قد باعه «تقاوي» قصب وقبض ثمنها، ليطالب بثمنها مرة أخرى، فأمر جدي بصرف ثمنها له، وحاول كاتب الدائرة أن يلفت نظره ، إلى أن هذا التاجر سبق أن استلم الثمن، وليس له أي شيء، فأجابه جدي: ادفع له الثمن؛ لأنه لم يتسلمه، فدفعه له، وبعد مدة عاد التاجر نفسه يطالب بثمن التقاوي للمرة الثالثة، فثار الكاتب وقال لجدي: إنه سبق أن قبض الثمن مرتين، ولكن جدي تناسى ذلك وقال للكاتب: إنني لا أتذكر، فأعطه نقوده، ولما هم الكاتب أن يثبت لجدي أن المبلغ قد دفع مرتين وأمسك بدفتر الحساب لإثبات ذلك، مد جدي يده إلى الدفتر وأغلقه، وأمر الكاتب بدفع المبلغ في الحال، وبعد انصراف الرجل، قال جدي للكاتب: ألا تستطيع أن تفهم أن الرجل ربما كان في ضائقة مالية، وأن مطالبته هذه ما هي إلا طلب مستتر للمعونة؟ في مثل هذه الحالات لا تعد مطلقا إلى الإلحاح في تنبيهي؛ لأنني أتذكر جيدا ما لي وما علي!
ومن الطرائف التي تروى أيضا أن أحد مستخدميه غافل المسئولين وخرج ومعه «بلاص» عسل، وبينما هو خارج به من الدوار، وقد ركب حمارا، رأى جدي على خلاف عادته في الظهيرة جالسا أمام باب الدوار، فأسقط في يد الخادم واضطرب؛ لأنه كان يريد الترجل لتحية مخدومه، وأدرك جدي ما كان يعتمل في سريرة الخادم، فأسرع إليه وأمسك طرف عباءته وهو راكب، وغطى به البلاص وقال له: إذا لم يكن هذا الذي أمرت لك به كافيا لعيالك، فتعال إلي غدا لآمر لك بواحد آخر.
وكان هذا الموقف رفقا بإحساس الرجل، حتى لا يشيع بين العمال والخدم أنه سارق، وتصبح هذه الحادثة سبة في جبينه.
ولقد كانت هذه المواقف وغيرها سببا في اجتذاب محبة مستخدميه وولائهم ووفائهم، فجازاه أحدهم في ابنه من بعده، وقصة ذلك أن والدي عندما اشترى تفتيش «دماريس» جعل يفكر في تدبير ما بقي عليه من ثمنه، ولاحظ انشغاله رجل مسن من مستخدمي والده فقال له: ما بك؟ فأجابه بأنني أفكر في تدبير باقي ثمن التفتيش الجديد، فقال الرجل: لا تفكر واتبعني، وتبعه والدي من حجرة إلى أخرى حتى وصلا إلى غرفة متطرفة مغلقة، وفتحها الرجل بمفتاح كان معه وأدخل والدي فيها، وجاء ببساط كبير من الصوف وفرشه على أرض الغرفة، ثم فتح «زلعة» وألقى ما بها من نقود فضية على البساط، وهكذا واحدة بعد الأخرى حتى وجد أبي نفسه أمام كومة كبيرة من النقود الفضية، فقال والدي للرجل: ما هذا؟ قال الرجل: هذه نقود تركها لك أبوك في ذمتي، وحلفني ألا أعطيها لك إلا إذا كنت محتاجا لها، وها هي قد نفعتك اليوم.
وقيل لي: إن هذه النقود قد عبئت في جوالات كثيرة، وحملت على الدواب إلى المراكب حيث أرسلت للبنك.
وخلال الفترة التي كان فيها أبي في قلب الحياة العامة، وقعت الحوادث العرابية، وقد تكون هذه فرصة لكي أذكر بعض ما أعرفه عن بعض مدعي الوطنية الذين اتهموا والدي بأنه ساعد على دخول الإنجليز نزولا على إرادة الخديوي توفيق.
وليس أدل على أن ما ذكر كان مجافيا للحقيقة، من أن الصحف كانت قد نشرت مذكرات منسوبة إلى عرابي باشا بعد وفاته، وكان ما نشر يصادف هوى لدى أولي الأمر في ذلك الوقت. فلما تركوا زمام الحكم، جاء إلي عبد السميع أفندي عرابي يطلب مني المساهمة في طبع مذكرات أبيه، فلما أبديت له دهشتي من أن يطلب طبع هذه المذكرات على نفقتي وفيها طعن في وطنية والدي كذبا وبهتانا، أبدى استعداده لحذف هذا الجزء من المذكرات، وكانت دهشتي هذه المرة أشد من سابقتها، وقد رفضت ذلك مقتنعة بأنه كما أراد حذف هذا الجزء بشرط المساعدة، فإنه لا بد قد وضعه بشرط مثله خدمة لغرض آخر، وأسفت أن هذا حدث شفويا، وإلا لكنت قد أدليت بالبرهان على كذب ما جاء في هذه المذكرات لعرابي باشا، ومع ذلك فسوف يأتي الحديث فيما بعد عن خطابين أرسلهما إلي عبد العزيز وعبد السميع عرابي ابنا عرابي باشا.
وكان عبد السميع قد كتب مقالات في جريدة المحروسة، ذكر فيها أن سلطان باشا كان من رؤساء الحركة الوطنية، وكان يظن أنه يستطيع بمواهب عرابي وقوة الجيش الحصول على رئاسة البرلمان ، فأيد عرابي في جميع الأحوال إلى أن فازت الأمة بالمجلس النيابي. ولكنه لما رأى الأمة تتحدث باسم عرابي بكل إعجاب وثناء تسرب الحسد إلى نفسه. ولما تشكلت وزارة محمود باشا سامي كان يطمع أن يكون فيها وزيرا فلم يتحقق أمله.
وعلى ذلك أخذ يضلل أعضاء مجلس النواب وغيرهم وينفرهم من عرابي ويغريهم بالتخلي عنه. ولكنه لم يفز؛ لأن الأمة بكل طبقاتها كانت في جانب عرابي إلى النهاية.
وقد تصدى له قليني باشا فهمي؛ حيث نشر مقالا في جريدة المقطم يوم الأربعاء نوفمبر 1923 قال فيه:
إن منشأ الحركة العرابية كان سببا عن الظلم والجور اللذين لحقا بضباط الجيش المصريين؛ حيث كان لا يسمح لأي ضابط مصري مهما كانت مواهبه أن يتعدى رتبة أميرالاي، فأوجب هذا تذمر الضباط المصريين ما ترتب عليه قيامهم بحركة ضد هذا الاحتلال التركي الجركسي، وكان هذا هو الأساس الذي قامت من أجله الحركة العرابية.
ولما كان البرنامج يشمل أيضا طهارة المصالح الملكية من الموظفين الأتراك والجراكسة، فقد انضم إليهم كثير من أعيان البلاد وكبرائها، وأخذ يناصرهم المرحوم سلطان باشا بما كان له من النفوذ الكبير والسلطة العالية.
وأضاف قليني باشا:
إن سلطان باشا كان يشغل مركز حاكم الصعيد العام، وكان ذا جاه عريض وسلطة واسعة. فمن هذا يعلم أنه لم يكن في احتياج إلى جاه غيره ليتوصل إلى مركز عال. ولما بدأت الحركة العرابية ورأى من مبادئها خدمة البلاد، انضم إليها بكل نفوذه وعضدها بكل قواه، لا حبا بوظيفة؛ لأنه كان يشغل أعظم المراكز، بل حبا في خدمة البلاد.
وعندما ألف البرلمان، انتخبته الأمة رئيسا له، ولا يعقل أن الذي يتقلد وظيفة رئيس البرلمان يطمع في أن يكون وزيرا؛ لأن وظيفة رئيس البرلمان فوق وظيفة رئيس الوزراء. وقال:
أذكر أنني كنت مع المرحوم سلطان باشا في سراية ذات يوم، وإذا بعرابي قد حضر ومعه ضباط من الجيش وطلبوا منه عقد البرلمان في الحال، فسألهم عن الموضوع الذي يريدون أن يتكلموا فيه، فقالوا: عزل الخديوي، فقال لهم: وهل رشحتم من يخلفه حتى يكون قرار البرلمان بالعزل شاملا لتعيين الخلف. وكان عرابي ينتظر من الجميع أن يقولوا: إن الخلف عرابي، ولكن لم ينطق أحد منهم، وبعد أن تداولوا فيما بينهم قرروا تأجيل البت في ذلك إلى الغد.
وعقدوا اجتماعا في منزل عرابي للمداولة، فاشتد الهرج بينهم، فقال محمود سامي البارودي إنني أولى بالملك لأني من سلالة ملوك، وقال عرابي: ولكني أنا رئيس الحركة الوطنية وموحدها، وقال آخرون غير ذلك إلى أن قال طلبه عصمت باشا: لكل منا أعمال عظيمة في هذه الحركة، فيجب أن نعامل كلنا بالسواء بلا تمييز واحد على الآخر، فيحسن أن نجعل كل مديرية خديوية قائمة بنفسها، وكل منا يكون خديوا لها. وحينئذ يئس عرابي، واستحسن مع البعض أن تبقى الحالة كما هي عليه. وبعد ذلك توجه عرابي إلى سراي سلطان باشا، وشكره على نظره البعيد.
نظر سلطان باشا إلى كل هذه الأحوال، وقال للعرابيين: إنه يحسن بالجيش المصري أن يقف عند هذا الحد؛ لأن الأجانب قلقون جدا من العسكرية الدائمة، فلم يرق هذا القول للعرابيين وعدوه خيانة من سلطان باشا، ولم يعبئوا بنصيحته، بل ظلوا على تهديد العرش مما استوجب مخاوف الخديوي، فاستغاث بأوروبا لتساعده على خلاص عرشه من التهديد.
وعند دخول الإنجليز إلى مصر، أراد سلطان باشا أن يتحقق إلى أي حد ترمي المقاصد الإنجليزية. فأكد الجنرال دلسلي قائد الحملة أن مهمتهم هي إخماد الفتنة العرابية وحفظ العرش من التهديد. وبانتهاء ذلك تكون مهمتهم قد انتهت وينصرفون إلى بلادهم ... أكدوا هذا لسلطان باشا الذي كان مشغوفا بحب وطنه وخائفا من سيطرة الإنجليز عليه؛ لأنه ليس من المعقول أن سلطان باشا يحارب الاحتلال التركي، الذي كان في نظره كابوسا على البلاد، ويسعى للاستعاضة عنه بالاحتلال الإنجليزي.
وأود أن أذكر هنا أن عرابي باشا كان قد أمر بأن تؤخذ ممتلكات أبي من غلال وخيل وغيرهما، وترسل إلى مخازن الإنجليز، وأن يختم البيت بالشمع الأحمر حتى ينظر في أمره.
وبعد فشل عرابي ونفيه إلى جزيرة سرنديب، أمرت الحكومة بصرف عشرة آلاف جنيه لوالدي على سبيل التعويض الرمزي، عن الخسائر المادية التي لحقته من جراء تلك التصرفات، فانتهز ضعاف العقول والبصائر هذا الأمر للتشهير بوالدي، وقالوا: إنه منح المبلغ مع الخديوي توفيق لمساعدة الإنجليز على كذبهم وافترائهم، ولو فرضنا المستحيل، فإنه لا يمكن أن يبيع مصر بهذا الثمن البخس الذي لا يوازي قطرة في بحر ثروته.
ولقد كان من نتيجة فشل والدي في إقناع عرابي، قيام تلك الحوادث التي أدت إلى دخول الإنجليز إلى البلاد عنوة، متذرعين بالفتن والاضطرابات الداخلية والخارجية.
وما الذي كان يستطيع والدي أن يفعله إزاء الجيوش التي هزمت جيش عرابي؟
هل كان في إمكانه محاربتها والتغلب عليها، أو تصديق ما كان يقال من إنهم مدافعون عن العرش واستتباب الأمن وحماية الأجانب، بدلا من أن يدخلوا فاتحين بحد السيف؟
الفصل الثاني
منذ البداية، أريد أن أؤكد حقيقة هامة، وهي إنني في هذه المذكرات لا أحاول أن أدلل على وطنية أبي محمد سلطان باشا، فهذه في رأيي قضية واضحة لا تحتاج إلى كثير من المناقشة، ولو كنت أعرف أنها موضع شك، لاخترت منذ زمن طويل أن ألتقي بكل الذين عرفوا والدي وعرفهم ... وأبحث في أوراقهم وأنقب في ذكرياتهم.
ومع ذلك، فإنني إزاء ما يثار في هذه الأيام من أقاويل، أرى أنه من الأفضل أن أضع النقاط على الحروف، وأن ألتزم في ذلك بما جرى على ألسنة الأطراف الأخرى، فلا جدال في أن أعظم شهادة هي ما يشهد به الأعداء. فقد حاول البعض أن يفسر المواقف بما يخدم مصالح أطراف معينة، بعيدا عن وجه الحقيقة، ولكن تشاء إرادة الله أن يبدو وجه الحقيقة على أيديهم.
لقد قلت: إن أبي هو الذي حذر منذ وقت مبكر مما يمكن أن يحدث نتيجة الاندفاع في مواقف متطرفة، دون استعداد من ناحية، ودون دراسة وافية ومتأنية من ناحية أخرى. ولكن الاندفاع غلب على صوت العقل، فكانت تلك النتائج السيئة التي أشار إلى إمكانية وقوعها من قبل أن تحدث ... وهذا هو الفارق بين الرجال، وهذا هو أيضا الفارق بين المواقف، وهذا هو كذلك الفارق بين النتائج.
ولكي أبرهن على تعمد البعض تشويه التاريخ حبا في المصلحة الشخصية، أو تبريرا لآراء بعض المتطرفين في أفكارهم، فإنني أسجل هنا كلمة الأستاذ حسن القاياتي التي نشرت بجريدة الأهرام الغراء بتاريخ 22 سبتمبر 1920 بعنوان «حول عرابي». وفيها يقول:
كتب عبد السميع عرابي في «المنبر» الكلمة الآتية فيما يدافع به عن أبيه زعيم الثورة. قال: في يوم الأربعاء 13 سبتمبر 1882 كان عرابي يصلي الفجر، فسمع ضرب المدافع بشدة، ولما تفقد الأمر وجد الضرب على طول خط الاستحكام، وأن الاستحكامات تضرب المركز العمومي الذي يبعد عنها نحو أربعة آلاف متر، ولما لم يكن هناك غير الأهالي المتطوعين مع (المدعو) الشيخ محمد عبد الجواد وأخيه وجابر بك من بندر ببا، وكانوا جميعا نحو الألفين، دعاهم للهجوم على بطارية الأعداء فامتنعوا. وما زال بهم يذكرهم بالوطن وواجب الجهاد إلى آخر عبارات الاستفزاز المشتعلة في مثل هذا المقام حتى يئس من نفعهم وحتى تفرقوا جميعا فرارا من هول الموقف.
تلك كلمة عبد السميع بك عرابي فيما يفصح به عن أبيه ويؤيد به فعلته في ذلك الموقف. أما أنا فلم تتقدم بي العين إلى شهود تلك الموقعة، وأنا أؤيد بأن أباه كان رجلا مخلصا بر الطوية نبيل النزعة في ثورته، ولكني على ذلك ناقل هذه الحقيقة عمن شاهدها، فأدى ما سمع وأبلغ ما رأى؛ قضاء لحق التاريخ والعلم.
حدثني رجل خصيص بالشيخ محمد عبد الجواد القاياتي (والد كاتب هذه الكلمة) حضر معه الموقعة. قال: بعد أن وقعت الهزيمة على الجيش المصري العرابي، وحقت كلمة الفشل والخزي، لم يرعني إلا عرابي باشا على فرس ضامر ينهب به الأرض نهبا ويطير به في كل مطار، حتى إذا اجتاز السرادق الذي كان فيه الشيخ محمد عبد الجواد وأخوه الشيخ أحمد عبد الجواد، جعل ينادي ويهتف: «يا سيدنا الشيخ ... لقد ضاعت البلد ... دافعوا عن المسلمين» في أمثال هذه الكلمات الجوفاء، فأجابه الشيخ محمد عبد الجواد بكلمات فيها شتم وتحقير ورمي بالخيانة ... ثم مر عرابي لا يلوي على شيء، وكيف تستطيع المتطوعة القتال بعد هزيمة الجيش؟
ومن ناحية أخرى، فقد وصلني خطاب من الأستاذ عبد السميع أفندي عرابي بتاريخ 15 فبراير 1926، وفي هذا الخطاب يسترعي الالتفات عبارة يقول فيها: «هذه المجهودات الوطنية وما لبيتكم من الآثار الجليلة فيها». وأعتقد تمام الاعتقاد أن هذا الوضع هو المطابق تمام المطابقة لما جاء في المذكرات الأصلية لعرابي باشا؛ لأنه ما كان يستطيع تدوين غير الحقيقة هو وغيره من المعاصرين له على قيد الحياة.
ولو كان الموقف بالنسبة لوالدي غير ذلك، لما أقر واعترف عبد السميع أفندي كتابة بما بيننا من الآثار الجليلة في هذه المجهودات الوطنية، وإلا لكان مخالفا لواقع وحقيقة مذكرات والده، ولكن المحير في الأمر أن يعترف عبد السميع أفندي بالآثار الجليلة لبيتنا في هذه المجهودات الوطنية قبل طبعها، ثم يرمي والدي بضد هذه الآثار بعد الطبع؟!
ومما يحقق اعتقادي بعدم صحة كل ما أثاره المغرضون حول والدي، خطاب آخر وصلني من عبد العزيز أفندي عرابي مع نسخة مهداة إلي من الجزء الأول من تاريخ والده، وفيه يسجل قراره بخطه أن والدي قد اشترك في تلك الثورة؛ إذ قال: هذه نسخة من الجزء الأول من تاريخ والدي رحمه الله عن الثورة العرابية التي اشترك فيها ساكن الجنان سلطان باشا، وكان فيها من المبرزين. ويقول أيضا: فحسبي أن أتقدم بهذه الهدية وفاء لوالدك الذي له حقه علينا.
ولعل مثار دهشتي من الخطابين اتفاقهما قبل الطبع على ذكر أفضال والدي، والإشادة بمواقفه ومجهوداته والرغبة في خدمة الحقيقة والتاريخ، ثم ظهور بعض الشوائب التي أحيط بها والدي، الذي كان بالأمس محل التقدير لمجهوداته الوطنية، والذي كان من المبرزين في تلك الثورة! ...
ومن هذا الاستشهاد وغيره من مجريات الحوادث يستطيع القارئ أن يتبين أين الحقيقة، ولو عاش والدي بضع سنين أخر، لاستطاع أن يكشف النقاب عن كثير من الأسرار التي أحاطت بموقف الجميع، ولكنه للأسف مرض في أعقاب نتائج الثورة، واشتد مرضه بسبب نتائجها التي أدت إلى أسوأ ما منيت به مصر الحديثة، وهو احتلال البلاد.
وفضلا عن ذلك، فإنني أنشر هنا مقالا للأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي في مجال ما دار من المساجلات والمشادات، التي نشرت في الصحف بينه وبين عبد السميع أفندي عرابي حول مذكرات والده. وفيه يبدو جليا رأي أحد المؤرخين في المآخذ التي تعرض لها سلوك عرابي باشا ومقاصده ونواياه، وإظهار نواحي الضعف والإهمال في إعداد الجيش العرابي لمنازلة الإنجليز، وتحميل زعماء الثورة العرابية مسئولية المخاطرة بمستقبل البلاد، فضلا عن نوايا بعضهم في اعتلاء العرش.
وقد نشر هذا المقال في جريدة كوكب الشرق في 26 سبتمبر 1933، تحت عنوان «كلمة ختامية»:
قرأت المقالات الثلاث التي كتبها حضرة عبد السميع أفندي ردا على كلمتي عن ذكر 14 سبتمبر، وليس من قصدي أن أدخل وإياه في مناقشة طويلة، فإني أعتقد أن أعمدة الصحف اليومية لا تتسع لهذه المناقشات؛ لذلك أقتصر على الرد التالي ليكون من «ناحيتي» كلمتي الختامية لهذا الموضوع.
أنا لم أزل على رأيي في أن زعماء الثورة العرابية قد ركبوا من الشطط من يوم أن أكرهوا شريف باشا على الاستقالة من الوزارة. لقد ذكر عبد السميع أفندي قصة هذه الاستقالة وأراد بها أن يبرر مسلك العرابيين في الدور الثاني للثورة، واستدل بقرار مجلس النواب في هذا الصد، وقال: إن النظام الدستوري هو الذي أكره شريف باشا على الاستقالة، وجوابي على ذلك أن يستتر وراءه الزعماء لتغطية مسئولياتهم في الحوادث الجسام؛ لأن المعلوم أن النواب في عهود الثورات والانقلابات يستلهمون الرأي من زعمائهم. فإذا شط النواب في قراراتهم وكانوا في شططهم نازلين على حكم زعمائهم ثم وقعت الكارثة، كانت المسئولية واقعة على الزعماء أولا ثم على النواب ثانيا.
فشريف باشا كان يرى درءا للأزمة السياسية التي نشأت عن تدخل الدولتين في مسألة الميزانية، ألا يبت مجلس النواب في قراره النهائي في المادة المتعلقة بها من اللائحة الأساسية ويرجئها إلى حين تنتهي الغمة؛ وبذلك يتفادى التدخل المسلح من جانب إنجلترا وفرنسا.
والتأجيل في ذاته لم يكن مضيعا لحقوق الأمة؛ لأن وضع الدستور قد يستغرق زمنا يطول أو يقصر على حسب الظروف والملابسات، والتأجيل كثيرا ما يكون وسيلة لحل بعض الأزمات السياسية، ولكن العرابيين رفضوا الأخذ برأي شريف باشا؛ لأنهم رأوا في هذه الأزمة فرصة للاستئثار بالحكم وتولية أحد زعمائهم رئاسة الوزارة بعد إقصاء شريف باشا عنها. وقد تم لهم ما دبروه واستقال شريف باشا، وتولى الرئاسة محمود باشا سامي البارودي. ومن يومئذ تلاحقت الأحداث والخطوب حتى انتهت بالاحتلال.
فالعرابيون قد عرضوا البلاد للتدخل المسلح من جانب إنجلترا ... ويا ليتهم عرضوها لهذا التدخل بعد أن أحسنوا الاستعداد للحرب والقتال، فإن الحكمة والسياسة تقضي على أقوى الدول الحربية أن تأخذ عدتها للحرب قبل أن تغامر فيها. ولكن العرابيين غامروا بمستقبل البلاد في وقت كانت عوامل الضعف والارتباك قد نالت من قوة الجيش ومكانته. فكان ما كان من هزائم سنة 1882. فالذين خاطروا بمستقبل البلاد من زعماء الثورة العرابية يتحملون أكبر تبعة في وقوع الاحتلال.
والنظام الدستوري ليس مسئولا عن هذه التبعات، بل النزعات والأطماع الشخصية هي المسئولة عنها، ولا نزاع في أن هذه النزعات والمطامع قد تغلبت على نفوس الزعماء في الدور الثاني للثورة، وقد شهد بذلك زعماء الثورة بعضهم على بعض، فشهد عرابي باشا في مذكراته بما كان يساور محمود باشا سامي البارودي من المطامع في عرش الخديوية. وشهد محمود باشا فهمي على عرابي بمثل ذلك القول في كتابه «البحر الزاخر» إذ قال عنه: «إن المقصد الأصلي له أن ينال أريكة الخديوية المصرية، وإن الثورة العرابية هي ثورة مشئومة، وأمرها وأحوالها كانت مكتومة في قلب عرابي لم تظهر حقائقها، ولم تبد دقائقها للعيان إلا بعد النفي في سيلان؛ حيث أفشى كل من عرابي وعبد العال وعلي فهمي ما كانوا عليه للعيان.»
وشهادة محمود باشا فهمي لها قيمتها التي لا تنكر؛ لأنه أحد زعماء الثورة الذين ثبتوا فيها حتى النهاية، وأحد المنفيين في سيلان، وكان وزيرا للأشغال العمومية في «وزارة الثورة» التي كان يرأسها البارودي، وفيها كان عرابي وزيرا للحربية، وكان فوق ذلك رئيسا لأركان حرب الجيش العرابي في وقائع سنة 1882 فأقواله حجة، وثمة شهادة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فإنه كان يتوقع الشر من الثورة العرابية، ويقول: «إنها قد تجر إلى البلاد احتلالا أجنبيا يستدعي تسجيل اللعنة على مسببه إلى يوم القيامة.» وقد تحقق مع الأسف ما كان يتوقعه، وانتهت الثورة بالاحتلال الإنجليزي الذي تعانيه البلاد إلى اليوم.
أما طعن عبد السميع أفندي في أمثال الشيخ محمد عبده ومحمد باشا فهمي، فنحسب أنه لا ينقص من قيمة آرائهما شيئا، وثمة كلمة أخرى أرد بها على عبد السميع أفندي، فإنه يسألني: «ما هي تلك الآراء والتصريحات التي أدلى بها عرابي حين عودته إلى مصر وكان فيها تأييد مطلق للاحتلال الإنجليزي؟ هذه تهمة خطيرة يحسن ألا يقذف بها هكذا جزافا من غير أن تقترن بالبينة.»
ويلوح لي أن هذا السؤال هو من قبيل تجاهل العارف، فإن عبد السميع أفندي وهو أحرص الناس على كل ما له علاقة بتاريخ عرابي باشا، لا يمكن أن تفوته تلك الأحاديث. ولم أكن أريد أن أعيدها ولذلك اكتفيت بالإشارة إليها. ولكن ما دام عبد السميع أفندي يذكرها ويطلب منا البيان، فإني أحيله على حديث المغفور له عرابي باشا في جريدة «ذي تيمس أوف سيلان» عدد 26 مايو 1901 بعد العفو عنه، إذ قال فيه: «كلما أتفكر في مصر أحس بفرح عظيم وسعادة أكيدة لعلمي بأنه ليس بها الآن أقل اضطراب، وإن ما كنت أتمناه لأمتي من استتباب الأمن وتمام الراحة نالتها اليوم بلا تعب ولا عناء وما ذلك إلا بهمة الحكومة الإنجليزية.»
وأحيله أيضا على حديث هام نشر له في عدد 3 أكتوبر 1901 من جريدة المقطم، إذ قابله مندوبها بعد عودته لمصر، وسأله: هل وجدتم ما رأيتموه في مصر في هذين اليومين مختلفا عما كانت عليه حين مفارقتكم إياها؟
فقال عرابي باشا: إن عائلتنا كبيرة تعد أكثر من عشرة آلاف نفس منتشرين في طول هذا القطر وعرضه. وقد قابلت أكابرهم الذين جاءوا السويس للتسليم علي، فسألتهم عن الأحوال بالتفصيل والإجمال، فوجدتهم متفقين في الجواب، قلت لهم: أصحيح أن السخرة ألغيت عندكم، فقالوا: نعم صحيح، قلت والكرباج، قالوا: أبطل من زمان، قلت: وكيف تحصل الأموال من الأهالي، قالوا: بالحق والعدل، وكل إنسان يعرف ما له وما عليه ... فسألتهم وكيف الاستبداد في الأحكام الآن، أجابوا أنه لم يبق للاستبداد أثر في البلاد، فكل شيء مقيد بقانون ونظام ولا خوف على محكوم من جور حاكم؛ لأن كل من له أو عليه قضايا رفع مظلمته إلى المحاكم. فشكرت الله حينئذ وحمدته؛ لأنه حقق مناي وأراني قبل مماتي ما طالما كنت أتمناه لبلادي وأبناء وطني في حياتي. وقلت هذا هو الإصلاح الذي كان غايتي من أفعالي الماضية.
وقد شاء الله أن ينعم على وطني ولكن لحكمة له جل جلاله قضى ألا يتم ذلك على يدي، بل على يد الذين نازلناهم في ساحة القتال وكانوا لنا أعداء، فصاروا لمصر اليوم خير الأصدقاء، وقضى الله أن أكون واسطة هذا التغيير فينال وطني ما كنت أتوخى وأتمنى له من الخير.
فهل هذه التصريحات لزعيم ثورة يحمل في قلبه رسالة الوطنية لقومه. إن الزعيم الوطني لا يمكن أن يمتدح الاحتلال الأجنبي المضروب على بلاده بمثل هذه الأقوال، ولا يمكن أن يصف جرائم الاحتلال بأنها الإصلاح الذي كان يبتغيه وإنها غايته من «أفعاله الماضية» أي من الثورة التي حمل لواءها وتولى زعامتها. هذا إلى أن عرابي باشا يمن على بلاده في هذا الحديث بأن الإنجليز قد أبطلوا السخرة والكرباج ونظموا المحاكم وأقاموا منار العدل فيها، وهو لعمري قد ظلم مصر بقوله هذا ولم ينصف الحقيقة والتاريخ، فإن السخرة والكرباج قد أبطلا في عهد وزارة رياض باشا الأولى سنة 1880 قبل الاحتلال، ونظام المحاكم الحالي قد تقرر بادئ ذي بدء في عهد وزارة شريف باشا الثانية بمقتضى المرسوم الصادر في 17 سبتمبر 1881 قبل الاحتلال أيضا.
ومن تهكم الأقدار ومن المؤلم حقا أن زعيم الحركة التي قامت في الأصل لتخليص الجيش من سيطرة شرذمة من الشراكسة، يغتبط بوقوع مصر تحت سيطرة الإنجليز . وكانوا يوم أن أدلى بهذا الحديث قد مضى عليهم عشرون عاما قضوا فيها على استقلال البلاد وحريتها، وسلخوا السودان عنها، وجعلوا أملاكها ومرافقها نهبا مقسما بينهم وبين الدول الاستعمارية، واغتصبوا سلطة الحكم وأفسدوا الجيش والإدارة والتعليم والأخلاق في البلاد.
وبعد، فلم أكن أريد أن تصل المناقشة إلى هذه التفاصيل. ولكن ردود عبد السميع أفندي قد اقتضت ذلك، وجعلتني أعيد البحث فيما أدلي به من حجج في مقالاته، وكنت أود أن أقتنع بها، ولكنها لم تزدني إلا اقتناعا بالرأي الذي وصلت إليه من قبل، وهو أن الثورة العرابية في دورها الثاني كانت مع شديد الأسف صفحة محزنة من تاريخ مصر الحربي والقومي ...
هذا ما كتبه عبد الرحمن الرافعي، وكشف فيه الرجال والمواقف والأدوار، ونبه الأذهان إلى مجريات الأمور في الدور الثاني للثورة العرابية، ولقد كان من بين الرجال الذي تنبهوا مبكرا لذلك، والدي محمد سلطان باشا؛ فقد ظل مؤازرا للثورة العرابية باعتبارها ضمير الأمة وصوت الشعب، إلى أن جاءه رجال الثورة ليطلبوا منه، باعتباره رئيس البرلمان، أن يدعو إلى جلسة لعزل الخديوي، فلما سألهم عمن سوف يشغل مكانه بعد عزله حتى يقرر البرلمان ذلك، لم يلبثوا أن اختلفوا وتناحروا وادعى كل واحد منهم أنه الأحق بالأريكة الخديوية. وربما كان هذا هو الموقف الذي أسلم أبي للمرض، فقد غاب صوت العقل في المناقشات التي دارت بينه وبين رجال الثورة العرابية، واندفعوا رغم تحذيره بأن هذا الاندفاع قد يؤدي إلى أسوأ العواقب.
فلما وقعت الواقعة اشتدت العلة وسافر إلى سويسرا ومنها إلى جراتس في النمسا؛ حيث قضى نحبه عام 1884.
الفصل الثالث
كانت والدتي لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها بعد عندما مات والدي في مدينة جراتس بالنمسا.
إنني ما زالت حتى الآن أتذكر يوم وصل إلينا نعي والدي الحبيب. ثم أيام الحزن العميق التي اجتزناها، والسنين المدلهمة الطويلة التي جلل فيها السواد كل أثاث المنزل ورياشه.
لقد وقع الخبر مثل الصاعقة على رأس والدتي، وما زلت أذكر صورتها وهي طريحة الفراش يعودها الأطباء من آن لآخر، وكانوا يأخذونني أنا وأخي فنقف بجانب فراشها، وإذ ذاك تنظر إلينا بحزن ثم تخنقها العبرات وتدس رأسها تحت الغطاء، وهي تقول: أبعدوا الطفلين عني! ...
وعندما كنا نذهب إلى الغرفة المجاورة ... عند والدة أخي إسماعيل ... التي كنا نناديها باسم «ماما الكبيرة» ... كنا نشاهد منظرا أقسى لشابة أخرى فقدت ابنها قبل وفاة زوجها، ففقدت كل أمل في الحياة، ومرضت مرضا ألزمها الفراش طوال السنوات الثماني التي عاشتها بعد ولدها، وعندما كان يلح عليها من حولها لترك الفراش وترييض جسمها، كانت تذعن في النهاية تحت إلحاحهم، فتتمشى من غرفة إلى أخرى، وكنا نفرح لذلك كثيرا ونجري أمامها مهللين مصفقين، فتعلوا شفتيها القرمزيتين - بفعل الحمى - ابتسامة باهتة واهنة ممزوجة بالأحزان التي تنبع من أعماق قلبها. كنت أحب هذه السيدة حبا عظيما، وكانت تبادلني الحب وتعطف علي، وكانت هي الوحيدة التي تجاذبني الحديث بصراحة في مختلف الأمور والشئون، وقد لاحظت ما كنت أحاول أن أخفيه من آلام نفسية؛ بسبب تفضيل أخي علي سواء من جانب والدتي أو أهل البيت جميعا، فكانت تحاول أن تقنعني بأن هذا ليس تفضيلا، ولكن لأن الولد هو الذي يحمل اسم الأسرة وهو الذي يحمل مسئوليتها.
وكان بيتنا مفتوحا لكل زائرة ولكل قاصد، ذلك أن والدتي كانت خيرة وديمقراطية، ولذلك كان منزلها لا يكاد يخلو من الضيوف يوما واحدا، وكثيرا ما كانت تطول تلك الضيافة نظرا لما يجده الضيوف من حسن الوفاء وكرم المعاملة، وكثيرا ما وفد الزائرون فجأة، في الأوقات المناسبة وغير المناسبة. ولذلك كانت مائدتنا مستعدة دائما لاستقبال الضيوف، وكانت الغرفة معدة لإقامة النازلين، وكثيرا ما كنت أثور على هذا التطفل الذي يضطرني إلى ترك غرفتي لإحدى الضيفات أو قبولها شريكة لي فيها، وكنت دائما أفضل الحالة الأولى؛ لأنني أتألم من بعض الروائح ومن عدم تجدد هواء غرفتي.
وكان «السلاملك» هو مهبط الأقارب والموظفين، وكنت أحتفي بمن أصطفيهم من هؤلاء، وفي مقدمتهم زوج أختي الكبيرة إسماعيل بك؛ لأنه كان يبالغ في ملاطفتي وكان مع كبر سنه لطيفا، واسع الصدر، يدلعني ويقربني منه، كذلك كنت أؤثر من أقاربي أحمد حجازي ابن عم والدي الذي كان كثير الاهتمام بأمري، وكان يحدثني عن أبي ويقص علي بعض صفاته وتاريخه، كذلك كنت أفرح لمجيء أحمد بك مرزوق؛ لأنه كان مرحا خفيف الروح، وكان يملأ البيت سرورا بفكاهاته وصوته العالي.
وعندما كان يحضر علي بك شعراوي الوصي علينا وناظر أوقاف والدي، كانوا يأخذونني أنا وأخي للسلام عليه، وبعد ذلك كنت أتحاشى الذهاب إلى السلاملك؛ لأنه لم يكن يلتفت إلي على الإطلاق، وكان يوجه كل حديثه واهتمامه إلى شقيقي الذي كان يحبه حبا جما. وكان منزلنا يتخذ شكلا غير مألوف طوال مدة إقامته بسبب الخوف الذي كان يستولي على الخدم وعلى الأقارب والزائرين.
ومن الزائرين الذين كنا ننتظر قدومهم بلهفة وشوق جدتي وأخوالي، وكانوا يأتون من تركيا كل سنة أو سنتين تقريبا لزيارتنا، ويغمروننا بهداياهم الكثيرة التي كانت تزيد على حاجتنا فنهدي منها للجيران والأصدقاء.
كانت جدتي على خلاف والدتي، قصيرة القامة ليست بالبدينة أو النحيفة، ناصعة البياض، زرقاء العينين، ترتدي الثياب البيضاء، وتضع على رأسها طرحة بيضاء تتخللها ضفيرتان من شعرها الأبيض تكادان تعادلان جسمها طولا، وكانت تبدو في هذا البياض الشامل كالقديسة وكانت السماحة تشيع في محياها فتكسبها إشراقا وطيبة.
ولقد أحببت جدتي كثيرا، وإن كنت لم أستطع التفاهم معها إلا بالإشارة لجهل كل واحدة منا بلغة الأخرى، ولكن هذا ما كان ليمنعنا من تبادل العواطف وكانت تدللني ببعض كلمات وأغان شركسية ما زلت حتى الآن أحفظ الكثير منها.
وكان خالي الكبير يوسف شديد الشبه بوالدته في طوله وسماحة وجهه ودماثة خلقه، أما خالي إدريس - والد حواء وحورية - فكان شديد الشبه بوالدتي في رشاقته وجمال قسمات وجهه، وكان طويل القامة، نحيف القوام، رقيقا في حركاته ومعاملاته، وكان يحبنا الحب كله ويقضي معظم أوقاته معنا لدرجة أنه كان لا يغادر المنزل إلا قليلا.
كان هؤلاء الأهل يقضون معنا فصل الشتاء، حتى إذا أقبل الصيف بدأت جدتي تتأثر بحر بلادنا، فتلتهب أجفانها وتدمع عيناها ويحمر وجهها، فتطلب العودة إلى تركيا، ولكن خالي إدريس كان يبقى معنا لميله الشديد إلى تعلم اللغة العربية، فكان يتتلمذ معنا على أيدي مدرسينا.
ولما توفيت جدتي، وكان خالي الكبير قد تزوج، جاءت معه زوجته، فقلت له يوما: لماذا لا تبقون معنا هنا ولم يبق لكم في الآستانة أحد بعد وفاة جدتي؟ فابتسم وقال: لقد عرض علي المرحوم والدك ذلك، ولكنني اعتذرت؛ لأن في ذلك هدما لبيتنا ومحوا لاسم عائلتنا.
قلت: وهل بندرته التي تقطنونها كانت بلاد آبائكم وأجدادكم؟ ألستم من القوقاز لا من الأناضول؟
فابتسم مرة ثانية وهز رأسه قائلا: هذه الألفاظ نفسها قد سمعتها من والدك عندما ألح علينا للبقاء في مصر، ولترغيبنا وعدني بأن يكل إلي إدارة أعماله الزراعية ويدخل أخي المدارس ليتم تعليمه، ولكنني لم أقبل حفاظا على اسمنا في بلادنا، كما اعتذرت عن عدم استبقاء أخي؛ لأن كل من أتم تعليمه من أفراد عائلتنا مات ميتة غير طبيعية.
وبعد ذلك بمدة، تخلف خالي إدريس وبقي بيننا يتعلم، ولما ألحت عليه والدتي في الزواج، أراد أن يتزوج من مصر ويبقى بجوارنا، فخطبت له إحدى فتيات البيوت العريقة، وعندما تحدد موعد القران اشترط أهل العروس ألا تفارقهم ابنتهم، وألا تسافر معه إذا سافر، ورفض هو هذا الشرط قائلا: إن الزوجة لا بد أن تتبع زوجها في حياته وتنقلاته، وسافر إلى بلاده وتزوج هناك، وأنجب ابنتيه حواء وحورية.
وذات يوم دعي هو وأخوه مع أهل القرية لحضور فرح في قرية مجاورة، وكانت العادة هناك أن يركب المدعوون عربات تجرها الثيران، وطلب خالي الكبير من أخيه أن يصحبه في هذه العربات، ولكنه اعتذر لوجود ضيوف عنده، ووعد بأن يلحق به على ظهر جواده الجديد السريع، وكان الجواد قويا فجمح به أثناء الطريق وصدمه مقدم السرج في صدره؛ فسقط من فوق الجواد ميتا، وانقلبت الأفراح أتراحا، وتحقق بذلك اعتقاد خالي الخبير بأن من يتم تعليمه من أفراد الأسرة يموت ميتة غير طبيعية، وهكذا قضى خالي المسكين تاركا طفلتيه الصغيرتين حواء وحورية، وكبراهما لم تبلغ الثانية بينما الصغرى ما زالت رضيعا.
والحقيقة أنني لم أجرؤ في يوم من الأيام على سؤال والدتي عن أصلها وسبب نزولها في مصر، فقد كانت رحمها الله زاهدة في الكلام عن نفسها، قليلة الشكوى والجهر بآلامها، تتحكم في عواطفها وتخفي في قرارة نفسها كل ما يؤلمها، على إنني كنت تواقة لمعرفة شيء عن حياتها وأهلها. ولذلك سألت خالي يوسف عن سبب هجرة عائلته من القوقاز إلى الأناضول، وكيف وصلت والدتي إلى مصر إلى أن تزوج أبي منها، فقص علي أنه عندما شبت الحرب بين الجراكسة وروسيا القيصرية حوالي عام 1860، دافع الجراكسة عن القوقاز بكل شجاعة وبسالة، وكان جدي لأمي أحد القواد المشهورين، وكان يدعى «شار الوقه جواتيش»، وكان هو الذي يقود المعركة في القرم. وأثناء الحرب هزمت فرقته ووقع أسيرا وكان له بين القواد المعروفين خصم هو القائد الداغستاني الشهير «الشيخ شامل» فانتهز هذا القائد فرصة أسره للتشهير به، وأشاع أنه انضم إلى الروس وخان بلاده، فقبضت السلطة المحلية على ولده يوسف الذي كان دون السادسة عشرة من عمره، وألقت به رهينة في الحبس توطئة للحكم عليه بالإعدام إذا لم يعد أبوه؛ وعندئذ قررت جماعة من حزبه وأقارب والده وأصدقائه، التطوع لتخليص والده وأصدقائه من أسر الروس؛ إنقاذا لابنه المسكين. فارتدوا ملابس الجنود الروس واندسوا بينهم وقد ساعدهم على ذلك معرفتهم للغة الروسية، وصحبتهم في هذه المغامرة ابنة أخيه «حورية»، وكانت مع جمالها مغامرة فلم تتردد في الاندماج مع الرجال الذين تطوعوا لخلاص عمها، وقد ساعدهم الحظ، فوفقوا إلى تحقيق خطتهم وتمكنوا من تخليصه، ولكن الروس فطنوا إلى خلاصه فتعقبوه وقاتلوهم في الطريق، ولما كانوا قليلي العدد والعدة، فقد تغلب عليهم الروس، ومات وجرح معظمهم، وكان بين الجرحى جدي «جواتيش» الذي احتمى ببعض الصخور وظل يحارب المتعقبين من الروس في انتظار نجدة من الجراكسة كانت «حورية» قد ذهبت لإحضارها، وما زال يحارب حتى أصابته رصاصة أودت بحياته، وحمله منقذوه ميتا إلى مسقط رأسه ليدفن هناك، وليثبتوا كذب الشائعات التي روجها خصمه الشيخ شامل وبذلك أنقذ ابنه من السجن والموت.
وقد روت «حورية» عن عمها أنه أنبأها خلال فترة الخلاص، أن الروس عندما أسروه بدءوا يلاطفونه ويطرون شجاعته ومعرفته بأصول الحرب وقيادة المعارك، ثم طلبوا منه أن ينضم إليهم ويحارب في صفوفهم للاستفادة من خبرته الحربية ومن شجاعته النادرة. فما كان منه عندئذ إلا أن خلع «الكلبق» من على رأسه وألقى به على الأرض، ثم أمسك بسيفه وكسره على ركبته وألقى به في وجه القائد الروسي الذي كان يفاوضه في هذا الأمر، وكان معنى ذلك أنه يمتهن كرامة الدولة التي أهانت شرفه.
وعندما وضعت الحرب أوزارها وخسر الجراكسة، لم تشأ جدتي البقاء في القوقاز فهاجرت مع من هاجروا إلى الآستانة، مصطحبة أولادها الخمسة بنتين وثلاثة ذكور، وقد قص علي خالي يوسف ما قاسوه في هذه الهجرة من ألم الجوع ومرارة الحرمان طوال المدة التي قضتها الحكومة التركية في إجراءات البحث في أمر المهاجرين، وتعويضهم عن بعض أملاكهم وأموالهم. وأثناء ذلك مات أصغر الذكور، وكان يدعى «يعقوب»؛ نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، كما سرقت أخته الرضيع من مرضعتها، وخوفا من سرقة الأخت الباقية - وهي والدتي - قرروا إرسالها إلى مصر للإقامة عند خالها الضابط يوسف باشا صبري، فقد صادف أن كان أحد أصدقائهم قاصدا مصر لزيارة عائلة راغب بك، فسلموها له ليوصلها إلى خالها، ولكنه عندما وصل مصر، كان خالها في رحلة حربية في السودان، وذهب بالطفلة إلى زوجة يوسف باشا، فأنكرت أن يكون لزوجها أقارب، ورفضت قبولها وهكذا بقيت والدتي في بيت راغب بك على أمل أن يعود خالها ويطلبها، ولكن يبدو أن زوجته أخفت عنه هذا الخبر، وكان أن استمرت والدتي في رعاية ابنة راغب بك التي أحبتها كثيرا وعنيت بأمرها ولكن بعد أن تزوجت هذه السيدة، دبت الغيرة في قلبها من والدتي التي كانت على جانب كبير من الجمال، وأرادت التخلص منها، وكان من حسن حظها أن اختارها والدي زوجة له.
وذات يوم، كانت تساعد والدي على ارتداء ملابسه، وتصادف أن كانت قريبة من النافذة المطلة على الحديقة، فدمعت عيناها، وهنا سألها والدي عن سبب بكائها، فقالت له: إنها لمحت بين الزائرين الوافدين إلى السلاملك شابا يشبه أخاها يوسف، فلم تتمالك نفسها من البكاء، فسألها والدي عن أهلها وعشيرتها، ولما قصت عليه قصتها، أرسل على الفور إلى منزل علي بك راغب من يستفسر عن عنوان أهلها، ولحسن الصدف كان قريبهم الذي أحضر والدتي موجودا في مصر، فحضر عند والدي الذي كلفه بإحضار العائلة بعد أن سلمه تكاليف السفر، وبالفعل سافر إلى بندرته وأحضرهم؛ فكان لهذا اللقاء فرحة عظيمة وتأثير كبير في حياة والدتي التي أنزلها والدي المنزلة الأولى من نفسه وبيته، وبعد ذلك دعوا خاليها للتعارف، وهما يوسف باشا والد منيرة هانم حرم المرحوم المهندس علي باشا فهمي، وموسى بك والد اللواء محمد رفقي باشا، والبكباشي أحمد فخري، وعلي بك رضا؛ فأصبحت بذلك بين أهلها وعشيرتها.
هذا عن والدتي ...
أما والدتي الكبيرة، فلقد كنت أطمئن إلى عشرتها لما كنت ألقاه منها من عطف وحنان وصراحة تزيد من ثقتي بها، وتخفف من أحزاني التي كنت أبثها إياها، إذا ضاقت بي الحال وأزعجتني الهواجس والأفكار. وكثيرا ما كنت استأذن والدتي في تمضية بعض الليالي مع والدتي الكبيرة، فكانت تأذن لي رغم علمها بمرضها ولكنها لم تكن تخشى العدوى. وكنت أقضي معها ليالي عديدة، أنام معها في سرير واحد مسرورة قريرة العين منتعشة؛ لأنها كانت مثلي تحب الهواء الطلق، ولا تنام إلا والنوافذ مفتوحة وبخاصة في الصيف، وذلك على خلاف والدتي التي كانت تغلق علينا الأبواب والنوافذ خشية أن يصيبنا البرد، فكنت أسهر معها حتى يغلبني النعاس، وأستيقظ في الصباح الباكر على صوت الأطيار وتغريدها، وكانت الطبيعة بما فيها من جمال وجلال تأخذني فأسبح في جمالها إلى ما لا نهاية، وأشعر بالسعادة والهناء لما ألقاه من عطف وما أسبح فيه من خيال.
وكان يلذ لي أن أشارك هذه السيدة البارة الرحيمة أفكارها لتشابه أذواقنا في كل شيء، كانت تحب اللبن البارد المغلي في المساء والمغطى بالقشدة، فكنا نغمس فيه الخبز اليابس ثم ننتهي بالفاكهة. وفي ليالي الشتاء كنت أجلس القرفصاء بجانب الموقد للتدفئة وأضع الكستناء على الفحم المتوهج واحدة بعد الأخرى، وكلما فرقعت إحداها، قفزت من مكاني ضاحكة، فتضحك هي الأخرى وهي ترنو لي بعين الشفقة والحنان.
وأتذكر إنني طلبت منها ذات يوم أن تفسر لي حكمة تفضيل شقيقي علي، فأجابتني في ابتسامتها الحلوة: ألم تشعري الآن بالفارق الذي بينك وبينه، قلت: نعم ولكني أنا الأكبر وأنا الأولى، ويجب أن يكون نصيبي أوفر منه ومركزي أعلى من مركزه.
قالت: ولكنك فتاة وهو غلام. وليس هذا فحسب، بل أنت لست الفتاة الوحيدة وهو الولد الوحيد الذي عليه عمار الدار، أنت عندما تتزوجين ستذهبين إلى منزل الزوجية وتحملين اسم زوجك، أما هو فسيحيي اسم أبيه ويفتح بيته.
هذا الجواب الصريح المعقول، رد إلي رشدي، ولم أتألم من سماعه بل نزل على قلبي بردا وسلاما، وزادني حبا لأخي الذي سيخلد اسم أبي الحبيب ويحل محله في العائلة.
وقد فهمت والدتي الكبيرة ما أقاسيه من هذا الشعور، فأضافت: إن أخاك ضعيف البنية، لذلك يخافون على صحته ويعطفون عليه، أما أنت فقوية سليمة الصحة.
وقد تمنيت بعد ذلك أن أمرض لأتساوى معه في حب والدتي، وتصادف أن تفشت حمى الدنج في البلد، وكنت أول من أصيب بها في المنزل، ففرحت بهذا الاختبار ولازمت الفراش، وكم تأثرت من اهتمام والدتي بمرضي وانزعاجها منه؛ لأنها لم تتعود أن تراني مريضة، وأمرت في الحال بإحضار طبيب العائلة «علوي باشا»، وبعد يومين أو ثلاثة، أصيب أخي بالمرض نفسه، فقام أهل المنزل على قدم وساق، ورأيت الأطباء يدخلون غرفتنا قاصدين فراش أخي، ثم يقومون بفحصه ويغادرون الغرفة دون أن يلتفتوا إلي، رغم أن فراشه كان بالقرب من فراشي، وقد أثر في ذلك كثيرا، وارتفعت الحمى من فرط تأثري، ولكن أحدا لم يهتم بأمري إلا بعد أن ازدادت حالتي سوءا.
ولقد زادتني هذه التجربة المريرة انكماشا وحقدا على من حولي، فصرت أقضي معظم أوقات الفراغ بعد الدرس في حديقتنا التي كانت أشبه بغابة صغيرة، وكنت أحب الحيوانات، وكان يخيل إلي أنها تفهمني وترثي لحالي، كما كنت أرى في الأشجار مرتعا للألعاب الرياضية التي كنت مشغوفة بها.
وكنت أجد تسلية كبرى في أوقات الدرس، إذ كنا نمضي كل صباح في تلقي مختلف العلوم من المدرسين باللغات العربية والتركية والفرنسية، وكنت مغرمة جدا، باللغة العربية. وكان يحضر الدرس معنا مربينا «سعيد آغا» الذي كان يلازمنا في كل مكان. وكان صاحب الأمر والنهي على الخدم وعلى معلمينا. وبهذه المناسبة أذكر أنه لتعطشي للغة العربية، سألت أستاذي يوما عن السبب في عدم إمكاني قراءة القرآن مثله دون خطأ، فقال: لأنك لم تتعلمي قواعد النحو.
ولما سألته إن كان في إمكاني أن أقرأ مثله بلا لحن ولا خطأ بعد تعلمي القواعد، أجابني بالإيجاب، فرجوته أن يعلمني القواعد، ففرح وقال لي: بكل سرور، وفي اليوم التالي أتى يحمل تحت إبطه كتاب النحو، فسأله سعيد آغا بعظمة وكبرياء: ما هذا الكتاب؟ قال: كتاب النحو، طلبته الآنسة نور الهدى لتتعلم القواعد، فقهقه الآغا وقال له: خذ كتابك ... لا لزوم للنحو؛ لأنها لن تكون محامية يوما من الأيام!
وقد أثرت هذه الصدمة الجديدة في نفسي تأثيرا شديدا، وبدأ اليأس يتسرب إلى قلبي ويتولاني الملل حتى أهملت دروسي، وصرت أكره أنوثتي؛ لأنها حرمتني متعة التعليم وممارسة الحياة الرياضية التي كنت أحبها، كما كانت تحول بعد ذلك بيني وبين الحرية التي كنت أعشقها ...
الفصل الرابع
كنت في التاسعة من عمري عندما ختمت القرآن الشريف، فأرادت والدتي أن تحتفي بهذه المناسبة بإحياء ليلة تتلى فيها آيات الذكر الحكيم تحت إشراف معلمي. ودعت بعض صاحباتها لتناول العشاء وسماع القرآن، فكان هذا أول يوم مفرح رأيناه بعد وفاة والدي.
ولما كنت أعلم أن الشيخ إبراهيم معلمي يتمنى الوصول إلى وظيفة شيخ جامع بلدته بمركز مغاغة، وأن يكون عنده «ركوبة حصاوي»، فقد أخبرت والدتي بذلك لتحقق أمنيته مكافأة له على تعليمي، ولما جاء في اليوم التالي يودعني، فرحت كثيرا لسروره العظيم عندما أعطته والدتي «ثمن الركوبة» وخطابا لعلي بك شعراوي الذي كان وصيا علينا وناظرا على أوقاف والدي لكي يتوسط في تعيينه شيخا لجامع بلدته، وقد عين فعلا.
ختمت القرآن، فظن من حولي أنني ملكت ناصية اللغة العربية والديانة. ولكني في الحقيقة لم أكن أستطيع قراءة شيء غير القرآن؛ لأنه مشكل، ولا أعرف من علوم الديانة إلا كيفية الوضوء والصلاة والصوم ومع ذلك فقد ساعدني على فك الخط والكتابة دراسة اللغة التركية التي تلقيتها على أيدي معلمين أكفاء مثل أنور أفندي وحسن أفندي الخطاط المشهور وحافظ أفندي ... وكان الأخير رصينا في الإلقاء ومجيدا في ترتيل الشعر التركي والفارسي، وقد نهجوا في تعليمي للغة التركية الطريقة الصحيحة، فتعلمت قواعدها والخط الرقعة والنسخ، وقد أفادني ذلك بالنسبة للغة العربية نظرا لتماثل حروف اللغتين.
وكنت أشتري من أمام الباب خلسة الكتب العربية من الباعة المتجولين، وكان ذلك محظورا علينا، ولم أكن أميز ما أشتريه، ولكن الكتاب الذي كان يسهل علي فهمه، كنت أفرح به وأقرظه وأقول إنه كتاب جيد، أما الكتاب الذي كنت لا أفهمه، فقد كنت أحكم عليه بأنه كتاب رديء وأهمله في دولاب صغير عندي.
وكنت بفطرتي أميل للشعر، ولذلك كنت أشتري كل كتاب فيه أشعار، وقد زادني ميلا إلى الشعر في طفولتي السيدة خديجة المغربية الشاعرة التي كانت تتردد علينا كثيرا، وتقضي عندنا أياما عديدة في غرفة تخصص لها طوال إقامتها، وكنت أذهب إلى غرفتها كل صباح، فأجدها تحت «الناموسية» في فراشها تكتب في أوراقها.
وإذا سألتها ماذا تكتبين؟ أجابتني إنها تكتب شعرا، فأطلب منها روايته فتروي لي ما نظمته، وقد بلغ من تعلقي بالشعر وحبي له في ذلك الوقت أن طلبت منها أن تعلمني نظم الشعر، فقالت لي: إنه يحتاج إلى الإلمام بعلوم كثيرة منها النحو والصرف والعروض، وقد كنت أجهل هذا تمام الجهل.
لقد كنت معجبة بتلك السيدة إعجابا شديدا؛ لأنها كانت تحضر مجالس الرجال، وتتباحث معهم في أمور أدبية واجتماعية بينما كنت أرى المرأة الجاهلة ترتعد فرائصها خوفا ويتصبب جبينها عرقا؛ إذا قضى الحال أن تحادث رجلا حتى ولو كان من وراء ستار، وقد أعطتني بذلك فكرة أن المرأة الفاضلة تستطيع أن تتساوى بالرجل إن لم تفقه ... فازددت إعجابا بها، وتمنيت أن أكون مثلها رغم دمامتها.
ولم يعد يكفيني ما أشتريه من الكتب بين الحين والآخر، وإنما أصبحت في مطالعة كتب والدي، لعلمي أنه كان رحمه الله يحب الأدب والشعر، وكان دائما محوطا بالشعراء والأدباء، ولذلك كنت أتحين الفرص لأتمكن من فتح مكتبه بتجربة المفاتيح التي كانت تحت يدي، وكانت معي فتاتان في سني تربيتا معي، إحداهما شركسية والأخرى مصرية، فكنت أعهد إليهما بمراقبة الدهليز في الوقت الذي أحاول فيه فتح خزانة الكتب، وكانت موجودة في غرفة التدريس. وأخيرا تمكنت من فتحها. وكم تألمت لما فوجئت بمنظر الشيكولاته التي كان يحتفظ بها والدي لنا، وقد أذابتها السنون، فسالت على الأوراق وتركت بها أثرا، ولكن حب الاستطلاع تغلب على عاطفتي، ودفعني إلى مد يدي المرتجفة إلى تلك الكتب، فآخذ منها كتابين دون معرفة ما بهما، وكان أحدهما الجزء الثاني من «العقد الفريد»، والثاني «ديوان أبو النصر» أحد شعراء ذلك العصر، وما زالا عندي حتى الآن. وأذكر أن أول قصة قرأتها هي قصة «المملوك الشارد» تأليف جورجي زيدان، وقد حببت إلي قراءة القصص التاريخية.
أما اللغة الفرنسية، فقد بدأت أتعلمها وأنا في سن التاسعة بعد ما ختمت القرآن. وكانت معلمتي إيطالية الجنسية تحسن تعليم الموسيقى أكثر من تعليم الفرنسية. وبهذه المناسبة أذكر كيف بدأت دراسة البيانو في تلك السن.
أشار الطبيب الذي كان يعالج أخي أن يشتروا له مهرا صغيرا «سيسي» ليتعلم ركوب الخيل - وهو إذ ذاك في السابعة من عمره - لأن الركوب رياضة سامية تقوي الجسم وتنشط حركة الأمعاء وفي الوقت نفسه لا تتطلب مجهودا كبيرا، فطلبت أنا أيضا أن يشتروا لي مهرا لأركب مثله، وحاولوا إقناعي بأن ركوب الخيل لا يليق بالبنات، ولكني دحضت زعمهم هذا بحجة دامغة، فضربت لهم مثلا بجارتنا ابنة الضابط لمعي بك التي تركب الخيل وتقود عربتها الصغيرة بنفسها، ولما عجزت والدتي عن إقناعي، خيرتني بين الحصان والبيانو، وكانت تعرف ميلي الشديد للموسيقى فنجحت إذ فضلت البيانو على الحصان، قائلة في نفسي: أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخي كلما أردت ...
ويمكن هنا أن أروي ما أتذكره من برنامج حياتنا اليومية، فقد كنا ننتهي أنا وشقيقي وفتاتان تربيتا معي من تلقي الدروس في الظهر، وبعد تناول الغداء، كانوا يأخذون أخي إلى غرفة النوم للراحة. أما أنا فكنت أنزل إلى الحديقة لألعب على الأرجوحة أو أقوم بتجاربي في تسلق الأشجار والأسوار أو تنسيق حديقتي الصغيرة؛ إذ كان لكل منا قطعة صغيرة في وسط الحديقة يزرعها كيف يشاء. وأذكر أنني بينما كنت أشتغل بزراعة حديقتي، كان يساعدني أحيانا في تنظيمها وإرشادي إلى فن الزراعة بستاني يدعى «متى» وكذلك الساقي الذي كان يخدم والدي، وهو عبد حبشي اسمه «عنبر» كان كثير المزاح والضحك، وقد أوهمني يوما بأن الدراهم تزرع وتؤتي ثمرها فأبديت رغبتي في زراعتها، فصار يأخذ مني قروشا ويدفنها أمامي في الأرض، ثم يوصيني بألا أخبر بمكانها أحدا حتى لا تسرق، وقال: إنها إذا سرقت لا نجني من وراء زرعنا ثمرا، واستمر الحال هكذا مدة طويلة وكنت كلما سألته على انفراد: لماذا تأخر ظهور شجر الدراهم؟ أجاب إن هذه الأشجار ليست كغيرها في سرعة نباتها، ولذلك فإن الدراهم غالية ولا يملكها كل إنسان. فانتظرت ولما أعياني الانتظار ولم أجد الأرض قد أنبتت ذهبا ولا فضة، سألت «متى» البستاني قائلة: هل الأغنياء يجنون كثيرا من النقود من زراعتهم الواسعة؟ فقال لي: نعم، فقلت له: لماذا إذن لم تثمر نقودي؟ فقصصت عليه القصة، فقهقه طويلا وقال لي: هل يعقل أن تزرع المعادن وتنبت؟ فكان ذلك درسا في إساءة الظن بالناس وعدم التسليم بما يقال بدون تحكيم عقلي أو الاسترشاد بمن حولي فيما لا أعرفه قبل القيام بمثل هذه المشروعات.
وقد زادني يقظة وحرصا، اختبار آخر أودى بما كنت قد ادخرته منذ عام من المصروف اليومي الذي كانت تعطيه لي والدتي ووالدتي الكبيرة.
كنت ألعب بعد ظهر أحد أيام رمضان في الحديقة كعادتي عندما رأيت سيدة ملثمة تهرول نحو المنزل، ولم أكن أعرفها، وقد عجبت لمجيئها في مثل هذه الساعة على خلاف العادة في رمضان؛ حيث تجري الزيارات ليلا بعد الإفطار، فتبعتها وصعدت السلم خلفها ثم رجوتها أن تنتظر في البهو حتى أخبر والدتي لمقابلتها. ولما دخلت غرفة والدتي وجدتها مستغرقة في النوم، فقصدت إلى غرفة والدتي الكبيرة، وكانت مستيقظة، فأخبرتها بوجود زائرة، فرفضت مقابلتها وأشارت إلى الخادم بإغلاق باب غرفتها، فرجعت إلى السيدة التي بقيت متسترة في برقعها الكثيف لأعتذر لها وأنا في شدة الخجل بأن كل من في البيت نائمون الآن. وسألتها عن حاجتها، فقالت: إنها زوجة أحد الباشوات من جيراننا، توفي زوجها الثري بعد أن فقد كل أمواله في أخريات حياته وتركها هي وأولادها في حالة سيئة من الفقر والبؤس حتى إنهم كثيرا ما ينامون جياعا. وكانت قد أتت لتطلب المعونة من والدتي، فتأثرت بما سمعت وعدت إلى غرفة والدتي لأوقظها ولكني لم أجرؤ على ذلك، وتذكرت المبلغ الذي وفرته من مصروفي لشراء بعض اللعب واللوازم، وكان داخل دولاب في غرفة والدتي، فمشيت على أطراف أصابعي وفتحته برفق واحتراس كي لا أوقظها، وأخذت المبلغ كله - وكان سبعة جنيهات - وأعطيته لها في خجل نظرا لضآلته، وكدت أصعق عندما اختطفت مني النقود وتركتني مهرولة نحو السلم دون أن تشكرني، فبقيت في مكاني لا أبدي حراكا، ولكني تغلبت على ذلك ورجعت إلى حسن ظني قائلة في نفسي لا بد إنها من فرحها واستعجالها لشراء الطعام لأطفالها نسيت واجب الشكر. وبذلك عاودتني الطمأنينة، ونزلت إلى الحديقة أستأنف اللعب وقلبي تملؤه الغبطة والرضا عن نفسي.
وبعد بضعة أيام، جاءتني إحدى جاراتنا لزيارة والدتي. وسمعتها في حديثها تقص عليها نبأ لص متنكر في زي امرأة أو لصة تدخل البيوت في ساعات الراحة لتسرق ما يمكنها سرقته، أو لتستغل رحمة أصحابها بطلب المعونة بزعم إنها من بيت عريق، وعندما سمعت ذلك، أسفت كل الأسف، ليس لضياع نقودي فقط، بل لأنني كنت للمرة الثانية ألعوبة الخادعين، وكتمت الأمر عن والدتي وكل أهل المنزل.
قلت إنني كنت أمضي كل أوقات فراغي في الحديقة، وأفضل اللعب فيها بعد الغداء على النوم، فإذا حل العصر، خرج «سعيد آغا» من غرفته، وأمرني في عبوس أن أصعد لتغيير ملابسي استعدادا للخروج للنزهة مع شقيقي الذي كان يقول لي بتهكم: أما تستحين من بقائك طول الوقت في الحديقة، وأنا مع كوني ولدا أمضي أكثر أوقاتي داخل المنزل؟ فكنت أرد عليه بحسرة قائلة: غدا ستنعكس الآية، وأنا التي سأبقى في البيت وتكون أنت خارجه.
ثم كنا نخرج مع «سعيد آغا» خائفين في معظم الأحيان، ذلك أننا إذا كنا قد أذنبنا في شيء نحو مربيتنا، فقد كانت تشكو إليه ذنوبنا وهو الذي يتولى القصاص. كان يأخذنا إلى الجبلاية ومعنا الفتاتان ويصعد بنا إلى قمتها، ويأمرنا واحدا واحدا أن نأتي إليه بفرع من فروع الشجر، ثم يسرد علينا ما وصله من الشكاوى ضدنا، وبعد ذلك يتلو الحكم على المذنب منا، ويأخذ منه الفرع قائلا: افتح يدك، ثم يضربنا على كفوفنا حسب درجة الذنب ويتركنا نبكي، وبعد ذلك يخرج مناديلنا من جيوبنا ويمسح لنا دموعنا، ويقول: الآن وقد نال كل منكم جزاءه، حذار أن يعود أحدكم إلى مثل ما فعل، وإن عدتم إلى مثل ذلك فسيكون العقاب مضاعفا.
وبعد ذلك يصبح طفلا مثلنا، يلعب معنا ويجري أمامنا ونجري خلفه، فكنت أنسى سيئاته بالحسنات التي تعقبها. وذلك بخلاف شقيقي الذي كان يضمر في نفسه كل شيء، وعندما يصل إلى داخل المنزل ويشعر أنه في مأمن منه، يصرخ صراخا عاليا وهو يصعد السلم، فتسرع والدتي لاستطلاع الخبر، فيشكو لها وهو يشهق بالبكاء ما فعله الآغا قائلا: ضربني هذا العبد.
وكنت أحدق فيه ببصري ليسكت، ولكن عبثا كنت أحاول إسكاته، ولما كانت والدتي تحقق في سبب عقابنا، كان يخبرها الآغا بأننا كنا نستحق هذا العقاب، ويقص عليها الأسباب، فكانت تهدئ من ثورة أخي قائلة: هذا مربيك ولم يفعل ذلك إلا لصالحك ...
كنت أحب «لا لا سعيد آغا» لأني كنت أشعر بحبه وإخلاصه لنا رغم ما يظهره من القسوة أحيانا، ولا أنسى مدى الحياة ساعة خطر رأيته فيها يضمنا إلى صدره ناسيا نفسه، وكان ذلك ذات يوم توجهنا فيه إلى الجزيرة للنزهة في عربتنا، وكان يجرها جوادان روسيان كبيران في غاية القوة، وكانا لم يخرجا منذ بضعة أيام، وما كدنا نجتاز كوبري قصر النيل حتى جمحا على جسر الجزيرة متجهين إلى منحدر نحو النيل. فذعر «سعيد آغا» وأخذنا بين ذراعيه وصرخ بأعلى صوته: آه يا أولاد سيدي ...
وكأن الله قد أراد أن يكافئ إخلاصه هذا بنجاتنا؛ حيث شكم السائق الجوادين بقوة، فوقفا تماما، ونزلنا من العربة حتى هدأت ثورتهما، ثم استأنفنا نزهتنا.
كان «لا لا سعيد» أبيا، معتدا بنفسه، مفاخرا بانتسابه لبيتنا، وكانت والدتي تعزه كثيرا وتعطف عليه؛ لأن والدي اشتراه صغيرا وعني بتربيته، وتعليمه في المدارس، وكان يحب والدي إلى درجة العبادة، ولما كبر، وجه حبه إلينا، وكانت والدتي تقدر فيه الحب لوالدي ولنا من بعده، وقد شببت وأنا أقدره وأعرف له فضل تربيتنا، وكان تأثير ذلك علي كبيرا.
كانت الأعياد والمواسم من أكثر عوامل بشرنا وسرورنا ... وكنا ننتظرها بفارغ الصبر ونستعد لها من قبل حلولها بمدة طويلة، وكنا نهتم بإعداد ثيابنا لهذه المناسبات، ولكن كثيرا ما كانت هذه الثياب تنغص علي وتعكر صفوي وتسلبني بهجة العيد وفرحته إذا ما حيكت على خلاف ما كنت أود. وكان يزيدنا حزنا وألما إنني لا أستطيع أن أجهر بذلك، فقد كان علي دائما أن أتسلمها صاغرة شاكرة دون إبداء أية ملاحظة أو اعتراض.
وكلما فكرت أنه كان من السهل تحاشي ما ينغص علي من جراء ذلك أو غيره من الأسباب، وددت لو أن العادات وقتئذ كانت تسمح للصغار بإبداء ما يجول بأنفسهم في شيء من الصراحة ... فالصراحة هي أساس حسن التفاهم بين الناس ... وقد حرمتني تلك العادات والتقاليد القديمة من التمتع بمزاياها وفوائدها، بحجة أنه لا يليق بالصغير أن يعارض أو يبدي رأيا، وإنما يجب عليه أن يأخذ كل ما يقال قضية مسلما بها، وأن يتقبل كل ما يعرض عليه دون مناقشة أو معارضة.
ولقد كانت والدتي - رحمها الله - محافظة متمسكة بالتقاليد ... وكانت ميالة إلى الخير والإحسان، ولذلك كان للفقراء في كل أعيادنا نصيب كبير من برها ... ففي ليلة السابع والعشرين من رجب، تحتشد جموع السائلين في الشارع على جانبي الطريق دون سابق دعوة إليهم، بل بحكم عادتهم في مثل هذا اليوم. وكانت والدتي تنزل إلى صحن الدار الفسيح لتشارك بنفسها في إعداد الفت واللحم والأرز ... وكانت الأبواب تفتح لأفواج السائلين فوجا بعد فوج، حتى يشبع الجميع ويحمل كل منهم في وعائه عشاء زوجته وأولاده وأهل بيته.
كان هذا المنظر يؤلمنا ويؤثر فينا، إذ كنا نرى بين هؤلاء المتسولين الضرير والأعرج والمقعد والمريض والعجوز ... فكنا نطلب من والدتنا أن تأمر بإعطاء من كان يستدر عطفنا بسوء حالته نقودا أكثر من غيره.
وكان لكل منا متسول أو أكثر يتردد بعد ذلك يوميا تقريبا. وكان متسولي رجلا مبتور الساق، وكان ينبهني إلى وجوده بقوله: «يا رب» ... وكان هناك أيضا مداح يدعى «عبد الرحيم» وكان خفيف الروح، يرتجل المدائح والمواويل وقد ظل يتردد على منزلنا إلى أن تقدمت به السن، فخصصنا له مرتبا شهريا، ويطول استمرار هذا الحال حوالي أربعين عاما، كان يعتبر نفسه كأحد المستحقين فيطالبنا بكل ما يلزمه، وقد توفي إلى رحمة الله عام 1938.
وكذلك كانت تفعل والدتي في ليلة النصف من شعبان وبعد انتهائنا من إطعام الفقراء، كنا نجتمع في غرفة واسعة، وتأتي «الشيخة جلسن» لتجلس في وسط الغرفة وتقرأ علينا دعاء نصف شعبان، ونحن نردد بصوت عال، وكان لهذا الدعاء في نفوسنا رهبة وروعة.
أما في ليلة القدر، فقد كنا نتوضأ قبل النوم ونصلي، ثم يترقب كل منا ظهور «طاقة النور» التي يستجاب الدعاء عند ظهورها، حتى يغلبنا النعاس.
وعندما كان يحل عيد الفطر ... كنا نستيقظ في الصباح الباكر، ونرتدي ثيابنا الجديدة ... ثم نخرج لزيارة أصدقائنا، وكنا نمضي باقي النهار في منزل ثابت باشا نلعب في حديقته، أو كان أولاده يأتون عندنا، وكانوا أقرب جيراننا.
وكنا نترقب عيد الأضحى الذي تنحر فيه الذبائح، فنستيقظ مبكرين لنرى توزيع اللحوم على المستخدمين والفقراء. وكانت «دادتي» تعد لنا الكبد المحمرة للإفطار قائلة: إن السنة تقضي بأن نذوق لحم ذبائح العيد.
وكانت الاستعدادات لعاشوراء تبدأ قبل موعدها بيومين أو ثلاثة أيام، وكنا نحن الصغار نشترك في نقش الصحون والأواني بالزبيب والصنوبر والجوز والفستق، وكانت الأسر الكبيرة تتبادل إهداء العاشوراء، وكم كان منظر الشوارع جميلا وهي مزدحمة بحاملي هدايا العاشوراء ما بين رائح وغاد، وجميعهم في ملابسهم الشاهية أو الحرير يتمنطقون بأحزمة جميلة ويحملون على رءوسهم الصواني ذات الغطاءات الزاهية.
ومن الأعياد التي كانت تدخل السرور علينا، مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كنا نخرج في المساء لنشاهد الصواريخ والسرادقات الجميلة ... ونشتري حلوى المولد من عرائس وخيل وغير ذلك من مختلف أنواع حلوى المولد.
أما يوم وفاء النيل، فكان له في نفوسنا روعة كبرى؛ حيث كنا نتخيل ما نسمعه من أن القدماء كانوا يزفون إلى النيل في ذلك اليوم أجمل فتاة مصرية، وكنا أحيانا نمضي الليلة في ذهبية المرحوم علي باشا فهمي، وكان منظر النيل في تلك الليلة بأنوار الذهبيات والمراكب المزدانة بالأعلام والأزهار والأنوار الملونة.
إن كل عيد من هذه الأعياد كان حقا مظهرا من مظاهر الاحتفاظ بالقومية المصرية الرائعة، التي نأسف أشد الأسف لتضاؤلها واضمحلالها بانتشار التقليد الإفرنجي في بلادنا، وميل الجيل الجديد إلى الاحتفال بالأعياد الإفرنجية بدلا من إحياء أعيادنا الوطنية الرائعة وتمجيدها وتخليدها كما يفعل الأجانب في بلادهم بأعيادهم الدينية والقومية ...
الفصل الخامس
لا يستطيع أحد أن يتحدث عن طفولته وذكرياته، وينسى البيت الذي نشأ فيه، وذكريات الطفولة في أرجاء هذا البيت.
وأذكر من طفولتي أنني كنت أجد تسلية كبرى في مشاركة مربياتنا في أداء الأعمال المنزلية المختلفة مثل نظافة البيت وغسل الملابس. وكن في البداية يتذمرن من اشتراكي في هذه الأعمال، ولكن عندما وجدنني جادة وراغبة، اشترين لي طستا صغيرا للغسيل، ولكنهن لم يكن يسمحن لي باستخدام المكواة إلا نادرا؛ لأنها كانت تملأ بالفحم، وكن يخشين علي من رائحة الفحم المحترق ومن تطاير الشرر من فوهتها.
إنني أجد سعادة قصوى في تذكر تلك الأيام النائية، وبخاصة عندما أصطدم ببعض العادات الحديثة التي تدفعني إلى استرجاع الماضي وما كان فيه من عادات وذكريات.
أذكر مثلا بيتنا الكبير ذا الحجرات الفسيحة والبهو الواسع، والذي كان يغص بالجواري والمماليك. كانوا مدربين على العمل، مخلصين في أداء واجباتهم، شاعرين بالمسئولية الملقاة على عواتقهم، محترمين مخدوميهم، محافظين على ما بين أيديهم من الأشياء، محبين لصغار مخدوميهم الذين ولدوا بين أيديهم، كل واحد يقوم بعمله خير قيام، ويشاركنا في السراء والضراء، ولا تمتد يده إلى شيء مهما كانت قيمته، ولا يطمع إلا في رضاء أولياء أمره. وكنا نبادلهم هذا الحب، ونقدر لهم هذا الإخلاص.
واليوم، أغمض عيني وأستعيد ذكريات الغرف الخالية واحدة بعد الأخرى، فأرى والدتي جاثية على ركبتيها تفصل ثيابنا فوق ملاءة بيضاء مفروشة على البساط في وسط غرفتها، أو جالسة على الشلتة وأمامها ماكينة اليد التي تحيك بها ثيابنا، أو تلعب الطاولة أو الورق مع صديقاتها مبتسمة متهللة إذا كانت هي الغالبة، أو تناقش بعض الأمور فيرتفع منها الصوت الذي تعودناه هادئا، وهي تدافع عن وجهة نظرها.
ثم أتحول إلى غرفة والدتي الكبيرة، فأراها مستلقية على سريرها وبيدها المصحف ترتل آيات القرآن الحكيم، أو تذاكر الدرس اليومي الذي فرضته على نفسها حبا في تعلم اللغة العربية وتعلقا بها. وأراها مرة أخرى جالسة في فراشها ومن خلفها خادمتها الصغيرة تدلك ظهرها بيديها الصغيرتين، فإذا رأيتها على هذه الحال، دنوت منها ورجوتها أن تسمح لي أيضا بتخفيف آلامها، فتضحك وتصرف الفتاة وتقول لي: قومي بدورك، فأصعد إلى السرير، وأتفنن في تدليكها بكل ما عندي من قوة.
وأتجول في أنحاء البيت، فأرى الجواري كالنحل يصعدن في الصباح الباكر إلى الدور العلوي، وتتوجه كل واحدة منهن إلى موقعها لتقوم بأداء ما هو مطلوب منها، بعد أن يشتركن جميعا في تنظيف البهو الفسيح.
وكانت غرفة المائدة لا تتميز عن باقي الغرف إلا بوجود دولابين في الحائط لحفظ الأطباق الفضية والأكواب، وحمالة الطست والإبريق التي كانت تشغل ركنا بجانب الباب، وكرسي مرتفع مستدير في وسط الغرفة توضع عليه صينية كبيرة وقت تناول الطعام، ثم ترفع بعد ذلك وتسند إلى الحائط.
أما غرفة الاستقبال فكانت فسيحة، وعلى جانبيها مرآتان كبيرتان، أمام كل واحدة منهما «كونسول» مذهب عليه قطعة من الرخام، وفي الوسط منضدة من الطراز نفسه، والمقاعد والكتب مذهبة ومكسوة بالحرير، وأمام كل كنبة منضدة صغيرة.
وكان يزيد من بهجة هذه الغرفة أبسطة ثمينة ونجفة جميلة من الكريستال والبرونز المذهب مدلاة من السقف، وعلى جانبي المرآتين مجموعة من المصابيح، وقد بقي كل ذلك مجللا بالسواد منذ وفاة والدي حتى قرب زواجي.
أما غرف نومنا فكانت بسيطة للغاية، تضم الأسرة والدواليب والمقاعد وبعض الأبسطة والثريات. وكانت مربياتنا يدخلن غرفتنا في الصباح لإيقاظنا، وتتولى «سياح» مساعدة أخي في غسل وجهه وارتداء ملابسه بينما تتولى «دادة زهرة» مساعدتي في ارتداء ملابسي وتمشيط شعري.
وكان بيتنا يسوده النظام ويشمله الهدوء وترفرف عليه الطمأنينة نتيجة الوفاق بين الخدم وحسن التفاهم والتعاضد بين من فيه، وظل حال بيتنا هكذا مدة طويلة، ولكن يبدو أن لكل فردوس شيطانا، وكان لا بد لفردوسنا من شيطان يعكر صفوه وينفث فيه سموم الفتن. وكان هذا الشيطان في شخص امرأة بدينة، قصيرة القامة، مستديرة الوجه، خضراء العينين حادة النظرات، رقيقة الشفتين، ذات أنف مدبب كمنقار الببغاء، وهي من أصل جركسي وتدعي «فطنات» وكانت معتوقة لأحد الباشوات وتزوجت في المنيا من رجل يمت بصلة إلى بعض محاسبينا، وكان يعمل كاتبا في إحدى المحاكم.
وقد جاءت فطنات ومعها طفلة في مثل سني تقريبا هي ابنة أخت زوجها اليتيمة التي تكفل بها خالها، وقامت هي بتربيتها، وكانت غاضبة؛ لأن زوجها تزوج من أخرى، فقابلتها والدتي كعادتها بالترحيب والإكرام، وقالت لها: اعتبري نفسك في بيتك إلى أن نعمل ما فيه راحتك. وأرسلت والدتي إلى زوجها تؤنبه فأتى بعد مدة طويلة يطلب الصلح، ولكنها أقسمت ألا تعود إليه، وطلبت منه الطلاق، فما كان منه أمام إصرارها إلا أن طلقها، وما كاد يحدث ذلك حتى شاهدنا منظرا لم نر مثله في حياتنا، إذ قامت «فطنات»، ثائرة تفتح صناديقها وتخرج منها ملابسه وتقذف بها إليه من النافذة إلى فناء البيت، ثم كادت تلقي إليه أيضا بابنة أخته؛ لأنه طلبها، وطوال ذلك الوقت كانت تتناهى إلى أسماعنا أنواع من السباب والشتائم لم نسمع بها من قبل، ولما كانت الطفلة قد مكثت عندنا مدة من الزمن ولعبت معنا وتعودنا عليها، فقد عز علينا فراقها وتمسكنا بها لدرجة أننا بكينا ونزلنا إلى خالها نرجوه أن يبقيها معنا، وبعد إلحاح وافق على أن تبقى في رعاية والدتي، بشرط أن نحميها، من شر «فطنات».
أما ليالينا فقد كنا نمضي معظم السهرات جالسات على «الشلت» حول فانوس كبير؛ لأن الكهرباء لم تكن قد انتشرت بمصر بعد. وكانت مربياتنا يقصصن علينا كيف أسرن، وكيف كانت بلادهن وعادات أهلها، حتى يغلبنا النعاس، فنأوي إلى فراشنا. وكانت تلك السهرات تطول وتكتسب كثيرا من الأهمية والبهجة عندما كانت تحضر لزيارتنا سيدة كانت تستخرج ماء الزهر ونسميها «الست الزهارة». كانت طويلة القامة، ضخمة الجسم، مستديرة الوجه، عليها سيماء الهيبة والوقار، ترتدي دائما الملابس البيضاء وعلى رأسها طرحة بيضاء. وكنا نحبها كثيرا وننتظر زيارتها بشوق ولهفة لنسمع منها القصص المسلية. ولشدة حبنا لها كنا نخفي إزارها لنضطرها للبقاء عندنا مدة طويلة، وكنا نترقب المساء لتتصدر المجلس وتقص علينا بصوتها الجهوري حكاياتها الممتعة، فنجلس حولها وكلنا عيون شاخصة وآذن مصغية. وكانت تخرج من قصة إلى أخرى إذعانا لإرادتنا وإلحاحنا. وكانت الغرفة في مثل تلك الليالي تكتظ بجميع أهل المنزل الذين يجيئون تباعا ويجلسون حتى تتسع الدائرة وتبلغ باب الغرفة، وما كان النعاس في تلك السهرات يتسرب إلى أجفاننا حتى نرغم على القيام للنوم، فكنا نتوسد الفراش ونتخيل ما كانت تقصه علينا، ونسبح في عالم الخيال. وأظن أنه كان لهذه السيدة الفضل الأكبر في اتساع دائرة خيالنا.
وقد استمرت هذه السيدة تتردد علينا طوال حياتها كما كانت تتردد على كل البيوت الكبيرة لتبيع ما تستخرجه من ماء الزهر وماء الورد وغير ذلك من المياه العطرية.
وكانت تأتي على عربة نقل تسميها «الفيتون» ... ولما كانت تدخل منزلنا، كان يمتلئ الجو بتلك الروائح الزكية، كما كان يمتلئ فرحا.
وكانت صورتها تختلف تماما عن البائعات الجائلات اللاتي كن يحضرن أحيانا، وهن يحملن بضائعهن داخل ربطات «بقج» أو يحملنها لفتيات صغيرات يصحبنهن لهذا الغرض، ثم يفتحن هذه الربطات وسط الغرفة ويعرضن بضائعهن على أهل المنزل، وللترغيب في شرائها كن يذكرن أن حرم فلان باشا اشترت من هذا القماش، وكريمة فلان بك اختارت هذا النوع، وهكذا ... وإذا سأل أحد عن تلك السيدات، انطلقن يسردن ما رأينه في بيوتهن أو ما سمعنه عنهن مع المبالغة في سرد هذه الأخبار.
وكنت أكره هؤلاء النسوة؛ لأني كنت أعلم إنهن كثيرا ما تسببن في خراب البيوت الكبيرة ماديا وأدبيا عن طريق الربا الفاحش أو بذور الخلاف والشر ... وكانت صديقتي «مدام ريشار» هي التي حذرتني منهن، وروت لي حوادث واقعية كن بطلاتها، وقد تحققت من ذلك عندما كبرت وحاولت بعضهن استغلال الشقاق الذي كان بيني وبين زوجي في التدخل في أموري. وقد وصلت الجرأة بإحداهن أن صرحت لي يوما بأنها وزوجها يشفقان علي ويضعن نفسيهما رهن خدمي وأن زوجها بما له من الاتصال بعظماء البلد يمكنه أن يساعدني على الطلاق من زوجي، وأن في إمكانه أن يأتي لي بفتاة تخول لي حق الانفصال عنه، ولكن هذا يستدعي مصروفات كثيرة. وكانت صديقتي «مدام ريشار» قد حذرتني من هذه المرأة بالذات ... وكنت لحسن ظني بالناس أتصور أن صديقتي تغالي أحيانا في سوء ظنها بهم، ولكن في تلك الساعة ظهرت لي هذه السيدة في صورتها الحقيقية، فقلت لها وقد منعني الحياء لصغر سني من طردها أو إظهار امتعاضي منها أو سوء ظني بها، إنني لا أملك المبالغ التي يتطلبها مثل هذا العمل، فقالت لي في خبث ودهاء: إن عندك من الجواهر كثيرا، فيمكنك أن تبيعي منها، فأجبتها بأن والدتي هي التي تحفظ لي هذه الجواهر، فقالت: يمكنك أن تعطيني فردة من هذا القرط الجميل الذي ترتدينه، وأعتقد بأن ثمنها يفي بكل المصروفات ويزيد، وإذا سألتك والدتك عنه فقولي لها إنه فقد منك في زيارة أو فرح، عند ذلك تجلت لي في صورة أبشع مما صورتها لي صديقتي، فقلت لها وقد أعيتني الحيلة: إنني أبغض الكذب، ولا أريد الانفصال عن زوجي ولا أسعى إليه ...
وكانت هذه هي الحقيقة ...
ولكن هذا الموقف لم يثن من عزمها، بل أخذت تتحين الفرص للتقرب مني واستغلال سذاجتي لتصل إلى الاستفادة المادية التي تنشدها، فلما اشتريت قطعة الأرض التي بنيت عليها فيما بعد منزلي الحالي، كان الشراء بوساطة زوجي الذي كان وكيلا عنا، وقد حاولت هذه السيدة أن تدس عليه، فسألتني يوما عن ثمن المتر من هذه الأرض، فأجبتها، فقالت لي: كم يظلمونك. إن هذه الأرض لا تساوي نصف ثمنها. فأثر في ذلك وصدقته إلى حد ما، ولكن لم يمض شهر حتى عادت تقول لي إن زوجها وجد مشتريا لهذه الأرض بالقيمة التي دفعت فيها، ونصحتني بأن أنتهز هذه الفرصة فأبيعها وأشتري بثمنها قطعة أفضل منها، فرفضت.
وعادت بعد أسبوع تعطيني فيها 50٪ زيادة على ثمنها الأصلي، فأظهرت لها دهشتي من عرض هذه الزيادة وقد كانت منذ حين تبخس قيمة هذه الأرض، وظلت تتردد بين الحين والآخر تزيد في الثمن حتى بلغ ما عرضته ثلاثة أضعاف الثمن الأصلي، وكان نصيبها الرفض في كل مرة.
ولقد وصلت الجرأة بزوجها إلى أن يتسلم عربونا لبيع الأرض أثناء غيابي عن مصر، دون تفويض مني يخوله ذلك، كما أرسل إلي برقية يخبرني فيها أنه تسلم العربون ويطلب موافقتي على البيع، فكان ردي هو الرفض البات، فأثار هذا حقده، وحول مؤامراته للدس لي عند زوجي وشقيقي بخطابات مجهولة الإمضاء يحمل علي فيها، ولما ضقت به ذرعا، سردت على صديقتي حرم المغفور له حسين رشدي باشا هذه القصة، وسلمتها خطاباته لتطلع زوجها عليها، وكان لدي خطاب منه بخط الخطابات المجهولة نفسه ... وكان رشدي باشا يشغل في ذلك الوقت منصبا كبيرا في وزارة الحقانية، فما كان منه إلا أن استدعاه وهدده بالنفي من مصر في ظرف أربع وعشرين إذا لم يرتدع، وبعد ذلك لم أسمع عنه أو عن زوجته شيئا. وهكذا نجوت منهما.
ولعل هذه القصة تكون درسا للسيدات والفتيات، فيأخذن حذرهن من أمثال هؤلاء النسوة اللاتي يترددن على البيوت، ويمشين بالشر بين أهلها.
كانت هذه هي صورة تسليتنا في حياتنا العائلية على ما كان بيتنا فيه من حداد.
وكان يزيد في اغتباطنا زيارة أصدقاء المرحوم والدي لنا، وحدبهم علينا، واهتمامهم بنا، وأذكر منهم الزبير باشا والشيخ علي الليثي والأنبا كيرلس بطريرك الأقباط وقليني فهمي باشا وحسن حسني باشا وثابت باشا الذي كانت تربطنا بأبنائه أواصر صداقة منذ الصغر؛ لأنه كان جارنا وصديقا لوالدي، كما كانت والدتهم صديقة لوالدتي.
وكنا نقضي أغلب أوقاتنا في اللعب والمرح في حديقتهم الفسيحة المترامية التي كانت تشغل كل الأرض التي بنيت عليها لوكاندة سافوي القديمة وعمارة بهلر الحديثة. وكان ممرنا الموصل إليها حديقة قطاوي باشا التي كانت تمتد من شارع الشريفين إلى ميدان سليمان باشا. وكثيرا ما كنا نلعب في تلك الحديقة ومعنا أنجال قطاوي باشا.
ومن كثرة اختلاطي بالصبيان ولعبي معهم، تطبعت بطباعهم وشببت عليها، وهنا أقرر أن اختلاط الجنسين منذ الصغر إن لم يكن له تأثير حسن في تربية الأطفال، فليس من ورائه الضرر الذي يحدث من الاختلاط في أدوار المراهقة وما بعدها؛ لأن اختلاط الأطفال يجعلهم يشبون على عدم الفوارق، وتربطهم الصداقة البريئة ومن كثرة تعود بعضهم على بعض يصبحون كأنهم إخوة.
وأؤكد أن كثيرا من الفتيات اللاتي تآخين منذ الصغر مع زملائهن من الفتيان؛ كن أقل علما بكثير من الأمور التي عرفها أترابهن ممن تعارفن في سن كبيرة، فما من شك في أن الفوارق والنزعات في هذه الأعمار تكون ظاهرة ومحسوسة ... أما الاختلاط منذ الصغر وبين أولاد من طبقة متساوية تربوا على أساس من الحشمة والاحترام، فهو قليل الشوائب والأخطاء.
الفصل السادس
كنت أحب أخي حبا متناهيا رغم غيرتي منه، وكان يزيد من عطفي عليه ضعف صحته، ويزيد من حبي له أنه سيحيي اسم والدي الحبيب، ويرفعه بما كان يتحلى به من صفات حميدة.
ولقد ضاعف من تعلقي بأخي ذلك الحادث الذي وقع ذات يوم، وتجلى فيه فرط حبه لوالده؛ ذلك إننا كنا نلعب ذات يوم في شرفة الطابق العلوي، ولم يكن معنا أحد، فذكرت له أننا على موعد مع أولاد ثابت باشا، وأن هذا الموعد قد أزف، وعلينا أن نستبدل ملابسنا استعدادا للزيارة، وبخاصة أن والدهم يريد أن يرانا. وعندئذ نظر إلي أخي بحزن وسألني: لماذا ليس لنا أب مثلهم؟ ولماذا لم يعد والدنا من سياحته الطويلة كما تقول لي مربيتي كلما سألتها عنه؟ ألا يشعر بالشوق إلينا مثل ثابت باشا؟ قلت له: ألا تعرف السبب؟ قال: لا. فهل تعرفينه أنت؟ قلت: نعم، ولكن إذا أطلعتك عليه فهل تعدني بأن تحتفظ بهذا السر دون أن تبوح به لأحد؟ قال: نعم ... تعدني بذلك، قلت له: إنهم يكذبون علينا ... إن والدنا لن يعود إلينا أبدا ... فقال في دهشة واستغراب: لماذا؟ قلت: لأنه قد مات! ...
وكم ندمت على خروج هذه الكلمة من فمي؛ لأنه كاد يصعق من هول المفاجأة، وارتمى على الأرض يبكي وينتحب ويصرخ صراخا عاليا، وانحنيت عليه باكية أحاول أن أهدئ من روعه وأكفكف عبراته ... ولكن حناني لم يهون عليه شيئا، بل ظل على هذه الحالة إلى أن سمعته والدتي، فهرولت نحونا صارخة: ما لك يا خطاب؟
وعندئذ تواريت خلف الباب وأنا أرتعد خوفا وفزعا، مخافة أن يطلعها أخي على ما قلته له، فتحقد علي، ومالت عليه والدتي ورفعته عن الأرض وضمته إلى صدرها وهو ما زال يبكي دون أن يجيب عن أسئلتها ... فظنت أني ضربته، فالتفتت إلي غاضبة وسألتني: هل ضربته؟ فرد عليها وهو يشهق قائلا: لا ... أبلة لم تفعل لي شيئا! ...
وتعجبت والدتي من أمره، وظلت تحاول تهدئته إلى أن نام في حضنها، وأمضينا ليلة سوداء؛ لأن ذلك الانفعال أثر في صحته الضعيفة، فقضى يومين أو أكثر دون أن يقوى على مغادرة فراشه، واجتهدت والدتي أن تعرف منه السبب، فلم يعترف لها بشيء. ولما كان لا يعرف الكذب، فإنه لم يستطع أن يهدئ خاطرها.
وهكذا بر أخي الصغير بوعده، وشب على هذه الفضيلة، ولم يعد يسأل بعد ذلك عن أبيه؛ لأنه عرف مكانه، ومنذ ذلك اليوم زاد تقديري لأخي، وتضاعفت محبتي له، وشعرت أنه يغمرني بحبه أكثر من ذي قبل ويسر إلي بخفايا نفسه، وقد ظل الحب بيننا متبادلا وكبيرا حتى فرق بيننا القدر، وكانت وفاته أقسى صدمة واجهتني في حياتي.
كانت في حياتنا الأسرية صداقات وطيدة، وفي مقدمة السيدات اللائي كنت أكن لهن الحب والاحترام، المغفور لها سمو الأميرة أمينة إلهامي قرينة الخديوي توفيق، فقد كنت أجد منها العطف والمجاملة، ولذلك ظلت منزلتها في نفسي كما كانت حتى الآن.
وقد عرفتها وأحببتها وأعجبت بجمالها وجلالها وأنا طفلة بعد وفاة والدي، إذ كانت والدتي تأخذنا معها إلى السراي كلما التمست المساعدة في أمورنا وأشغالنا، أو حسم النزاع بالنسبة لبعض مشاكل الميراث، وأذكر أنها كانت تنظر إلينا في حنان، وتأمر الجواري بأن يذهبن بنا إلى غرفة أولادها الأمراء والأميرات، فكنا نلعب معهم حتى تنتهي زيارة والدتي وتستأذن للانصراف.
وأذكر أن أخي الذي لم يكن قد تجاوز الرابعة من عمره، قد أعجبته ذات مرة لعبة كبيرة من لعب الأميرات، وأصر على ألا يخرج بدونها، وعندما عرفت الأميرة الوالدة أمرت بإعطائها له، فخرج مسرورا بينما كنت أتصبب عرقا من الخجل لأني بحكم السن كنت أدرك أكثر منه ما يليق وما لا يليق.
ومن بين هؤلاء أيضا سيدة فرنسية كانت زوجة أحد كبار مهندسي الري في الوجه القبلي، وكانت قد جاءت إلى مصر مع خالها وهو مهندس أيضا؛ حيث لم يكن لها من عائل سواه إذ كانت يتيمة الوالدين. وقد أحبها ريشار وتزوج منها ، ثم مات خالها وبقيت هي مع زوجها في مصر.
وكانت هذه السيدة خفيفة الروح، رقيقة الحاشية، جذابة أكثر منها جميلة، وكانت ذات عينين سوداوين فاتنتين مثل شعرها الفاحم. وكان زوجها يفوقها جمالا تزينه الرجولة والشجاعة والمروءة. وكانت زوجته مكروهة من النساء، وكان هو أيضا مكروها من الرجال؛ لأن حبهما المتبادل الوثيق لم يسمح لأحد أن يطمع في الوصول إليهما.
وفي ذلك الوقت، كان أحد الباشوات يشغل منصب مفتش عام الوجه القبلي، قبل أن يشغل والدي هذا المنصب، فكان بحكم وظيفته رئيسا للمسيو ريشار، وكثيرا ما كان يدعوه مع زوجته إلى سراياه ويحتفي بهما حفاوة بالغة. وقد فهمت مدام ريشار من مجاملته لهما وكثرة تردده عليهما أنه يقصد استمالتها إليه، فصارت تحتجب عنه وتعتذر عن قبول دعوته وإذا أتى للزيارة في غياب زوجها امتنعت عن مقابلته، وكان من نتيجة هذا الصد من جانبها أن فصل زوجها من عمله، ولما كانا فقيرين لا مورد لهما إلا الوظيفة، فقد ذاقا مرارة العيش وبؤسه مدة طويلة، تحملاها بصبر في سبيل الذود عن شرفهما وكرامتهما. ولم تشأ عدالة السماء أن يستمر عذاب هذين الزوجين البريئين طويلا، فنقل هذا الباشا إلى وظيفة أخرى، وخلفه والدي الذي كان على علم بما نالهما من جور سلفه، فأعاد ريشار إلى وظيفته وأولاه كثيرا من عطفه وتقديره، وقد جعلهما هذا الموقف يدينان بفضله. وبقيت هذه المودة إلى أن توفي المسيو «ريشار» عام 1883 أي قبل وفاة والدي بسنة واحدة، ومنذ ذلك الوقت تحول حب هذه السيدة نحونا بإخلاص شديد، وكان لي من هذا الحب أوفر نصيب؛ لأنها كانت ترى في صورة شبيهة بصورة والدي وأخلاقه، فتعلقت بي تعلقا شديدا كان له الأثر الكبير في تربيتي معنويا وأدبيا. وأعتقد أنني قدرت شعورها نحوي حق قدره، فبادلتها هذا الحب طول حياتها ... وكانت عندي المثل الأعلى للوفاء والإخلاص والأمانة، وكانت والدتي من قبل قد آنست فيها هذه الصفات، فكانت تعهد إليها بالبقاء معنا كلما تغيبت عنا أو سافرت المنيا لزيارة قبر والدي. ولم تكن تأتمن أحدا غيرها علينا.
وكانت مدام ريشار في هذه الأثناء تلازمنا ليل نهار وتراقب دروسنا وتحثنا على الدرس والتحصيل وتلعب معنا كأنها طفلة وتلقي علينا النصائح والحكم، وعندما كانت تعود والدتي، كانت تغادرنا آسفة على فراقنا، وكثيرا ما كانت تأتي لتصحبنا لمشاهدة السيرك والحفلات المختلفة، وعندما كان يسألها أحد عما إذا كنت ابنتها، كانت تطير فرحا وتقبلني قائلة: إذن هدى تشبهني.
كانت «فطنات» وصيفة والدتي تكرهني كرها شديدا ... وكانت أيضا تكره مدام ريشار من أجلي؛ لأنها كانت تدافع عني وتحميني من شرها. قد حاولت هذه الوصيفة مرارا أن تشي بمدام ريشار عند والدتي، وقد نجحت فعلا في آخر الأمر، وكان علي أن أدافع عن صديقتي وأنفي عنها ما كانت ترميها به «فطنات» من تهم.
وكانت تتمادى في الإساءة إلى من في البيت، وفي مقدمتهم فتاتان مصريتان تربيتا معي ... وقد ظلت كذلك إلى أن هربت الأولى «فردوس» من المنزل، ولجأت إلى دار الحرية، ورفضت العودة إلى البيت؛ رغم حبها الشديد لي، وبقيت أنا والفتاة الأخرى «ياسمين» نتقاسم اللعنات التي كانت تصبها علينا، وفضلا عن ذلك فقد كان علي أن أواجه محاولتها بذر الشقاق بيني وبين أخي، فقد كنت أنصحه بالمواظبة على دروسه والجد في طلب العلم، بينما كانت هي توحي إليه بأنه غني ومثله ليس في احتياج للتعليم. وما زالت وراءه تحضه على التراخي والتكاسل حتى اتسعت بيني وبينه شقة التنافر وقد أرادت أن تستغل هذا الخلاف لتقصيه عني، ولكنها فشلت في أن تؤثر في عواطفه نحوي.
وقد استمر الحال على هذا المنوال حتى ناهزت الثالثة عشرة من عمري، فتقدم لطلب يدي من والدتي شاب من رجال القصر، وكان ذلك في أواخر عهد الخديوي توفيق، ولكن والدتي لم تقبل طلبه، وقد علمت بذلك مصادفة فيما بعد.
فقد حدث عندما كنت في دور النقاهة من مرض ألم بي، وكانت والدتي تجلس بجانب فراشي فغلبني النعاس، وعندما أفقت من النوم، وجدتها في جانب من الغرفة ومعها خالتي تتبادلان حديثا يشوبه الجد، وسمعت خالتي تقول: إنه سيأخذها رغما عنك؛ لأنه سيطلبها من الخديوي، وحينئذ لا يمكنك إلا الإذعان لأمره. فردت عليها والدتي قائلة: وهل ابنتي بلا عريس؟ إنني سأزوجها من ابن عمتها، فقالت خالتي: حرام عليك أن تفعلي ذلك، وتزوجي هذه الطفلة من رجل له أولاد أكبر منها سنا، فقالت لها أمي: إنه ابن عمتها وصاحب الأمر في كل شيء ... عندئذ غضبت خالتي وقالت لها سنرى من الذي يفوز في النهاية؟ ...
وشعرت كأن الغرفة تدور بي، وبكيت في صمت بكاء مريرا، وتذكرت ما كنت أسمعه من الجواري والمربيات عندما كان يأتي ابن عمتي لزيارتنا، فقد كن يقلن لي إذ ذاك: لقد أتى عريسك فأنزلي لتسلمي عليه.
وبعد فترة من هذا الحديث لاحظت أن ابن عمتي يكثر من المجيء إلى مصر، ويجالس والدتي كثيرا، فكان يداخلني الشك في أن الأمور تسير في مجرى التحقيق، ولكن كان يزول هذا الشك عندما كنت أرى والدتي تناقشه في غضب وحدة، ولذلك فإنني بتوالي الأيام نسيت هذه المسألة.
إلى أن جاء يوم نادتني فيه والدتي، وكان أمامها صندوق مليء بالحلي والمجوهرات من محل نجيب بك الجواهرجي ... وقد خيرتني في انتخاب قطعتين منها فسألتها عن السبب في ذلك، فأجابتني بأن هذا وفاء لنذر عليها نذرته لشفائي من مرضي. وصدقت، واخترت عقدا جميلا وسوارين من الماس ... ثم هرولت إلى غرفة والدتي الكبيرة لأريها هذه الهدايا النفيسة لتشاركني فرحتي بها، وكانت وطأة المرض قد اشتدت عليها، ورغم ذلك فرحت لفرحتي ونثرت علي عطرا كان بيدها، ولولا وفاتها بعد ذلك، لكنت قد علمت منها الحقيقة، ولكن للأسف لم يعد بعد وفاتها من يكاشفني الحقائق أو يفسر لي ما يتعسر علي فهمه.
ولقد حزنت عليها حزنا عميقا، وكانت قد أهدت لي خاتما يوم ختمت القرآن، فأصبح هذا الخاتم تذكارا خالدا وعزيزا لا يفارق إصبعي.
وقد لاحظت بعد ذلك أنه كلما أتت زائرة لوالدتي، صعدت «فطنات» إلى الطابق العلوي، وأخرجت قطعتي الماس من الدولاب وعادت بهما إلى غرفة الضيوف لتتفرج عليهما الزائرات. وكنت أبدي دهشتي لذلك، وأخجل من أن يظن الناس أننا حديثو نعمة!
ثم لاحظت بعد ذلك أن «فطنات» وبعض الجواري يهيئن «الشور» وهي عبارة عن قطع مربعة من الحرير أو التيل الأبيض مزركشة بخيوط الذهب أو الفضة.
ولما كنت أدرك أن هذه القطع تهدى للمدعوين يوم عقد القران، فقد سألت لمن تعدون هذه «الشور» فقيل لي: إنها لقران ابنة أحد الباشوات الذي سيعقد قريبا ...
ثم رأيت بعض إصلاحات تجري في المنزل، وقررت والدتي أن نقضي فصل الشتاء في حلوان إلى أن يتم الإصلاح ... فاستأجروا لنا بيتا صغيرا بالجهة الشرقية قرب الأرض المقامة عليها المصحة الآن ... وكانت من قبل خالية تؤدي إلى الجبل.
فسافرنا إلى حلوان دون أن يساورني أي شك من ناحية هذه الاستعدادات.
وقد أعجبتني تلك الضاحية الرائعة التي كانت في أبهى حلل بهجتها في ذلك الوقت؛ حيث كان الخديوي توفيق يتخذها مشتى له، كما كانت أغلب العائلات الكبيرة تقضي فصل الشتاء فيها. ويؤمها في أيام الجمع والآحاد والأعياد معظم أهل القاهرة للنزهة وقضاء الوقت في الكازينو ودور التمثيل. وكان الشيخ سلامة حجازي رحمه الله يمثل في مسرح الكازينو روايات تاريخية غاية في الإتقان والإبداع، ولما كنت أميل كثيرا للروايات المسرحية وأحب الموسيقى، فقد صادفت حلوان في نفسي قبولا وسرورا، فضلا عن أن المرأة لم تكن تخرج كثيرا في المدن في ذلك الوقت، ولذلك كانت تجد في حلوان بعض الحرية التي لا تتمتع بها في القاهرة فتخرج النساء للنزهة هناك.
وقد حدث ذات يوم أن جاءت إحدى صديقاتي من القاهرة لتقضي معي بضعة أيام في حلوان، وفرحت كثيرا، وخرجت معها بعد الظهر، لأطلعها على ما في حلوان من روعة وجمال، ولم نكد نتجه إلى المحطة حتى فوجئت بقدوم «سعيد آغا» عابسا ليقول لي: إلى أين أنت ذاهبة؟ عودي إلى البيت فورا.
وأذعنت لأمره رغما عني ... وعدت ومعي صديقتي. فلما دخلت أدهشني وجود معلمة اللغة التركية بالباب. ولما سلمت عليها، وجدت بيدها طرحة بيضاء وضعتها على رأسي في الحال، ثم وضعت مصحفا تحت إبطي، فازدادت دهشتي من هذا العمل الذي لم أتعوده أو أفهم له معنى. ثم جاء سعيد آغا وخلفه علي بك فهمي وزوج خالتي سعد الدين بك، فهرولت إلى غرفتي ... وعندما وجدتهم يتبعونني، لجأت إلى النافذة وأعطيتهم ظهري ففاجأني علي بك قائلا: إن ابن عمتك علي بك شعراوي يريد الزواج منك ... فمن توكلين منا؟
في تلك اللحظة بالذات، فهمت معنى كل تلك الاستعدادات وهذه الأشياء التي لم يمكنني تفسيرها من قبل. وأخذت أبكي وأنا مولية لهم ظهري ... ولما طال وقوفهم، تقدم «سعيد آغا» وهمس في أذني: أتريدين إغضاب روح والدك والقضاء على والدتك المريضة ... إنها في غرفتها تتلوى على سرير المرض وتبكي ... وربما لا تحتمل الصدمة إن أنت رفضت.
وأصابت مني هذه الكلمات مواطن الضعف، فقلت لهم: افعلوا ما تشاءون، وخرجت مهرولة إلى غرفة والدتي، فاصطدمت بمسمار كان في جانب الباب، فشج رأسي وأسال دمائي، وكان المنظر محزنا ومؤلما فبكت صديقتي وبكى كل من حولي.
وهكذا أمضيت مدة إقامتنا في حلوان حزينة النفس دامعة العينين، كلما فكرت في أنني سأزف إلى ابن عمتي. وكان سبب عدم رغبتي في الزواج منه هو أنني شببت أراه عميدنا، والمشرف على شئوننا إشراف الأب أو الأخ الأكبر، الذي يجب أن أخشاه وأحترمه، ثم أتذكر أنه أب لثلاث بنات يعشن معه ومع أمهن، وأن ابنته الكبرى كانت تعيرني بأنني سأكون زوجة أبيها ... وكانت كلما أرادت إغاظتي نادتني «يا امرأة أبي»، ثم أتذكر أيضا أنني كلما ذهبت لتحيته، لم أجد منه تلطفا في الحديث، على خلاف معاملته لأخي.
ولما انتهت إقامتنا في حلوان وعدنا إلى القاهرة، وجدت تغييرا عظيما في منزلنا، وبدأت الخياطة تتردد علينا لإعداد ثياب الجهاز، فكنت أرفض ارتداءها ولا ألتفت إلى شيء مما يدور حولي، إلى أن اقترب موعد الزفاف وبدءوا في إقامة الزينات، وقد لاحظت أن والدتي كانت خلال هذه الفترة دائمة الثورة والغضب، تماما كما كانت عندما خطبت، ولكني لم أعلم سبب ذلك لأنني كنت أتجنب السؤال عن أي شيء.
وحتى يوم حفلة زواجي، كنت أجهل الاستعدادات التي عملت من أجلي، ولا أعرف الجناح الذي أعد لي في المنزل ... فأخذتني والدتي للفرجة عليه، وهنا أعترف بأن ما رأيته من الرياش الفاخر قد أدخل على نفسي شيئا من السرور، وغابت عني الحقيقة التي كنت أخشاها أمام هذا الجمال الساحر.
ولما بدأت ليالي الفرح الثلاث، أخرجني ما سمعته من الموسيقى وما رأيته من المظاهر المفرحة عن تلك الأحاسيس التي كانت تنتابني، وكنت أضحك وأمرح مع زميلاتي اللائي يحضرن هذه الليالي، حتى ظن أهل البيت أن الحالة الأولى لم تكن إلا مظهرا من مظاهر الخجل التي تستولي على الفتيات في مثل هذه الظروف. وزاد من فرحي ما رأيته ليلة الزفاف من العناية الفائقة بشخصي، وكدت أطير من الفرحة عندما دخلت غرفة الزينة وارتديت حلة العرس المزركشة بالذهب والفضة، وأذهلني لمعان الماس والجواهر التي حلوا بها صدري وتوجوا رأسي وزينوا ساعدي. وتصورت أنني سأبقى في هذا الزي وعلى هذه الحال إلى ما شاء الله.
ولما أقبلت المغنيات لزفافي إلى الجناح الذي أعد لي، وكان على مسافة طويلة، وبدأت أشعر بثقل هذه الأشياء، فصرت أتوكأ على زميلاتي فتيات الشرف وأنا أسير بين الشموع المتوهجة ورائحة الأزهار الزكية حتى وصلت إلى البهو الكبير، وهناك رأيت حشدا ضخما من السيدات المصريات والأجنبيات في ثياب السهرة البديعة، وكلهن عيون شاخصة إلي، مليئة بالتأثر والحنان.
وعندما أجلسوني على عرش العرس، جاءت السيدات الأجنبيات كل بدورها تضم يدي وتقدم إلي باقة من الورد أو تضعها تحت قدمي في شيء من التأثر. ولم أفهم وقتئذ أن هذا الشعور كان رفقا بطفولتي لتزويجي في تلك السن المبكرة.
وعلى قرع الطبول، انصرفت السيدات ودخل الآغا معلنا قدوم العريس. ودخل وصلى ركعتين، ثم قام وأقبل نحوي ورفع القناع عن وجهي، وقبلني على جبيني، ثم أخذ بيدي وصعد بي إلى عرش العرس، وجلس إلى جانبي يحدثني حديثا لم أفهم منه شيئا، ثم أتوا كما هي العادة بكأسين من الشربات الأحمر، فأعطاني كأسا وتناول الأخرى.
في صباح اليوم التالي، نظرت من نافذة غرفتي للترويح عن نفسي بمشاهدة السرادق الكبير المزين بأفخر الأبسطة والرياش والأنوار الزاهية التي خلبتني في الليالي الماضية ... ولكني انقبضت عندما رأيت أيدي الهدم تعمل فيه، كما وجدت أرض الحديقة التي كان منصوبا عليها خالية من تلك الأشجار العديدة التي كنت أحبها، وكان لي مع كل منها شأن وذكرى.
كل تلك الأشجار التي كنت أحبها وآنس إليها وأتسلقها وأتأرجح عليها في طفولتي، والتي كانت من غرس والدي وكان يحبها مثلي ويعتني بها. أصبحت أثرا بعد عين فداء ليلة واحدة ظننت أنها ستبقى ببهائها وجلالها، ولكنها سرعان ما تلاشت كالحلم الجميل.
بكيت على أشجاري، وبكيت على طفولتي، ورأيت في تلك الحديقة الجدباء صورة من الحياة التي سأعيشها منفصلة عن كل ما كان يؤنسني ويسليني ... فابتعدت عن النافذة كاسفة البال محزونة القلب، وصرت أتحاشى النظر إليها مدة طويلة حتى لا تعاودني تلك الذكريات الأليمة.
الفصل السابع
بعد زواجي، تعود شقيقي أن يعود كل يوم من مدرسته فيقصد الجناح الذي أسكنه وكتبه تحت إبطه ليراني قبل أن يذهب إلى الجناح الخاص به وبوالدتنا. وكان ذلك يدخل كثيرا من السرور على نفسي وقلبي.
على أنني كنت ألمح تغيرا في نظراته، فقد كان يقف أمامي شاخصا إلي ببصره في كلفة لم أتعودها منه، وكنت كذلك أحار في بدء الحديث معه، كأنما كان كلانا يشعر بأن حادثا جد علينا فغير من مجرى حياتنا.
وعادة كنت أضع حدا لصمتنا بسؤاله عن دروسه وأصدقائه، وعن نتائج تناطح خراف لا لا بشير وشجار ديوكه، وعما يعتزم عمله، وهكذا تنبسط أسارير وجهه شيئا فشيئا، ولا نلبث أن نعود إلى حالتنا الأولى من الضحك واللعب، وكثيرا ما كان يترك لي بعض كتبه لأتسلى بقراءتها، ويقاسمني بعض أدواته المدرسية كما كان يفعل من قبل.
وقد أحضر لي ذات يوم باقة زهر البانسيه يضمها شريط حريري سماوي اللون، وكنت أحب هذا اللون وهذا النوع من الأزهار والذي يرمز للذكرى، ولذلك فقد فرحت بها كثيرا، وما زالت أحتفظ بها عندي حتى اليوم.
ولقد ظللت بعد ذلك فترة طويلة دون أن أقدر وضعي الجديد الذي كان يقتضي مني الرزانة، ويحتم علي أن أظهر بمظهر ربة البيت بمعنى الكلمة، فقد كنت بحكم سني أميل إلى عالم الطفولة وألعب كلما وجدت إلى اللعب سبيلا.
على أنني لم أتهيب حياتي الزوجية طويلا، فقد كنت أميل إلى زوجي بحكم قرابتي له، ولما كان يظهره من عطف علي بعد زواجنا. وبدأت آنس به وأطمئن إليه شيئا فشيئا، إلى أن لاحظت بعد أشهر أن هناك شيئا غامضا قد استولى عليه، فتغيرت أحواله معي ومعاملته لي، ولم أكن حتى ذلك الوقت أدري لهذا التغيير سببا.
كنت إذا أردت زيارة صديقة أو قريبة، منعني من الخروج، وإذا زارتني صديقة أو قريبة استجوبني استجوابات كثيرة وملحة عما جرى بيننا من أحاديث، كأنما كان يخشى أن يكون قد وصل إلى علمي شيء لا يريد أن أعلمه. وكنت إذا لجأت إلى التسلية بالعزف على البيانو، أرسل يطلب إلي أن أكف عن العزف لوجود ضيوف معه. وهكذا شعرت أنه يقيد حريتي تقييدا ظالما. وتألمت لذلك كثيرا، وبدأت أشعر بالكآبة والسأم، وضاقت الحياة في وجهي، وأصبحت أبكي كثيرا بسبب أو لغير سبب، وحتى لا يدرك أحد حقيقة معاناتي، فإنني كنت أحتفظ معي دائما بكتاب، وأدعي لمن يراني باكية أو متأثرة أنني منفعلة بأحداث محزنة كنت أقرؤها، وما كان يبكيني في الحقيقة غير قصتي المؤلمة!
ولقد لاحظت أن زوجي يكثر من الصلاة والدعاء، فكنت أقول له مازحة: لا بد أنك اقترفت ذنبا يستوجب التكفير، ولكن الله لن يستمع لدعواتك، وعندئذ كنت أجده أكثر اضطرابا دون أن أدري لذلك سببا.
وفي قلب هذه الظروف، وقع حادث سياسي خارجي دفعني إلى التفكير بعيدا عن دائرة حياتي الخاصة. كان ذلك عام 1895 عندما نشبت حرب تساليا بين تركيا واليونان؛ حيث وجد المصريون أنفسهم في موقف يستوجب مساعدة الأتراك، وكان أن شكلت لجنة من الرجال للمساعدة برئاسة المرحوم رياض باشا، وتولت السيدة قرينته رئاسة لجنة السيدات، وقد طلب من زوجي أن أكون عضوا فيها رغم صغر سني، فوافق على الفور، وكانت هذه أول مرة أقوم فيها بالمساهمة في عمل اجتماعي إنساني عام نبهني إلى واجب الفرد نحو المجتمع وجعلني أقدر فائدة التضامن.
وقد وجدت في هذا الأمل أكبر تسلية وعزاء وصرت أنظر إلى نفسي بعين الاعتبار والتقدير بعد أن خضت عباب المجتمع، وتمكنت من دراسة أخلاق الناس عن كثب، والمقارنة بين شعورهم وآرائهم وعرفت كم يعاني الإنسان في سبيل التعاون على الخير. وكم يريق ماء وجهه في السعي إليه مدفوعا بشعور الواجب والإنسانية.
وكان الدرس الثاني الذي تعلمته هو أنه بعد أن انتهت الحرب بانتصار تركيا، أراد الباب العالي أن يعبر عن عرفانه لمصر بالجميل، فأرسل النياشين وآيات الشكر إلى رئيس الحكومة الذي خلف رياض باشا، وبذلك نال التقدير من لم يناصروا تركيا أو يأخذوا بيدها، وهكذا تعطي الحياة غالبا من لا يستحق وكفى المجاهد أنه أرضى ضميره.
وهكذا خرجت من هذه التجربة وقد استفدت في مدة قصيرة أضعاف ما كان يمكن أن أكسبه من خبرة في سنين طويلة، كما تعلمت منها الصبر وسعة الصدر، وكان علي بعد أن انتهت المعركة أن أعود إلى دائرة حياتي الضيقة من جديد.
ذات يوم من الأيام، سمعت والدتي تناقش زوجي في غضب وبصوت عال، ثم نادتني وسألتني عن الوثيقة التي أعطاها لي زوجي، فلم أجب لأنني لم أتذكر أنه أعطاني وثيقة، ولكنه قال لي: إنها داخل المظروف الذي سلمته لك غداة يوم زواجنا. وتذكرت أنه كان قد أعطاني مظروفا مغلقا مكتوبا عليه «يحفظ طرف الهانم» وأنني كنت قد وضعته في دولابه دون أن أعلم ما بداخله، وعندما أحضرته لاحظت أن والدتي قد اطمأنت وأخذت المظروف مني واحتفظت به.
لقد تعودت والدتي أن تسافر من وقت إلى آخر لزيارة قبر والدي وقضاء ليلة في المنيا في منزل عمتي «والدة زوجي»؛ حيث كانت تسكن معها بناته ووالدتهن، ولما عادت في هذه المرة الأخيرة، استقبلتها على السلم كالعادة فوجدتها حانقة مكفهرة، وعندما دخلت غرفتها وخلعت إزارها ، فاجأتني قائلة: لماذا أخفيت عني طوال هذه المدة ما يؤلمك ويحزنك، وكلما سألت عن سبب بكائك، ادعيت أنك تقرئين قصة محزنة؟ قلت: إنني لم أخف شيئا، والحقيقة هي ما كنت أقول. ردت: أما زلت تحاولين الإخفاء؟ لقد عرفت الأمر. سألت: أي أمر؟ قالت: عودة زوجك إلى أم أولاده التي حملت منه وهي الآن على وشك الوضع.
وعندما سمعت ذلك، هللت فرحا وصفقت بيدي، فدهشت والدتي لهذا المنظر وسألتني إن كنت أمثل هذا الدور لإخفاء الحقيقة مرة أخرى، فأقسمت لها إن هذه أول مرة أسمع فيها هذا النبأ، وأكدت لها فرحتي واغتباطي لأنني كنت في غاية التعاسة، وبدأت أروي لها أول مرة بعض ما كنت أعانيه في حياتي تلك، ولم أكن من قبل أجرؤ على أن أفعل ذلك، وما هي إلا فترة قصيرة، حتى سمعت زوجي يصفق كعادته عند قدومه من الدهليز لينبهني إلى مجيئه. فأسرعت نحوه لأهنئه بقرب قدوم المولود، وتمنيت أن يكون ولدا ليحقق أمنيته ويطلق عليه اسم والده «حسن» فظهرت عليه علامات الارتباك دون أن ينطق، وعندئذ أوليته ظهري، وذهبت إلى غرفة أعدت لي في الجناح الذي كانت تسكنه والدتي، ولم يكن قد مضى على زواجنا إذ ذاك أكثر من خمسة عشر شهرا.
وإنني أفضل أن أتحدث باختصار عن هذه المسألة، فأقول إنه قد بدا لي من مجريات الحوادث ما كنت أجهله، فقد عرفت من تلك الوثيقة التي ظلت تحت يدي مدة طويلة دون أن أعرف مضمونها، أنهم لإتمام زواجي من ابن عمتي كانوا قد اتفقوا معه على أن أكون الزوجة الوحيدة، وقد تم زواجي منه بعد أن نفذ التزامه، ولكن عندما رأت والدتي أنه عاد إلى حياته الأولى مع أم بناته وتأكدت من ذلك بحدوث الحمل قررت انفصالي عنه.
ولقد حاول زوجي بعد مضي فترة من الزمن إصلاح ذات البين، ولكن والدتي كانت في حالة ثورة وغضب عليه نظرا لموقفه الذي أثر في نفسيتها، وإن كان قد تبين لنا فيما بعد خلاف ذلك، فقد اتضح أن مفهوم الإقرار هو أنني الزوجة الوحيدة، وأنه إن راجع أم أولاده تكون طالقا بينما التبس الأمر علينا وقصرناه على أساس وقوع الطلاق بالنسبة لي أنا.
وبقيت منفصلة عنه سبع سنوات، كونت نفسي خلالها تكوينا علميا لا بأس به، فطلبت من معلمة اللغة الفرنسية أن تستأنف دروسي معها، وكذلك مدرسة البيانو، ولميلي الشديد للغة العربية طلبت من زوج خالتي أن يبحث لي عن شيخ أزهري طاعن في السن حتى يسمح له بدخول الحريم في منزلنا المحافظ، وأحضر لي يوما رجلا يدعى الشيخ موسى له هذه المواصفات، ومع ذلك فقد كان يجد صعوبات كثيرة في الوصول إلي كل مرة، ولما طال به هذا الحال تركني قبل أن أتم علوم القواعد والأدب، فاضطررت أن أدرس بنفسي.
وكان تعلقي بالموسيقى وحبي للألحان الإفرنجية يدفعني إلى قضاء أغلب سهراتي وأنا أعزف على البيانو، كنت أنتهي من العشاء، وأقصد غرفة البيانو وأظل أعزف حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان يساعدني على إتقان العزف كثرة ترددي على دار الأوبرا؛ حيث كنت أشترك مع صديقتي «عديلة هانم النبراوي» في تأجير مقصورة.
كانت صديقتي هذه رشيقة القوام، جميلة الوجه طيبة القلب، رقيقة الحاشية، تربت في فرنسا ونهلت من الثقافة الفرنسية؛ حيث كان والدها يوسف باشا النبراوي يعيش هناك بحكم عمله في السلك الدبلوماسي. وقد تزوج من فرنسية بعد وفاة والدتها.
وقبيل وفاة والدها نصحت له زوجته بإرسال ابنته إلى مصر لتتعود على معيشة بلادها وتتعلم لغتها. وقد تزوجت من ابن عمها صبحي النبراوي ولما لم ترزق منه أولادا وكانت تتوق لأن يكون لها ابنة، فقد وهبتها كريمة عمتها ابنتها زينب «سيزا نبراوي» التي كانت في الثالثة من عمرها، فتبنتها وأحسنت تربيتها وثقافتها. وكانت عديلة هانم سبب معرفتي بسيزا وتعلقي بها. وقد أوصتني بها خيرا قبل وفاتها؛ إذ كانت تحبها حبا عظيما.
وكم كانت الصدمة شديدة على سيزا المسكينة التي كانت تجهل حتى ذلك الوقت أن لها أما غيرها، وكانت سيزا في ذلك الوقت في السادسة عشرة من عمرها.
قلت إنني كنت أميل إلى العزف على البيانو، ومن حسن حظي أن جاءت من أوروبا فتاة في مثل عمري تقريبا، وكانت ابنة أحد جيراننا وهو فرنسي الجنسية ويعمل موظفا كبيرا في وزارة الحربية، وقد ربطت بيني وبين هذه الفتاة صداقة متينة لتوافق أفكارنا وتقارب عمرينا وتشابه ميولنا وكانت ذا خلق وثقافة كبيرة، كانت تزورني في كل يوم تقريبا، نقضي معظم أوقاتنا في قراءة القصص والأدب والشعر الفرنسي أو العزف على البيانو، وكان ذلك سببا في تمكني من اللغة الفرنسية وتقدمي في فن الموسيقى.
وكانت هذه الفتاة يتيمة الأم وقد تزوج والدها بعد ذلك ورزق من زوجته أولادا، وكانت تعيش معهم عمتاها. وكانتا لا تتفقان مع زوجة أبيها، ولذلك فقد كانت دائما موضع غضب أحد الجانبين، فضلا عن أن والدها كان رجلا غريب الأطوار لا يريد أن يسمع لأحد شكوى، فكانت تجد في وجودها معي ترفيها عنها.
وكانت «لويزيت» تتألم لحرمانها عطف من حولها. وكان والدها لا يفكر إلا قليلا جدا في الترفيه عن أولاده. وكان من نتيجة هذا الحرمان وتلك القيود أن تعرفت «لويزيت» على شاب يعمل في أحد المحال التجارية الكبيرة وأحبته حبا عظيما، ولما كان هذا الشاب فقيرا ودونها مقاما فقد أدركت أن والدها سوف يرفض زواجها منه. ولذلك انتظرت حتى بلغت سن الرشد وهربت معه إلى أوروبا ليتزوجا هناك حتى علمت أنه كان على اتصال بفتاة غيرها، وأنه كان قد وعدها بالزواج، وجاءت تطالبه بتحقيق وعده، فتركته لويزيت لها، وعادت إلى مصر والتحقت بأحد البيوت كمربية للأطفال. ولما علم أبوها بذلك، عفا عنها وأراد أن يعيدها إلى منزله لتعيش معه، ولكنها رفضت؛ لأنها لم تجد في نفسها الشجاعة على مواجهة أبيها بعد ما حدث فأوعز الأب إلى أخيه أن يدعوها لتقيم معه في فرنسا، فبعث إليها عمها يدعوها، فوافقت؛ لأنها شعرت بأنه ليس في مقدورها الاستمرار في خدمة البيوت. وذهبت إلى هناك حيث انتابتها حمى، وأجريت لها عملية الزائدة الدودية وماتت على إثر ذلك.
ولم تكن أختها الصغرى أوفر حظا منها. فقد أحبت شابا، ورفض أبوها أن تتزوج منه لفقره، وعندما أراد أن يزوجها من غيره، رفضت ومرضت وسافر بها الأب إلى فرنسا لتغيير الهواء ولإبعادها عن هذا الشاب، وفي إحدى النزهات صادفت هذا الشاب، فأصابتها رعدة ومرضت بالحمى إلى أن ماتت هي الأخرى.
وكم من فتيات ذهبن ضحية ظلم الآباء ونتيجة تفضيل المادة على سعادة بناتهم. ولذلك تنتهي حياة هؤلاء الفتيات بالموت أو السقوط.
طوال تلك الفترة، لم تنقطع الوساطة بيني وبين زوجي، وأذكر أن الزبير باشا طلب مقابلتي يوما، فلما قابلته سألني عن سبب عدم عودتي لزوجي وقيامي بخدمته، وقال: إن هذا لا يليق أن تفعله بنت سلطان باشا، ثم انبرى غاضبا ليقول: ألا تعلمي أن من حق زوجك أن يأخذك عنوة إلى محل الطاعة؟ ... واستمر يخاطبني بغلظة وعنف وأنا صامتة، ولما رأى دموعي على خدي، قال لي لقد سمحت لنفسي أن أكلمك بهذه اللهجة؛ لأن والدك كان بمنزلة شقيقي، ولذلك فإنني أعتبر نفسي أتكلم بلسانه ... فلم أستطع بعد ذلك صمتا وقلت: لو كان والدي على قيد الحياة لما أسمعني مثل هذا الكلام لأنني لم أذنب، وإن كان هناك مذنب فهو ابن عمتي، ورغم ذلك فلو كنت أعلم أنه في احتياج لي، ما ترددت في التضحية بنفسي، ولكنه الآن يعيش مع أم أولاده التي تلد له كل سنة طفلا، ويكفي أنني لا أطلب منه شيئا، وأتحمل مناوءاته، ولو كان أبي حيا لما قبل أن تتعذب ابنته بهذه الصورة؛ لأنه كان رجلا عادلا وأبا رحيما. ثم تركته وخرجت. وفي اليوم التالي أرسل زوجته لتعتذر لي عن قسوته.
وبعد أيام علمت أن الشيخ علي الليثي يريد هو أيضا أن يتوسط في الصلح، وأنه يعتزم القدوم لهذا الغرض. ولقد ارتعت لذلك لأنني كنت أحبه كثيرا، وكنت أخشى إن حاول معاملتي بخشونة الزبير باشا أن يقل حبي واحترامي له، ومع ذلك انتظرته بشجاعة. ولكنه لم يأت، وعلمت أنه عز عليه أن يكدر خاطري لاعتقاده بأنني لست المخطئة، فازداد حبي وتقديري له .
وتعددت بعد ذلك المساعي وتنوعت الوسائل لإرغامي على الصلح، وكثيرا ما كان يأتي زوجي بنفسه ويستخدم كافة الوسائل ما بين الرجاء والعطف تارة وما بين الوعيد والعنف تارة أخرى. ولكني في كل هذه الحالات. كنت أتمالك مشاعري، وأحاول إقناعه بالمنطق، وأذكره بواجباته نحو أولاده ووالدتهم. وكنت أقول له إنني أعتقد أن الذي يدفعك إلى هذا السعي إنما هو وخز الضمير لظنك أنك أسأت إلي ولكن ثق أنك قد أحسنت بعملك؛ لأن واجبك نحو أولادك يقضي عليك أن تعيش بينهم. فكان يدعي أن حبه لي هو دافعه الوحيد للإلحاح علي بالعودة ... وكنت أرى على وجهه علامات الحزن الصادق أحيانا.
وقد أثرت كل هذه العوامل والانفعالات في أعصابي وصحتي، فمرضت مرضا شديدا ألزمني الفراش عدة أشهر، وعندما جاء الصيف أشار علي صديقنا وطبيبنا الدكتور علوي باشا بضرورة سفري إلى الإسكندرية لتغيير الهواء والاستفادة بحمامات البحر، وسافرنا بالفعل، وعدت بعد ثلاثة أشهر وقد استفدت إلى حد ما من بعدي عن المنازعات، كما أصبحت أكثر تعلقا بالبحر مما كنت، وعندما جاء الصيف التالي، وأردت السفر إلى الرمل، أراد زوجي أن يستغل هذه الفرصة وظن أنه إذا منعني من السفر قبلت الصلح معه. فامتنع عن صرف المبلغ الذي اعتمدته لسفري، ولكن والدتي عندما عرفت ذلك، سافرت على الفور لتستأجر لي منزلا على حسابها الخاص، وسمحت لي بالسفر مع خالتي لقضاء الصيف هناك وكان لهذا العطف أبلغ الأثر في نفسي.
وفي الإسكندرية ... في ذلك الصيف بالذات ... كانت لي أول تجربة من نوعها. فقد قررت أن أشتري لوازمي بنفسي من المحلات الكبيرة. بالرغم من تذمر «سعيد آغا» ورغم امتعاض أهل المنزل ودهشتهم من هذه الخطوة وتحدثهم عنها وكأنني قد خالفت قوانين الشريعة.
كنت قد حصلت على إذن من والدتي بذلك بعد جهد وإقناع، وكان علي أن أصحب وصيفاتي و«سعيد آغا»؛ لأنه لا يليق بي أن أتوجه بمفردي، وكان علي أن أسدل إزاري على حاجبي وأن ألتف بحيث لا يظهر من شعري أو ملابسي أي شيء. وعندما دخلنا المحل، دهش الموظفون والمشترون من هذه المظاهر غير المألوفة، وبخاصة عندما رأوا الآغا يحملق بنظراته الحادة في وجوه الناس وكأنه يحذرهم من النظر إلينا، ثم اندفع نحو أحد مديري الأقسام يسأله في لهفة وحدة: ألا يوجد عندكم محل للحريم؟ فأشار له إلى قسم ملابس السيدات. ونادوا على الفتيات البائعات ليتولين خدمتي بعد أن وضعن حاجزين يحولان بيني وبين الموجودين، وإزاء ذلك لم تتمالك أصغر الفتيات من أن تسأل الآغا من أي بلد ومن أي عائلة نحن، فحملق فيها غاضبا، وشكا للمدير وقاحتها.
وكاد صاحب المتجر يطرد تلك البائعة، لولا أنني رجوته ألا يفعل. وكنت أنا في غاية الخجل من هذه التصرفات.
ورغم مرارة التجربة الأولى فقد تكررت زياراتي للمحال التجارية بعد ذلك، واستطعت أن أقنع والدتي بالفائدة المادية التي تعود علينا من شراء مستلزماتنا بأنفسنا، وكيف يتسنى لنا اختيار أحسن الأشياء، وكيف نستغني عن الدلالات والبائعات المتجولات ونتقي شرورهن ومساوئهن، وما زلت بها حتى قبلت التوجه معي مرة، فتأكدت من صدق قولي، وتعودت بعد ذلك التوجه إلى المحلات التجارية لقضاء لوازمها بنفسها.
الفصل الثامن
بعد عودتي من الإسكندرية في أواخر الصيف، نادتني والدتي يوما لأقرأ لها بطاقة جاء بها الخادم، وقال: إن صاحبتها بالباب في انتظار الرد، وعندما قرأت اسم السيدة، فرحت والدتي فرحا شديدا، وقالت للخادم: لتتفضل بالدخول. وأخبرتني أن هذه السيدة إحدى قريباتها، وأنها جاءت من الآستانة في طريقها إلى الحجاز؛ حيث يقيم زوجها وأولادها.
ولم أكن قد رأيت أو سمعت عن هذه السيدة شيئا من قبل، وعندما دخلت وتعارفنا، وجدتها شابة جميلة في الثلاثين من عمرها تقريبا، وبعد أن جلست معها فترة من الوقت، تركتها مع والدتي وعدت إلى جناحي الخاص، وفوجئت بها بعد قليل تقبل ناحيتي وتحدثني دون كلفة كأنها تعرفني منذ أمد بعيد. وكنت بطبيعتي قليلة الاندفاع، ولذلك لم يعجبني منها هذا التدخل في أموري، وبخاصة أنها ظلت طوال الأسبوع الذي قضته بيننا تسألني عن كل ما يكتنف حياتي وتبدي فيه آراءها، ولذلك كنت أحاول تجنبها قدر المستطاع.
وعندما عزمت على الرحيل، نزلت أودعها عند الباب وبيدي باقة من أزهار الحديقة قدمتها إليها، وبعد سفرها بشهر أو أكثر، وصلتنا منها رسالة من المدينة المنورة تشكرنا فيها على حسن ضيافتنا لها خلال الأيام التي أمضتها بيننا. وقالت: إنها ما زالت تحتفظ بباقة الورد التي أهديتها لها عند رحيلها تذكارا لتلك الأيام الجميلة التي تجد فيها العزاء والسلوى عن أيام الشدة التي تعانيها، بعد أن انفصلت عن زوجها، وقالت: إنها ستبقى في المدينة لمدة سنة مع أولادها حتى يتم ولدها الصغير سن الحضانة، فتتركه هو وأخته لوالدهما وترجع إلى وطنها؛ حيث يقيم أخوها، وقد أسفت والدتي وطلبت مني أن أكتب لها رسالة نيابة عنها، أدعوها لتأتي عندنا بعد انقضاء المدة؛ حيث تجد من والدتي الأم الثانية لها وتجد مني الأخت المخلصة، وظللنا نتبادل الخطابات حتى انقضت السنة، وجاءت لتعيش معنا، وكان بؤسها عاملا على ميلي إليها وعطفي عليها، وبخاصة أنني كنت أقرأ في ملامحها علامات اليأس والحزن العميق مما أثر في صحتها تأثيرا شديدا.
وعندما كنا نتسامر ذات ليلة روت لي قصتها المؤثرة، وهي التي تكاد تكون صورة طبق الأصل من حياة المرأة الشرقية في ذلك العصر.
قالت: أنا من أم شركسية وأب تركي، وكان والدي أحد السادة الأثرياء، وقد تزوج من والدتي؛ لأنه لم يرزق أبناء من زوجته الأولى، وقد أنجبت له والدتي أخي وأنا، ثم مات بعد أن ضاعت أمواله في أوراق مالية تدهور ثمنها، ولم يترك لنا سوى بيت ذي حديقة واسعة، وكانت والدتي صغيرة وخشيت عجزها عن مواجهة الحياة، فتزوجت من رجل طيب أحسن معاملتها وتكفل بنا كأنه والدنا.
وذات يوم حضر زوج والدتي ومعه رجل من أشراف الحجاز طلبني من والدتي، وزكاه زوجها فرضيت بزواجي منه إذا وعد صدقا أنه لا يفرقني عنها ولا يطلب مني مغادرة وطني. وسألته إذا كانت له زوجة أخرى فطمأنها بقوله: إنه لم يتزوج بعد. وقد عرف كيف يستميلني ويجذبني إليه ويحببني فيه فأحببته، حتى إنه لما أراد العودة إلى بلاده رغبت في مرافقته، ورافقتنا والدتي إلى الحجاز، ووجدت أنه لم يكذب عليها ولم تكن له زوجة غيري، ولما اطمأنت إلى ذلك، تركتني ورجعت إلى بلادها. وعشت معه عيشة هادئة، وبعد ثلاث سنوات رزقت منه بطفلة سميتها «زينب».
كان زوجي في كل حج يتوجه إلى مكة ويغيب فيها، فساورتني الشكوك. وذات يوم عثرت على خطاب في درج مكتبه من سيدة فهمت منه أنه تزوجها، فثارت ثائرتي، وفارقته عائدة إلى إسطنبول وفي نيتي عدم العودة إليه.
ولكن زوجي حضر في صيف تلك السنة، وبذل كل جهده لينال رضاي وعفوي عنه، وعزا زواجه بابنة عمته بأنها قريبته يخشى على مالها من الضياع، فرجعت معه، ورزقت منه ولدا هو «السيد محمد». ولكن تبين لي بعد ذلك أنه مزواج، وأنه من كثرة زواجه لا يعلم عدد من تزوج منهن، وكذلك لا يعرف أولاده، ولما وصلت إلى المدينة وكانت لي عمة تعيش فيها قصدت بيتها ونزلت عندها وأرسلت إليه طالبة طلاقي بشرط أن أبقى مع ولدي حتى يبلغ سن الحضانة، فقبل ذلك. وبقيت مع ولدي حتى انقضت المدة، وكتبت إليكم فجاءني كتابكم بالأمل.
وقد تألمت لحال هذه السيدة ورثيت لها ووعدتها بأن أعاملها معاملة الأخت لشقيقتها، ومن محاسن الصدف أنها جاءت في وقت كنت محتاجة فيه إلى شيء يحول اتجاه تفكيري في حالتي.
وكانت هذه السيدة ذات صفات طيبة ومخلصة وفية. وكانت تحبني حبا جما أشعرني بسعادة عظيمة: ولكن كثيرا ما كانت محبتها تدفعها إلى محاولة الاستئثار بي، وكان ذلك يحدث عندي شيئا من الثورة النفسية لأنني أكره كل ما يحد من حريتي واستقلالي، وإن كنت أشفق عليها لعلمي أنه لا ملجأ لها إلا بيتنا وبخاصة بعد أن توفي شقيقها الوحيد بعد وفاة أمها، وصارت وحيدة لا معين لها في الحياة.
كانت تميل إلى العزلة والأشغال اليدوية والبقاء في الغرفة التي تعودت الوجود فيها وتكره كل شيء يحدث الضوضاء، ولذلك كانت تضيق بعزفي الموسيقي رغم أنني كنت قد وصلت في العزف على البيانو إلى درجة لا بأس بها، وكنت مرغمة على الإقلال من هذه الهواية مراعاة لخاطرها.
وقد فكرت في وسيلة تشغلها عني قليلا، فعرضت عليها أن تأخذ معي دروسا في الرسم، وأن تشاركني أيضا في دروس اللغة العربية واللغة الفرنسية، فقبلت، ولكنها لم تستمر إلا في الرسم لميلها الشديد للأشغال اليدوية. وقد أتقنت هذا الفن لدرجة كبيرة.
عاشت هذه السيدة بجانبي خمس سنوات حتى صرنا خلالها كأختين تفرح الواحدة لفرح الأخرى وتحزن لحزنها. وفي هذه الفترة تعرفت بسيدة أخرى أحببتها حبا صادقا، وكانت هي الوحيدة التي لا تغار منها صديقتي وتعترف بأنها جديرة بحبي وإخلاصي، تلك هي الزوجة الأولى للمرحوم حسين رشدي باشا، وكانت فرنسية الجنسية.
عرفتها في حفل زفاف حسين بك رياض، وكنت مع صديقة لي بغرفة الزفاف عندما دخلت هذه السيدة وعليها سيماء الوقار وملامح الذكاء، فاسترعت انتباهي. وأظن أنني أيضا كنت موضع اهتمامها رغم صغر سني في ذلك الوقت. قدمتني إليها شقيقة رشدي باشا، وأمضيت بجانبها معظم السهرة مغتبطة بجانبها؛ إذ وجدتها في أفكارها وحديثها تختلف عن غيرها من السيدات المثقفات المغرورات، وقد زادنا ارتباطا يوم أمضيناه بباخرة على النيل ذهبت بنا إلى القناطر الخيرية ومعنا سيدات أخريات من الإفرنجيات، وقد مكننا الوقت الطويل الذي أمضيناه معا من حسن التعارف وربطنا بأواصر المودة الأدبية والروحية، وقد صارحتني أنها سمعت عني كثيرا ولكن على غير الحقيقة التي لمستها من معاشرتها لي ... فسألتها عما وصل إليها عني، فقالت سمعت بعض الناس يقولون إنك تركت زوجك لأنك تريدين الزواج من غيره من الشبان، وأنه تعس لفراقك وعدم انقيادك له، وقد امتحناك دون أن تشعري، فظهر لنا خلاف ما سمعنا. فلما أظهرت لها دهشتي من امتحانها الذي لم أشعر به ... قالت دخلت عندي إحدى صديقاتي يوم استقبالي، وكنت أنت عندي وقتئذ، فقدمتك إليها، وبعد خروجك تحدثنا، وأكثرت من الثناء عليك وتحدثنا عن السيدات المصريات عامة. فقالت هذه السيدة، كم من خفايا يخبئها البرقع! ... فقلت لها: ماذا تعنين بهذا القول؟ قالت: كل هؤلاء السيدات يسلكن تحت شعار براقعهن أسوأ المسالك. أما نحن معشر الفرنجيات فإننا نخرج سافرات ... وكل واحد يعرفنا ولذلك لا يمكننا أن نطرق مكانا مشتبها فيه، قلت لها: إن هذا الكلام لا ينطبق على صديقاتي وخاصة صديقتي الصغيرة، قالت لي: هل تسمحين لي أن أمتحنها، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فقلت لها: افعلي ما تشائين، فإني على ثقة تامة بصديقتي.
عندئذ سألتها عن تلك السيدة، ولما عرفتها، تذكرت أنها كانت تتردد علينا حتى بلغت من نفسي مكانة طيبة، وفي صباح يوم كنا نتحدث عن التحف والآثار القديمة، فقالت: إنها تعرف أحد الحوانيت وفيه مما أحب الأشياء كثيرة، وحببت إلي مرافقتها إلى ذلك الحانوت لأرى لوحات الرسم والتحف الموجودة به، فوافقت وخرجنا معا في عربتها، وبعد أن تفرجنا، دعتني بإلحاح لتناول الشاي معها في أحد محلات الحلوى، فرفضت؛ لأن ذلك لا يليق بي شخصيا فضلا عن خروجه عن التقاليد ... وكررت رجاءها وإلحاحها، وكررت الرفض بدوري. ولما لم توفق إلى إقناعي، ظنت أنني ربما أقبل هذه الدعوة إذا كانت في محل آخر بعيد عن المدينة، فعرضت علي الذهاب إلى مقهى بجهة الجزيرة لا يؤمه أحد من معارفنا، فرفضت أيضا رفضا باتا، وقد دهشت السيدة لهذا الرفض من شابة مثلي إزاء سيدة مثلها، فلم أعبأ بدهشتها، ورجوتها في شيء من الخشونة والاستياء أن تعيدني إلى منزلي. ولما فهمت مني أن رفضي يرجع إلى أن الاختلاط يتنافى مع تقاليدنا، قالت لي: إن كثيرا من السيدات المسلمات يحضرن عندي الحفلات، ويمكثن داخل حجرة مظلمة يمكنهن من خلالها مشاهدة الحفلة من وراء ستار دون أن يراهن أحد، ولكنني أقنعتها أن هؤلاء السيدات يذهبن مع أزواجهن أو إخوتهن أو آبائهن، وأن حالتي تختلف عنهن.
وكنت قد حدثت صديقتي حرم رشدي بك في أمر هذه الصديقة بعد أن كثر إلحاحها علي، فقالت لي: إن خير ما تقدمينه لها دليلا على إخلاصك وحبك هو ألا تطلبي منها زيارتك أو حضور أية حفلة عندك.
وكان هذا يزيد في تقديري وإخلاصي لصديقتي حرم رشدي باشا، فهي لم تكن تعني بظروفي وحالتي واسمي فقط، وإنما كانت أيضا تجتهد في تثقيفي في اللغة الفرنسية، وكانت ترشدني إلى أثمن الكتب وأنفعها ... وكانت تناقشني فيما قرأت وتفسر لي ما يصعب علي فهمه، وكانت تغذي عقلي وروحي بكل أنواع الجمال والكمال.
ثم إنها كانت تحتم علي أن أحضر عندها كل يوم سبت من كل أسبوع، وهو يوم استقبالها ... في الموعد المحدد للسيدات ... قائلة لي: «أنت زهرة صالوني»، وفي الأيام التي لم أكن أتمكن فيها من زيارتها، كنت أرسل لها باقات الزهور، فكانت تشكرني برسالة رقيقة تقول فيها: إن هذه الزهور الجميلة التي أرسلتها إلي لا يمكن أن تملأ الفراغ الذي أوجده غياب زهرتي المحبوبة، فحاولي التقليل من تلك الباقات حتى لا تنقصي بغيابك من بهجة صالوني.
ولقد كانت هذه السيدة الفاضلة مثال العفة والطهر والوفاء والكمال، وكانت تحب أن يتصف كل أصحابها ومعارفها بتلك الصفات النبيلة، ولذلك كانت تحاول دائما أن تبث فيهم هذه الفضائل.
وأذكر في أحد أيام استقبالها أن دار الحديث حول موضوع التقاليد والحجاب، فقالت: إنني رغم إعجابي بالزي المصري وما يكسبه الحجاب للمرأة من روعة وجمال، فإنني أشعر بالأسف في الوقت نفسه؛ لأنه يحول دون تقدمها ويحرمها التمتع بقسط أوفر من التعليم والرياضة البدنية، ولذلك تتعرض للبدانة، كما أنه في الأوساط الغربية يظن الكثيرون أن الحجاب أداة تستر على ما خفي تحته، ولذلك يرجع كثير من السائحين إلى بلادهم بفكرة خاطئة؛ حيث إن بعض من يقودونهم إلى المنازل الساقطة، كثيرا ما يدخلون في روعهم أنهم يقدمونهم لسيدات من العائلات الكبيرة، فيعودون إلى بلادهم مشبعين بهذا الاعتقاد الخاطئ ... ويكتب بعضهم ما يمليه عليه خياليه الضال واعتقاده الفاسد. ثم انتقلنا للحديث عن كتابها «حريم ومسلمات مصر» الذي قدمته باسم مستعار. وقالت: لقد كان غرضي من هذا الكتاب هو وصف حياة المصريين على حقيقتها ليعلم الإفرنج أنهم ظلوا يسيئون الظن بهم طويلا، ولأقنعهم بأن المصريين في عاداتهم وتقاليدهم لا يختلفون عنهم إلا قليلا، بل لقد ميزهم دينهم الحنيف بما فيه من حكمة وعدالة على غيرهم من البشر.
وقالت: إنني بدأت في تأليف كتاب آخر أبين فيه سوء حال المرأة المصرية كزوجة وأم من جراء التقاليد والعادات البعيدة عن الدين، فالحقيقة أن الدين الإسلامي قد أنصف المرأة أكثر من أي دين آخر، وسأسمي هذا الكتاب «المطلقات»؛ حيث إني حضرت عدة جلسات في المحكمة الشرعية، وتألمت كثيرا لتعاسة المرأة المصرية وبخاصة الفقيرة وظلم الرجل لها.
وقد سألتها عما إذا كانت تقبل الزواج من رشدي باشا فيما لو عرفت مثل هذا من قبل؟ فقالت: نعم ... كنت تزوجته لأني قدرت فيه كرم الأخلاق وأحببته، ولا سيما أنني كنت أعلم أن الدين الإسلامي يحرم الخمر والميسر، ولقد كان زوج أختي من المدمنين على الشراب المولعين باللعب، ولذلك كان ينغص عليها حياتها، كما فقد معظم أمواله، فلما طلبني رشدي، فرحت به لعلمي بأن دينه يحرم عليه هذين المنكرين، وأنه بذلك لن يجلب لي من التعاسة ما جلبه زوج أختي لها.
وقد سألتها عما إذا كانت لا تزال على رأيها الأول في أن المسلمين بحكم دينهم لا يشربون الخمر ولا يقربون الميسر ... قالت: لا مع الأسف، ولو أنني عرفت ذلك، لما تزوجت رشدي رغم حبي له ... ليس لهذا السبب فقط، وإنما لما يتكبده الأزواج مختلفو الجنسية من جراء التصادم الناشئ عن اختلاف العادات التي يتعذر على كل منهم التخلي عنها دون تضحية أو ألم. ويؤلمني أن أغلب الإفرنجيات اللاتي تزوجن من المصريين هن من طبقات لا أحب أن يظن أحد أنني منها.
ثم أضافت: ومع كل ما قدمت من حديث، فإنني سعيدة وقريرة العين بحياتي الراهنة. وأكبر دليل على عدم أسفي وامتزاجي بالأسرة المصرية أنني أعددت لي قبرا بالإمام بجانب قبر زوجي كي لا نفترق في الدنيا أو في الآخرة.
ونظرت إليها في دهشة، فإذا بها تقول أمام صاحباتها الفرنجيات: ألا تعلمين أني اعتنقت الدين الإسلامي منذ زواجي من رشدي، وأنني الآن مسلمة وأريد أن أدفن في مقابر المسلمين ... ولقد كتبت ذلك في وصيتي لأهلي.
حقيقة إن صديقتي كانت وقتئذ الوحيدة بين الإفرنج التي أمكنها أن تدرس وتتفهم وتقدر أخلاق المصريين وصفاتهم ... وكانت تعرف كثيرا من الأمثلة العربية الدارجة، وتحيط بكثير من العادات والتقاليد التي لا تعرفها كثيرات من المصريات أنفسهن.
وكثيرا ما كنا نتريض في طريق الجيزة أو في حدائقها. وكان يدور حديثنا غالبا حول البحث عن الطريقة العملية المجدية للوصول إلى تحسين حال المرأة المصرية والترفيه عنها. وقد استقر رأينا على أن نبدأ مشروعنا بتوجيه المرأة إلى ممارسة الرياضة البدنية أولا، وتنبيهها إلى خوض الحياة الاجتماعية وترغيبها في دراسة الفنون والآداب، وذلك بعقد اجتماعات تجمع بين الرياضة الفكرية والرياضة البدينة ... وقررنا أن نبدأ بإعداد ملعب للتنس في حديقة مصطفى رياض باشا؛ حيث كانت أوسع من غيرها وأنسب إذ كانت محوطة بسور مرتفع يحجبها عن الأنظار، واتفقنا أن نعرض هذا الموضوع على صديقتنا شريفة هانم رياض، فرحبت بالفكرة، وبعد أن حصلت على موافقة زوجها أعدت الملعب وأقامت سرادقا بالحديقة ليكون بمثابة استراحة للاعبات، ولنجتمع فيه لتبادل الآراء والمحادثات الأدبية ... ثم دعونا يوم استقبالها لعرض المشروع على الزائرات في ذلك اليوم ... ولن أنسى ما أصابنا من خيبة وفشل عندما شرحنا الموضوع لسيداتنا ودعوناهن للنزول إلى الملعب فلم تتحرك واحدة منهن ... وانتهى الأمر بأن انتفع به أولادنا بدلا من أمهاتهم.
وأذكر هنا أيضا أنه في ذلك الوقت نفسه، كان المرحوم رشدي باشا وبعض أصحابه يفكرون في تكوين جمعية ومؤسسة لرعاية الأطفال، وقد طلبوا من شريفة هانم رياض كما طلبوا منا أن نكون لجنة من السيدات تشترك معهم في تحقيق هذا المشروع، فحبذنا الفكرة، وقررنا في أول اجتماع لنا وضع لائحة داخلية لهذه اللجنة، وكلفت سكرتيرة اللجنة بتحضيرها، بينما قامت الأعضاء بتجهيز ما يلزم للعرض والبيع في سوق خيرية تقام لصالح المشروع. وأثناء ذلك قدمت السكرتيرة اللائحة، فإذا بها تتضمن بنودا أو شروطا أوجبت تذمر أغلب الأعضاء، فانسحبن من عضوية اللجنة، ومن ذلك مثلا ارتداء زي خاص بأعضاء اللجنة، وضرورة حصول كل عضو تريد الالتحاق بالجمعية على تزكية من عضوين مع شهادتهما بحسن سيرها وسلوكها. وهكذا انفضت اللجنة ... وخاب أملنا في إيجاد رابطة أدبية لتوجيه السيدات إلى ما يهذب أفكارهن وينهض بهن.
وكان من جراء ذلك أن حاز الرجال وحدهم شرف تحقيق هذا المشروع الحيوي العظيم، الذي كانت المرأة أولى بالقيام به من الرجل! ...
الفصل التاسع
بعد أن فشلت أول محاولة لإيجاد رابطة أدبية لتوجيه السيدات إلى ما يهذب أفكارهن وينهض بهن، بقينا بعد ذلك نتلمس كل فرصة لتوجيه اهتمام السيدات إلى الأمور الاجتماعية، وذلك من خلال دعوتهن لزيارة معارض الفنون الجميلة في أوقات محددة لهن.
وكان يقوم جماعة من الفنانين الإفرنج بعرض لوحاتهم وكذلك لوحات مشاهير الفنانين الأوروبيين في معارض فنية سنوية بشارع المدابغ «شارع شريف الآن» لتنمية روح الفن في الأوساط المصرية. وقد نجحوا في ذلك حتى إن الأمير يوسف كمال شجع هذه الروح بتأسيس مدرسة الفنون الجميلة التي صادفت نجاحا باهرا، وانتهى الأمر بأن وضعتها وزارة المعارف تحت إشرافها، وقد كانت هذه المدرسة أول معهد ساعد على إظهار استعداد المصريين وميلهم الفطري للفن الجميل.
وفي ذلك الوقت ظهر كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة» الذي نبه الأذهان إلى وجوب خلق نهضة عامة من خلال تثقيف المرأة وتحريرها. وكان كتابه الجريء بمثابة الحجر الأول في بناء أساس تلك النهضة التي قابلها الرأي العام بعاصفة شديدة من الاستنكار والمقاومة. ولو أن تلك العواصف قد أثرت في قاسم وهزته، إلا أنها لم تستطع أن تنال من رسالة الحق التي أداها في جرأة وشجاعة ... وكم سمعنا في ذلك الوقت السيدات أنفسهن يستنكرن تصريحات قاسم أمين ومبادئه رغم إنها كانت في صالحهن؛ لأنها كانت تظهرن في الثوب الحقيقي من عدم الكفاءة، وكان ذلك يجرح كبرياءهن، فكن بذلك يذكرنني بالجواري عندما تعطي لهن ورقة العتق من الرق، إذ كن يبكين على حياة العبودية والأسر ...
ولقد كانت صديقتي حرم رشدي بك موضع تقدير أصدقاء زوجها، ومنهم قاسم أمين بك والإمام الشيخ محمد عبده وسعد زغلول باشا ومصطفى كامل باشا والشيخ عبد العزيز جاويش وغيرهم من رجالات مصر المعدودين، وكانت كثيرا ما تقص علي ما يدور بينها وبينهم من الحديث، وكانت تعجب بآراء قاسم أمين وشجاعته الأدبية، وفي الوقت نفسه تأسف لعدم تقدير مواطنيه له إلا القليل من أصدقائه، كما كانت ترثي لتألمه من جحود مواطنيه لفضله وتخلي أصدق أصدقائه ومؤيدي مبادئه عنه أثناء هبوب العاصفة التي أثيرت ضده عندما صرح بآرائه في تحرير المرأة.
لقد كانت صديقتي حرم رشدي باشا المثل الأعلى للمرأة المهذبة الكاملة، وكانت لا تطيق أن ترى أي سوء تفاهم أو بغضاء بين أصدقائها أو معارفها ... وكان لها التأثير الكبير علي في الصلح مع زوجي.
ولقد قدر لهذه السيدة أن تتلقى صدمات عائلية ومادية متتالية، فلم تقو على احتمال هذه الصدمات نظرا لما كانت عليه من قلة المقاومة نتيجة مرض مزمن فضلا عن إرهاق نفسها بالأعمال، فأضعف كل ذلك قلبها الطيب، وكان أن مرضت وتوفيت إثر عملية جراحية أجريت لها في باريس في أكتوبر 1908.
وقد علمت من زوجي الذي كان بباريس في تلك السنة وقابلها هناك، أنني كنت شغلها الشاغل، وإنها كانت تعرض عليها الأشياء التي كلفتها بها وهي على سرير المرض. وكان هذا دليلا على الاهتمام والصداقة والمحبة. وقد كتبت لي عند دخولها المستشفى تقول: «دخلت المستشفى لتجرى لي عملية جراحية صغيرة، فلا تجزعي إذا وصلك نبأ خاطئ بأنني قد مت، ولا تبكي علي كما رأيتك تبكين عندما أشيع خطأ خبر وفاة الدكتور هيس.»
وجاءت وفاتها بعد وفاة الزعيم المعروف مصطفى كامل باشا الذي كانت تقدره وتناصر آراءه، وكان مصطفى كامل أصدق أصدقاء أخي، ثم لحق بهما قاسم أمين نصير المرأة والصديق الحميم لسعد زغلول باشا ورشدي باشا، فخسرت مصر ثلاثة من المجاهدين المخلصين في خدمة قضيتها. ومن غريب الصدف أن شقيقي رزئ في أعز صديق لديه في الوقت الذي رزئت فيه في أعز صديقاتي وأحبهن إلي، ومن شدة حزني عليها مرضت مرضا شديدا، أدى إلى إذعان زوجي أخيرا لمشورة الأطباء بسفرنا إلى الخارج للاستشفاء في فرنسا، وهناك أدركت هول الفاجعة التي لحقت بي بفقدان صديقتي لما لقيته من كل معارفها وأصحابها من العناية بي والاهتمام بأمري.
وأعود إلى قصتي ... فأقول إن صديقتي حرم رشدي بك باشا كانت من الذين أثروا في للصلح مع زوجي الذي كان يسعى عند كل من يعرف أن له مكانة عندي ليطلب وساطته في ذلك، وكان أخي قد بلغ الثامنة عشرة من عمره، وأرادت والدتي أن تزوجه فخطبت له كريمة عباس باشا الدرة مللي وبقي زهاء سنتين خاطبا ممتنعا عن الزفاف، ولما كنت أعيب عليه هذا وأسأله عن السبب، كان يتهرب من الرد، إلى أن قال لي علوي باشا يوما: إن أخاك قد أقسم ألا يدخل بعروسه إلا إذا عدت لزوجك، وكان قد مضى على انفصالي عنه سبع سنين، فأدركت أن هذا فخ نصب لي، وأردت أن أمكر عليهم فقلت له: «إن كان هذا هو السبب، فإنني مستعدة للصلح»، وانتشر هذا الخبر، وقوبل بالارتياح من كل أفراد العائلة وبخاصة شقيقي الذي جاء ليشكرني، فقلت له لأجل خاطرك أقبل هذا الصلح بشروط كنت أظن أن زوجي يرفضها ... وطلبت منه مقابل ذلك أن يستعد للدخول بعروسه.
واستقر رأي أخي على القيام بالاستعدادات اللازمة. وكان يفضل أن يتم الزفاف دون طنطنة أو حفلات، وأن تعطى المبالغ التي ستصرف للفقراء والمعوزين. وقلت له: ما دام في إمكانك عمل هذا وذاك ففي الأمرين صدقة، لأنك بإقامة الأفراح ستحسن إلى الكثيرين من العمال المساكين كالفراشين والطهاة، وستطعم الفقراء، فتصدق وأقم أفراحا تتحدث بجمالها وروعتها الناس أعواما طويلة. فضحك لقولي هذا، ووعدني بتنفيذ رغباتي، وقد نفذها فعلا، وقد وصف ليالي الفرح صديقنا شاعر القطرين خليل بك مطران في افتتاحية العدد الثالث والعشرين من المجلة المصرية الصادر يوم أول مايو 1902.
وبعد أن تزوج شقيقي، ظننت أنني وفقت إلى لعب الدور الذي أردته، وأنه سيمكنني بعد ذلك أن أماطل حتى يسأم زوجي كثرة المماطلة ويكف عن المطالبة برجوعي إليه فيتركني وشأني، ولكني رأيت مع الأسف أن بقائي في المنزل سيكون سببا في شقاء أخي، لأنني لاحظت أن زوجته لم تكن تنظر بعين الرضا إلى كثرة زياراته لي وعطفه الكبير علي، فرأيت من الواجب علي أن أضحي بنفسي من أجل سعادة أخي وراحته، فقبلت الصلح مع زوجي الذي أظهر استعداده لتنفيذ ما طلبته وشملني بعطفه واحترامه الشخصي. وعشنا كذلك بضع سنوات رزقت خلالها بابنتي «بثنة» وابني «محمد» ... وكادت حياتي تكون هادئة، لولا أن ابنتي التي ولدت هزيلة اعتراها مرض في الشهر العاشر من عمرها بعد أن تحملت في سبيل تغذيتها وتقويتها أنواع العذاب، كنت قد عاهدت نفسي أن أغذيها بلبني لكي لا يشاركني في حبها أحد، ولكن للأسف لم يمكنني ذلك لشرود اللبن مني. وكانت تلك السنة شحيحة بالمرضعات فالتزمنا تغييرهن الواحدة بعد الأخرى. وكان أن ساءت صحة طفلتي وبخاصة بعد أن انتابتها حمى شديدة، وقد اختلف الأطباء حول حقيقة مرضها، وإن كانوا قد اتفقوا على ضرورة تغيير الهواء لها، ولكن والدها كان يكره التنقل لكثرة مشاغله، فاستحسن أن نأخذها إلى «الذهبية» التي كانت راسية بجانب الجزيرة الصغيرة. وبعد أن وصلنا وذهبت المرضعة بالطفلة إلى فراشها في آخر الذهبية، بينما كنت أتهيأ لخلع إزاري. إذا بنور شديد يملأ الأرجاء، وإذا بزوجي يندفع في اللحظة نفسها ممتقع الوجه قائلا: اخرجي حالا وألقي بنفسك في النيل وأنت تعرفين السباحة ... لأن الذهبية تلتهمها النيران. فلما سمعت ذلك، اندفعت إلى غرفة ابنتي وأخذتها وضممتها إلى صدري وجريت نحو الباب الخارجي، فرأيت النيران تلتهم «التندة»، فخرجت من تحتها منحنية على ابنتي حتى لا يمسها اللهب الذي كنت أشعر بحرارته فوق ظهري، إلى أن صعدت إلى أعلى الشاطئ. وتزاحم الناس حولنا وكان الشبان من أولاد الذوات يتغامزون علينا، وأعين السوقة على الحقيبة الصغيرة ظنا منهم أنها تحتوي مجوهرات أو أشياء ثمينة، فصرخت فيهم جميعا: «هل فقدت المروءة أنصارها حتى لا تسعفونا أو تقدموا لنا عربة؟ بئست مصر بأمثالكم» فقدم لنا أحدهم عربته، فحملت ابنتي والمرضعة إلى البيت، بينما بقيت أنا لأطمئن على زوجي.
أذكر هذا الحادث متألمة؛ لأن بعض شبابنا ما زال حتى اليوم لا يحركه شيء إلا ما كان لغرض شخصي. أما المشاعر الإنسانية فهي ضعيفة أو تكاد تكون معدومة لدى كثير منهم، وهذا أمر يؤسف له ولا سيما في زمن يجب أن يعيش فيه الفرد للمجموع والمجموع للفرد، تحقيقا للرابطة الأدبية والمعنوية التي تؤلف بين العواطف والمصالح العامة.
وعندما عدت إلى البيت. ولن أنسى تلك الليلة المفزعة الرهيبة التي قضيتها بجنب ابنتي الحبيبة بين اليأس والرجاء، إلى أن جاء الدكتور هيس في الصباح. وعندما رآها، ارتمى على الكرسي وهو يقول: الحمد لله ... إنها لا تزال على قيد الحياة.
وأذكر أن الدكتور هيس كان طيب القلب، كريم النفس، يحب الأطفال الذين خرجوا إلى نور الحياة على يديه محبة الوالد العطوف على أولاده. كذلك فإنني أذكر له بالشكر دائما خدماته الإنسانية كلما كنت أقصده في عيادته بعض الفقراء في بيوتهم وأكواخهم، فقد كان يلبي طلبي في أية ساعة من الليل أو النهار، وأكثر من ذلك أنه كثيرا ما كان يدفع من جيبه ثمن الأدوية إذا لمس فقرهم وعجزهم عن شرائها.
وقد ظلت ابنتي تعاني من ضعف شديد لعدة سنوات. وكانت كلما أصيبت بمرض شديد اشتدت وطأته عليها بسبب ضعفها. وفي كل مرة كان الأطباء يشيرون علي بضرورة سفرها إلى أوروبا لاعتقادهم بأن تغيير الهواء يفيدها وكان والدها يرفض رفضا باتا إلى أن ساءت حالة ابنتي ذات مرة وعيل صبري، فهددت زوجي بالافتراق عنه إذا تسبب عن رفضه هذا وفاة ابنتي دون أن نقضي على هذه المصيبة. وانتهى الأمر أن أذن لي بالسفر إلى الآستانة.
كانت هذه هي أولى أسفارنا للخارج. وقد سافر معنا الباشا لتوصيلنا على باخرة روسية صغيرة اسمها «تزاريستا» وقد بدأت صحة «بثنة» تتحسن منذ ثاني يوم لوجودنا على المركب، فأخذت تجري هنا وهناك ويلاطفها جميع الركاب.
وكنت أتوق لرؤية تركيا لما كنت أسمعه عن جمال الطبيعة ورفاهية الحياة فيها. وقد صادف وصولنا غروب الشمس وفي بوغاز استنابول الجميل كانت الشمس تلقي بأشعتها الجميلة الأخيرة على «قرن الذهب» فتنعكس تلك الأشعة على المآذن البيضاء وقباب المساجد الكبيرة فوق بساط سندسي من الخضرة.
وكان بشير آغا قد استأجر لنا منزلا على الطريق المرتفع اتقاء تأثير الرطوبة في صحة الطفلة وبناء على طلب الطبيب فقد ركبنا إليه عربة مغطاة بخيمة صغيرة من تلك التي يطلق عليها اسم عربات المهاجرين «مهاجر عربة س». ولم تستطع العربة أن تواصل بنا الطريق فصعدنا أكثر من نصفه على أقدامنا حتى وصلنا المرتفع «البقوش»؛ حيث كان البيت، وكنت أظن أنني سأجد فيه كل أسباب الراحة، ولذلك شد ما كان تأثري عندما وجدته بيتا له حديقة صغيرة وكدت أتركه في الحال لولا وجود ابنتي ووالدتي معي، ولذلك رأيت أن نقضي به الليلة وفي نيتي أن أغادره عند طلوع الشمس لأبحث بنفسي عن منزل آخر أفضل منه. ولكن ما إن بزغ الفجر حتى رأيت منظرا من أبدع المناظر الطبيعية التي رأتها عيناي فقد رأيت البوسفور ممتدا أمامي في شكل شريط تحده من الجانبين مرتفعات مكسوة بالخضرة وتتناثر عليها أكشاك صغيرة مغطاة بالجمالون الأحمر أو الأسود وتتخللها قصور بيضاء أعدت دورا للسفارات الأجنبية على شكل نصف دائرة تطل على المضيق الموصل للبحر الأسود. كذلك رأيت المنزل محوطا بحديقة لطيفة تحوي أشجارا مثمرة أو مزهرة، وقد ذكرتني شجرة منها محملة بالمشمش بتلك الشجرة التي كنت أحبها في منزل والدي، واقتلعوها بسبب زفافي! ...
وتبين لي أن هذا المنزل هو أفضل منزل في المنطقة المرتفعة وقد وطنت نفسي على البقاء فيه وبدأت أنظمه قدر المستطاع، وغادرنا الباشا للرجوع على الباخرة نفسها عند عودتها. وبقيت مع والدتي وابنتي وسيدة شركسية من معاتيق الخديوي إسماعيل باشا أبت إلا أن ترافقني في رحلتي بعد أن رفضت خادمتي أن تصحبني؛ لأن لها ولدا لا يمكنها أن تبتعد عنه زمنا طويلا. ولقد أفادتني هذه السيدة كثيرا وقدمت لي خدمات كبيرة لا أنساها. وكان اسمها «مهرماه هانم» وكانت كبيرة قالغوات «وصيفات» سراي إسماعيل باشا ... وكانت حائزة رتبة باشجاويش، ووظيفتها في الحفلات والمواسم أن تسير أمام والدة باشا وبيدها صولجان طويل. وعندما تدخل الوالدة غرفة استقبالها وتجلس تلقي أمامها مهرماه هانم خطبة التعظيم المعتادة، ثم تقف إلى جانبها.
كانت هذه السيدة تتردد علينا وتحب ابنتي كثيرا ولكن حبها تحول كلية بعد ذلك إلى ابني «محمد» حتى صارت تزاحمني في حبه.
وقد بقينا في استنابول ببيوك دره ثلاثة أشهر، وكان يعالج ابنتي طوال هذه المدة طبيب إيطالي اختصاص في أمراض الأطفال. ورغم أنه كان ذائع الصيت، فإن ابنتي كانت تتحسن فترة، ثم لا تلبث أن تسوء أضعاف هذه الفترة، ولذلك أمضيت فترة وجودي في إسطنبول دون أن أحظى برؤية آثارها ومعالمها، وأذكر أنني لم أنزل إلى المدينة إلا مرة أو اثنتين لشراء بعض لوازمنا الضرورية، وقد لفت نظري تزاحم الكلاب في الشوارع والأزقة لدرجة يتعطل معها السير، وعندما سألت عن سر هذه الظاهرة العجيبة، قيل لي: إن الخليفة يحمي هذه الكلاب ويتبرك بها، ولذلك أجرى عليها راتبا خاصا من الجراية. كذلك فقد استرعى انتباهي السوق الكبيرة «أوزوث جارشي» وهي تشبه سوق خان الخليلي في مصر، وكنا نرى السيدات التركيات يجبن السوق في المآزر الحريرية المختلفة الألوان وعلى وجوههن النقاب الأسود.
وعندما رأيت أنه لا فائدة من إطالة البقاء، رجعت إلى وطني وأنا أكثر بؤسا مني عند السفر إلى تركيا التي غادرتها دون أن أعرف عنها أكثر من بيوك دره والبوسفور، وأذكر هنا أن الطبيب الإيطالي الذي كان يعالج ابنتي هناك، رفض أن يتقاضى أتعابا؛ لأنه لم يوفق لشفائها، فوضعت النقود في جيبه عند نزوله من المركب دون أن يشعر؛ حيث كان قد أتى ليوصلنا إلى الباخرة.
الفصل العاشر
عدت إلى مصر واليأس يملأ قلبي، إن السفر لم يغير شيئا بالنسبة لابنتي، والطبيب الإيطالي أعلن في نهاية الأمر، وبينما كنت أحارب الموت في ابنتي لدرجة يتألم معها كل من حولي لحالي وحالها، أتت صديقتي حرم رشدي باشا ذات يوم مهللة مستبشرة، وقالت لي: لقد حضر من فرنسا طبيب أخصائي في أمراض الأمعاء وهو «الدكتور هويس »، وسوف أحضره معي ليرى بثنة، وأنا متفائلة بقدومه خيرا.
وشكرتها، ولكنني كنت في الحقيقة غير مبالية بما تقول بعد أن استولى اليأس علي تماما، وجاءت في اليوم التالي ومعها الطبيب الذي فحص ابنتي، ثم قال لي: إن مرض هذه الطفلة ناشئ أغلبه من الجوع، وسوف تموت من الضعف إذا داومتم على اتباع الحمية معها؛ لأن لكل شيء حدا.
ولا أستطيع أن أنسى منظرها في هذه اللحظة وهي تتطلع إلى الطبيب بابتسامة شاحبة هزيلة.
وسألني الطبيب عن تلك الأمراض التي اعترتها من يوم ولادتها. ولما عرف بأمر الحمى التي كانت تعتريها، قال: لا شك في أن الملاريا هي التي تسبب كل هذه المضاعفات. ووصف لها العلاج اللازم للملاريا، وأمر بتغذيتها، وقد نجحت طريقته وصرت ألجأ إلى اتباعها كلما اقتضى الحال.
بقيت كذلك مع ابنتي حتى بلغت السادسة من عمرها. وانقطعت عن كل شيء طوال هذه المدة تفرغا لعلاجها ومحاربة الموت فيها. فانفضت بعض صديقاتي من حولي وغضب بعضهن الآخر لانقطاعي عنهن. وكن ينادينني «أم بثنة» رغم أنني رزقت بولدي «محمد» بعد ولادتها بسنتين ونصف سنة.
كذلك فقد كنت أرى زوجي يمتعض أحيانا لانشغالي عنه بابنتي التي كنت مجنونة بها، وكان يخيل إلي أنها إذا ماتت فإنني لا بد أن أموت معها حزنا عليها، وتعلقت بي الطفلة وأحبتني لدرجة إنها كانت لا تحتمل البعد عني دقائق، حتى كان يضرب بحبنا المثل في البيت، ومن شدة حبها لي، لم تكن تخالف لي أمرا في شيء، وكثيرا ما كنت أقسو عليها في اتباع الحمية بسبب مرضها مدة أشهر، وكثيرا ما كنت أتناول طعامي وهي تنظر إلي دون أن تجرؤ على أن تطلب مني شيئا من الطعام؛ لأنها كانت تفهم أن ذلك في صالحها، وكانت إذا عرضت عليها إحدى المربيات شيئا مما تحب في غيابي، رفضته وفاء لوعدها لي. وإذا رأتني أعطي شقيقها قطعة من الحلوى، تبسمت وهي تنظر إلينا ثم تقول لي: «ماما ... أعطني أنا أيضا نصيبي من الحلوى»، ثم تمد إلي فمها وتقبلني . وكانت هذه القبلة عندها بمنزلة الحلوى.
وكان من في البيت يلومونني على عدم تجنب الأكل أمامها ويعتبرون ذلك قسوة مني، إلا إنني ما كنت أفعل ذلك إلا لأربي فيها قوة الإرادة والأمانة وكبح جماح النفس. وأظنني نجحت في ذلك كله، إلا في إرغامها على تعاطي الدواء؛ لأنها سئمت كثرة تعاطيه.
وأذكر أنني كنت أتوسل إليها يوما أن تتناول جرعة من زيت الخروع، وسرت وراءها من غرفة لأخرى والملعقة في يدي، وفي النهاية هربت مني إلى غرفة شقيقها، وتقدم هو لكي يساعدني في إقناعها بوجوب تناول الشربة، ولما لم يفلح هو أيضا، قال لها بلطف: «انظري يا أبلة بثنة كيف يمكنني أن أشرب الشربة دون امتعاض.» وظننته يمزح، فقربت الملعقة من فمه، وكم كانت دهشتي؛ إذ شربها دون تردد لتحذو أخته حذوه. فأكبرت فيه روح التضحية وهو أصغر منها سنا ... ومع ذلك فإنها لم تشرب الشربة!
ولقد ربيت ابنتي وابني عن طريق الإقناع، فلم أنهرهما أبدا وأستعمل الغلظة معهما حتى ولو وقع من أحدهما خطأ يستوجب ذلك؛ بل كنت أحاول إقناعه بخطئه في لطف حتى يقتنع ويشعر بشيء من الخجل فلا يأتيه ثانية من نفسه، وبذلك أمكنني أن أبث فيهما روح تقدير المسئولية وتحملها بأهداب الأمانة والصدق، وقد شبا على هذه الصفات وتطبعا بهذه الفضائل، وشجعني ذلك على المضي في هذه الطريقة التربوية الصحيحة التي لا تتطلب من الأم إلا قليلا من الصبر والتفرغ لأقدس الواجبات.
بعد أن تحسنت صحة ابنتي واطمأننت عليها وعلى أخيها. وبدآ حياتهما الدراسية، أخذت أعود إلى حياتي الأولى من مخالطة صديقاتي، وبخاصة بعد وفاة صديقتي مدام رشدي باشا التي كنت أعتمد عليها في كثير من أموري والتي كانت تملأ الفراغ الذي أحدثه ابتعادي عن الناس لانشغالي بابنتي، وقد اضطررت إزاء ذلك أن أعتمد على نفسي، وألا أنتظر من أحد أي معونة.
وفي هذه الأثناء، حضرت من أوروبا آنسة فاضلة تدعى «مدموازيل مارجريت كليمان» وقد مرت بمصر في طوافها حول العالم منتدبة من نادي السياحة لمؤسسة كازنيجي ، وقد أرسلها إلي صديقنا المرحوم علي بك بهجت؛ حيث أرادت أن تتعرف بسيدات مصريات، فقمت بواجبي نحوها ودعوتها ذات ليلة إلى الأوبرا الخديوية، وبينما كانت تحدثني عن جولاتها والخطب التي كانت تلقيها في مختلف البلاد، سألتني عما إذا كانت سيداتنا يتلقين محاضرات أو يحضرنها، فلم يمكنني إلا مصارحتها بالحقيقة وهي أن شيئا من ذلك لم يحدث بعد، وسألتها أن تلقي علينا محاضرة عن المرأة الشرقية والغربية في مسألة الحجاب، فقبلت على أن تكون المحاضرة تحت رئاسة إحدى السيدات الكبيرات سنا ومقاما؛ لأن سني إذ ذاك لم تكن تسمح بذلك.
فوعدتها بالبحث غير آملة في إقناع والدتنا بترؤس بهذه الحفلة، ولكن ساعدني الحظ في تلك الليلة نفسها، إذ قابلت وأنا خارجة من مقصورتي «الأميرة عين الحياة أحمد»، وكنت أحبها وتحبني، فتقدمت إليها وعرضت عليها المشروع ورجوتها أن تقبل رئاسة الاجتماع، فقبلت من غير تردد وأخذت على عاتقي إيجاد القاعة المناسبة وإعداد تذاكر الدعوة وتوزيعها بأسرع ما يمكن، وعندما عدت إلى المنزل عرضت الأمر على زوجي فاستصوب أن يكون الاجتماع في إدارة «الجريدة» أو بإحدى صالات الجامعة التي كانت في منزل خيري باشا «الجامعة الأمريكية الآن»، وقد فضلت الأخيرة وطلبناها من المرحوم علوي باشا وتحدد للاجتماع يوم الجمعة 15 يناير 1909 لتكون الجامعة خالية من المعلمين والطلبة، وكانت الجامعة إذ ذاك تحت رئاسة سمو الأمير أحمد فؤاد «الملك فؤاد فيما بعد»، وكانت هذه أول محاضرة ألقيت على جمع من السيدات في الجامعة المصرية، وقد لقيت نجاحا وتقديرا شجعاني على أن أطلب من «الآنسة كليمان» أن تعود إلينا بعد ذلك لتلقي سلسلة محاضرات مفيدة على سيداتنا، وبخاصة بعد أن رتب سمو الأمير محاضرات خاصة للسيدات في أيام الجمع.
وقد تكون هذه مناسبة طيبة للحديث عن إنشاء الجامعة الأهلية ... ففي سنة 1905 نشرت الصحف مقالات ومناظرات لكثير من المفكرين عن أيهما أنفع للقطر المصري في الحالة التي كان عليها ... الكتاتيب أم مدرسة كلية عالية ... وقد اشترك في هذه المناقشات كثيرون من أصحاب الفكر والأقلام. أما الخطوة الأولى الأساسية والعملية فقد بدأها مصطفى بك كامل الغمراوي الذي رأى حاجة البلاد إلى المحصول العلمي ووجوب توفيره في مصر توفيرا للجهود والإنفاق على طلاب العلم في أوروبا.
ففكر في إنشاء جامعة تضم كليات مختلفة مثل جامعات أوروبا، وفكر في الدعوة لمشروع الجامعة والتبرع لها؛ حيث نشر نداء في الصحف المحلية العربية والإفرنجية داعيا لهذه الفكرة في 30 سبتمبر 1906، وقد بادر المرحوم أحمد شفيق باشا فاكتتب بخمسمائة جنيه.
وكان الخديوي عباس راضيا عن هذا المشروع، ما شجع على عقد أول اجتماع لمناقشته في دار سعد زغلول باشا وكيلا، وقاسم بك أمين سكرتيرا، وحسن باشا سعيد أمينا للصندوق، وعضوية مصطفى بك كامل الغمراوي ومحمد بك عثمان أباظة ومحمد بك راسم وحسن بك جمجوم وحسن باشا السيوفي وغيرهم. وكان المعتمد البريطاني اللورد كرومر يحارب كل ما من شأنه تقدم البلاد، فنادى بأن تعميم التعليم الابتدائي أهم من ذلك، وأن الأمة أحوج إليه من التعليم الجامعي، بل إنه ذهب في محاربة المشروع إلى حد تعيين سعد زغلول باشا وزيرا للمعارف بقصد إبعاده عن الاشتغال بأمر الجامعة.
وقد قام قاسم بك أمين بمجهودات عظيمة لنجاح المشروع؛ حيث قابل الخديوي وعرض عليه أن يتولى رعاية المشروع فقبل الخديوي، وانتهى الأمر بتعيين الأمير أحمد فؤاد رئيسا لمجلس الجامعة عام 1907، ومن أعضائها محمد علوي باشا وعبد الخالق ثروت باشا وإسماعيل صدقي باشا ويعقوب أرتين باشا وإسماعيل حسنين باشا ومرقص فهمي بك وعلي بهجت بك والسير جاستون ماسبيرو. وهكذا خرجت الجامعة المصرية إلى عالم الوجود.
وكان في مقدمة المتبرعين لهذا المشروع: الأميرة فاطمة كريمة الخديوي إسماعيل التي تبرعت بستة أفدنة ووقفت ستمائة فدان ليصرف من إيرادها على شئون الجامعة بالإضافة إلى جواهر قيمتها ثمانية عشر ألف جنيه، وتخليدا لفضلها كتب على مدخل كلية الآداب تلك العبارة التي ما زالت موجودة حتى الآن وهي: هذه من آثار حضرة صاحبة السمو الأمير فاطمة إسماعيل.
وهناك أيضا الأمير يوسف كمال، وأحمد بك الشريف، وحسن باشا زايد وهو من سراة المنوفية. وقد أوقف عزبة سراوة ومساحتها ستون فدانا على الجامعة، ومن أجل ذلك انتقل مجلس إدارة الجامعة المصرية برئاسة الأمير أحمد فؤاد إلى قصر حسن باشا زايد لتقديم الشكر له رسميا في 15 أبريل 1908، وألقى خطبة بهذه المناسبة، ورد الأمير فؤاد على خطبة حسن باشا زايد بكلمة تقدير.
وقد افتتحت الجامعة المصرية يوم 21 ديسمبر سنة 1908 في احتفال عظيم تصدره الخديوي إسماعيل، وكان في استقباله رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد وأعضاء مجلس الجامعة ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وعلية القوم. وألقى الأمير فؤاد كلمة في هذه المناسبة الوطنية السارة. وبارك الخديوي باكورة النهضة العلمية التي أذنت بفتح باب التعليم العالي أمام أبنائنا وبناتنا.
والحقيقة أن هذا اليوم كان يوما مشهودا في تاريخ مصر؛ لأن افتتاح الجامعة تحقق بعد حرب لا هوادة فيها بين اللورد كرومر من ناحية وبين المفكرين وأولي الأمر من ناحية أخرى، ويعد ذلك انتصارا لإرادة الأمة على إرادة المستعمر الذي كان يحاول بكافة الوسائل وضع العراقيل أمام تقدم العلم في بلادنا. ويعمل على تخلف أولادنا عن ركب العلم والمعرفة.
وجدير بالذكر أن السيدة ملك حفني ناصف التي اشتهرت باسم «باحثة البادية»، والتي كانت تكتفي من قبل بإعلان آرائها في الجرائد فقط، قامت بإلقاء سلسلة محاضرات مفيدة في الجامعة وفي صالة «الجريدة» التي كان يرأس تحريرها أحمد لطفي السيد بك.
كانت زيارة «الآنسة كليمان» هي بداية توثق الصلة بيني وبين الأميرة عين الحياة أحمد، وأذكر أن الأميرة كانت قد تأخرت عن موعد حضورها ذلك اليوم، فتأخر بدء المحاضرة عشر دقائق، ولما لم تحضر، بدأت المحاضرة حديثها، وكنت قد أجلست بعض قريباتي في مقاعد الصف الأول الذي كان محجوزا للأميرة، ثم لم تلبث أن أقبلت الأميرة، ورأتها قريباتي فأخلين لها المقاعد، ولما رأت السيدات الحاضرات ذلك، قمن جميعا مثلنا، وهنا سكتت المحاضرة عن الحديث وقامت هي الأخرى معتقدة أن هذه هي تقاليدنا، فأسفت الأميرة؛ لأنها سببت كل هذا الانزعاج واعتذرت للآنسة المحاضرة عن تأخيرها، وهنا رجوت الآنسة كليمان أن تبدأ محاضرتها من جديد.
ولقد كان هذا الحادث موضع انتقاد بعض السيدات الأجنبيات؛ لأن المحاضر عندهن لا يجوز أن يقاطع حديثه أو يقف مهما كان مركز القادم، ولكن العذر أن هذه كانت أول محاضرة تلقى على سيداتنا، وهن لم يتعودن مثل هذه الاجتماعات.
وبعد مضي أيام من محاضرة الآنسة كليمان وصلتني دعوة للشاي من الأميرة عين الحياة أحمد للتعارف بين الليدي كرومر الجديدة والسيدات اللاتي ساعدن في إنشاء مستوصف الليدي كرومر الأولى، ولكنني اعتذرت لأنني لم أشترك في تلك المساعدة، وكانت والدتي هي التي فعلت ذلك.
وبعد فترة قصيرة أرسلت الأميرة تطلبني لمقابلتها معتذرة بمرضها، فبادرت بتلبية الدعوة وقابلتني في فراشها، وبادرتني قائلة: «لقد فهمت حقيقة المشاعر التي منعتك من حضور الحفلة التي أقامتها الليدي كرومر. والحقيقة أنني أشعر بالخجل من عدم قيامنا نحن المصريات بمشروع جليل كهذا، وكان الواجب علينا أن نكون سباقات في هذا الميدان، ولذلك فكرت في تأسيس مستوصف تكتتب لإنشائه الأميرات والسيدات المصريات فنكون قد أدينا خدمة للوطن والإنسانية.»
فأثنيت على هذه الفكرة، ثم سمحت لنفسي أن أقترح على الأميرة تأسيس مدرسة لتعليم البنت ما يلزمها من واجبات الأمومة مثل العناية بصحة الطفل وتربيته وترتيب المنزل؛ لأن الداء لا بد أن يعالج من أصله، والمستوصفات وإن كانت تأتي بفائدة عظيمة إلا أنها فائدة وقتية، وما دامت الأم جاهلة، فلا يرجى من العلاج الوقتي شيء يذكر، بل يجب استئصال الداء من أساسه ... ووعدت الأميرة باشتراكي معها قلبيا وعلميا في تحقيق هذا الغرض، إذا وعدتني بأنها ستفكر في إنشاء مدرسة كهذه لتربية أمهات المستقبل حتى يمكننا تحقيق الغاية المنشودة من «المبرة»، فوعدتني بذلك.
ولما كان هذا المشروع يحتاج إلى مصروفات طائلة واستعدادات هائلة، فقد قالت: إنه لا مانع من أن نقوم من الآن بتحقيق هذا المشروع، ثم أضافت قائلة: إن لي غاية أبعد من ذلك، وهي تنمية روح التعاون والتعاضد بين الأميرات والسيدات المصريات، وأن يكون هذا العمل مبنيا على أساس العاطفة الإنسانية القومية.
وبعد أسبوع، دعيت للاجتماع الأول في الدار التي كانت تسكنها بشارع الدواوين، فوجدت عددا كبيرا من الأميرات وكرائم السيدات المصريات. وبعد أن تناولنا الشاي وتعارفنا تشكلت لجنة من الأميرة نازلي حليم رئيسة، والأميرة عين الحياة أحمد أمينة للصندوق، ومدام فوكيه وإحدى الأميرات سكرتيرتين، وبعض الأعضاء من باقي السيدات، واكتتبت كل واحدة منا بمبلغ لا يقل عن خمسين جنيها. وأخبرتنا الأميرة أن سمو الأميرة والدة الخديوي ستتبرع بمبلغ كبير وبمئة وعشرين جنيها سنويا، وأن الخديوي عباس حلمي الثاني وقريتنه سيشتركان في هذه المبرة. ثم وزعت علينا طوابع عليها رسم امرأة تضم إليها طفلة فقيرة من فئة القرش صاغ لنبيعها ونضيف حصيلتها على التبرعات لتكون رأس مال الجمعية، كما قررت توزيع بعض هذه الطوابع على المديريات والمحافظات والمراكز والوزارات للمساعدة في رأس مال الجمعية، وتم توريد الحصيلة للأميرة عين الحياة.
ثم حدث أن سافرت الأميرة بعد ذلك في فصل الصيف للاستشفاء في أوروبا، وكان قد اعتراها المرض الذي قضى على حياتها الغالية ولم تكن قد جاوزت إذ ذاك الخمسين من عمرها، فكان لوفاتها حزن عميق في نفسي؛ لأني كنت أحبها وأقدرها لفرط ذكائها ورقة حاشيتها وطيبة قلبها ووداعة نفسها.
وفي ذات ليلة رأيتها في منامي وقد دخلت علي وأنا في غرفة دراستي مدة طفولتي في بيت والدي مرتدية ثيابا سوداء وخلفها كريمتها الأميرة كاظمة تحمل على يديها وسادة صغيرة فوقها كتاب مقفل، فتقدمت لتحيتها، وبعد أن ردت علي التحية، التفتت إلى كريمتها وأخذت منها الوسادة وما عليها وسلمتها إلي صامتة.
ولما كنت أعتقد في الأحلام، فقد فسرت هذا بأنها تعهد إلي بتحقيق مشروعها وتأتمنني عليه ... فقررت في نفسي أن أبذل كل جهدي من أجل تنفيذ رغبتها وفاء لها، وكانت الأميرات بعد وفاتها قد أظهرن فتورا نحو تحقيق هذا المشروع، وبخاصة عندما طلبن من نجلها الأمير كمال الدين حسين المبالغ التي كانت لديها من حصيلة التبرعات وبيع الطوابع، فطلب منهن إثبات ذلك، ولما لم يكن لديهن أي مستند، فقد داخلهن اليأس ... ولكني قلت لهن: إنه لا بد من استرداد هذه المبالغ، وإنني لا أشك في أنها قد أثبتتها في الأوراق التي تركتها، وكان هذا يتطلب وجود مندوبة تتردد على الدائرة وتبحث مع الكتاب والموظفين في الدفاتر، وقد اخترت لذلك صديقة فرنسية لها دراية بإمساك الدفاتر ومعروفة بالأمانة والصدق، وقبلت القيام بهذه المأمورية بلا مقابل إكراما لخاطري، واستطاعت أن تثبت لنا الحق في ثلاثة آلاف من الجنيهات، دفعها لنا الأمير دون تردد. وأمكننا بذلك إنجاز المشروع باستئجار منزل صغير في شارع البراموني، مجهز بكل اللوازم التي يتطلبها المستوصف. ولا يزال المستوصف موجودا إلى الآن يقوم بأجل الخدمات الإنسانية، وهو المعروف باسم «مبرة محمد علي».
وقد أقمنا فيما بعد عدة حفلات بهدف جمع مبالغ جديدة لدعم المبرة، وقد ساعد دخل هذه الليالي الشرقية على نمو رأس مال الجمعية، فأبديت للجنة اقتراحي بشأن إنشاء مدرسة لتربية أمهات المستقبل. وقصصت عليهن ما دار بيني وبين المرحومة الأميرة عين الحياة عند قيامها بتنفيذ مشروع المبرة. فأيدت وجهة نظري معظم الأميرات والسيدات، واعتمدت اللجنة مبلغا لشراء منزل لهذا الغرض. ووفقت إلى منزل كبير بشبرا مساحة فدان ... وهو مبني على طراز القصور القديمة ويفي بالغرض ولا يتطلب إلا بعض التعديلات والترميمات. وقد اشتريناه بمبلغ 2200 جنيه، وكلفنا المرحوم المهندس محمود باشا فهمي بترميمه، وقمنا من جانبنا بإعداد ما يلزمه لاستكمال أثاثات المدرسة.
ولا يسعني إلا أن أذكر الهمة العظيمة التي كانت تبذلها الأميرات والسيدات المصريات أعضاء هذه الجمعية للقيام بواجبهن الإنساني، وكان لي شرف رئاسة اللجنة العاملة فيها، وكانت الأعضاء يحضرن كل جلسة تعقد أسبوعيا ويعتنين بصحة البؤساء من أولاد الفقراء وأمهاتهم، جاعلات نصب أعينهن العناية بأولاد الشعب. كذلك فقد تطوع بعض الأطباء المصريين والأجانب لهذه الخدمة الإنسانية بالمجان. وكانت الخدمات الطبية تجري تحت إشراف الأميرات والسيدات أعضاء اللجنة اللاتي كن يحضرن بالتناوب في أيام محددة.
الفصل الحادي عشر
في صيف عام 1909، سافرت إلى أوروبا لأول مرة وقد قصدنا إلى فرنسا نزولا على مشورة الأطباء للاستشفاء. وكان معنا في هذه الرحلة أخي وزوجته وأولاده ووالدتي.
وقد أبحرنا على إحدى البواخر الألمانية، وسارت بنا في هدوء واتزان إلى أن اقتربنا من نابولي، وكنت أتوق لرؤية هذا الميناء الذي طالما شوقتني خالتي إليه بوصفها الجميل له، وعندما أوشكت السفينة على الرسو، أبصرنا زوارق صغيرة ملأى بالمغنين والموسيقيين يوقعون الأغاني الشعبية ابتغاء عطف المسافرين عليهم بدراهم قليلة.
وكم كان مؤثرا وغريبا ومسليا في وقت واحد منظر تلك الزوارق تحوط بها أسراب من الأطفال الصغار يسبحون في الماء كالأسماك في انتظار عطايا المسافرين. فإذا ما ألقى إليهم أحد ببعض الليرات، غاصوا جميعا في الماء لالتقاطها. بينما يطوف بعض الباعة الجائلين بالمركب ليبيعوا الصدف والمرجان وأنواع الأنتيكات والحلي وغيرها.
وعندما رأينا حال أهل تلك المدينة، لم نشعر بأننا بعدنا كثيرا عن الشرق، إذ كنا نرى الأطفال حفاة عراة الرءوس ليسوا على جانب كبير من النظافة كما كان الحال في بعض البلدان الشرقية، كذلك فقد كنا نشاهد في بعض الطرقات الملابس المغسولة منشورة في النوافذ والشرفات، وأحيانا على حبال مشدودة بين منزل وآخر بعرض الشارع، وفي الأحياء الفقيرة كنا نرى بعض النساء جالسات أمام بيوتهن يمشطن شعورهن.
أمضينا في نابولي تلك الليلة بعد أن زرنا بركان فيزوف والجاليري، وعندما استيقظت في الصباح الباكر ونظرت من نافذة غرفتي، رأيت منظرا من أروع مناظر الطبيعة، فقد كانت الشمس تبدو من بين قمم الهضاب وكأنها شعلة متقدة من النيران.
وقد أبحرت بنا الباخرة بعد ذلك في طريقها إلى مرسيليا. وعندما اقتربنا منها، ظهرت أمامنا في ثوب يختلف عما رأيناه في نابولي، فقد كانت السماء قاتمة والهضاب المحيطة بالميناء، رمادية اللون، وقد رست الباخرة في الميناء صباحا ... وأمضينا ذلك اليوم فيها، وهي مدينة جميلة وبهيجة وكثيرة الحركة والنشاط، فهي بلد تجاري، وقد استلفت نظري تقارب عادات أهلها مع أهالي الموانئ الشرقية. وقد قصدنا زيارة بعض معالم تلك المدينة وآثارها، فزرنا الجاليري، والمتحف وكنيسة نوتردام دي لومباري، وهي كنيسة أثرية عظيمة على مرتفع شاهق.
وفي اليوم التالي، دعانا شقيقي للغداء في فندق «لاريزوف»، وهو يقع على الكورنيش فوق مرتفع مطل على منظر البحر الجميل، وفيه تناولنا نوعا من الحساء يسمى «البويابيس»، وهو مصنوع من جملة أنواع من السمك مضافا إليها التوابل، ويقدم مع قطع من الخبز الجاف والجبن المبشور.
وقد سافرنا في اليوم التالي إلى ليون؛ حيث قضينا يومين تفرجنا خلالهما على مصانع الأقمشة الشهيرة وعلى حوانيتها المنظمة، وقد اشترينا منها بعض ما يلزمنا من ملابس ... وليون بلد أوروبي محض لم نر فيه شيئا يذكرنا بالشرق، وهو فوق ذلك كله بلد صناعي وتجاري وعلمي من أعظم بلاد فرنسا.
غادرنا ليون قاصدين باريس؛ حيث نزلنا في «برنسيس أوتيل» بشارع الشانزليزيه؛ حيث كنا قد حجزنا غرفنا، ولما مررنا بميدان الكونكورد الواسع الجميل، رأيت حركة كبيرة ... وعجبت لوجود المسلة المصرية في وسط ذلك الميدان العظيم تنطق بعظمة مصر ومجدها القديم في تلك البقعة التي تعتبر رمز الحضارة والمدنية الحديثة، وكان وجودها ميثاقا دائما للصداقة الأدبية المتينة التي توطدت أواصرها بين أبناء النيل وأبناء السين. وقد رأيت الرجال والنساء مشاة وركبانا، وزرافات ووحدانا، يمرون بشارع الشانزليزيه في أبهى حلة وأجمل زينة، فظننت أنه يوم عيد، وسألت شقيقي عن هذه المناسبة، فأجابني بأن باريس هكذا كل يوم ...
وقد أعجبتني باريس، ليس فقط لجمال مبانيها، واتساع شوارعها وتنظيم ميادينها وتنسيق متنزهاتها وحسن هندام أهلها، وإنما أيضا؛ لأن الإنسان يجد في كل خطوة فيها ما يغذي عقله ويوسع خياله وينمي مداركه ومواهبه ... هناك الجمال وحسن الذوق يتجليان في كل شيء ويدفعان الإنسان إلى البحث عن معرفة أصله.
وكان يكسب هذه الحركة العظيمة رونقا وبهاء، مرور العربات تحت قوس النصر الذي يقع وسط ميدان النجمة الجميل، وعلى جانبي الشارع تتناثر الفنادق الكبيرة والمقاهي الأنيقة التي تعزف فيها الموسيقى والغاصة بالجماهير، وعلى هذا الميدان يطل فندق «برنسيس أوتيل» وهو من الفنادق العائلية الممتازة، وهو عبارة عن سراي قديمة بها غرف وأبهاء واسعة منسقة تنسيقا جميلا ومفروشة بأثاث فاخر ورياش ثمين، وقد استأجرنا في هذا الفندق طابقا مستقلا بالاشتراك مع شقيقي، فكنا نشعر في هذا المكان الهادئ أننا لسنا بعيدين عن منازلنا.
وقد خرجنا في اليوم التالي لوصولنا باريس لمشاهدة بعض حوانيتها الكبيرة والتوصية على ما يلزمنا من المحلات الشهيرة، وكم عجبت عندما رأيت محلات الأزياء الكبرى تعرض الملابس على فتيات جميلات أنيقات ... ولم يكن في هذا العرض مجرد الترغيب في شراء الملابس، بل فيه دروس للمشترية تمكنها من تمييز ما يلائم هذه الملابس من باقي اللوازم التي تحتاجها لتكملة أناقة الملبس، وكذلك تستطيع أن تنتقي الألوان المناسبة للون شعرها وبشرتها.
وقد صادف ذلك يوم مهرجان الزهور في غابة بولونيا، فكان طريق الأكاسيا غاصا بالمتفرجين والمتفرجات من المشاة والجالسين على جانبي الطريق، وكانت عربات الزهور تمر مكسوة بأنواع الأزهار المختلفة وأمامها وخلفها عربات تقل السيدات والرجال في أبهى زينة وأجمل ملبس. وكانوا يتراشقون بالأزهار والورود تغمرهم البهجة ويرفرف عليهم السرور، بينما كان المشاة والواقفون يجمعون الأزهار التي تتساقط من العربات ويكونون منها باقات لأنفسهم يزينون بها منازلهم وغرفهم الصغيرة، فمن طابع الأوروبيين ميلهم الشديد للأزهار وتقديرهم لها وحبهم فيها باعتبارها غذاء لأرواحهم، حتى إن معظم الفقراء لا يبخلون على أنفسهم بشراء بعض الأزهار يزينون بها بيوتهم أو يحلون بها صدورهم.
وقد تطوع شقيقي في أن يكون دليلنا مدة إقامتنا في باريس، فكان لنا خير دليل وأكبر معين؛ لأنه كان يعرف كل مرافقها وضواحيها ومنتزهاتها ودور التمثيل والفنون الجميلة والمتاحف والسرايات الملكية القديمة والتاريخية، وكان ذلك يرجع إلى ما يتحلى به من حسن الذوق وتقدير الأشياء حق قدرها، ولذلك كان وجوده معي يكسبها جمالا في عيني فوق جمالها ويزيد من تقديري لها، وهو ما لم أعد أشعر به من بعده.
كم كنت أرتاح لوجودي بجانب شقيقي في الزيارات التي كنا نقوم بها في باريس، لاتفاق شعورنا وميولنا في تقديرنا للفن والعلم والجمال وتقارب أذواقنا، وأظن أنه هو أيضا كان يشعر مثلي بكثير من الغبطة لمرافقتي له ... وكم شق علي زيارة تلك الأرجاء بدونه من بعده، وكم فقدت من رونقها في نظري كلما حاولت أن أستعيد الذكرى.
وباريس هي الصفحة المنشورة من سجل تاريخ الفرنسيين ؛ حيث يشب الفرنسي في أية بيئة ملما منذ نعومة أظفاره بتاريخ بلاده، قبل أن يدخل المدارس ويتعلم هذا التاريخ في الكتب ... ولذلك تراه فخورا بتاريخها المجيد، حريصا على خلود هذا المجد، وليس هذا فحسب، بل ترى الشعب الفرنسي يطوف بكل القصور الأثرية والميادين التاريخية ودور الآثار والعلم والمتاحف الفنية والكنائس والمعابد التي تفتح له أبوابها في أيام العطلات.
وقد أعجبني في باريس كل شيء حتى شراسة أخلاق الرعاع فيها؛ لأنها لا تخلو من خفة الروح وتعبر عن شخصية لا تكلف فيها ولا تغيير، فالفرنسيون أشخاص متفردون بعبقريتهم، مستقلون في أفكارهم وطباعهم وأعمالهم وصفاتهم وحتى في عيوبهم، ولذلك تجدهم محافظين على شخصيتهم، فخورين بها، متباهين بحريتهم، متفانين في تقديسها.
ومع ذلك فقد تألمت من نتائج التطرف في تلك الحرية في بدء عهدي بزيارتها، إذ كنت أظن أن الصغير والكبير من كل طبقة في تلك الأمة على جانب عظيم من الرقة وحسن المعاملة ... وأذكر بهذه المناسبة إنني عندما أردت لأول مرة زيارة أحد حوانيت باريس الكبرى في يوم حدد لتخفيض أثمان البضائع، وجدت على أبواب الحانوت زحاما شديدا، فوقفت عند الباب لأمكن بعض الداخلين من المرور مجاملة كما هي عادتنا في بلاد الشرق، ظانة أنه سيأتي دوري وأجد من بين الداخلين من يرد لي تلك المجاملة، ولكني لاحظت للأسف أنه لم يشعر بوجودي أحد، ورأيتني مدفوعة بشدة بين تلك الأمواج المتلاطمة من الأجسام البشرية، تتقاذفني موجة وتتلقاني أخرى باللكم والسير على قدمي، فكادت تنهمر دموعي على خدي من هذا التسابق الرهيب، وثم وجدت نفسي أمام منضدة محوطة بالمتفرجين والمتفرجات وقد مددت يدي بلطف إلى قطعة من القماش أعجبتني، ولكن سرعان ما اختطفتها من يدي إحدى المتفرجات بغلظة حتى كادت الدموع تفر من عيني مرة أخرى، ولكني كتمت تأثري حتى لا يضحكوا أو يسخروا مني ... وأخيرا خرجت من المحل بعد أن اتخذت من ذراعي مجذافين أستعين بهما على النجاة من تلك اللجج البشرية المتراصة.
مثل هذه الأشياء لم ترقني أول الأمر، ولكنني انتهيت منها إلى أن أفهم أن التزاحم في الحياة هو سبب نهضة تلك الأمم وتفوقها، وإن كان ذلك مظهرا من مظاهر الأنانية ... وأن تسامح الشرق ورقة شعوره هما سبب تأخره واضمحلاله، رغم ما في ذلك من نبل ودعة.
ولقد بقينا في باريس مدة شهر أو أكثر، وكنا قد قصدناها لاستشارة الأطباء، وكان في عزمنا في البداية ألا تمتد إقامتنا بها أكثر من أسبوعين، ولكن المدة طالت دون أن نشعر بها؛ لأن تغيير الهواء والمعيشة كان لهما أفضل الأثر على صحتنا جميعا. وقد عزمنا بعد ذلك على السفر إلى «ابنيول دي لورن» بناء على مشورة البروفيسور «روبان» الذي أكد لنا أن مياه تلك الجهة مفيدة جدا بالنسبة لما كنت أشكوه من عدم انتظام الدورة الدموية، وهو ما كان يسبب لي كل الآلام التي كنت أقاسيها ... وكان أخي قد نوى الرحيل إلى «البوي دودوم» في الوقت نفسه، فغادرنا جميعا الفندق في صباح واحد.
بعد عودتي من أوروبا، وقعت أحداث هامة في مصر. ومن ذلك ما وقع يوم 20 فبراير 1910، وهو إطلاق الرصاص على بطرس غالي باشا رئيس النظارة، من فتى يدعى إبراهيم ناصف الورداني، المنتمي للحزب الوطني، وذلك عند مغادرة الرئيس لنظارة الخارجية في الساعة الواحدة بعد الظهر ... وكان هذا من أبرز الأحداث السياسية التي وقعت في تلك الفترة.
أما عن الأحداث الاجتماعية، فإنه قد ظهرت في ذلك الوقت بوادر نهضة أدبية بين السيدات الراقيات، إثر ما ذكرته عن تلك الوثبة التي صاحبت إلقاء المحاضرات في الجامعة، وقد شعرت إزاء ذلك بوجوب تأسيس ناد أدبي لهن يجتمعن فيه للبحث في الشئون الأدبية والاجتماعية، وعرضت هذه الفكرة على الأميرات، وطلبت رعايتهن لهذا المشروع، فقبلن بارتياح وحددن موعدا للاجتماع في منزلي للاتفاق على تفاصيل هذا المشروع.
ومن ناحية أخرى، فقد كنت على اتصال بالكاتبة الفرنسية الآنسة مرجريت كليمان التي كانت تكاتبني دائما، وكنت أطلعها في خطاباتي على أماني، وقد وعدتني إذا تحققت مشروعاتي أن تحضر خصيصا إلى مصر للاشتراك معنا وإلقاء محاضرات اجتماعية، وقد كتبت إليها أبشرها بقرب تحقيق أمنية من أماني الغالية وهي تأسيس ناد للسيدات، وطلبت إليها أن تحضر في الموعد المحدد لعقد أول اجتماع عندي، وكان أن جاءت، وعقد الاجتماع في منزلي برئاسة شرف الأميرة أمينة حليم وعضوية الأميرات المصريات والأجنبيات، وشكلت لجنة تحت اسم «جمعية الرقي الأدبي للسيدات».
وقد بدأت الآنسة «مرجريت كليمان» بإلقاء سلسلة محاضرات بمنزلي وبالجامعة المصرية، كذلك اشتركت الكاتبة المبدعة الآنسة «مي» في عضوية هذه اللجنة، وكانت لا تزال في بدء حياتها الأدبية. أما السيدة لبيبة هاشم صاحبة مجلة «فتاة الشرق» فقد عينت سكرتيرة عربية لهذه اللجنة.
وقد انهالت علي رسائل التهنئة والترحيب بهذا المشروع الذي صادف قبولا حسنا لدى النفوس المتعطشة إليه، وكان ذلك في أبريل 1914.
وكان علي بعد ذلك أن أقوم بالبحث عن منزل ليكون مقرا لهذا النادي الذي لم نكن نجرؤ على تسميته ناديا، نظرا لأن التقاليد كانت تستهجن مثل هذا العمل، ولا تسمح للمرأة بأن تتنفس أو تجد لنفسها منتدى تلقى فيه صديقاتها والعاملات معها في الحياة الاجتماعية، ثم جاء الصيف وسافر كثير من الأميرات والسيدات إلى أوروبا كعادتهن، على أن يستأنف العمل على تحقيق هذا المشروع الجديد عقب عودتهن إلى الوطن.
وفي غضون هذه المدة، اشتد مرض الحمى الشوكية على ابنة أخي الصغيرة، وكنت أحبها حبا كبيرا، وكنا نتحدث أمامها بأنها ستكون عروسا لابني محمد، فتشبع الطفلان بهذه الفكرة وتوثقت عرى المحبة بينهما، وكانت هي تقول إنني أحبه وسأتزوجه رغم كل شيء، أما هو فأذكر أنني قلت له يوما: «وهل تنتظرك وهي أكبر منك بسنة والبنات يتزوجن مبكرات؟» فأخذ يبكي بالدموع ويقول: «إذن بمن سأتزوج؟» وكأنما ليس في الحياة غيرها!
وزادت وطأة المرض على «هدى» الصغيرة، رغم كل ما بذله والدها من عناية، حتى إنه أحضر البروفيسور «روبين» خصيصا من باريس لعلاجها. ولكن كل هذه المحاولات لم تفلح ... وبعد أن قاست كثيرا من مرارة المرض، توفيت إلى رحمة الله، وأذكر أنني كتبت في مفكرتي يوم الاثنين 11 مايو 1915 أقول: «قصف المنون صباح اليوم زهرة في عنفوان صباها، بل في طفولتها، فوا حسرتاه.»
ولقد كان لوفاتها تأثير كبير على صحة والدها الذي كان يعزها ويحبها، وكان لذلك رجة كبيرة وهزة عنيفة في نفوسنا جميعا، وقد حزن عليها ولدي محمد حزنا شديدا رغم صغر سنه، وكان إذ ذاك مريضا وضعيف البنية، وكانت تعتريه حمى منخفضة لازمته باستمرار ولم ينفع فيها أي علاج.
ولما عجز الأطباء عن معرفة سبب هذه الحالة، نصحوا بالسفر إلى أوروبا لعرضه على الأخصائيين هناك وليستفيد من تغيير الهواء والإقامة في الجبال. وقد اضطررت للسفر تاركة والدتي على فراش المرض؛ حيث لم يسمح لها الطبيب بالسفر وإن كان قد طمأنها على صحتها ما دامت بعيدة عن المؤثرات وعن الصدمات النفسية والمتاعب الجسمانية، وكان سفرنا من الإسكندرية بعد ظهر يوم الأربعاء 14 يونيو 1914. وكانت هذه أول مرة أفارق فيها والدتي وأسافر بدونها، ورغم أن الطبيب طمأنني عليها، فقد كنت أحس في دخيلتي كأنني لن أراها ثانية، وقد حدثتني نفسي أن أرجع من الإسكندرية لولا الحالة التي كان عليها ولدي وخوفي مما قد يترتب على عدم العناية به.
الفصل الثاني عشر
وصلنا باريس في الساعة السادسة من مساء يوم الأربعاء 17 يونيو، ولم نجد في «أوتيل برنسيس» محلا مناسبا للإقامة به، وقد سررت لذلك كثيرا؛ لأن وجودي في هذا الفندق كان يشق على نفسي لعدم وجود والدتي معي في هذه المرة، وقد تعودنا أن نكون معا دائما، فأين هي الآن، وفي أي حال يا إلهي، ومع ذلك فقد أرغمتنا الظروف أن نقضي ليلتنا في هذا الفندق بعد أن عجزنا عن أن نجد أماكن مناسبة في أي فندق آخر.
وإنني أعود الآن إلى مفكرتي الخاصة، لأنقل منها بعض يوميات هذه الرحلة، فمن المؤكد أن ما يكتبه الإنسان من وحي اللحظة يكون له وقع آخر مختلف عما يدونه من ذكرياته فيما بعد.
باريس في 18 يونيو
أمضينا ليلة أمس بأوتيل برنسيس، ثم خرج الباشا صباح اليوم وأجر لنا شقة أوتيل الكونتنتال، فعزلنا في الحال، وها نحن بها والشقة في أول دور تطل على الشارع وعلى الحديقة وقريبة من البلد، ولكن هواء برنسيس أوتيل أنقى وأحسن. وقد خرجنا في الصباح لقضاء بعض مشتريات للأولاد، وبعد الظهر زارتني مدام روس، وبعد العصر ذهبت لزيارة «مدام روبين»، ما ألطف هذه السيدة وما أطيب قلبها، فإنها مثال الوفاء.
الليلة ليلة ميلاد «بثنة». إني أذكر ما قاسيته فيها، ولكن نظرتي لبثنتي تنسيني كل ما مضى، وأسأل الله أن يكافئني ببقائهما وسعادتهما.
الجمعة 19 يونيو
اليوم أتمت بثنة الإحدى عشرة سنة، أشكر الله أن أبقاني لهذا اليوم، فيا ترى أعيش وأراها في سن الحادية والعشرين؟ هيهات أن تسمح صحتي بذلك.
السبت 20 يونيو
سافر الباشا اليوم إلى لوندرة ليرى حسن شعراوي وما يلزمه لإدخاله المدرسة، وتركني مع الأولاد هنا، وكلفني بعمل ما يلزم من مشاورة الأطباء، ولكني أشعر بألم في رأسي وحلقي، وأظنه ابتداء زكام، وأحس بحزن عظيم لا أعلم له سببا إلا اشتياقي إلى والدتي وتألمي لبعادها.
الأحد 21 يونيو
ما أثقل هذا اليوم بالمطر والسحاب، يوم عبوس حزين، مثل قلبي، من الصباح حتى المساء لم تعطف عليه الشمس بابتسامة ولم تكل عيناه من الدموع، فيا حبذا لو كنت أشاركه البكاء، ولكن عيني تبخل علي من زمن به:
يا دهر مهلا إن قلبي ليس صخرا أو حجر
أرجمته بمصائب لولا التجلد لانفطر
فرقت عني أحبتي وكحلت عيني بالسهر
لو كان دمعي مسعفي لليوم سابقت المطر
ويلاه ما أقساك يا دهري وما أقوى القدر
توجهت بعد ظهر اليوم إلى «الدكتور كومبي» وأزعجني بتشخيص مرض «محمد»؛ حيث قال: إن عنده التهابا في المصران.
الاثنين 22 يونيو
توجهنا مع «مدموازيل كليمان» بعد الغداء إلى فرساي وعند وصولنا ذهبنا إلى منزلنا وتوجهنا إلى البارك وتفرجنا عليه، أما السراي فكانت مغلقة كأغلب المتاحف بفرنسا.
الخميس 25 يونيو
توجهت مع «مدموازيل كليمان» إلى بولونيا، وأخذنا الشاي معا في قاعة استقبال الكلوب.
حضر الدكتور روبين اليوم، وطمأنني على «محمد»؛ حيث إنه لم يجد عنده التهابا في المصران، وقرر لعلاجه 15 يوما.
الاثنين 29 يونيو
دعيت إلى الشاي مع «مدموازيل كليمان » عند «مدام سيجفريد». وتوجهت الساعة الرابعة عند السيدة العاقلة المحترمة، فقابلتنا بترحيب ولطف زائدين. وقدمت لي مدموازيل فيجزون مفتشة مدارس البنات، وكانت قد دعتها خصيصا لكي تعرفني بها ولكي يمكنني بوساطتها مشاهدة المدارس الصناعية والتدبيرية.
الثلاثاء 30 يونيو
توجهت مع «مدموازيل فيجزون» لزيارة المدارس الصناعية والتدبير المنزلي للبنات. وسرني جدا ما رأيته وأحزنني، سررت لهم وحزنت علينا، فرحت لتقدمهم وتكدرت لتأخرنا، يلزمنا جيل بطوله وعرضه إذا كنا حاكمين أنفسنا إذا بقينا محكومين، لنحصل على درجتهم إذا مشينا وحذونا حذوهم. ولكن وا أسفاه من أين نتحصل على هذه الروح الحية، نثبت في عملنا ونثابر عليه لنصل إلى هذه الدرجة من الكمال.
في أثناء وجودي بباريس، دعيت لحضور اجتماع نسائي كبير تطالب فيه السيدات بمساواة المرأة بالرجل في الحقوق والانتخاب، وينادين بالسلام.
وقد عقد اجتماع كبير في صالة «الجورنال»، خطبت فيه عظيمات السيدات الفرنسيات مثل مدام سيجفريد وأفريل دي سانت كروا ومدموازيل كليمان وسيدات أخريات، وقد لاحظت روح الدعوة للسلام بين الشباب حتى بين الضباط أنفسهم، وقد سررت من هذا المظهر الجميل جدا، وصرت أعتقد أن الأوروبيين حقيقة قد وصلوا إلى درجة عظيمة من الرقي.
وقد حدث أن زرت «مدام سيجفريد» بعد ذلك، وتحدثنا في السلام وسألتها عما إذا كانت تعتقد أن السلام سيسود أوروبا، فأجابتني تلك السيدة العظيمة قائلة: لأجل أن يسود السلام العالم يجب أن نوطده في نفوسنا، ونهيئ له فيما حولنا، وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى زمن طويل.
عدنا بعد ذلك إلى «فيتيل»؛ حيث بدأ الباشا في أخذ حماماته وقد شعرت بالوحدة لعدم وجود والدتي معي، فكنت أقضي أغلب أوقاتي في النزهة مع ولدي في الحديقة أو في القرى القريبة من البلدة.
وقد كتبت في مفكرتي الخاصة يوم الجمعة 10 يوليو 1914 هذه السطور: أف، ما أطول ليلة الأمس علي، وما أثقل هذا اليوم الحزين! ... سأمضي كل مدة «الكور» - العلاج - بهذا الشكل ... محرومة من أويقات حريتي التي ألقي فيها العنان على عاتق أفكاري وتذكاراتي وأنفرد بهم عن كل شغل وشاغل بين كتبي وتخيلاتي وأحلامي وأوهامي وصلاتي وعبادتي وماضي وحاضري، وبالجملة حياتي الحقيقية ... حياتي الشخصية التي فيها أكون أنا ... معي نفسي ... فلها أو عليها كما تقتضي الظروف ... فإلى اللقاء يا أنا!
وكتبت في اليوم التالي السبت 11 يوليو: أمضيت هذا اليوم أطوف في البارك مثل التائهة وحدي؛ حيث إن الأولاد كانوا يتفرجون على «قرة جوز» وكان الباشا مشغولا بأخذ مياهه في الأوقات المعينة لها، فأين أنت يا والدتي العزيزة؟ وما حالك الآن؟ كنت قبل سنتين تلازمينني في مثل هذه الساعات، والآن ليس معي إلا تذكارك، وأي تذكار يا رباه أينما أكون، أتصورك في فراشك طريحة الآلام، فتظلم الدنيا في عيني فينعكس فيهما ما كنت أراه حسنا.
على أنني قد حاولت أن أملأ فراغ وقتي. ولما كانت بلدة «دون ريمون» وهي بلدة «جان دارك» لا تبعد كثيرا عن «فيتيك» فقد زرتها وشاهدت الغرفة الصغيرة التي كانت تسكنها، والشجرة التي كانت تؤدي صلاتها تحتها فتسمع أصوات «سانت كاترينا» و«سان ميشيل» يأمرانها أن تخلص فرنسا من احتلال الإنجليز في عهد الملك شارك السابع. وقد أعطاها الملك قوة مسلحة صغيرة هجمت بها على الإنجليز وانتصرت عليهم في «باتي» ثم خانها أحد الفرنسيين وحاكمها الإنجليز وحكموا عليها بالإعدام حرقا ... وبعد ذلك أخذ الفرنسيون يقدسونها، واتخذوا من بيتها الصغير متحفا فيه كل الآثار التاريخية القديمة الموجودة في «دون ريمون».
ولما أوشك الباشا أن يتم حماماته، سافرت إلى باريس لقضاء بعض حاجياتي على أن أعود مع حسن شعراوي، وقد نزلت في شقة كان أخي قد استأجرها بدلا من النزول في الفندق لعدم وجود أحد معي سوى خادمتي «مرجريت».
وكم كانت دهشتي عظيمة عندما وجدت باريس خالية، وشوارعها هادئة ساكنة، ووجوه سكانها عابسة كاسفة. وكان قد صادف وجودي بها أواخر شهر يوليو عندما وقعت حادثة «مدام كايز» التي قتلت «مسيو بينيت» صاحب ومدير جريدة «الفيجارو». وكان الجميع يكيلون لها اللعنات رغم أنهم كانوا يعلمون أن هذه السيدة لم تقدم على ارتكاب جريمتها إلا بعد أن سعت بكل جهدها لكي تمنع «مسيو بينيت» من نشر الوثائق التي كانت تحت يده، والتي كان يهددها هي وزوجها بنشرها وفيها ما يلوث شرفهما، فلما فعل، لم تستطع كبح جماح نفسها فقتلته.
وفي الوقت نفسه، كنت أسمع الناس يتحدثون عن احتمال وقوع الحرب بين فرنسا وألمانيا، وما كنت أصدق ذلك لثقتي العظيمة في أن المدنية التي وصلت إليها أوروبا ستمنعها من خوض غمار الحرب، التي تعتبر أشد أنواع الوحشية. ولكن عندما زارتني صديقتي «مدموازيل كليمان»، وجدتها شاحبة وتكاد تكون مقوسة الظهر من هول الموقف فسألتها: أتظنين حقا أن الحرب قائمة، فقالت: نعم مع الأسف؛ لأن الحالة تفاقمت تفاقما شديدا، فقلت لها: وماذا سيكون موقفكم أنتم يا أنصار السلام؟ قالت: سنكون بجانب شعبنا؛ لأن صوتنا ما زال ضعيفا، وقد عجبت من ذلك، ولم أصدق أبدا أن الحرب ممكنة.
ولكن عندما توجهت في اليوم التالي لقضاء حاجياتي وأردت صرف ورقة مالية قيمتها ألف فرنك، لم أجد قيمة صرفها ذهبا، وأتت إلي الصرافة وبيدها كيس مليء بالفضة، وقالت لي: لقد جمع كل الذهب ولم يبق عندي سوى الفضة ...
وقد فضلت أن تعطيني ورقا بدلا من الفضة الثقيلة، وقد أسفت بعد ذلك لأنني كنت أجهل قيمة الدراهم الفضية.
وفي اليوم الذي أردت فيه العودة إلى «فيتيل» مع حسن شعراوي، سألني الخادم عما إذا كنت قد حجزت في القطار؛ لأنه يتعذر غالبا وجود محلات مرموقة خالية، فأجبته بالنفي، وكان أن سبقنا إلى المحطة لحجز المحلات، ولكننا عندما توجهنا إلى القطار، وجدنا كل دواوينه خالية، فلم يسافر في القطار سوانا نحن الثلاثة وأحد المراكشيين! ...
ولما وصلنا إلى «فيتيل»، وجدت الباشا والأولاد في انتظارنا بالمحطة، وقد استقبلوني في لهفة قائلين إنه لم يبق بالفندق الذي نسكنه أحد غيرنا؛ لأن الناس هجروا المدينة خوفا من الحرب لقربها من الحدود، وكان ذلك يوم 29 يوليو، وقد قررنا أن نغادر «فيتيل» بعد يومين أو ثلاثة أيام، وعلى الأكثر في اليوم الثاني من شهر أغسطس.
وقد رأيت الخدم بالفندق محزونين، وبخاصة الخادمات؛ لأن أزواجهن قد طلبوا للتجنيد ولما سألنا مدير الفندق عن الحالة، أجابنا بأنه أمر بإغلاق الفندق وهو قائم بجمع الذهب لإرساله إلى المصارف، وأنه ربما يطلب هو أيضا للخدمة العسكرية.
غادرنا «فيتيل» في أول أغسطس قاصدين «سان موريس» بسويسرا، وكان المفروض أن يصل القطار الذي سنستقله في حوالي الساعة الحادية عشرة، ولكننا بقينا في انتظاره على رصيف المحطة حتى الساعة الواحدة، ولما تأخر موعده حوالي ثلاث ساعات، سألنا ناظر المحطة عن السبب، فقال لنا في غضب: هل هذا يوم سباحة مع أطفال؟ فقلنا له: إننا ما كنا نعلم أنه يوم التعبئة والاستعداد للحرب، ودخلت مطعم المحطة لأشتري شيئا من الطعام للأولاد، فوجدته خاليا إلا من رغيف واحد وعلبة من كبد الإوز، فاشتريتها هي والرغيف وكان الأولاد في حالة جوع شديد، فوزعت عليهم الرغيف والكبد. وكان معي بعض الشيكولاتة، فاحتفظت بها في حقيبتي الصغيرة احتياطيا للطوارئ.
بقينا كذلك حتى الساعة الثالثة، عندما مر بنا قطار لا نعلم مقصده، ولما سألنا ناظر المحطة عن وجهته، قال لنا: «إن اليوم يوم ترحيل الجنود، ولا يعلم أحد إلى أين تسير القطارات.» فركبنا هذا القطار حتى وصل بنا إلى «بلفورت». وفي تلك المحطة رأينا قطارا آخر قيل لنا: إنه قاصد إلى الحدود من جهة سويسرا، وأشارت علينا بعض السيدات الفرنسيات بترك قطارنا وركوب هذا القطار، فنزلنا نحمل أمتعتنا بأنفسنا لعدم وجود الحمالين بالمحطات وكانت تمر أمامنا القطارات تحمل المجندين، ونرى النساء اللاتي جئن لودعاهم، بعضهم يبكي وبعضهم الآخر يحاول أن يخفي آلامه وأحزانه.
وسافر بنا القطار الآخر، وكانت قد ركبت معنا فيه سيدة ألمانية وابنتها، وكانت ترتعد خوفا، وقد أتت هذه السيدة بابنتها والتصقت بي ورجتني أن أحميها وأن أقول إنها في معيتي، وقد وعدتها بذلك وطمأنت خاطرها.
ووقف بنا القطار فترة طويلة في إحدى المحطات، ثم سار بنا في حوالي الساعة العاشرة وكان الأولاد قد جاعوا وعطشوا وكان قد ركب معنا تاجر يهودي مصري وعرفنا بنفسه، فقال لنا: إن هذا القطار سوف يصل بنا إلى قرب الحدود حوالي ساعة، وكان أن أخرجت ما معي من حلوى وقسمته بين الجميع، ووعدنا التاجر بأن يحضر بعض المأكولات من بوفيه المحطة عند وصولنا، وبعد أكثر من ساعة وقف القطار على مسافة قصيرة من الحدود وسمعنا البائعات ينادين باسم نوع من الفطير، فهرول اليهودي ونزل من القطار وجلسنا في انتظار أن يأتي لنا بشيء نأكله، وعلى هذا الأمل لم يتحرك أحد منا، ولما قرب موعد تحرك القطار، صعد التاجر صفر اليدين وهو يقول: حقا، لقد كان طعم الفطير لذيذا جدا، فقلت له: «لعلك تذكرت الأطفال، وأتيت لنا بشيء منه» فإذا به يرتبك ويقول في خجل: «إني آسف جدا ... لقد نسيت!» فلم أستطع أن أمنع نفسي من لومه قائلة: «لقد أعطيتك من زاد أولادي وأنت جائع، فكيف تنساهم؟» ... فلم ينطق من شدة الخجل!
وبعد ساعة وقف القطار مرة أخرى على الحدود؛ حيث كان يجب علينا أن نترك قطارنا ونأخذ القطار السويسري الألماني. وقد حاولت أن انتهز الفرصة لأشرب قليلا من الماء وأحضر بعض المأكولات من بوفيه المحطة، ولكن عبثا حاولت، فقد كانت الألمانيات الجميلات مشغولات بتقديم الطعام والشراب للرجال الألمان ولم ينتبهن إلى أنني كنت أتكلم الفرنسية وهن لا يفهمنها وعدت إلى القطار، وحاولت أن أدخل أولادي إلى الصالون، فوجدت كل الدواوين مكتظة بالألمان، وفي النهاية لم يكن هناك بد من أن نجلس الأطفال على الحقائب وأن نبقى نحن واقفين في الطرقة حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، إلى أن وصل القطار إلى مدينة «بال» فنزلنا منه قاصدين أقرب فندق للمحطة.
وما إن وصلنا الفندق، حتى ابتدرنا صاحبه قائلا: إنه لا يوجد لديه مكان واحد، فقلت له: هل تظن أنني سأخرج بأطفالي الصغار بعد الثالثة صباحا للبحث عن فندق آخر، إنني أرى في مقاعد المدخل ما يكفي لإيوائنا هذه الليلة، ولما رأى في لهجتي الإصرار والحزم، قام ليسأل عن أماكن خالية في فندق آخر، واستطاع أخيرا أن يجد لنا أماكن في فندق يقع في «بال» القديمة. وطلب سيارات لتنقلنا إلى هذا الفندق على مسافة نصف ساعة وانتقلنا إلى الضفة الأخرى من نهر الرون، ووصلنا الفندق ونحن في حالة من التعب والإرهاق لا يمكن وصفها: وبخاصة الأطفال، ولم نكد ندخل غرفنا حتى طلبنا من الخادم أن يأتي بلبن وجبن وخبز، فأكلنا ثم نمنا نوما عميقا.
استيقظنا في الصباح على صوت الأطفال يلعبون في الشارع، وقد شعرت بالألم وأنا أنظر إلى هؤلاء الصغار الذين كانوا يضحكون ويمرحون جاهلين كل ما يدور حولهم، غير مدركين أن الحرب سوف تحولهم إلى أيتام بؤساء! ...
وفي يوم الأحد 2 أغسطس 1914، بارحنا «بال» إلى زيورخ؛ حيث وصلنا في الخامسة مساء ... ونزلنا في فندق «بورولاك»، ولم نجد أماكن لائقة رغم أننا كنا قد حجزنا من قبل، ولكن كل الناس كانوا قد هاجروا إلى سويسرا باعتبارها بلد الحياة، ومن كثرة الزحام التزمت الفنادق بالاقتصاد قدر الإمكان في المعيشة والغذاء، فلا يحصل النزلاء إلا على القوت الضروري فقط، وكان علينا أن نتوجه إلى غرفة الطعام للحصول على الإفطار، وانتظرنا في طابور طويل أكثر من نصف ساعة حتى جاء دورنا ...
وذات يوم افتقدنا الملح، فسألنا عن السبب، فقيل لنا: إن هذه بوادر اقتصاد الحرب، وبدأنا نتنزه سيرا على الأقدام بسبب غلاء المعيشة، وصرنا نتحاشى طلب الشاي بعد الظهر؛ لأنه كان يكلفنا جنيها تقريبا.
وإزاء هذه الظروف، قرر الباشا أن نعود إلى مصر عن طريق إيطاليا، فتركنا زيورخ يوم الجمعة 7 أغسطس 1914؛ حيث وصلنا إلى ميلانو في الخامسة مساء، وفي الليل كان باعة الجرائد ينادون بأعلى أصواتهم «أخبار الحرب» بمثل ما ينعق البوم بصوته النحس على أسطح المنازل في الليلة الهادئة!
الفصل الثالث عشر
كانت أخبار الحرب تطاردني في كل مكان في أوروبا، وكانت نداءات باعة الجرائد لا تتوقف طوال الليل، ولذلك فإنني لم أستطع النوم حتى الصباح. وفضلا عن ذلك فقد كان قلبي يتمزق من أجل هؤلاء الذين يقدمون حياتهم سدى، ظنا منهم بأنهم يخدمون الوطنية وهم لا يدركون أنهم يحاربون الإنسانية ويقتلونها بأيديهم! ...
وكنا قد وصلنا ميلانو، وهي مدينة واسعة جميلة ذات متاحف وكنائس كبيرة، ولكننا لم نتمكن من زيارة هذه الأماكن لقلة النقود بين أيدينا، لدرجة أننا لم نعد نستخدم السيارات في تنقلاتنا، وإنما أصبحنا نركب الترام أو نسير على الأقدام.
وكانت إقامتنا في ميلانو قصيرة جدا، فقد تركناها إلى جنوة لنبحر إلى مصر؛ حيث كان الباشا قد التقى بأحد المصريين الذي تنازل لنا عن محلات على إحدى البواخر الإيطالية العتيقة؛ لأن البواخر كانت جميعها مزدحمة جدا وليس بها سرير واحد خال.
وهكذا بارحنا ميلانو يوم الثلاثاء 11 أغسطس 1914 بقطار الساعة التاسعة والربع؛ حيث وصلنا إلى جنوة في الساعة الثانية عشرة والثلث، وقد ركبنا الباخرة الإيطالية ليلة وصولنا إلى جنوة، وكنت أتوق إلى العودة بأسرع ما يمكن إلى وطني، خوفا من انزعاج والدتي - التي تركتها مريضة - إذا علمت بنشوب الحرب، وكنت أعلم أن كل صدمة نفسية عنيفة كانت تدنيها من القبر.
قامت بنا الباخرة بعد منتصف الليل بقليل، وعندما أردنا النزول إلى غرف النوم، لم يمكننا أن نبقي فيها أكثر من دقائق نظرا لقذارتها وشدة الحر فيها، فتوجه الباشا إلى القبطان يرجوه أن يستبدل لنا هذه الغرف بغيرها، ولكن لم يتيسر ذلك لعدم وجود غيرها. ولكن قوميسيري الباخرة عرضوا عليه تأجير غرفهم نظير مبلغ باهظ، فقبل من أجل راحتنا ودفع كل ما كان يمتلكه تقريبا، وصعدنا فرحين إلى تلك الغرف، وكانت ذات منافذ كثيرة يدخلها الهواء، ولكن ما أن وضعنا رءوسنا على الوسائد حتى تزاحمت علينا الصراصير من كل صوب وحدب ورفعنا المراتب لننظفها، فإذا بالغرفة مكتظة بهذه الحشرات، فغادرناها بأسرع ما يمكن، ثم صعدنا جميعا إلى ظهر الباخرة وأمضينا ليلتنا على المقاعد حتى الصباح ...
وفي الصباح، طلبنا من القبطان أن يضرب لنا خيمة بالقرب من الدفة لننام فيها، ونقلنا المراتب ووضعناها للأولاد على خشبة مرتفعة بالقرب من الدفة، وكنت أنا على مقعد بجوار فراش «محمد» وكنت أخشى إن أنا غفوت أن يقع أحد الأولاد على الأرض، فكان الخوف يمنعني من النوم.
وذات ليلة غفت عيناي رغما عني نظرا لشدة التعب، وقبل أن نستغرق في النوم، قمت مذعورة صارخة عندما سمعت صوت ارتطام جسم بالأرض وكانت «بثنة» هي التي تدحرجت فلما صرخت سمعتها تقول: لا تنزعجي يا أماه، لم يحدث لي شيء.
وقد أمضينا ثلاثة أيام على هذا الحال. وفي اليوم الرابع ونحن نقترب من نابولي امتلأ الجو بضباب كثيف، فهدأت الباخرة من سيرها وأخذت ترسل صفير الإنذار مستمرا، بشكل مزعج، وأثناء ذلك شعرنا بهزة عنيفة أعقبها صراخ من ركاب الدرجة الثالثة فهرولت نحو الحاجز لأبحث عن أولادي، ظنا مني أن المركب قد اصطدمت بغيرها، ورأيت شبح الموت أمامي عندما نظرت إلى البحر ووجدت قطعا من الخشب وعددا من القبعات طافية على وجه الماء، ولم أشك لحظة واحدة في أن الباخرة قد تحطم جزء منها إثر الصدمة وإنها على وشك أن تغرق، فجريت أبحث عن ولدي ليكونا بجانبي وقت الغرق. ولكن القبطان أسرع فطمأن الركاب بأن باخرتنا قد حطمت سفينة صيد. وأسرع البحارة بإنزال قوارب النجاة ليبحثوا عن الغرقى.
وصاروا ينشلونهم واحدا بعد الآخر فيما عدا واحد منهم ظلوا يبحثون عنه أكثر من ساعتين حتى يئسوا من العثور عليه، وعادت قوارب النجاة بمن فيها وانقشع الضباب كأن لم يكن وكأنما تلك الساعة التي خيم فيها الضباب ما مرت إلا ليقع هذا الحادث وليغرق ذلك الرجل المسكين، وكأنها ساعة من ساعات القضاء التي يهبط فيها ملك الموت ليأخذ من اختاره القدر.
وقد وصلت الباخرة إلى نابولي عند المساء، وأمضينا فيها الليل، ثم وصلنا إلى كتانيا في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد 16 أغسطس 1914 وطوال الوقت، ظلت الباخرة تشحن كميات هائلة من البطاطس، فلم نتمكن من النوم. وظللنا في انتظار تحرك الباخرة في قلق، فإننا نخشى أن تعلن إيطاليا الحرب بين آن وآخر، فنحجز في أي بلدة من بلادها.
وعندما قامت الباخرة، فرحنا كثيرا ولكنها ما كادت تخرج من الميناء حتى رأينا زورقا بخاريا يتبعنا ويشير إليها بالعودة، فجزعنا وقلنا في أنفسنا لقد دخلت إيطاليا الحرب. وتمثلت بقول القائل: «لقد كان ما خفت أن يكونا»، ولما سألنا القبطان عن سبب رجوعنا، وصارحناه بمخاوفنا من اشتراك إيطاليا في الحرب، رد علينا مازحا: «لقد شحنا من البطاطس ما يكفي لطعامنا مدة طويلة وحتى يقضي الله أمرا كان مفعولا! ...»
وقد رأيت بعض السيدات يبكين مثلي من هذه المفاجأة السيئة، كانت نقودهن قد نفدت فتساءلن عن كيفية كسب عيشهن وليس لمعظمهن مهنة يتكسبن منها في ظروف الحرب، أما أنا فقد كنت أبكي؛ لأن هذا التأخير يمكن أن يكون سببا في القضاء على حياة والدتي المريضة، أما بالنسبة لأسباب الحياة، فقد كان معي من الحلي والجواهر ما يكفيني ثمنها أنا وأولادي لعدة سنين.
وكنت وأنا في عزلتي داخل الخيمة أسمع إحدى السيدات تقول: إنني أحسن الطهو، فإذا حجزت في إيطاليا، فيمكنني أن أشتغل في بنسيون أو عند عائلة، وأخرى تقول: أما أنا فأحسن الحياكة والتفصيل، ويمكنني إذا احتجت أن أزاول هذه المهنة ... وثالثة تقول: أما أنا فلا أعرف حتى رتق فتق في ملابسي، ولا طهو أي نوع من الطعام، والقيام بالخدمة ... فماذا أصنع؟ ثم أضافت بعد برهة قائلة: أعمل مربية أطفال! ...
كنت أسمع كل ذلك وأسأل نفسي ... ماذا كان يمكن أن أفعل لو كنت في مثل ظروفهن؟
وجدتني لا أحسن الطهو، ولا أجيد الحياكة، ولا يمكنني أن أترك ولدي وأدخل بيتا للخدمة، وأعترف أن هذا كان درسا لي، لأنني بعد ذلك اجتهدت في تعلم الطهو، وتقدمت في فن التفصيل والحياكة.
وعندما عادت الباخرة إلى ميناء كتانيا، عرفنا السبب، وهو أن شركة البواخر طلبت من الإسكندرية تموين الباخرة بالفحم اللازم لرحلة العودة، فرفضت طلبها، ولذلك أعيدت لتتزود باحتياجاتها، وبذلك اضطررنا للبقاء ليلة أخرى موعد وصولنا إلى الإسكندرية أربعا وعشرين ساعة، ولكننا من ناحية أخرى كنا في منتهى الفرحة لعدم دخول إيطاليا الحرب حتى ذلك الوقت.
وقد وصلنا إلى الإسكندرية يوم 19 أغسطس 1914، وقد عجبنا لعدم وجود أحد في انتظارنا إلا الكاتب وفتاة كانت تعلم ابنتي اللغة العربية. وقد شكرتها وفي الوقت نفسه عاتبتها لتكبدها مشاق السفر وهي تعلم أنني لا أستطيع البقاء في الإسكندرية أكثر من ليلة واحدة لأنني في لهفة للقاء والدتي والاطمئنان عليها.
وتوجهنا بعد ذلك إلى محطة الرمل، ولم أكد أنزل من العربة حتى وجدت عامل التلغراف على الباب وسلمني برقية فتحتها بيد مرتعدة، ولما وقع نظري على سطورها، أحسست أن الأرض قد اهتزت وأن الدنيا تدور بي، فقد كان التلغراف يحمل نبأ مشئوما هو خبر وفاة والدتي المسكينة.
وإنني أنقل من مفكرتي الخاصة ما كتبته عن هذه الفاجعة.
يوم الخميس 10 أغسطس 1914
عدمت في هذا اليوم أعز إنسان لدي، وحرمت بزواله من أعظم نعيم كنت أتمتع به، ما أتعسني!
بعدت وكنت أظن في القرب التلاقي، وعدت فعز في القرب المزار، لا يمكنني أن أصف وقع النبأ المروع على نفسي، فما تلك الساعة المشئومة يمكن أن يغيب هولها عن خاطري مهما طال الأبد.
يا لسخرية القضاء وقسوة القدر، أفي الساعة التي تطأ قدماي أرض بلادي، وفي اللحظة التي كنت أمني نفسي فيها بقرب لقاء والدتي، وأسعد بأني سأطمئن خاطرها وأدخل بعض السرور على نفسها الحزينة، أفي تلك الساعة تغادر والدتي الحياة بما في قلبها الرحيم من لوعة الفراق والجزع على حياتنا. وقد علمت أنها لما فقدت النطق، كانت تحول نظرها من الساعة إلى الباب ومن الباب إلى الساعة مخافة أن يدركها القضاء فتفارق هذا العالم دون رؤية ولديها والاطمئنان عليهما، وكانت «عطية هانم» التي لازمتها مدة غيابي قد اصطنعت لها برقية توهمها بوصولنا إلى الإسكندرية.
كانت الساعة حوالي الثانية بعد الظهر لما وصلنا المنزل، فتركت ولدي مع مربيتهما والمعلمة، وسافرت أنا وزوجي فورا إلى مصر بقطار الساعة الثالثة. ولما وصلنا القاهرة أمضيت الليلة بجانب فراشها أبكيها حتى الصباح. ثم نقلنا جثمانها إلى المنيا ومنها إلى مقابرنا في الشرق، ودفناها بجوار قبر والدي؛ حيث كانت قد أعدت لنفسها قبرا هناك. وعدت في اليوم التالي كاسفة البال حزينة النفس.
لا يمكنني أن أصف ما انتابني من حزن عميق بفقد أمي التي كنت أشعر نحوها بعاطفتين مختلفتين ... عاطفة البنوة وعاطفة الأمومة اللتين امتزجتا أثناء مرضها الطويل ، وما كانت تستلزمه حالتها المحزنة من ملاطفة واهتمام مستمرين.
نعم، شعرت عند موتها بيتم وثكل في وقت واحد. شعور غريب مؤلم أضناني، وكنت أظنه أقصى ما يكون من درجات الحزن، وما كنت أحسب أن القدر يخبئ لي بين طيات غيبه نكبة أفدح وأقسى ... وفاة أخي العزيز وعمادي الوحيد، وأن أحتمل هذه المصيبة كما احتملت غيرها. وكم حمدت الله أن اختار والدتي إلى جواره قبل هذه الفاجعة الكبرى.
ماتت والدتي، وكان يخفف من حزني عليها زيادة عطف أخي علي وملاطفته لي في كل لحظة، إذ ما من يوم يمر إلا وأراني وجهه المحبوب في الصبح والمساء، وغمرني بجميع أنواع البر والحنان، وقد كان هذا من جانب أخي المحبوب يعوضني ما فقدته، كأنه كان يحس بأنني سأحرم منه عاجلا، فكان يفيض علي من حبه وحنانه ليمتعني بأكبر قسط من محبته، وقد عشت بعد ذلك ثلاث سنوات كدت أنسى خلالها مصابي في أمي العزيزة بفضل رعاية أخي وعنايته.
كان أخي يأتي لزياراتي إن لم يكن صباحا ففي المساء، وكنا نتحدث في الأمور السياسية، وكان رأيه مخالفا لرأيي، فقد كنت أعجب بالحلفاء، بينما كان يرى أنهم أناس مستعمرون وأنهم الذين أثاروا الحرب، وكان يطلب النصر للألمان والأتراك.
أثناء رحلتنا في أوروبا ... وصلنا خبر محاولة الاعتداء على حياة الخديوي عباس في إسطنبول، وكان الذي حاول اغتيال الخديوي هو شاب مصري يدعى «محمود مظهر». وكان الخديوي في طريقه إلى الباب العالي، فانقلب الشارع إلى معركة حربية؛ لأن الجندرمة (الشرطة) ظنوا أن هناك انقلابا دبره حزب الائتلاف والحرية ضد حكم حزب الاتحاد والترقي، فسقط في الشارع أكثر من ثلاثين شخصا، وقتل أيضا الجاني «محمود مظهر»، وأصيب جلال باشا إصابات انتهت بقطع قدميه، فغضبت عليه زوجته وهي بنت الخديوي وكانت قد تزوجته في مصر يوم سقوط «درنة» وقال فيه أحمد شوقي بك:
فرح هنا وهناك قام مآتم
مولى ينوح وتابع يترنم
وقد أصرت على طلب الطلاق منه، وما زالت حتى طلقت.
وبعد أسبوعين تقريبا من حادث الاعتداء، أعلنت الحرب العظمى، وكشفت الحكومة البريطانية عن كراهيتها للخديوي ... وأبلغت قائمقام الخديوي حسين رشدي باشا على لسان ناب اللورد كتشنر في 12 أغسطس 1914 بأنها لا ترغب في عودته في مصر. وبدأت الحرب والخديوي ما زال موجودا خارج مصر، وبعد ذلك بقليل تردد أن الإنجليز أعلنوا عزل الخديوي، وأن جريدة الطان الفرنسية كتبت مقالا افتتاحيا في هذا الموضوع قالت فيه: «إن إنجلترا قد أحسنت بعزل الخديوي؛ لأنه لم يكن صديقا لإنجلترا أو فرنسا.»
وفي يوم 21 ديسمبر وصل إلى الخديوي نبأ إعلان الحماية على مصر، وأنها صارت سلطنة، وأن الأمير حسين كامل عم الخديوي قد عين سلطانا عليها، وأنه نظرا لأن الخديوي قد انضم إلى أعداء ملك الإنجليز، فقد حرم من الرجوع إلى مصر وإن حفظت له أملاكه الخاصة.
حلم رهيب
ذات ليلة رأيت حلما مزعجا أبكاني حتى صرت أشهق في نومي، واستيقظ زوجي وسألني عن سبب بكائي، فأجبته بأني رأيت في منامي أنني سافرت إلى المنيا وقصدت بيت أخي وكان إذ ذاك هناك، فرأيت والدتي أمام باب غرفة نومه تكنس الأرض وهي كئيبة كاسفة. فسألتها عن أخي وزوجته فقالت: لقد افترقا. فخرجت أبحث عنهما، ودخلت غرفة بجانب الباب فوجدت زوجة أخي في ثياب سوداء وبجانبها أختها حرم حسين بك رياض مرتدية أيضا إزارها الأسود، وكأنهما تتأهبان للخروج في غضب، فحاولت منعهما، فنظرتا إلي نظرة حنق، فعز علي ذلك وبكيت.
تشاءمت من ذلك الحلم ... ولكن في صبيحة اليوم التالي حضر شقيقي من المنيا، وزارني وسألني عن سبب تأخري في السفر إليه مع صديقاتي اللاتي دعاهن معي لقضاء بضعة أيام عنده، ولما انتحلت له بعض الأعذار ألح علي في السفر، في أقرب وقت. وكان ذلك يوم السبت 15 فبراير 1917 فوعدته بحضورنا يوم الثلاثاء.
ولكن حال مرض إحدى صديقاتي دون سفرنا في ذلك اليوم، كما اعترت ولدي في مساء اليوم نفسه حمى شديدة اضطرتني للسهر بجانبه حتى بعد منتصف الليل.
وفي صباح يوم الأربعاء أيقظني زوجي مبكرا كما أيقظني ليلة حلمي، فقمت منزعجة وسألته عما حل بابني ، فقال لي: «لقد أيقظتك لنسافر إلى المنيا؛ لأن أختك مريضة جدا.» فأجبته: «وكيف أسافر وولدي مريض؟» قال: «إنها في مرض الموت، أو في الحقيقة إنها توفيت» ... فشعرت بحزن شديد لهذا النبأ.
وذهبت إلى غرفة ولدي لأطمئن على حالته. وبعد أن أعطيت مربيته التعليمات اللازمة، خرجت وكان موعد الرحيل قد أزف، فارتديت إزاري وخرجت باكية على أختي. مشغولة على ولدي.
ولما وصلت إلى المحطة، وجدت سعيد آغا في انتظارنا وعلى وجهه علامات الحزن الشديد. ولما ركبنا القطار تركني زوجي كعادته وتوجه إلى محل الرجال، وبقي معي سعيد آغا، فقصصت عليه الحلم الذي رأيته، فقال: «لقد تحقق حلمك» ... قلت: كيف ذلك ثم هل حدث خلاف بين أخي وزوجته استدعى فراقهما؟ فسكت ولم يرد.
وطوال مدة السفر، كنت أتخيل أخي ينتظرني كعادته، وأفكر فيما أحدثته عنده وفاة أختي من الكدر؛ لأنه كان يحبها ويجلها إذ كانت عطوفة علينا، وتربى أولادها محمد وإبراهيم وفؤاد سلطان عندنا، وكان شقيقي يحب «فؤاد» ويناديه بابنه، وإن كان في مثل سنه ورضع معه، وهو الذي أعطاه اسمه وسماه «فؤاد سلطان»، وكانت أختي هذه ثانية بنات والدي من ابنة عمه، وكانت تحب والدتي التي كانت في مثل سنها تقريبا، وكانت والدتي تبادلها الحب.
ولما وصل القطار بنا إلى محطة المنيا، لم أجد شقيقي في انتظارنا بل وجدت الآغا ... فظننته مشغولا بالمعزين ... وسألت الآغا إلى أين أذهب ... إلى بني أحمد أم إلى دار شقيقي! فأجابني: طبعا عندنا. فتبادر إلى ذهني أن أختي قد توفيت عند شقيقي.
وكم دهشت لما رأيته من علامات الحزن الشديد على وجوه الناس جميعا، ولما شاهدته من إغلاق المحلات التجارية ... وازدادت دهشتي أكثر لما سمعته من ندب النساء وعويلهن في الطرق والمنازل.
لاحظت كل ذلك ولم يخطر ببالي قط أن سوءا قد أصاب أخي، وأن كل هذا من أجل وفاته، ولما وصلت المنزل دهشت من كثرة الزحام حتى صار من الصعب علي أن أشق لنفسي طريقا رغم أنهم كانوا يفسحون لي الطريق. وكان الناس ينظرون إلي ذاهلين ... وقد علمت فيما بعد أنهم حسبوني قد فقدت عقلي من هول الصدمة لأنني لم أبك ولم تبدو علي إلا علامات الاندهاش والاستغراب. وقابلتني زوجة أخي قائلة: «انظري ما أصابنا.» فقلت لها: «هل توفيت أختي عندكم؟» فقالت: «إن مصيبتنا في أخيك»، فأحسست كأنها طعنتني بخنجر وصل إلى أعماق قلبي.
وخيل إلي كأنما أخي حي وأنه مغمى عليه، فهرولت مسرعة نحو غرفته، ورأيت ابتسامته الحلوة تعلو شفته، ولم أر عليه اصفرار الموت ولا علاماته، فارتميت عليه أقبله وأناديه وأدلك جسده على أمل أن تدب الحياة فيه. وبقيت بجانب فراشه أرقب يقظته في لهفة وأناجيه لعله يتنبه بسماع صوتي أو يفيق، ولكن للأسف لم يستجب أخي لندائي كما كانت عادته دائما في أن يلبي ندائي.
ودفن أخي إلى جانب والدي في قبر يضمهما معا، وقضينا هناك تلك الليلة، وكانت أسود الليالي في حياتنا جميعا ... وقد استمرت ليالي المآتم أربعين ليلة دون أن أفكر في ولدي الذي تركته مريضا.
وبرحيل أخي، رحلت معه كل آمالي في الحياة؛ لأنه كان بهجة حياتي ومبعث الأنس والبشر فيها. وبدأت صحتي تتدهور، ولولا وجود ولدي وشعوري بالواجب نحوهما، لما بقيت بعده لحظة واحدة.
وطالت مدة مرضي حتى يئست من الشفاء، واهتم الأطباء بحالتي، ولما بدأت أسترد قوتي، صدمت صدمة أخرى جعلتني أشعر أكثر بالخسارة التي لحقتني بوفاة شقيقي!
الفصل الرابع عشر
أريد قبل أن أتحدث عن الحياة السياسية في مصر في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وما ترتب على ذلك من أحداث أدت إلى قيام ثورة 1919 ... أريد قبل ذلك أن أتحدث عن واقعة حدثت في تلك الأيام، وكانت ذات أثر ومدلول على نفسيتي وتفكيري.
فقد حدث في صبيحة يوم 21 أكتوبر 1918 أن جاءتني إحدى المربيات في ثياب سوداء تعودت أن تزورني بها مجاملة لي في حزني على شقيقي وقد بادرتني بصوت متهدج قائلة: لقد ماتت الباحثة! ...
وشعرت بهزة حزن في نفسي لهذا الخبر ... وما كنت أظن أن شيئا في الحياة بعد فقدان أخي يستطيع أن يهز شعوري هذه الهزة العنيفة، وقد عجبت لذلك إذ كنت قد قطعت كل صلة بالحياة، وحسبت أنه لم يبق في شعوري متسع لغير حزني على أخي، وكدت أثور على نفسي وعلى تلك التي أحدثت هذا التأثير فيها، ما الذي يعنيني أنا أن الباحثة قد قضت؟ وأن البلاد نساءها ورجالها، قد خسروا في نهضتهم عضوا هاما بوفاة تلك السيدة الفاضلة!
وفي تلك اللحظة انفردت في مخيلتي صفحة بيضاء ذات إطار أسود لهذه السيدة، وخيل إلي أنني أسمع صوت باحثة البادية وهو يدوي في قاعة المؤتمر الذي عقد عام 1910 مطالبا بحقوق عشرة للنساء.
لقد تجسم خيالها أمام ناظري في محاضراتها بالجامعة المصرية وهي تلقي على أترابها دروسا في الأخلاق والواجبات، ومرت بخاطري مناقشاتنا في السفور والحجاب في الاجتماعات التي كنا نعقدها قبل الحرب، وكانت تنظر إلى أقوالنا ونشاطنا بابتسامة ممزوجة بشيء من الشك والاستغراب.
وعلى الفور قمت فارتديت ثيابي وخرجت قاصدة دار الراحلة ... وإذ بنعشها يختصر علينا الطريق، ويقابلنا ملفوفا بالعلم المصري وتسير خلفه جماهير المشيعين، وتبعتهم حتى مقرها الأخير؛ حيث واروا التراب ذلك الجسم النشيط، وأغلقوا القبر على شعلة الذكاء المتقدة.
ولما عدت إلى منزلي واختليت بأحزاني، شعرت أن الأموات أكثر تمسكا بحقوقهم منا، فقد ألقوا على عواتقنا تراثا مقدسا يطالبوننا باحترامه واستغلاله في كل فرصة، لذلك لما رأينا نحن النساء أن الرجال قد سبقونا لتكريم ذكرى فقيدتنا، لم أستطع إلا أن أتجرد من أنانية أحزاني، وأطالب زميلاتي بالواجب عليهن نحو «الباحثة» فقمنا بدورنا بإقامة حفل تأبين لها بالجامعة المصرية الأولى. وأرادت السيدات أن تكون تحت رياستي، فاعتليت المنبر أول مرة في حياتي.
وبعد ذلك كنت أبحث عنها في الأيام العصبية التي اجتزناها إبان الثورة وبعدها، وكنت أناديها في نفسي، فكان لا يتردد صوتها إلا في ضميري.
ما بعد الحرب
انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918، وأعلن الرئيس ولسون مبادئه الأربعة عشر التي كانت تعطي الأمم حق تقرير مصيرها واختيار الحاكم الذي ترضاه، وظلت مصر تترقب تطبيق هذه المبادئ عليها وبخاصة أنها قد ساعدت الحلفاء مساعدات قيمة جدا كان لها أثر كبير في نتائج الحرب، وقد اعترف الإنجليز أنفسهم بقيمة هذه المساعدات. ولما رأت مصر أنه لا يبدو أن إنجلترا ستفي بوعودها وأن الحالة سوف تبقى على ما كانت عليه، تيقظ شعور رجالها وبدءوا يتهيئون لنبذ مجال الكلام وخوض مجال العمل. وبدءوا ينبذون السياسة التي كانت مقصورة على تحرير الاحتجاجات وتشكل الوفد المصري ليتولى القيام بعمل إيجابي.
ويبدو أن التفكير في هذا الموضوع، وفي وجوب وضع حد لهذه السياسة والخروج من عالم الاحتجاجات إلى العمل الإيجابي، كان قد استولى على اهتمام كثير من رجالات مصر. ودار الحديث بشأنه بين الأمير عمر طوسون وسعد زغلول باشا وعدلي يكن باشا وعلي شعراوي باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وغيرهم من قادة الرأي في مصر. وقد كان الأمير عمر طوسون في طليعة المشتغلين بهذه القضية لدرجة أن سعد باشا كان يفكر في إسناد رئاسة الوفد إليه، ولكن الأمير لم يتمكن من الاشتراك في هذا العمل بعد أن صدرت إليه أوامر القصر بأن يعود إلى الإسكندرية وألا يتدخل في السياسة، وكان ذلك نتيجة إيعاز السلطة الإنجليزية للقصر.
ولما كانت الجمعية التشريعية التي شكلت بمقتضى القانون الصادر في أول يوليو 1913 ما زالت قائمة حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى، فقد اتجهت النية إلى اختيار أعضاء الوفد المصري من بين أعضائها، أو اختيار هيئة يزكيها هؤلاء الأعضاء وتخويل هذه الهيئة صفة الوكالة العامة، فاستقل سعد باشا وأصحابه بتأليف الوفد. وكان مما شجع هذه الفكرة ما عرضه علي باشا شعراوي من استعداده للقيام بكل ما يحتاجه سفر الوفد من نفقات لغاية أربعين ألف جنيه، ووعد بدفع الباقي إذا لم تقم الأمة بدفع المال اللازم أو قصرت في دفع جانب منه.
وقد تكون الوفد من حضرات أصحاب السعادة والعزة: سعد زغلول باشا، علي شعراوي باشا، عبد العزيز فهمي بك، عبد اللطيف المكباتي بك، محمد محمود باشا، أحمد لطفي السيد بك، إسماعيل صدقي باشا، سينوت حنا بك، حمد الباسل باشا، جورج خياط بك ، محمد أبو النصر بك، مصطفى النحاس بك، الدكتور حافظ عفيفي بك.
وقد بقي الوفد المصري بعد تشكيله، يرقب إعلان الهدنة ليبدأ كفاحه بإبلاغ بريطانيا مطالب مصر. فلما أعلنت الهدنة يوم 11 نوفمبر 1918، بادر سعد وأصحابه إلى طلب مقابلة السير ريجنالد ونجت المعتمد البريطاني، فحدد لهم موعدا يوم الأربعاء 13 نوفمبر، في الساعة الحادية عشرة صباحا؛ حيث التقى به سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك.
وقد بدأ السير ونجت هذا اللقاء التاريخي بقوله: إن الصلح اقترب موعده، وبدأ العالم يفيق بعد غمرات الحرب التي شغلته زمنا طويلا، والمصريون هم أقل الأمم تألما من أضرار الحرب، وهم مع ذلك قد استفادوا منها أموالا طائلة، وعليهم أن يشكروا دولة بريطانيا العظمى التي كانت سببا في قلة ضررهم وكثرة فائدتهم.
ورد عليه سعد زغلول باشا بقوله: ما تقول إن إنجلترا فعلت خيرا لمصر، فإن المصريين بالبداهة يذكرونه لها مع الشكر، ولكنني أظن أنه لا محل لدوام الأحكام العرفية ولا لمراقبة الجرائد والمطبوعات، وأن الهدنة وقد عقدت فإن المصريين لهم حق في أن يكونوا قلقين على مستقبلهم.
وقال السير ونجت: يجب ألا تتعجلوا وعليكم أن تكونوا متبصرين في سلوككم، فإن المصريين في الحقيقة لا ينظرون للعواقب البعيدة.
ورد عليه سعد زغلول باشا: لا أستطيع الموافقة على ذلك.
وتدخل علي شعراوي باشا قائلا: إننا في طلبنا الاستقلال، لسنا مبالغين فيه، فإن أمتنا أرقى من البلغار والصرب والجبل الأسود وغيرها ممن نالوا الاستقلال قديما وحديثا.
فاعترض السير ونجت بأن نسبة الأميين في مصر كبيرة، وهنا رد عليه عبد العزيز فهمي بك بأن هذه النسبة مسألة ثانوية فيما يتعلق باستقلال الأمم؛ لأن الذين يقودون الأمم في كل البلاد أفراد قلائل، وإن شروط الاستقلال التام متوفرة في مصر.
وقال السير ونجت: لقد كانت مصر عبدا لتركيا، أفتكون أحط منها لو كانت عبدا لإنجلترا؟! وهنا تصدى له علي شعراوي باشا قائلا: قد أكون عبدا لرجل من الجعليين، وقد أكون عبدا للسير ونجت الذي لا مناسبة بينه وبين الجعلي ، ومع ذلك لا تسرني كلتا الحالتين؛ لأن العبودية لا أرضاها ولا تحب نفسي أن تبقى تحت ذلها، ونحن كما قدمت نريد أن نكون أصدقاء لإنجلترا صداقة الأحرار لا صداقة العبيد.
وتذرع السير ونجت بحجة أن موقع مصر حربيا وجغرافيا يجعلها عرضة لاستيلاء كل دولة قوية عليها. فأجابه سعد زغلول باشا بقوله: متى ساعدتنا إنجلترا على استقلالنا التام، فإننا نعطيها ضمانات معقولة على عدم تمكين أي دولة من استقلالها والمساس بمصلحة إنجلترا، ونحالفها على غيرها ونقدم لها عند الاقتضاء ما تستلزمه المحالفة من الجنود.
وأضاف علي شعراوي باشا: يبقى أمر آخر، وهو حقوق أرباب الديون الأجانب، فيمكن بقاء المستشار الإنجليزي؛ حيث تكون سلطته هي سلطة صندوق الدين العمومي.
وأنهى السير ونجت اللقاء بقوله: لقد سمعت أقوالكم، وإني أعتبر محادثتنا محادثة غير رسمية بل بصفة حبية، فإني لا أعرف شيئا عن أفكار الحكومة البريطانية في هذا الصدد!
وقد تدارس الثلاثة أثر هذه المقابلة فيما دار بينهم وبين السير ونجت؛ حيث فهموا أن الحكومة البريطانية لا تفكر في المسألة المصرية قبل عقد الصلح وانتهائها من حل المشاكل المترتبة على الحرب، وفهموا أيضا أنها حتى لو فكرت في ذلك، فليس في نيتها إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال البلاد لما بدا من دهشة على السير ونجت عندما تناولوا معه الكلام عن الاستقلال.
ولما كانوا قد عرفوا من خلال حديثهم مع السير ونجت أنه لا يعرف بعد رأي حكومته في المسألة المصرية، فقد انتهزوها فرصة ملائمة لطلب السفر إلى لندن للتباحث مع أولي الأمر هناك في المسألة وإطلاع الرأي العام عليها، وقد كتب سعد وأصحابه إلى قيادة الجيش الإنجليزي مستأذنين في السفر ومطالبين بجوازات السفر في أقرب فرصة. واتسعت حلقة المكاتبات بينهم وبين القيادة البريطانية ودار المندوب السامي.
وكانت وزارة حسين رشدي باشا في الحكم وقتئذ، فطلبت التصريح لأعضاء الوفد بالسفر إلى مؤتمر الصلح، فلم يوافق الإنجليز، ورأت الوزارات أن تستقيل لهذا السبب. وظل الوفد يطالب بالسماح له بالسفر دون جدوى، وعزز طلبه وتضامن معه جميع الوزراء السابقين وكل أصحاب المكانة والكفاية في البلاد، وأضربوا عن الاشتراك في تأليف أية وزارة ... وبقيت البلاد بلا حكومة فترة من الزمن ...
اعتقال زعماء الوفد
قلنا إن مصر كانت خاضعة للأحكام العسكرية وإزاء الموقف القائم، فقد استدعى القائد العام للقوات البريطانية رجال الوفد المصري يوم 6 مارس 1919، وألقى عليهم هذا البلاغ: «علمت أنكم تضعون مسألة الحماية موضع المناقشة، وأنكم تقيمون العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في تأليف الوزارة؛ وحيث إن البلاد تحت الأحكام العسكرية، لهذا يلزمني أن أنذركم أن أي عمل منكم يرمي إلى عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة للمعاملة الشديدة بموجب هذه الأحكام!»
وبعد أن أتم تلاوة هذا البلاغ، حاول سعد زغلول باشا مناقشته فصاح: «لا مناقشة» ... وتركهم وانصرف.
وعندما انصرفوا من عنده، كتبوا برقية إلى رئيس الحكومة البريطانية، قالوا:
إن وزارة رشدي باشا لما علقت سحب استقالتها على سفر الوفد، قبلت استقالتها نهائيا، وليس لذلك معنى إلا الحيلولة بيننا وبين عرض قضيتنا على مؤتمر السلام، وقد نتج عن هذه السياسة أن أعظم رجال مصر أهلية لإدارة البلاد في هذه الأيام قد رفضوا تأليف وزارة تعارض مشيئة الأمة التي أجمعت على طلب الاستقلال.
فالنتيجة الطبيعية لذلك أن تقع مسئولية بقاء البلاد بلا حكومة على الذين وضعوا هؤلاء في مركز حرج أمام ضمائرهم وأمتهم، غير أن السلطة العسكرية عمدت إلى تحميلنا مسئولية امتناع المرشحين للوزارة عن قبولها.
أنذرتنا السلطة اليوم، وتوعدتنا بأشد العقاب العسكري ... وهي لا تجهل أننا نطلب لبلادنا الاستقلال التام، ونرى الحماية غير مشروعة، كما تعلم بالضرورة أننا قد أخذنا على عاتقنا واجبا وطنيا لا نتأخر عن أدائه بالطرق المشروعة مهما كلفنا ذلك.
وحسبنا أن نذكر لكم هذا التصرف الجائر الذي يجلب سخط العالم المتمدين، حتى تفكروا في حل هذه الأزمة بسفر الوفد، فيرتاح بال الشعب.
وقد اتخذت السلطة العسكرية البريطانية في مصر من رفع هذه البرقية إلى رئيس حكومة لندن مبررا لاستعمال القوة، وظنت أنها بذلك ترهب المصريين، وتزعزع عقيدتهم في عدالة قضيتهم، وفي يوم 8 مارس 1919 تم اعتقال سعد زغلول باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا، ونفوا إلى جزيرة مالطة.
ولقد شبت الثورة بعد نفي سعد باشا وأصحابه إلى مالطة، وحل محله زوجي الذي كان وكيلا للوفد، وقامت حركة السيدات في ذلك الحين مباشرة، وكنت أنا وزوجي نعمل لخدمة وطننا لا لخدمة الأشخاص، وكان زوجي يطلعني على ما يحدث وما ينتظر أن يحدث، ليمكنني من ملء الفراغ الذي يحدثه نفيه أو سجنه، وكان هو الذي نصحني بالاتصال بحرم سعد باشا وحرم محمد محمود باشا وبعائلات أعضاء الوفد.
وكان نبأ اعتقال سعد وأصحابه قد سرى بطيئا ومتناقضا في اليوم الأول؛ لأن القيادة العسكرية حظرت على الصحف نشره أو التلميح إليه.
ولكن أعضاء الوفد عرفوا النبأ في يومه، ثم علم به طلبة المدارس العليا وغيرهم في اليوم التالي، وسرى في أنحاء القاهرة ومنها إلى الأقاليم.
وقد أضرب طلاب المدارس العليا في صباح اليوم العاشر من شهر مارس، وخرجوا من مدارسهم في مظاهرة كبيرة طافت بدور المعتمدين السياسيين للاحتجاج على اعتقال الزعماء، وعلى كبت شعور الأمة وحرمانها الحق في إبداء مشيئتها، وهي تسمع كل يوم دعوة الأمم كافة إلى بيان حقها وتقرير مصيرها.
وأضرب عمال الترام بعد الظهر، ثم أضرب الحوذية في اليوم الحادي عشر، وأصبحت الدكاكين مغلقة في معظم أنحاء المدينة إلا الدكاكين الأوروبية، وتجددت المظاهرات من طلاب المدارس وطلاب الأزهر وطوائف شتى من الجماهير، فقابلها الجنود البريطانيون بإطلاق المدافع الرشاشة غير مفرقين بين كبير وصغير ولا بين مشترك في المظاهرات أو غير مشترك.
وكانت نقابات المحامين قد أعلنت الإضراب، فانقطع المحامون عن المحاكم، واستثارت القسوة في قمع المظاهرات غضب الناس وحنقهم، فكثرت المظاهرات بدلا من أن تقل، واضطرمت وقدتها بدلا من أن تخمد، وطاش صواب الحراس العسكريين من جراء المفاجأة، فأصبحوا لا يميزون ولا يطيقون النظر إلى حشد من الناس، ففي يوم الجمعة الرابع عشر من مارس، أطلقت السيارات المدرعة نيرانها على حشد كبير بجوار المسجد الحسيني، فقتلت منهم بضعة عشر رجلا وجرحت خلقا كثيرين ولم يكونوا في مظاهرة ولكنهم كانوا خارجين من المسجد بعد أداء الصلاة. وتعددت المظاهرات في مدن القطر، فقوبلت بمثل ما قوبلت به في القاهرة، وشاع خبر القتل وإطلاق الرصاص في أنحاء الأقاليم، فانفجر السخط الذي طال كظمه في الصدور، وانفجرت الثورة في كل مكان.
على أنه من الخطأ أن يقال إن المظاهرات كانت هي سبب الثورة الوحيد، أو إن الثورة ما كانت لتنفجر في القطر لولا مظاهرات العاصمة، فالمظاهرات كانت مثل الشرر الذي يتطاير في البداية من فوهة بركان يغلي على وشك الانفجار، فمن شهد تلك الثورة الجارفة التي اندفعت اندفاعا يدل على عمق مكامنها وتأجج وقودها، أيقن أنها قوة لا تحبس طويلا، وأنها هي سبب المظاهرات وليست نتيجة المظاهرات.
فقد صبر الناس زمنا على مظالم الحرب وآثارها، ثم انتظروا الفرج بعد الهدنة، فإذا بهم يتجرعون مرارة الخيبة ويوجسون من مخاوف المستقبل فوق ما أوجسوا من مخاوف السنوات الماضية. وزاد من المرارة أنهم يعانون هذا الكظم كله في الوقت الذي تعلو فيه دعوة الإنصاف وتتجاوب فيه الصداء بالظفر والرجاء، وإنهم يطلبون أمرا يسيرا هو حق الشكوى والاحتجاج فإذا بهم يجابهون بالتهديد والإقصاء عن البلاد.
وعندما شاع خبر إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وشاعت أخبار الموتى والمعتقلين من الطلاب والشبان، طغى الغضب وعم، وكان ظهوره على نمط واحد في جميع أنحاء البلاد بغير تدبير ولا سابق اتفاق فبدأ انقطاع السكك الحديدية ما بين طنطا وتلا في اليوم الثالث عشر من مارس، ثم انقطعت في جهات كثيرة دفعة واحدة، وتناول التحطيم والتخريب أسلاك التلغراف والتليفون وقضبان السكك الحديدية؛ حيثما وصلت إليها أيدي الثائرين.
ولم يخل هذا التحطيم من غرض تعمده الثائرون بتدبير مقصود، وهو إعاقة القطارات المسلحة والفرق الجوالة عن الطواف بالمدن والقرى لجمع السلاح وتفتيش المنازل وإيذاء الناس.
إلا أن الباعث الأكبر للتحطيم والتخريب كان اندفاعا جامحا بغير قصد مرسوم ... اندفاع الساخط يحار فيما يصنع وهو ساخط ... كأنما هو في هذه الثورة الجامحة يريد أن تسمعه الدنيا ولو بتدمير أثاثه وإحراق داره، فجاءت عوارض الثورة متفقة في كل مكان؛ لأنها هي كل ما يستطاع في تلك الحالة.
وقد ظل الإنجليز ضالين في فهم شعور هذه الأمة، يفسرون أعمالها بأسباب المصالح ولا ينظرون إلى بواعثها النفسية، كأنما البواعث النفسية عامل لا يحسب له حساب في حركات الجماهير، فظنوا أن أعمال الثائرين لا تتفق هذا الاتفاق إلا بتدبير مصطنع ودسيسة أجنبية.
وقد بقينا بعد ذلك نتتبع أخبار الوفد ونؤازره، ونزكي نار الغيرة في قلوب الرجال والنساء ... ونواسي أهل المصاب برصاص الإنجليز، ونزور الجرحى قدر استطاعتنا، ونمد يد المساعدة للفقراء والمعوزين وحاولنا أن نحصل على أسماء الجرحى والقتلى، فحصلنا على أسماء كثيرة جدا.
ومن هذه الأسماء نذكر: السيدة شفيقة بنت محمد، والسيدة عائشة بنت عمر، والسيدة فهيمة رياض، والسيدة حميدة بنت خليل، والسيدة نجيبة السيد إسماعيل، هذا بخلاف كثير من النساء اللاتي أصبن بجراح من رصاص الإنجليز داخل بيوتهن وخارجها.
وإن أنس فلن أنسى الأثر المحزن الذي أحدثه ضرب أول شهيدة مصرية، وهي السيدة شفيقة بنت محمد في نفوس الشعب عامة، وقد تجلى ذلك في تشييع جنازتها التي اشتركت فيها كل طبقات الأمة، حتى صارت جنازتها مظهرا من مظاهر الوطنية المشتعلة.
ولقد تتابعت مثل هذه المظاهرات المحزنة، ولكنها لم ترق في أعين السلطة البريطانية فكانت لا تحترم حتى تشييع الجنازات، وبذلك كادت تنقلب الجنازة إلى عراك دموي بين الأهالي والإنجليز.
ولا أنسى الألوف من الأطفال والشبان والشيوخ الذين قتلوا في ساحة عابدين. كذلك لا أنسى تهجم الجنود البريطانيين وانتهاكهم لحرمات المنازل وبخاصة الضواحي، لأسباب طفيفة وقد تكون مختلفة يفتعلونها على الأعراض والأرواح والممتلكات.
كل هذه الفظائع كانت تثير كراهية الشعب وسخط النساء على جيوش تلك الأمة التي كانت تعتبر راقية متمدينة.
الفصل الخامس عشر
تحدثت عن بعض مظاهر الثورة في القاهرة، ولم أكن على معرفة بكل ما يجري في الشارع المصري في ذلك الوقت؛ لأن المرأة المصرية لم تكن قد خرجت إلى رحاب الحياة بعد، ولذلك فإنني سجلت عن هذه البداية بعض ما عرفته وما سمعت به وكانت هناك أحداث هامة جرت فيما بعد، وكانت المرأة قد نزلت إلى الشارع لتشارك في الثورة وتتلقى رصاص الإنجليز في بطولة وشجاعة.
على أنني قبل أن أتحدث عن ذلك، أود أن أذكر بعض أحداث مديرية المنيا باعتبار أن هذا هو البلد الذي ولدت فيه. فقد ثار أهل المنيا من جراء حادثة وقعت بالقطار القادم من الصعيد، وقد ترتب على ذلك أن قتل بعض الضباط والجنود الإنجليز. وعندما أنزلت جثث القتلى بمحطة المنيا، جاء أحد الإنجليز بمصور لالتقاط صور القتلى لإرسالها إلى أمريكا، وعلم الأهالي بذلك فدخلوا منزل المصور وأعدموا زجاجات التصوير.
ولما كانت النفوس مليئة بالحماسة ومشتعلة بالوطنية، فقد نشبت الثورة في المنيا، وبالغ بعض الأهالي في ثورتهم، فحالوا الهجوم على بيوت الموظفين الإنجليز.
ولكن بعض الأعيان تصدوا لهم ومنعوهم من ذلك. وكان في مقدمة هؤلاء: الدكتور محمود بك عبد الرازق وابن أختي توفيق بك إسماعيل ... فقد آوى توفيق بعضهم عنده ... وعرض نفسه بذلك لغضب مواطنيه وهجومهم، أما الدكتور محمود عبد الرازق فقد وقف أمام باب أحد الموظفين الإنجليز، وفتح صدره أمام الناس قائلا: «لا تقتلوه إلا بعد أن تقتلوني.»
وقد بدأ هو وبعض الأعيان يهدئون الخواطر الثائرة بإيهام أهالي المنيا بأن المديرية قد استقلت، وقد أداروا بالفعل دفة شئونها لمدة أسبوع لم يحدث خلاله أي حادث إجرامي. ومع ذلك فقد كان جزاؤهما فيما بعد الحكم عليهما بالسجن لمدة ثلاث سنوات.
وقد ارتكب الإنجليز بعد ذلك كثيرا من الفظائع، ومن ذلك أنهم طافوا بالقرى يضربون الرجال بالسياط ويسطون على البيوت ويعتدون على الحرمات ويقتلون المواشي والطيور. ومما يؤسف له، أنهم عند إجراء التحقيق بعد ذلك، وجدوا مصريا يقوم بوظيفة شاهد الملك، ووجدوا من بين ضباط الشرطة من كان أقسى على مواطنيه من الإنجليز أنفسهم.
ولقد كانت هذه الأحداث تزكي نيران الثورة في نفوس المصريين وبخاصة بعد أن لمسوا مواقف مضادة من بعض الأجانب الذين عاشوا بينهم وربطت بينهم المصالح المشتركة والصداقة أعواما طويلة.
وكانت بداية هذه المواقف عندما قام شخص أرمني كان يسكن حي عابدين بإطلاق الرصاص من مسدسه بلا مبرر على مظاهرة سلمية كانت تمر أمام منزله، فأثار ذلك حنق المتظاهرين وغيظهم، فهجموا على بيته وأحرقوا أثاثه.
وقد تخوفت تلك الطائفة، وأرادت أن تتظاهر بولائها للإنجليز وتقدم لهم حجة ضد المصريين وسلاحا للدعاية ضدنا بأننا قوم متعصبون، وأن ثورتنا هذه ذات دوافع دينية وليست لأسباب دينية. وكذلك تبرأ بعض اليهود منا في ذلك الوقت، والتحق كثير منهم بخدمة الجيش البريطاني.
ولكن موقف الأقباط المصريين كان كفيلا بدحض كل هذه المزاعم، فقد تجلت أروع صور الوحدة الوطنية في العمل الوطني الواحد الذي يجمع بين كل المصريين من مسلمين وأقباط.
على أن الإنجليز انتهزوا فرصة الاعتداء على منزل الأرمني، وجمعوا تلك الطائفة في معسكر من معسكراتهم ليمثلوا الدور نفسه الذي مثلوه في تركيا، وهو أنهم ضحايا، ولكن الأرمن لم يلبثوا أن ندموا وخرجوا ببناتهم من تلك الملاجئ التي أقيمت لهم في المعسكرات، بل وغادر معظمهم القطر نتيجة ما أصابهم من خزي!
وكان الإنجليز بعد اندلاع الثورة قد جاءوا بالجنود من كل ناحية من ممتلكاتهم ومستعمراتهم. وكان هؤلاء الجنود إذا التقوا بشخص من السراة، انقضوا عليه وصوبوا مسدساتهم إلى رأسه أو صدره قائلين: الروح أو المال.
وأذكر بهذه المناسبة ما سمعته من أن المرحوم مظلوم باشا كان فريسة لبعض هؤلاء ذات ليلة، وهو خارج من كلوب محمد علي، إذ ألصقوه بالحائط وسلبوه ساعته ونقوده، وقد أصابه من رعب لدرجة أنه لم يصدق أنه نجا من القوم الظالمين.
كذلك فقد كانوا يخطفون النساء في الشوارع، وكانوا يجردون الأقراط من آذانهن فتسيل الدماء منها، دون مبالاة بذلك.
وكم تعدى علينا هؤلاء الجنود في المظاهرات، وأذكر على سبيل المثال أننا لما خرجنا في موكب المظاهرة العامة التي ضمت جميع الهيئات المصرية واشتركت فيها السيدات راكبات سياراتهن. وكانت المرحومة ألفت هانم راتب تمسك بيدها علما مصريا صغيرا يرفرف من نافذة سيارتها، وعند مرور المظاهرة أمام فندق الكونتننتال ... انقض أحد الجنود الإنجليز على سيارتها، وحاول انتزاع العلم من يدها، ولكنها تشبثت به ولم تمكنه من انتزاعه، ولما كان ذلك على مشهد من المتفرجين الأجانب، فقد صفقوا لها إعجابا بها، فثار الجندي ثورة حمقاء ... وأخذ يجذب العلم منها بقسوة ويضربها بيده الأخرى على ذراعها ضربات قاسية ليرغمها على التسليم، ورغم ذلك لم يتمكن من قهرها، وعندما صار أضحوكة المتفرجين أقبل بعض زملائه وأخذوا يطعنون سيارتها ... وأسفرت المعركة بين جنود بريطانيين مسلحين وبين سيدة مصرية عزلاء عن احتفاظها بعلم بلادها إلا طرفا منه استطاعوا تمزيقه.
وبعد انتهاء المظاهرة وعودتنا إلى بيوتنا، جاءتني في حالة انفعال شديد، وطلبت مني الاحتجاج على هذا الحادث، فكتبت في الحال احتجاجا وسلمته لها لتذهب به بنفسها إلى دار المعتمد البريطاني، وتريه كيف اعتدى جنوده عليها وعلى سيارتها.
ورد اللورد اللنبي على المذكرة بما تعود عليه الإنجليز من التنصل من المسئولية، قائلا: «نأسف لما أصاب السيدة في الطريق العام!»
وجدير بالذكر أن هذه المظاهرة، اشتركت فيها جميع الهيئات الرسمية، وكانت مظاهرة لم تشهد لها مصر مثيلا، فقد اشترك فيها الجيش والقضاة والمحامون بملابسهم الرسمية، والموظفون والطلبة، والأزهريون من علماء وطلبة، والعمال، ورجال الدين من جميع الأديان، كذلك فقد اشتركت فيها النساء، بعضهن في سياراتهن وعرباتهن، وبعضهن الآخر على عربات الكارو، وبأيدي الكثيرات منهن الأعلام.
وبالرغم من وقار المظاهرة وهيبتها، فإن نظامها وحماستها لم يرق في عين أحد الضباط الإنجليز الذي كان واقفا بفندق شبرد، فما كان منه إلا أن أطلق مسدسه على المتظاهرين، فوقع واحد منهم، ورغم ذلك تابع المتظاهرون سيرهم في نظام، ما دفع الأجانب لأن يصفقوا لهم ويقولوا: تقدموا ... تقدموا، فالنصر لكم.
عندما حاول الجنود الإنجليز استثارة المصريين المتظاهرين، قام أحد ضباط السواري المصريين بضربهم بعصاة، واستطاع بمفرده أن يشتتهم جميعا. فلجئوا إلى حديقة الأزبكية واختبئوا فيها.
ولقد كان حقا يوما مشهودا مشرفا لمصر. ويذكرني ذلك بيوم مظاهرة الأزهريين الذين كانوا يشتعلون حماسة ووطنية، لدرجة أنهم كانوا يواجهون مدافع الإنجليز بصدورهم، وبلغت الشجاعة بأحدهم أن هجم على مدفع منها ، وضرب الجندي الذي يعمل عليه، ووقف مكانه ليضرب الإنجليز، ولكن للأسف كان جهله باستعماله سببا في ضربه وموته.
وكانت السيدات في هذه الأحوال يصفقن من الشرفات والنوافذ، مستنهضات همم الرجال في هذا النضال الوطني ... حتى إن الجنود الإنجليز كانوا من فرط غيظهم يطلقون الرصاص عليهن، ولم تعلن أسماء من أصبن إنكارا للذات وبعدا عن طلب الجزاء أو الشكر.
محاولة تشويه الثورة
أراد الإنجليز أن يشوهوا جلال ثورتنا في الخارج، فصاروا يعلنون يوما أنها ثورة ضد الأجانب بهدف إثارة الرأي العام العالمي، وفي يوم آخر يسمونها ثورة الأكثرية المسلمة ضد الأقلية من الأديان الأخرى.
وقد أثار هذا الكذب والافتراء وسوء التعليل سخط إخواننا الأقباط والطوائف الأخرى، وكان أن تآخى الجميع، وصاروا يجتمعون في الكنائس والمساجد والمعابد وهم شيع مختلفة، وكان الشيخ يتأبط ذراع القسيس أو الحاخام أمام عدسات المصورين ليظهروا للملأ اتحاد الجميع على الثورة ضد الإنجليز، وكانت احتجاجاتنا على هذه التهم لا تتعدى أرض مصر؛ لأن السلطة كانت تراقب البريد المصري للخارج، وكانت صحفنا لا تصل إلى أبعد من الإسكندرية، فكنا إزاء هذه الحالة نستخدم كل الحيل لإرسال الأخبار مع المسافرين أو بعض الأجانب حتى يصل صوتنا إلى الخارج ... وقد أثار ذلك غضب الإنجليز على كثير من هؤلاء. وكان نصيبهم النفي خارج مصر. وأذكر من بين هؤلاء «الكونت دي كولالتو» الذي حرم عليه الإنجليز العودة إلى مصر حتى توفي بعيدا عنها، رغم أنه ترك فيها زوجته العجوز وابنه الوحيد، وقد قابلته في روما عام 1923 عندما حضرت المؤتمر النسائي بها، ولما رأيته متألما جدا من هذا النفي المجحف رغم خدماته الجليلة التي قدمها لمصر، كتبت إلى ولاة الأمور بشأن عودته، ونشرت في الصحف خطاباته التي أرسلها إلي يطلب فيها إنصافه وتمكينه من العودة إلى مصر التي يعتبرها وطنه الثاني ... ولكن كل ذلك لم يجد شيئا وبقي هناك حتى توفي.
لقد حدث أثناء سير أورطة إنجليزية أن طفلا مصريا مر من فاصل بين جنود القوة، فاغتاظوا لذلك وضربوه ضربا قاسيا. وكان ذلك قد حدث على مرأى من أحد الموسيقيين الطليان، فأثر فيه هذا المنظر، وانتهرهم قائلا: «أليست في قلوبكم رحمة» ... فضربه ضابط بمؤخرة البندقية على رأسه، فهوى ميتا. ولما علمنا بما حدث لرجل دفعه شعوره الإنساني للدفاع عن طفل بريء، أردنا إظهار مشاعرنا نحو هذا الشهيد، فأرسلنا باقة كبيرة من الزهور لتوضع على قبره باسم نساء مصر، وذهبنا للسفارة للتعزية فيه، فشكرنا ممثل الدولة الإيطالية، ورجانا في الوقت نفسه ألا نطيل مثل هذه المظاهرات خوفا من خلق مشاكل مع دولة بريطانيا العظمى.
الإضراب العام
من المظاهر الكبرى التي كان لها أثرها في خدمة القضية المصرية، ذلك الإضراب العام لجميع طوائف الموظفين والعمال والطلبة، وقد استمر هذا الإضراب مدة طويلة، حتى امتلأت الشوارع بالفضلات والأحجار ما اضطر السلطة الإنجليزية إلى تنظيف الشوارع ... ولما أضرب الحوذية والسائقون، كان الإنسان لا يسمع صوتا للترام أو العربات أو أي وسيلة من وسائل المرور، وأمام الشلل الذي أصاب المواصلات، استدعت السلطة أعضاء الوفد لتطلب منهم كتابة نداء وتوجيهه إلى الأهالي بطلب الكف عن هذا الإضراب، وإلا اعتبرتهم مسئولين عنه وعن نتائجه.
وقد اجتمع هؤلاء الأعضاء بزوجي وكيل الوفد في بيتنا قبل توجههم إلى مركز رئاسة السلطة الإنجليزية بفندق «سافواي» الذي كان الإنجليز احتلوه. وقد ترك الباشا زملاءه المجتمعين في الدور الأول من منزلنا، وصعد إلى الطابق الثاني ليقول لي: «ربما تعتقلنا السلطة، فإذا حدث ذلك، فأرجو أن تسلمي هذا المبلغ حرم سعد باشا، فربما تحتاج إليه في غيبتي.» وكان سعد باشا في المنفى في ذلك الوقت.
ولما نزل، توجهت إلى النافذة لأراه وهو خارج يتبعه كل أعضاء الوفد، وبعضهم يبتسم ابتسامة مريرة، وبعضهم الآخر مضطرب الخاطر، وأكثرهم يحملون معاطفهم وعصيهم مستعدين للنفي أو لما هو أكثر من ذلك، إذ كان قد أذيع في ذلك اليوم أنهم سيعدمون رميا بالرصاص أو ينفون.
وقد علمت فيما بعد أنهم أدخلوا غرفة، ثم دخل عليهم قائد السلطة، ودون أن يحييهم ألقى عليهم بضع كلمات حادة، وأراد أن ينصرف دون أن يجيب عن أي سؤال، فقال علي باشا شعراوي باللغة العربية: «أنا لم أفهم من كلامه شيئا ... أين هو ذاهب؟» فلما سمعه القائد يقول هذه الكلمات بحدة، عاد ليسأل عما يريده، فلما أفهمه كلام الباشا، أمر بأن تترجم له أقواله، وألح عليهم في أن يكتبوا هذا النداء ... فوافقوا على كتابة ما يصون كرامتهم ولا يتنافى مع وطنيتهم.
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أذكر مظهرا من مظاهر الوفاء والإخلاص الصادق من سيدة فرنسية صديقة، فقد سمعت ما أشيع من أن زوجي سيحكم بإعدامه، وأن السلطة قد وضعت أمام باب دارنا مدفعا تهديدا لنا، فجاءت على قدميها من روض الفرج؛ حيث كانت تسكن إلى بيتنا بقصر النيل، فوصلت في المساء. ولما دخلت علينا سقطت على الأرض من فرط التعب والتأثر، وصارت تبكي وتقول: سمعت عنكم أخبارا مزعجة، فجئت رغم إضراب السائقين مشيا على قدمي لأطمئن عليكم.
هذه السيدة الفاضلة هي «مدموازيل جان ماركيز» التي أصحبت محررة بمجلة «الاجبسيان» المصرية التي نصدرها باللغة الفرنسية.
المرأة والثورة
ظهر في اليوم التالي ذلك النداء الذي طلب من أعضاء الوفد نشره، فلم يؤثر في الرأي العام؛ لأن الجميع كانوا على علم بأنهم قد أرغموا على إعلانه، واستمر الإضراب يتسع حتى عم كل الفئات والطوائف والمجالات، وكانت أزمة جديدة رزحت تحتها البلاد، فضغطت السلطة على الحكومة لتهدد المواطنين بالفصل والعقاب إذا لم يكفوا عن إضرابهم ... وحاولت حكومة رشدي باشا أن تنصح لهم بالعودة إلى أعمالهم قبل أن تضطرهم القوة إلى ذلك، فثاروا ضدها ونادوا بسقوطها ... وجمع رشدي باشا كبار الموظفين مرة أخرى وأسدى إليهم النصيحة، فلم يقبلوها.
وقمنا نحن السيدات نؤيد هذا الإضراب، ونشجع الموظفين على عدم العودة إلى أعمالهم حتى تصل البلاد إلى نتيجة. وكتبت لجنة الوفد للسيدات إلى رشدي باشا خطابا تطلب منه الاستقالة إذا كان عاجزا عن تسيير دفة الأمور.
وقد علمت أنه كان عازما على تقديم استقالته، فلما وصله الخطاب قال: «النساء أيضا يطلبن استقالتي، وهأنذا سأقدمها، فلتطمئن نفوسهن.»
وقدم استقالته في الليلة نفسها، ولو أنه كان قد قدمها بعد الإنذار، لكان ذلك أفضل؛ لأنها كانت تعبر في ذلك الوقت عن الاحتجاج، ولو أن الإضراب انتهى قبل الإنذار كما نصح هو لكان أجدى.
وبعد استقالته خشينا أن يتغير الموقف، فأوعزنا إلى كثير من السيدات بالوقوف على أبواب الدواوين لمنع الموظفين المتخاذلين من الدخول إلى مكاتبهم، ولشد ما كانت دهشتنا عندما علمنا أن الموظفين ذهبوا زرافات ووحدانا إلى دواوينهم، كبارهم قبل صغارهم، وإن كان عدد كبير من صغار الموظفين قد أصروا على موقفهم، وظلوا مضربين حتى فصلوا من وظائفهم.
وكانت النساء اللاتي تولين الوقوف أمام الدواوين لمنع الموظفين من الدخول، ينتزعن أساورهن وحليهن، ويقدمنها لهم قائلات: «إذا كان أحدكم في احتياج لمرتبه، فليأخذ هذه الحلي، ولا تسودوا وجوهنا بالرجوع إلى أعمالكم بعد صدور الإنذار البريطاني» ... وللأسف فإن هذا الأسلوب لم يؤثر في بعضهم، فدخلوا إلى مكاتبهم وقدموا اعتذارات مختلفة يبررون بها غيابهم.
وقد رأيت هذا بعيني، فتألمت ألما شديدا رغم أني ألتمس لهم بعض العذر إذ صمدوا مدة طويلة، وليس لهم من سند في الحياة إلا مرتباتهم، ولكن هذا لم يوقف الثورة ولا الإضراب، بل زادهما انتشارا.
ولقد كانت المنشورات التي تطبع سرا وتوزع على المواطنين أثناء الثورة الوطنية هي إحدى الوسائل الفعالة في تبصير الرأي العام بما يجري، وتوجيهه إلى القيام بما يراد منه، ومن ذلك المنشور رقم 6 الذي أصدره الطلبة عن موجبات إجماع الطلبة على الإضراب، وجاء فيه:
إننا ما أضربنا إلا لطلب الاستقلال التام أو البت في قضيتنا أمام مؤتمر السلام ... وحتى الآن لم نسمع شيئا يتفاءل منه عن مسألتنا المصرية.
إن الفظائع التي ترتكب في أنحاء البلاد والتي تصيب مواطنينا وإخواننا، توهن النفس وتجعلها تتمرد على كل شيء إلى إنهاء هذه الفظائع المنكرة.
إن عدم إلغاء الأحكام العرفية لا يدع مجالا لوصول الأخبار لدينا عن مصرنا العزيزة، ولا يبعث فينا روح الطمأنينة عن وفدنا المصري ... فنحن اليوم قلقون ... والقلق والدرس ضدان لا يتفقان.
إلقاء الشبهات على كل بريء، ومعاملته معاملة قاسية، لا سيما سجن وجلد الطبقات المحترمة الراقية كما فعلوا مع موظفين وطلبة في صفط الملوك بالبحيرة وأسيوط والجزيرة وغيرها.
وقد جاء في المنشور رقم 7 الذي أصدرته اللجنة المستعجلة:
لقد آن أيها الأبطال أن تجردوا سلاحكم في وجه خصمكم العنيد؛ حيث لم يرهبه التهديد، آن لكم أن تضربوا لفك قيود إخوانكم في الوطنية ممن اعتقلوا لاستمرارهم مضربين تنفيذا لقرار اللجنة.
فإن صمم كل منكم على الإضراب وعادت إليه شهامته الأولى، وكلكم وطنيون مخلصون، اتحدت قلوبكم عن بعد، وأضربتم جميعا على غير موعد.
فنستحلفكم باسم الوطنية الصادقة، باسم الشرف والواجب، باسم مصر ألا تتركوا أحدا من أبنائها إخوانكم فريسة لعدوكم، ولا تصدقوا للإنجليز وعدا فهم كاذبون خادعون.
الفصل السادس عشر
طوال الفترة التي بدأت منذ اعتقال سعد زغلول باشا ورفاقه الثلاثة في 8 مارس 1919 ونفيهم إلى مالطة، وحتى الإفراج عنهم والسماح لباقي أعضاء الوفد بالسفر، كان زوجي علي شعراوي باشا وكيل الوفد هو الذي يتولى رئاسة هذه الهيئة ومتابعة أعمالها خلال هذه الفترة الخطيرة الرهيبة، وقد تحمل المسئولية كاملة مستهدفا لكل أنواع العقاب هو ومن معه من أعضاء الوفد. وهي مسئولية تفوق في خطرها مسئولية رئيس الوفد المنفي؛ لأن سعد باشا نفي في وقت كانت البلاد فيه خالية من المظاهرات، ومن ذلك الغليان الذي أعقبها، ومن تلك الحوادث الخطيرة التي عمت البلاد، وقد اشترك مع زوجي في تحمل هذه المسئولية باقي أعضاء الوفد بجنان ثابت وجأش رابط منذ لحظة اعتقال سعد.
وقد حدث في يوم الاعتقال، أن أرسلت قرينة سعد باشا إلى زوجي تبلغه أن مكتب سعد مفتوح له ولزملائه في غيابه كما كان في حضوره، وترجوه أن يقبلوا دعوتها للعشاء في ذلك المساء، وأن يعقدوا جلستهم الأولى في مكان انعقادها المألوف كي لا يطرأ على سير الدعوة أدنى تغيير بعد ذلك الحادث الذي أريد به القضاء عليه.
وقد قرر الأعضاء أن يلبوا رجاءها وأن يشكروها عليه، وإن كانوا قد اعتذروا عن حضور العشاء لانشغالهم بإعداد الخطة التي تلائم الموقف الجديد.
ولم يكن شعور الأعضاء بعد الاعتقال شعور فزع وارتداع كما قدرت السلطة، بل كان شعور استياء لاعتبارهم دون من اعتقلتهم السلطة في الخطر والأثر، وشعور رغبة في إفهام السلطة الإنجليزية خطأها وتحديها واستفزازها بإتيان العمل نفسه الذي من أجله اعتقلت سعدا وأصحابه. وقد كتب شعراوي باشا احتجاجا إلى رئيس الحكومة البريطانية على اعتقالهم، وأبلغه فيه أن الوفد مثابر على خطتهم، كما وجه مع زملائه في اليوم التالي خطابا إلى صاحب العظمة السلطان يلقي فيه تبعة إعراض الكبراء عن تأليف الوزارة على السلطة العسكرية، وقال في خطابه إن هذا «هو النتيجة الطبيعية للخطة التي اتخذت في مسألة سفر الوفد، فإن كل مصري ذي كرامة لا يمكنه حقيقة أن يقبل الوزارة في هذا الظرف من غير أن يستهين بمشيئة بلاده».
وكانت الحكومة البريطانية قد اختارت الفيلد مارشال اللنبي مندوبا ساميا لها بمصر بعد نشوب الثورة بأسبوع تقريبا. وكانت تهدف بذلك إلى إشاعة اليأس في نفوس المصريين بتولية هذا المنصب لقائد كبير من قادة الإمبراطورية، ظنا منها بأن فاتح القدس سيدخل الرعب في القلوب، ولن تمضي مدة قليلة على تعيينه ومنحه السلطات العليا حتى تخمد الثورة.
وقد بدأ الفيلد مارشال اللنبي عمله بمصر باستدعاء الكبراء والعظماء ليفهمهم أنه جاء لينهي الاضطرابات ويتحرى أسباب الشكاية ويعمل على الإصلاح.
ولكن مقابلاته لهؤلاء العظماء ومطالبته لهم ببذل النصح، ذهبت كلها سدى ولم تنجح مساعيه في تشكيل الوزارة.
اشتغالي بالحركة الوطنية
بدأت حركاتنا السياسية بالمظاهرة الكبرى التي قمنا بها صباح يوم 20 مارس 1919، وكان ذلك بعد أن أطلق الإنجليز رصاصهم على المتظاهرين إثر نفي سعد زغلول باشا ورفاقه إلى مالطة، وقد قامت هذه المظاهرة احتجاجا على تصرفات القوة الغاشمة التي أزهقت الأرواح البريئة، التي لم تجن شيئا سوى المطالبة السلمية باستقلال البلاد ورفع الأحكام العرفية عن كاهلها والمناداة بإعادة سعد من منفاه.
وكنت قد وجهت كتابا إلى «لادي برونيت» عقب أول مظاهرة حدث فيها إطلاق الرصاص على المصريين، أظهرت فيه أسفي على ما وقع من الضباط الإنجليز لأبنائنا ... وكانت قد كررت لي مرارا في حديثها عن الحرب أن إنجلترا لم تخض غمار الحرب طمعا في الاستعمار، بل خاضتها رغبة في إنقاذ الأمم الضعيفة وإعادة استقلالها إليها. وكان أن كتبت لها هذا الخطاب لأذكرها فيه بكلماتها.
سيدتي ...
في هذه الظروف المحزنة التي نجتازها، جئت أذكرك بمحادثاتنا أثناء الزيارات التي كنت تؤدينها لي في الصيف الماضي بمنزلنا في الرمل، حينما كنا نتحدث عن نتائج الحرب المؤلمة، وكنت تؤكدين لي إذ ذاك أن بريطانيا العظمة نزيهة في اشتراكها في هذه الحرب، وأنها لم تسهم فيها إلا لخدمة أمنية العدل والإنسانية، وللدفاع عن حرية الشعوب المظلومة وحماية حقوقها.
هل تتفضلين بإجابتي إذا كان هذا ما زال في رأيك؟ وما فكرك يا سيدتي في حكومتك التي تخول نفسها حق إعلان الأحكام العرفية في زمن السلم، وتنفي عن بلادهم أناسا لا يطالبون إلا أن يعيشوا أحرارا في بلادهم كرماء للجميع.
وما قولك في جنودك الذين يجوبون بالمدافع الرشاشة طرقات مصر الهادئة، ويطلقون الرصاص على شعبها الأعزل إذا رفع بعض الصبية صوتهم مطالبين بالحق والحرية.
أرجو أن تخبريني يا سيدتي إذا كانت هذه نتيجة كل المجهودات التي بذلتها إنجلترا في خدمة الإنسانية والعدالة، وإلا فتفضلي بشرح المعنى الصحيح لكلماتك الجميلة التي كنت أسمعها منك.
إذا كانت فئة من الصغار قد ضربت بعض الحوانيت، فإنها لم تفعل ذلك إلا لأنها حذت للأسف الشديد المثل الذي ضربه لها جنودكم المتمدينون جدا في زمن غير بعيد.
وتقبلي يا سيدتي عبارات شعوري الحزين الممزوج بتحياتي.
هدى شعراوي
22 مارس 1919
ولما رآني زوجي على هذه الحالة من الانفعال وأنا أكتب إليها خطابي، لم يشأ أن أرسله إليها قبل أن يعرضه على سكرتير لجنة الوفد، مخافة أن أكون قد تعديت بجرأتي حدود القانون، فأخذه مني وعرضه عليه وعلى زملائه، ثم عاد متهلل الوجه، وقال: «لقد أعجبنا خطابك لدرجة أننا قررنا الاحتفاظ بصورته في المضبطة.»
وقد أخذت الخطاب بعد ذلك وأرسلته إليها، وكان ذلك أول احتجاج كتبته في بدء الثورة الوطنية.
وكنت أنتظر من هذه السيدة - التي كان زوجها يشكل أكبر مركز للسلطة الإنجليزية في مصر، فضلا عن أنها أمريكية الجنسية - أن يكون لها بعض التأثير على السلطة الغاشمة، أو على خطابي، ولكنها لم تفعل شيئا من ذلك، بل صارت تظهر لمعارفها وأصدقائها دهشتها من خطابي هذا وتقول إنها لم تفهمه.
وكان زوجها قد صرح في بدء ثورتنا بكلمات تأثر بها الشعب وظل يتناقلها. فقد قال: «إن ثورة المصريين مثل شرارة في القش تطفئها بصقة.» فلما عرف المصريون ذلك، ثاروا ضده وتربصوا به، فلم يجرؤ على ركوب القطار من العاصمة كما أشيع يوم مغادرته مصر، بل استقل عربة أوصلته إلى إحدى المحطات، ومنها ركب القطار متخفيا حتى لا يعرف فيقتل.
أول مظاهرة للسيدات
قلت إن أول احتجاج لنا كان في ذلك اليوم المشهود الذي خرجت فيه كل سيدات مصر للاحتجاج على أعمال الشدة والإرهاب التي كانت تصدر عن السلطة العسكرية الإنجليزية، وكانت هذه السلطة قد أعلنت قبل ذلك أن جميع المظاهرات تقمع بالقوة ولا يصرح بها إلا بإذن، وقد أرسلنا إلى مقر رئاسة السلطة وفدا من بناتنا، نعلنها اعتزامنا بالقيام بمظاهرة سلمية ... فرفضت السلطة التصريح لنا بالمظاهرة، وكان أن تصرفت بعض الفتيات اللائي كلفناهن بهذه المأمورة من تلقاء أنفسهن؛ حيث اتصلن بكثير من السيدات اللائي اتفقن معنا على السير في المظاهرة، وأخبرنهن بأن المظاهرة قد أجلت، ولكننا بعد ذلك قرأنا في جريدة المقطم أن السلطة قد سمحت للسيدات بإقامة هذه المظاهرة، فأمضينا الليلة في محاولات الاتصال بالسيدات تلفونيا لنخبرهن بالتصريح، ولكن مع الأسف لم نستطع الاتصال بمعظمهن بسبب الرقابة التي كانت مفروضة على التليفونات ولولا هذا الاضطراب الذي أثاره تصرف هؤلاء الفتيات لبقي العزم على ما كان عليه ولاشتركت كل نساء القاهرة في تلك المظاهرة.
وفي صباح يوم 20 مارس 1919، أرسلت اللوحات التي كنت قد أعددتها للمظاهرة إلى منزل أحمد بك أبو إصبع، مكتوبا عليها باللغتين العربية والفرنسية بالبوية البيضاء على قماش أسود علامة الحداد: «ليحيا ناصرو العدل والحرية ... ليسقط الظالمون المستبدون وليسقط الاحتلال».
وقد نظمنا خط سير المظاهرة ... وأعطيناه للفتيات اللائي سلمناهن العلم واللافتات في المقدمة ... ولشد ما كانت دهشتي عندما لم أر اللافتة المكتوب عليها «ليحيا محبو العدل والحرية». وسألت صديقتي «وجيدة هانم خلوصي» التي كنت قد أوفدتها بهذه اللافتات إلى منزل أحمد بك أبو إصبع عن السبب، فأخبرتني بأن إحدى السيدات قد زعمت وجود خطأ لغوي فيها ... فلم تسمح بظهورها، وأعلنت بأعلى صوتها بين السيدات قائلة: «إن من لا يجيد معرفة الكتابة بلغة، فالأجدر به ألا يكتبها.» وكانت هي في الحقيقة الجاهلة، وقد أقنعتها بخطئها بعد ذلك، فلم تغفر لي هذا الموقف أبدا.
ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد، فقد حدث موقف آخر.
كان الاتفاق يقضي بأن نقصد سفارة أمريكا أولا، ثم سفارة فرنسا ... ولكنني رأيت فتياتنا قد غيرن خط السير وقصدن بيت الأمة أولا. فلما أرسلت صديقتي «وجيدة هانم» لتنبههن إلى ذلك، قلن لها إن غالبية السيدات قررن ذلك، فأذعنت لهذا القرار على مضض، وابتدأنا ببيت الأمة بدلا من أن ننتهي به حسب الاتفاق.
ولم نكد نصل إلى هناك، حتى حاصرنا جنود السلطة الإنجليزية، وأحاطوا بنا مسلحين وقد سدوا الشوارع بمدافع الماكينة، فوقفت صفوفنا تحيط بها صفوف الطلبة الذين كانوا يتبعوننا طوال الطريق لحمايتنا.
وقد أدركت أن هناك تدبيرا مسبقا بين أدلتنا وبين السلطة التي كانت تنتظرنا مطمئنة بشارع سعد زغلول. وبذلك فشلت خطتنا، ولم يرنا إلا قليل من الناس، وعلمنا بعد ذلك أنه كان أمام دور السفارات عدد كبير من الأجانب ينتظروننا بباقات الورد ليلقوها تحت أقدامنا.
وبينما نحن في تلك الوقفة التي أجبرونا عليها، أردت أن أشق طريقي بالقوة لأقود مسيرة السيدات، فتقدمت إلى الأمام، وإذا بجندي إنجليزي يجلس القرفصاء بسرعة ويصوب فوهة بندقيته إلى صدري، وعندما حاولت أن أتقدم نحوه، أسرعت إحدى السيدات تجذبني من الخلف لتمنعني من التقدم، فقلت لها بصوت عال: «دعيني أتقدم، ليكون لمصر اليوم مس كافيل.» فما كاد الجندي يسمع هذا الاسم، حتى خجل وقام على الفور.
وأردت بعد ذلك أن أخترق صفوف الجنود، وطلبت من السيدات أن يتبعنني، فإذا بذراعين تحيطانني، وإذا بصوت حرم الدكتور حبيب خياط تقول لي: «ما هذا الجنون؟ أتريدين إراقة دماء هؤلاء الأولاد إذا رأوا قطرة من دمك تسيل؟»
وأعادتني هذه الكلمات إلى رشدي في الحال، فقد تصورت هؤلاء المئات من أبنائنا يخوضون المعركة ضد الإنجليز، وتصورت كم ستخسر مصر من بنيها بسبب مجازفتي هذه، فوقفت في مكاني لا أتحرك، وبقينا على هذه الحال ثلاث ساعات تحت وهج الشمس، وكم تمنيت أن تصيبني ضربة شمس لتقع مسئولية ذلك على السلطة الغاشمة، ولكن للأسف لم يحدث لنا أي أذى.
وأثناء ذلك الوقت، توجه الطلبة إلى السفارة الأمريكية، ثم إلى سفارتي إيطاليا وفرنسا، ووقفوا يصرخون: «لقد حاصرت السلطة الإنجليزية سيداتنا أمام منزل زغلول ... نطلب الإنصاف والمساعدة.»
وقد توجه سفير أمريكا إلى موقع الحصار والتقط بعض الصور الفوتوغرافية.
وهال هذا الأمر السلطة البريطانية، وسرعان ما جاء اللواء رسل باشا حكمدار العاصمة، ورجاني أن نعود إلى منازلنا بدعوى أننا قد خالفنا أوامر السلطة بهذه المظاهرة، فقلت له: «لقد قرأنا في جريدة المقطم أن السلطة البريطانية قد صرحت بإقامة هذه المظاهرات، ولذلك خرجنا ... فبأي حق يعترضوننا بعد هذا التصريح؟» ... فأجابني بأن السلطة لم تصرح بذلك، وقد نشر هذا النبأ خطأ، ومن الأفضل أن نعود إلى بيوتنا.
وأمام القوة والتعسف، لم يسعنا إلا الإذعان، على أن نقوم بهذه المظاهرة مرة أخرى ... ولكننا قبل العودة إلى بيوتنا، زرنا السفارات وأبلغناها احتجاجنا على مسلك السلطة إزاءنا، وعلى استمرار الحماية غير المشروعة وقيام الأحكام العرفية في بلادنا بلا مبرر، وقد لقينا منهم كل عطف ولكن بلا نتائج إيجابية.
وجدير بالذكر أن شاعر الوطنية المرحوم حافظ بك إبراهيم قد نظم أبياتا رائعة تحية لشجاعة المرأة المصرية، وتسجيلا لهذا الحادث التاريخي. وقد نشرت ووزعت دون توقيع؛ نظرا للظروف القائمة في ذلك الوقت.
تقرير الوفد المصري
ظلت الأمور تتطور في البلاد في طريق الثورة يوما بعد يوم، وكان الوفد المصري الذي حمل أمانة المسئولية بعد نفي سعد زغلول باشا ورفاقه، يتصدى للمواقف المختلفة ، ويعبر عن رأي الأمة.
وكان التطور الجديد في الأحداث هو ذلك التقرير الذي قدمه الوفد المصري إلى المندوب السامي البريطاني في 30 مارس 1919، والذي دعا على أثره الأعضاء لمناقشتهم فيه في اليوم التالي مباشرة، أي في يوم 31 مارس 1919.
وقد جاء في هذا التقرير: إن الذي في نفوس المصريين ليس هو العداوة بأي نوع كان، بل هو الإحساس الطبيعي لكل أمة أن تستقل بشئونها.
ولقد أظهرت الأمة في سلوكها طول مدة الحرب أنها تنتظر من بريطانيا العظمى معاملتها على هذا السلوك المستقيم وعلى الضحايا الكبرى التي غرمتها بما تستحق من الرعاية فتعترف لها بالاستقلال بعد زوال السيادة التركية عنها.
ثم إن الوفد المصري الذي وكل لهذه الغاية قد جعل فاتحة برنامجه أن يتجه إلى الشعب البريطاني قبل كل شيء لنيل عطفه على مصر والمصريين، وليتبين للرأي العام هناك أن النقطة التي تلتقي فيها منافع بريطانيا العظمى واستقلال مصر ليست نقطة معدومة بل إيجادها في حيز الإمكان.
وكل ذلك ينفي بتاتا أن هذه الحركة نتيجة عداوة في النفوس، وإن كانت في الجملة بعض نتائج اليأس وخيبة الرجاء.
ثم استعرض التقرير بعد ذلك مجريات الأحداث منذ إعلان الحماية على مصر؛ حيث «ظنوا أن الحماية ضرورة استدعتها الظروف الحربية فقط ... وكان رجاء الناس يزداد يوما فيوما بمقدار ما يقرءونه في الصحف من خطب رجال السياسة في بريطانيا العظمى وفي الولايات المتحدة، وبما يطالعونه بشغف عظيم من الخطب التي كان يلقيها «الدكتور ويلسون» في حرية الشعوب، وأنه لا يكون بعد الآن شعب سيد وشعب مسود، بل كلهم في الإخاء الإنساني سواء».
وتناول التقرير بعد ذلك ما حدث من أعمال لجنة الامتيازات ... وما ترتب على ذلك من اعتبار المصريين كمية عاطلة ليس لهم في إدارة بلادهم نصيب، فخيم الحزن على نفوس المصريين، ولكنهم اعتقدوا أن كل ذلك من عمل حزب الاستعمار، وأن الشعب البريطاني الحر لا يرضى بهذا التصرف.
وما زالوا يعلقون آمالهم بالرأي العام البريطاني العام وبمؤتمر السلام الذي وضعت قواعده بفضل الأمم الحرة.
ولما نشرت هذه القواعد تألف الوفد المصري وليس أعضاؤه من غير المسئولين ولا غير المعبرين عن الرأي العام كما يقال، بل إنه فضلا على ما لرئيسه وبعض رجاله من صفة النيابة عن الأمة، قد وكله أكثر من ثلاثة أرباع نواب الجمعية التشريعية غير الوزارة، كما وكله أعضاء الهيئات النيابية الأخرى (مجالس المديريات والمجالس البلدية والمحلية) وكثير من الأفراد أولي الرأي في البلاد.
وطلب الوفد الترخيص له بالسفر إلى إنجلترا وفرنسا، فلم يرخص له بذلك، فلما طال به الانتظار، رفع شكواه إلى المندوب السامي وقتئذ ثم إلى رئيس الوزارة البريطانية، وطرق كل باب ليتمكن من السفر.
فلما صرح هنا بعدم التصريح لأحد بالسفر، وقبلت استقالة الوزارة، تلك الاستقالة التي قالت عنها جريدة «المورنينج بوست» في عددها الصادر في 29 يناير 1919 إنها بعبارتها تجعل من الصعب جدا أن مصريا آخر يأخذ محل الرئيس دون أن يستهدف لغضب الشعب، اضطربت الخواطر وشملت الأنفس عوامل اليأس من تحسين الحال.
وقد استدعتنا السلطة العسكرية، وأنذرتنا أننا نعوق سير الحكومة بما نحاول من منع تأليف الوزارة، ولم يمض يومان من هذا الإنذار حتى قبض على رئيسنا سعد زغلول باشا وزملائنا إسماعيل صدقي باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا، ونفوا إلى مالطة.
واستعرض التقرير بعد ذلك أثر هذه الأحداث على نفسية الشعب، وبخاصة من الشبان الطلبة في المدارس العالية؛ حيث قامت المظاهرات السلمية، ثم مضى التقرير يقول:
ولا شك في إن إطلاق الجنود البريطانيين الرصاص على الطلبة العزل في هذه المظاهرات السلمية على هذا النحو وفي مثل هذا الظرف، من شأنه أن يحدث في البلاد أثرا سيئا لا بد أن يكون هو النقطة الأخيرة التي فاض بها كأس الصبر في نفوس أهل البلاد؛ لأنه في يوم 15 ابتدأت تأتي أخبار الاعتداء على طرق المواصلات ووقوع البلاد طرا في هذا الإضراب الشديد. ذلك ولم يقف الاستياء من هذه المعاملة القاسية لأمة غير محاربة عند حد الرجال، فإن السيدات المخدرات لم يطقن أيضا احتمال هذه الصدمة، ولم يقف حجابهن الكثيف في طريق إظهار عواطفهن، بل قمن نحو الثلاثمائة من عقائل أعلى البيوت في القاهرة بمظاهرة نشرت الجرائد صبح يومها أي يوم 20 مارس أنها مصرح بها. فلما نزلن من عرباتهن وقطعن مسافة من طريقهن حتى وصلن إلى بيت سعد زغلول باشا، أحدق بهن الجنود البريطانيون مصوبين أفواه البنادق وسنان السنج نحوهن، فوقفن في الشمس محصورات بقوة السلاح نحو الساعتين، ثم سمح لهن أخيرا بعد أن رآهن على تلك الحال رجال الوكالتين السياسيتين الأمريكية والطليانية ... وكان هذا أيضا مظهرا من مظاهر سياسة الإحراج، تلك السياسة التي يجب عدلا وإنصافا أن تكون هي المسئولة عن النتائج التي نجمت عنها.
وانتهى التقرير إلى قوله:
والواقع الذي نؤكده لفخامتكم بالصراحة التامة هو أن استياء المصريين مسبب عن عدم مساواتهم بالأمم الصغرى التي لا تفضلهم في المدنية بمنعهم عن بسط آمالهم أمام مؤتمر السلام، وكل المصريين من أكبر رجل إلى أصغر رجل فيهم في هذا الاستياء سواء، دفعهم اليأس إلى إظهار ما في نفوسهم، كل يترجمه على شاكلته، فالرجال المسئولون من رسميين وغير رسميين قد ترجموه بالاحتجاجات المختلفة وبالامتناع عن العمل كالمحامين، والشبان والمظاهرات السلمية، أما سكان الأقاليم فأعربوا عنه، بعضهم بالمظاهرة السلمية، وبعضهم بالاعتداءات المختلفة التي بعضها موجب للأسف.
تلك هي حقيقة الوضع الذي فيه بلادنا الآن، بسطناها إلى فخامتكم بالاختصار وبالحق، نرجو أن تأمروا بتحقيقها ... والرجاء معقود بعدلكم أن تزيلوا هذا الاستياء بالقضاء على أسبابه، فإن الأخذ بناصر أمة بأسرها أقدس واجب على عظماء الرجال.
التوقيع
علي شعراوي
وكيل الوفد المصري
الفصل السابع عشر
بعد أن قدم علي باشا شعراوي تقرير الوفد المصري إلى المندوب السامي البريطاني ببضعة أيام، حل موعد صدور الميزانية الجديدة للبلاد. ولم تكن هناك وزارة تصدرها، فأصدرها الماريشال في بلاغ بتاريخ أول أبريل 1919 وقد اعتبر المصريون هذا العمل تحديا لمشاعرهم واستخفافا بشأنهم، فانفجرت براكين الغضب من جديد. وأضرب التجار وبعض الموظفين الذين لم يكونوا قد أضربوا من قبل، وتمرد طلاب المدرسة الحربية ومدرسة البوليس، وخرجوا متظاهرين أمام قصر السلطان ودور السفارات. أما ثورة الأزهر الشريف فقد اشتدت لدرجة أن السلطة العسكرية لجأت إلى مخاطبة شيخ الأزهر في أمر إغلاقه نهائيا أو الاكتفاء بإغلاقه في غير أوقات الصلاة. وقد أبى شيخ الأزهر أن يفعل ذلك، وقال: إن الله ينهى المسلم عن إغلاق مساجد الله.
ولم يكن أمام اللورد اللنبي إلا أن يلعب بالورقة الأخيرة، فطلب من السلطان فؤاد أن يصدر منشورا ينصح فيه الأهالي بالخلود إلى السكنية، وقد فعل ذلك، وصدر المنشور السلطاني الذي نشر في الوقائع المصرية الصادر يوم الأحد 6 أبريل 1919.
ولكن هذه المحاولة لم تجد نفعا، فقد ظلت الثورة قائمة ومشتعلة وبعد أن رأى اللورد اللنبي أنه قد جرب كل وسيلة بلا جدوى، قرر أن يلجأ إلى الحل الذي طلبه المصريون. فقد استعرض الحوادث التي شبت خلال هذا الشهر، ورأى أن اعتقال سعد ورفاقه قد أثار أحداثا خطيرة، وأنه قد هبت على إثر ذلك أعظم ثورة في تاريخ مصر. ورأى أيضا أن زوجي علي باشا شعراوي باعتباره وكيل الوفد قد عالج هو وزملاؤه من رجال الوفد هذه المواقف بشجاعة مذهلة. وأنهم رغم تعرضهم لقسوة الإنجليز، فإنهم قد مضوا في طريقهم مثابرين، ضاربين أروع الأمثال في شجاعتهم ووطنيتهم وتفانيهم في خدمة البلاد والثبات على المبدأ.
وإزاء ذلك كله، أصدر اللورد اللنبي إعلانا بأن الحكومة البريطانية قد سمحت لأعضاء الوفد المصري بالسفر.
وكان هذا الإعلان تغيرا في السياسة الإنجليزية بعد أن وجدت إنجلترا أنه لا سبيل إلى الاستمرار في تلك السياسة التي نتج عنها قيام الثورة الخطيرة في البلاد.
وكان أن عدلت عنها، وأفرجت عن سعد ورفاقه يوم 7 أبريل 1919، ورتبت سفر باقي أعضاء الوفد المصري؛ بحيث يلتقون مع سعد زغلول باشا ورفاقه في المركب التي تحملهم إلى باريس.
وقد ابتهجت الأمة ابتهاجا شديدا بهذا النصر السياسي، وعمتها نشوة الفرح، وقامت مظاهرات الابتهاج بدلا من مظاهرات الغضب والثورة. ورغم كثرة المظاهرات في جميع أنحاء البلاد، فقد انعدمت حوادث السرقة والشغب. واشترك في هذه المظاهرات كبار القوم وصغارهم، وكلهم مستبشر بما أحرزته البلاد من فوز نتيجة الوحدة والائتلاف.
وبعد الإفراج عن الزعماء المنفيين وانضمام الأعضاء الآخرين إليهم، ذهبوا جميعا إلى باريس للاشتراك في مؤتمر السلام، وقدموا إليه طلبا فرفض طلبهم، وقوبلوا استقبالا غير مشجع، حتى إن رئيس الوفد سعد زغلول باشا - رغبة منه في توطيد العلاقة بينه وبين الوفود المشتركة في المؤتمر - زار مقر كل وفد وترك بطاقة تحية باسمه، فلم يفكر أحد في رد هذه المجاملة فيما عدا رئيس حكومة بريطانيا.
ورغم هذا التجاهل، قدم الوفد المصري إلى المؤتمر مذكرة بعدالة مطالب مصر. ومن ناحية أخرى، فإنه ردا على هذا التجاهل، نهج الوفد سبيلا آخر هو نشر الدعاية للقضية عن طريق الصحف والرأي العام، وقد استطاع أن يقوم بدور في هذا المجال، رغم أن الصحافة الفرنسية كانت خاضعة لأوامر الحكومة الفرنسية التي كانت بدورها واقعة تحت ضغط الحكومة البريطانية، وقد تمكن الوفد من القيام بدعاية واسعة النطاق كان من أثرها إلمام الأوساط السياسية والرأي العام بقضية مصر.
ومن المعروف أن وزارة حسين باشا رشدي كانت قد استقالت بسبب عدم السماح للوفد بالسفر لعرض القضية المصرية على مؤتمر الصلح، وقد ظلت البلاد بلا وزارة طوال هذه الفترة، فلما سمحت السلطات البريطانية للوفد بالسفر وسافر فعلا، عادت وزارة رشدي باشا إلى الحكم في 9 أبريل 1919، ولكنها لم تستطع الاستمرار في الحكم طويلا لعدم تمكنها من التوفيق بين مطالب المصريين وبين إرادة السلطات البريطانية وكان أن استقالت، وأعقبتها وزارة محمد سعيد باشا الذي صرح للصحف غداة تأليف الوزارة بأن وزارته لا تبت في شيء له مساس بمركز مصر السياسي، وأنها ليست لها صفة سياسية؛ لأن المسألة لم يبت فيها بعد في مؤتمر الصلح.
وقد استطاع سعيد باشا في مدة رئاسته للوزارة، أن يخفف بعض الأحكام الصارمة فرفع شيئا من الضغط عن الصحافة والخطابة. ولكن الناس كانوا يسيئون الظن بنياته؛ لأنهم كانوا يعرفون جفاءه لسعد باشا ووفاقه مع اللورد اللنبي، فأوجسوا منه خيفة، وثار بعضهم عليه، ورماه أحدهم بقنبلة لم تصبه.
على أن الوفاق بين سعيد باشا واللورد اللنبي لم يمتد طويلا، فقد اختلفا في مسألة لجنة ملنر والغرض من قدومها، فقد كان اللورد اللنبي باختصار يرى أن امتعاض المصريين من قدوم لجنة ملنر سبب كاف لتعجيل قدومها بينما كان رئيس الوزارة يرى ألا تحضر اللجنة قبل الفراغ من حل القضية المصرية بين الدولة العثمانية والدولة البريطانية، وقد أدى هذا الخلاف إلى استقالة سعيد باشا من رئاسة الوزارة.
وفي 21 نوفمبر 1919، قبل يوسف باشا وهبة تشكيل الوزارة، ونهج منهاج سلفه على أن تكون وزارته إدارية، واتخذ خطة الحياة بالنسبة للجنة ملنر المقبلة.
وقد وصلت لجنة ملنر إلى القاهرة يوم 7 ديسمبر 1919 في جو مشحون بالكراهية وسوء الظن من جميع المصريين الذين كانوا على إيمان واقتناع كاملين بأن هذه اللجنة تهدف إلى احتواء مصر ضمن المستعمرات البريطانية، لا سيما أن وظيفة رئيس اللجنة لورد ملنر هي «وزير مستعمرات». وهذا وحده كفيل بأن يوحي بوجود هذه النية، فضلا عن أن أعضاءها كلهم من المستعمرين، ورغم أن اللجنة أصدرت بيانا تطمئن فيه الأمة إلى حسن نواياها وإلى رغبتها في التعاون للتوفيق بين أماني الأمة وبين المصالح الخاصة لبريطانيا، فإنها قد تطوعت من الوفد ومن البلاد كافة، ولم يعد أمامه مناص من السفر بعد مدة لم تطل.
أما وزارة يوسف باشا وهبة فقد قوبلت بكثير من الامتعاض من أهل البلاد قاطبة، وتوالت الاحتجاجات على قبول رئيسها للوزارة، وأعتقد أن إخواننا الأقباط قد ضربوا المثل الرائع في التضامن مع إخوانهم المسلمين، وتوجوا نضالهم الوطني بهذا التضامن الذي ظهر جليا في البيان الذي نشر في 21 نوفمبر تحت عنوان «احتجاج الأقباط على وزارة وهبة باشا - بيان إلى الأمة المصرية». وقد جاء فيه:
علمنا أن صاحب المعالي يوسف وهبة باشا قد قبل، في الظروف القاسية العصبية التي تجتازها الأمة، أن يقوم بتشكيل الوزارة بعد البلاغ الرسمي الأخير الذي تضمن تمسك الإنجليز بالحماية على مصر؛ وحيث إنه لا يمكن تفسير هذا القبول إلا بقبول الحماية والعمل تحت لوائها ومعاونة لجنة ملنر في تقرير مصير البلاد.
وحيث إنه يخشى أن يعتبر الإنجليز الذين يسعون جهدهم لتشويه حركتنا الوطنية ووحدتنا القومية قبول الرجل لهذا المنصب بمنزلة إرضاء أقباط مصر أو فريق منهم عن وزارته أو عن سياسة هذه الوزارة أو أي سياسة لا ترمي إلى إنالة مصر استقلالها التام.
وحيث إن وهبة باشا لم يمثل في وقت من الأوقات أماني الأقباط ولم يشترك معهم في شعورهم القومي أيا كان نوعه.
وحيث إنه لا فرق بين مسلم وقبطي بل المصريون كلهم شخص واحد، ولكن الأقباط يرون أنفسهم مضطرين إلى أن يتقدموا بصفتهم أقباطا لإظهار شعورهم حيال هذا الحادث.
لذلك هم يلعنون براءتهم من كل رجل أو هيئة تقبل الحماية أو تساعد على تعضيدها.
فلكل هذه الأسباب يعلن الموقعون على هذا اشتراكهم مع سائر طبقات الأمة المصرية في الاحتجاج على تشكيل الوزارة الجديدة.
وقد وقع هذا البيان من رجال الدين المسيحي: القمص باسيليوس إبراهيم وكيل البطريركية، والقمص بطرس عوض الله رئيس الكنيسة البطريركية، والقمص سيداروس غالي نائب رئيس المجلس العام وعضو المجلس الروحي، والقمص سلامة منصور رئيس المجلس الأعلى الملي الفرعي، والقمص مرقص سرجيوس، والقمص عبد المسيح ميخائيل رئيس كنيسة الفجالة.
ومن قادة الرأي وأعضاء الوفد: سينوت بك حنا، ويصا بك واصف، فهمي بك حنا ويصا، أمين بك خياط، شكري بك بطرس، سامي أخنوخ فانوس، إبراهيم تكلا، وليم مكرم عبيد، راغب إسكندر، عزيز مشرقي، الدكتور إبراهيم فهمي المنياوي باشا، الدكتور نجيب إسكندر باشا.
وإلى جانب ذلك، فقد عقد اجتماع كبير في الكنيسة المرقصية الكبرى برئاسة القمص باسيلوس وكيل البطريركية ... وقد تناوب فيه الخطباء محتجين على قبول وهبة باشا تشكيل الوزارة، ومعبرين عن تضامنهم مع إخوانهم المسلمين. وقد أرسل المجتمعون برقية إلى وهبة باشا محتجين على قبوله الوزارة، «إذ هو قبول للحماية ولمناقشة لجنة ملنر، وهذا يخالف ما أجمعت عليه الأمة المصرية من طلب الاستقلال التام ومقاطعة اللجنة».
وفي صباح يوم الاثنين 15 ديسمبر 1919، نشرت الصحف نبأ محاولة اغتيال رئيس الوزراء؛ حيث قام بهذه المحاولة شاب وطني من أقباط مصر يدعى «عريان أفندي يوسف» بمدرسة الطب ، بإطلاق أربع رصاصات من مسدس بيده على سيارة رئيس الوزراء في ميدان سوارس، وقد تحطم زجاج السيارة، ونجا رئيس الوزراء.
لجنة الوفد للسيدات
كنت قد سافرت إلى مدينة الأقصر خلال تلك الفترة التي تم فيها تشكيل لجنة الوفد المركزية للسيدات. وقد تم كل شيء وأنا بعيدة عن القاهرة، إلى أن وصلتني رسالة من السيدة أستر فهمي ويصا، تخبرني فيها بأن السيدات قد اجتمعن في الكنيسة المرقصية الكبرى يوم الخميس 8 يناير 1920. وقد نجحت عملية الانتخاب نجاحا باهرا، وأسفرت النتيجة عن انتخاب السيدات: حرم شعراوي باشا (139 صوتا)، حرم فهمي بك (102 صوت)، حرم عمر باشا سلطان (100 صوت)، حرم رياض باشا (98 صوتا)، حرم حجازي بك (75 صوتا)، الآنسة فكرية حسني (68 صوتا)، حرم أحمد بك أبو أصبح (65 صوتا)، حرم مقاري بك (63 صوتا)، حرم علوي باشا (52 صوتا)، حرم رفيق بك فتحي (50 صوتا)، حرم مجيب بك فتحي (50 صوتا)، حرم تكلا باشا (38 صوتا)، حرم الدكتور أحمد عزت (38 صوتا)، حرم أحمد أفندي شاكر (33 صوتا)، حرم ويصا واصف أفندي (23 صوتا).
وقالت السيدة أستر فهمي ويصا في رسالتها: «ويغلب على ظني أن أغلبية تلك السيدات مناسبة، ومرسل لك الاحتجاج من نسختين للتوقيع عليهما بصفتك الرئيسة وردهما بالتالي ... ونرجو أن يصلا برجوع البريد للأهمية.»
وقد نص قانون لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات على أن «مهمة هذه اللجنة مساعدة اللجنة المركزية للوفد المصري في تبليغ الوفد المصري أماني السيدات المصريات والسعي بكل ما يمكنها (أي لجنة السيدات) لاستمرار المطالبة باستقلال مصر استقلالا تاما ... وأن تقوم هذه اللجنة ما دام العمل الذي انتدب الوفد لأجله قائما ... وتصدر القرارات بأغلبية الآراء، وإذا تساوت يرجح رأي الفريق الذي فيه الرئيسة».
ولم يكد يعلن عن قيام لجنة الوفد المركزية للسيدات، حتى انهالت علينا التوكيلات الصادرة من المواطنات في القاهرة والأقاليم، مؤكدة أن «للجنة المذكورة أن تمثل أمام جميع الهيئات». كما تلقيت رسالة من السيدة حرم عبد السلام فهمي جمعة باشا رئيسة اتحاد ترقي المرأة المصرية بطنطا، تقول فيها: «ولما كان مفروضا على كل مصرية أن تؤدي الواجب نحو بلادها، رأينا أن نكاتب حضرتكم لتتكرموا بإرسال صورة من التوكيل المعطى للجنة للتوقيع عليه من السيدات هنا حتى تكون الفائدة أعم والصوت أقوى.»
وقد بدأت اللجنة أعمالها بتوجيه خطاب مفتوح لأعضاء لجنة اللورد ملنر وقد جاء فيه:
أيها السادة ...
قررت مصر نهائيا ألا تفاوض لجنتكم الموقرة ما دامت تشتمل على أن تكون مصر تحت الحماية البريطانية.
ومع هذا فإننا نستحسن أن نعطيهم فكرة عن الحالة الحاضرة في مصر كما هي في الواقع، وكثير من الناس قد أبوا رأيهم في أسباب هذه الحركة، وبعضهم قد أصاب قليلا، ولكن معظمهم كانوا بعيدين عن الصواب.
الحركة المصرية حركة وطنية محضة، خالية من كل صبغة دينية أو تأثير تركي، ولا دخل للبلشفية فيها مطلقا، وليست نتيجة حالة الغلاء الحاضر كما ذكر بعضهم.
والمسألة المصرية وطنية محضة ... ويمكننا أن نقول إن ثورة اليوم هي نتيجة سوء الإدارة في مصر، وحقيقة لا يمكننا أن نقول: إن سوء الإدارة هو السبب المباشر في إحداث هذه الثورة، ولكن لا يمكننا أن ننكر أن سوء الإدارة قد أيقظ الصفات الكامنة في المصريين.
إن نار الوطنية الحقيقية التي تزكيها المدنية الصحيحة، وإن أخمدتها الفتوحات المتعددة والمدنيات المظلمة، إلا أنها كامنة على الدوام، وقد ساعد على اشتعالها ثانية النفوذ الإنكليزي ومدنية القرن العشرين، وقد قدم سوء الإدارة البريطانية الوقود من جديد لاشتعال هذه الروح في قلوب المصريين.
تفخر إنجلترا بأنها حكمت مصر حكما صالحا في الماضي، ونحن نشكرها على ذلك. ولعظمة إنجلترا شأن كبير في ذلك النجاح رغما عما يقوله اللورد ملنر من أنه لا يوجد شيء اسمه عظمة، فلم تكن العظمة المشار إليها عظمة القوة العسكرية التي حفظت خضوع المصريين وهدوءهم في مدة الحكم البريطاني، فإن المصريين لا يخافون المدافع، ولكنها العظمة الناتجة من حسن سمعة إنجلترا.
ولا بد أن إنجلترا قد حضرت إلى مصر لذلك الغرض الوحيد، وهو تأييد مصالحها التجارية وتمهيد الطريق إلى الضم النهائي. فطمع إنجلترا هو ضم مصر، ولكن خوف الاصطدام مع مصالح الدول الأخرى هو الذي جعلها تدعي خلاف ذلك. فلذلك أعلنت إنجلترا أنها دخلت البلاد لأسباب غير حقيقية. وعلى ذلك نكون قد سرقنا في ظلام الليل في الوقت المناسب الذي أمكن إنجلترا فيه أن تفاوض الدول الأخرى على ضحايا مماثلة ... فإذا كانت إنجلترا تنظر للأشياء على حقيقتها، فإننا لا نزال نرجو أنها لا تدور على روح الشهامة والرجولة فتقبل هذا المركز البغيض.
ومصر من الجهة الأخرى كانت تعيش على وهم أن إنجلترا صادقة، وقد اعتمدت على كلمات الشرف التي صدرت منها ولم تشك لحظة واحدة فيها ... وقد قدمت لها كل أنواع المساعدة، فقدمت إلى جيش فلسطين ما يحتاجه من رجال وحيوان ومحصولات، وأصبحت مركزا حربيا للجيوش البريطانية في الشرق. وكل مصري بسلامة نية وباطمئنان عول على شرف إنجلترا وعدالتها، ولكن ظهر بعد ذلك للأسف وبعد فوات الفرصة أنه بمساعدة القائمين في وجه الاستعمار الألماني قد وقعت مصر في أنياب استعمار أعظم وهو استعمال الدولة التي أسرفت مصر في الثقة بها والميل إليها.
فهل تعجبون أيها السادة أن تحتج مصر على ذلك، وهل تعجبون أن يداخلها الريب والشك، وهل لا تكون محقة إذا صممت على عدم المفاوضة معكم؟ إن مبادئكم الإنجليزية تقدم الجواب على هذه الأسئلة.
فبالإضافة عن الأمهات والأخوات والبنات المصريات، نخبركم أن هناك واحدا من أمرين لحل المسألة المصرية. فإنجلترا إما أن تحافظ على سمعتها وشرفها فتكسب احترامنا وصداقتنا، وبعبارة أخرى تقوم بتنفيذ وعودها التي أمضت عليها فتقرر في الحال محو الحماية وإبطالها وتعلن استقلال مصر. فإن فعلت ذلك كانت الصديقة لنا والمحسنة إلينا ... وكانت كل شيء في نظرنا لا يناقض استقلالنا، فسيكون لها المساعدة العظيمة في تقدم مصر الأدبي حتى يصل أبناء الفراعنة إلى درجات الرقي التي كان فيها أجدادهم. ألا نستحق هذه التجربة.
أما الحل الثاني لهذه المسألة، وهو حل سيئ، هو أن يحمل إنجلترا الطمع وحب المكسب المادي فتسحق شعور نفسها بالشرف والواجب، وتستولي على مصر بالتدريج وبالقوة، فإذا تظلم المصريون قابلتهم بنار البنادق كما حصل ... إن لإنجلترا قوة كافية من الجيش والأسطول والطيارات، ولكننا سنحتج ونتظلم وسنحارب بلا سلاح حتى تروى أرض أبنائنا بدمائنا، فنموت موتة السعداء.
وإن تاريخنا في زمن الرومان وما بعده يؤيد ما سبق من العبارات. لا تنسوا أيها السادة المحترمون المئة ألف شهيد في زمن ديوكليشن ... ونرجو لكم أن تنظروا إلى المصريين في ذلك العهد بأنهم هم آباء المصريين الحاليين والدم فيهم واحد.
وإننا نستميح العذر في الكلام بهذه الصراحة، فإن الأولى يكون الإنسان صريحا لا سيما في زمن سئمت فيه الدنيا من طريقة المحاولات القديمة، وبعد هذه الحرب العظيمة لا يمكن لشيء أن يبقى سوى الحرية والعدل والصدق. سترفع الفضيلة رأسها على مر الزمن، ويخيل لنا أن إنجلترا ستكون أكبر العاملين على ذلك.
عن سيدات مصر
هدى شعراوي
الفصل الثامن عشر
منذ تشكلت لجنة الوفد المركزية للسيدات، بدأنا مرحلة من الجهاد المنظم والمنتظم، وكانت اللجنة تنعقد باستمرار للنظر في مجريات الأحداث التي تمر بها البلاد، وكانت أعضاء اللجنة حريصات على بذل الجهود المضنية في سبيل الوطن، وإنني أذكر بهذه المناسبة أنه ما من طارئ حل إلا واشتركت اللجنة في بحثه وعلاجه.
وقد انعقدت الجلسة الأولى للجنة يوم 16 يناير 1920 وكان الغرض من هذا الاجتماع هو انتخاب الرئيسة والوكيلة وأمينة الصندوق والسكرتيرة بطريقة الاقتراع السري، وقد عقد هذا الاجتماع بسراي المرحوم عمر باشا سلطان، ولم أحضره نظرا لوجودي بالأقصر في ذلك الوقت. وتقرر في هذا الاجتماع تعيين كل من السيدات: هدى شعراوي رئيسة، أستر فهمي ويصا وكيلة، روجينة خياط أمينة صندوق، الآنسة فكرية حسني سكرتيرة.
وقد قررت عضوات لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات أن يعلن احتجاجهن الآتي إلى الأمة المصرية وجميع العالم المتمدين:
أولا:
نحتج بشدة على بلاغ اللورد ملنر الأخير المبني على الغموض والإبهام، مع أن مطلب مصر الوحيد لا يحتمل أي شك أو غموض، فالأمة المصرية رجالا ونساء لا تطلب إلا الاستقلال التام، ولا تقبل في تفسير هذا المطلب الصريح إلا الصراحة والحق، وإذا كانت هناك مناقشة، فمع الوفد وعلى مبدأ الاستقلال التام.
ثانيا :
نحتج بكل قوانا على المعاملة الخالية من الذوق والكياسة التي تعامل بها السيدات في مظاهراتهن الوطنية.
ثالثا:
نحتج بكل قوانا على الأعمال الاستبدادية الأخيرة كنفي رجال مصر العاملين إلى قراهم، ونفي قرياقص ميخائيل أفندي ومعاملته السيئة التي لا تتفق مع مبادئ الحرية والعدالة، ونطلب وضع حد لهذه الطرق الاستبدادية التي لا تتفق مع مدنية أمة حرة.
رابعا:
نطلب وسنطالب باستقلال بلادنا التام، ولن نرضى غيره بديلا، «فلتحيا» مصر حرة، و«ليحيا» الاستقلال التام.
هذا وقد اعترضت «بهيرة هانم فتحي» على جملة «وإذا كانت هناك مناقشة فمع الوفد»، قائلة: نحن لا نريد ولا نقبل المفاوضة معهم بأي شكل كان، ولا نريد سوى الاستقلال دون قيد ولا شرط. وأرسلت نسخة منه للورد وأخرى للجنة الوفد المركزية للرجال.
وكان سعد زغلول باشا رئيس الوفد المصري قد أرسل برقية من باريس بتاريخ 26 يناير 1920، أعلن فيها أن الوفد المصري بعد بلاغ اللورد ملنر، وأكد فيها أنه لا يمكن فتح باب المفاوضة إلا بعد الاعتراف باستقلالنا التام، فهناك وهناك فقط، يمكن أن يتفاوض الوفد في دائرة واحدة هي طريق المحافظة على مصالح الأجانب وعلى حرية الملاحة في قناة السويس طبقا لبرنامج الوفد ...
وقد عقدت لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات جلستها الثالثة في 30 يناير 1920، وتناولت المسائل التالية: (1)
عرض إرسال شكر لمعالي سعد باشا ردا على رسالته البرقية، فوافق الجميع. (2)
اقتراح بجعل حرم سعد باشا رئيسة شرف وممثلة للجنة في باريس وإفادتها بذلك مع شكرها على برقيتها، فصدق على ذلك بإجماع الآراء. (3)
عرض عمل احتجاج على فظائع طنطا، فوافق الجميع على ذلك، وعهد إلى إحداهن بكتابته. وتقرر انعقاد جلسة فوق العادة يوم 31 منه بذهبية فهمي بك ويصا الساعة الخامسة مساء للتوقيع على الاحتجاج المذكور بعد الإطلاع عليه. (4)
اقترح أن يكون الاجتماع أسبوعيا لضرورة ذلك، فتقرر قبول ذلك بعد المناقشة، وجعل الاجتماع كل يوم جمعة من كل أسبوع الساعة العاشرة والنصف صباحا. (5)
عرضت استقالة السيدات: بهيرة فتحي، وصديقة محمود عزت، وبتسي تقلا، فتقرر قبولها وتبليغهن ذلك. (6)
تلي الرد على رسالة السير فالنتين شيرول فأقرها الجميع ووقعن عليها وتقرر إرسالها إلى الصحف ولسعد باشا.
وقد أرسلت صفية هانم زغلول برقية من باريس بتاريخ 28 يناير 1920، تقول فيها:
معكم قلبيا، تأثرت تأثرا عميقا، أرجو أن تعدوني ضمن الشقيقات المصريات اللاتي أعطينكن التفويض للتكلم باسمهن، كانت ساعة مباركة تلك التي وجدتنا مستعدات للمطالبة باستقلال بلادنا رغم كل المخاطر التي تحيط بها، ما كنا لنستطيع أن نعيش في مصر وهي محتلة بعدما ضحى أولادنا الأبرياء بأرواحهم لأجل أن تكون حرة إلى الأبد.
وأرسلت برقية مني ردا على هذه البرقية بتاريخ 30 يناير 1920، هذا هو نصها:
مدام زغلول باشا ...
42 شارع جورج الخامس. باريس
إننا فخورات بانضمامك إلى لجنتنا، ونرجوك قبول قرار انتخابك رئيسة شرف وبفضلك ستكون مجهوداتنا أكثر توفيقا، واثقات من النجاح النهائي.
كانت الجلسة الرابعة هي الجلسة فوق العادة، وقد انعقدت في موعدها يوم 31 يناير 1920، وتم في هذا الاجتماع تلاوة الاحتجاج التالي، فوافق الجميع عليه ووقعن على ثلاث نسخ منه لإرسال واحدة لرئيس الوزراء، وواحدة للجنة الوفد المركزية للرجال، وتقرر إبلاغ الاحتجاج إلى الصحف كلها وكان نص الاحتجاج هو:
تتتابع الحوادث المحزنة في مصر بشكل مروع، فلا يكاد يمر يوم دون أن يقع شيء منها.
وهذه حوادث طنطا قد أزعجت النفوس وأكمدت الأفئدة؛ لذلك فلجنة الوفد المركزية للسيدات لا ترى بدا من رفع صوتها بالاحتجاج عليها وعلى استمرار الاعتداء على أرواحنا وحريتنا فهي:
أولا:
تحتج على إطلاق الرصاص على المتظاهرين العزل من كل سلاح وقتل الأبرياء وجرحهم.
ثانيا:
تحتج على مهاجمة القوة المسلحة لقوم هادئين ساكنين في أحد الملاهي بغير مسوغ وإلحاق الأذى الشديد بهم.
ثالثا:
تحتج على تشديد الأحكام العرفية في طنطا، في الوقت الذي تنادي فيه كل الأمة بإلغاء هذه الأحكام إلغاء تاما.
رابعا:
تحتج على استمرار حوادث الاعتداء من الجنود على الأهالي، وعلى مهاجمة الناس في دورهم ولا سيما مهاجمة منزل فضيلة شيخ الجامع الأحمدي.
خامسا:
نطلب إجراء تحقيق رسمي عن هذه الحوادث والمبادرة بإلغاء الأحكام العرفية وسحب الجنود من طنطا.
واللجنة تنتهز هذه الفرصة لتعلن أن سياسة الشدة التي دأبت السلطات الإنجليزية على استعمالها، ليس من شأنها أن تحمل الأمة على العدول عن المطالبة بحقوقها المقدسة، بل على النقيض من ذلك تزيدنا تمسكا بحقوقنا الحقة وتشبثا بحريتنا العزيزة واستقلالنا التام.
أما الجلسة السادسة، فقد عقدت في 13 فبراير 1920 وقد عرض فيها الاحتجاج التالي فصدق عليه بإجماع الآراء. وتقرر إرسال نسخ منه لرئيس الوزراء ولمعالي سعد باشا وللجنة الوفد المركزية وللصحف وهذا نصه:
تحتج لجنة الوفد المصري للسيدات باسم مصر على بقاء الأحكام العرفية واستمرار اعتقال أبناء مصر البررة الذين لا ذنب لهم إلا المطالبة باستقلال بلادهم، كما تحتج على ما يلاقونه من سوء المعاملة.
لا يزال سيف الأحكام العرفية على الرقاب في هذه البلاد الآمنة بعد انقضاء مدة الحرب بنحو أربعة عشر شهرا، في حين أن البلاد لا تطلب استقلالها إلا بالوسائل السلمية المشروعة، ولا تزال الأحكام العرفية تتخذ ذريعة لإيجاد القلق في أنحاء البلاد وبث الجنود الإنجليز في كثير من حياتها للتضييق على الناس في حياتهم اليومية تضييقا لا يرعى حرمة حتى لمنازل كبرائهم وأئمة دينهم.
فهذه مدينة طنطا أصاب أهلها الأبرياء ما أصابهم من قتل وجرح وسلب وغير ذلك من صنوف الاعتداء، وكان العدل يقضي بالقصاص من المعتدين عليهم، فانقلبت آية ذلك العدل واعتبر البريء جانيا والجاني بريئا، وبدلا من أن يجري تحقيق حتى لا تزر وازرة وزر أخرى، وقع القصاص على الأهالي الأبرياء، وأصبحوا يعاملون معاملة المدن المحاربة التي يفتحها العدو في خلال الحرب الطاحنة.
وهؤلاء كثير من أبناء مصر صودروا في حريتهم الشخصية، وشردوا وأوذوا واعتقلوا بغير جريرة وبلا محاكمة ولا سؤال، بل كان قيامهم بواجبهم الوطني سببا لإيقاع هذا الأذى بهم، مع أنهم لم ينفردوا بهذا فالأمة مشتركة معهم فيما يعزونه إليهم من الإثم إن كانت محبة الوطن إثما والمطالبة بالاستقلال وزرا يستوجب التعذيب.
ومن الغريب أن ترتفع أصوات العدالة من جميع أنحاء العالم، فلا تصادف ملبيا من أولئك المسيطرين على مصر بالرغم من إرادتها، فهم يصمون آذانهم كلما سمعوا نداء منبعثا من القلوب المجروحة المتألمة وكأنهم آلوا على أنفسهم أن يقفوا جامدين حيال كل مطالب بحقوقه.
وليت الأمر لم يتعد هذا النوع من التعذيب لغير ذنب، فإن أنباء المعتقلين تدل على أنهم يعاملون معاملة سيئة، وكيف تطيب هذه المعاملة وسواء هم مبعدون في الصحاري ومحرومون من كل ما يقيهم أذى البرد الشديد الذي يفري أجسامهم ويعرض للخطر حياتهم. وقد أخذت الأمطار الشديدة تهطل عليهم، والرياح العاصفة تهب على خيامهم فتقتلعها تاركة سكانها يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء.
لقد بحت الأصوات وحفيت الأقدام واهتزت الأسلاك البرقية بالمطالبة بالإفراج عن هؤلاء المعتقلين، فالإصرار على هذا الاعتقال بعد ذلك يعد استخفافا بشعور الأمة ومنافيا لأبسط قواعد المدنية والعدل.
فنحن باسم هذه المدنية نطالب بوضع حد لهذه السياسة الغاشمة، وباسم الحق والعدل نلح في ضرورة الإفراج عن كل معتقل سياسي.
وفي الاجتماع السابع الذي عقد في السادس والعشرين من فبراير 1920 برئاستي، كان هذا الاحتجاج الذي صدق عليه بإجماع الآراء، والذي تم توجيهه إلى رئيس الوزراء:
إن الفظائع التي يرتكبها يوميا الجنود البريطانيون بمصر، والمراوغة التي يستعملها رجال الحكومة الإنجليزية لاغتصاب حقوقنا الشرعية، لمن الأمور التي تستفز الأنفس على حلمها، وتهدد الأمن العام وتنافي الإنسانية، فباسم العدالة وبحق الواجب الذي فرضتم على أنفسكم القيام به نحو وطنكم وأمتكم يوم اعتناقكم منصب الوزارة المصرية، والذي يحتم عليكم المدافعة عن حياة الأمة والمطالبة بحقوق الوطن المقدس، نستحلفكم أن تقوموا بما تمليه عليكم الإنسانية عن لسان الشعب المظلوم، وهو الاحتجاج بشدة على الفظائع المذكورة ومحاكمة الضباط والجنود الذين تعدوا على طلبة المدرسة الإعدادية لعدم تكرار مثل ذلك مرة أخرى.
وفي الاجتماع نفسه، اتخذنا قرارا بالاحتجاج على مشروع ري السودان للأسباب التالية:
أولا:
لأن الإنجليز هم الذين وضعوه باعتبارهم أصحاب الشأن في السودان، مع أن مركز إنجلترا هناك غير شرعي ولا يختلف عن مركزها في مصر، فإن كليهما قطر واحد لا يقبل التجزئة وحقهما في الاستقلال لا يمكن إنكاره.
ثانيا:
لأن هذا المشروع ثبت ضرره بدليل ما نشره المختصون من كبار المهندسين مصريين وإنجليز.
وعلى ذلك فإننا نضم صوتنا إلى صوت الأمة في ضرورة وقف المشروع وقفا تاما حتى يفصل في مسألتنا السياسية العامة؛ لأن البت فيه يجب أن يكون من اختصاص المجلس النيابي الذي يمثل مصر والسودان بعد أن ترد حقوقهما إليهما.
وإننا نطالب الوزارة بأن تنضم إلى الأمة في رأيها وتمنع تنفيذ هذا المشروع بجميع الطرق التي لديها، فإذا لم تستطع ذلك، فعليها أن تتخلى عن منصبها حتى لا تتحمل تبعة هذا العمل الخطير.
احتجاج مارس
وفي يوم 20 مارس 1920، عقدت لجنة الوفد المركزية للسيدات اجتماعا، أقرت فيه هذا الاحتجاج:
اجتمع أعضاء الجمعية التشريعية (على الرغم من سيف الأحكام العرفية المسلط فوق الرءوس ولم تكترث للأمر القاضي بتعطيلها)، اجتمعت فنادت بالاستقلال التام وبطلان الحماية، واحتجت على ما لحق البلاد وأبناءها على يد حماتها القهريين من صنوف الاعتداء على الأرواح والأموال والحرية، وعلى تعطيل الدستور ووضع القوانين والأنظمة المختلفة من غير عرضها على الأمة، وجاهرت بوجوب وقف مشروعات الري إلى أن تبت الأمة المصرية المستقلة في أمرها، ونادت بأن الأمة وحدها صاحبة الشأن في تقرير أمورها الحاضرة والمستقبلة.
وأثنت على ما قام به الوفد المصري من الجهاد في سبيل الاستقلال فمحضته الشكر بلسان الأمة.
أصدرت الجمعية هذا القرار بالإجماع في جلسة تاريخية عقدتها في 9 مارس 1920 في منزل سعد زغلول باشا وكيلها المنتخب ورئيس الوفد المصري، فكان عملها هذا خير تاج توجت به الوحدة القومية المقدسة التي تجلت في إجماع الأمة المصرية على التمسك بالاستقلال التام، وأسمى مظهر للروح الدستورية المتأصلة في صدر أمة عقدت نيتها على ألا تساد، وأجمعت كلمتها على أن تتولى هي جميع أمورها، كما كان أجل مثال للجرأة السياسية المنبعثة عن عقيدة وطنية ثابتة لا تحفل بتهديد القوة ولا تطأطئ الرأس للباطل مهما ارتدى ثياب البأس والجبروت.
كان هذا العمل الجليل خليقا بألا يروق للإنجليز الذين لا يروموننا إلا على الذل والاستكانة لحكمهم، فأثار سخطهم وحملهم على الاجتراء مرة أخرى على حريتنا بنوع جديد من العدوان، وهو جعل اجتماع الهيئات النيابية المصرية أو أعضائها جريمة تستوجب محاكمة أولئك الأعضاء أمام المحاكم العسكرية الإنجليزية، وذلك ليسكتوا صوت النواب وهو أحق الأصوات بالسماع؛ لأنه من صوت الشعب وصوت الشعب من صوت الله، فكان هذا الاعتداء حلقة جديدة اقترفها الإنجليز في سبيل حمايتنا رغم أنوفنا، وبرهانا آخر على أن إنجلترا لا تحترم الحرية، فإن تغنت بذكرها فما ذلك إلا للتغرير بالعالم وذر الرماد في عيون الشعوب.
وها هي جميع تصرفاتها إزاء الحركة المصرية السليمة من بدايتها إلى الآن لا تنطوي إلا على حكم القهر والإرهاب والاعتداء على حرية الكتابة والعدل والاجتماع وهي أركان الحياة الحرة.
فالمظاهرات السلمية من جانب شبيبة الأمة وطلبتها تقابل برصاص البنادق والمدافع الرشاشة. ومظاهرات السيدات تقاوم بأسنة السيوف، وضروب العنف والامتهان. ومجرد النداء بحياة الوطن والاستقلال يلقي بصاحبه في أعماق السجون، بل يؤدي به إلى الأشغال الشاقة، والجهر بالحق في صحيفة يستنزل عليها الحكم بالتعطيل وعلى مطبعتها بالإقفال. والاجتماعات تمنع بالقوة القهرية.
والمدائن الكبرى تعاقب على المظاهرة التي تقوم بها بحرمان جميع السكان من حرية الرواح والمجيء وإرغامهم على لزوم منازلهم بعد غروب الشمس.
أما القرى فإن القصاص الذي ينزل بأهلها تشيب لهوله الولدان.
فهم يرغموننا على الاستعباد بدعوى أنهم يريدون أن يؤهلونا للحرية، وقد تناسوا حكمة مؤرخهم «ماكولي»؛ حيث قال: إذا انتظر الناس الحرية إلى أن يكتسبوا الحكمة والصلاح وهم في ظل حكم الاستبداد، فبشرهم أنهم سينتظرون أبدا!
تلك وسائل التضييق والعنف والإرهاب التي يلجأ إليها خصومنا لإطفاء جذوة وطنيتنا وتحويلنا ولو قيد شعرة عن موقفنا الشريف ومطلبنا المقدس فلا تعود عليهم إلا بالخزي ولا تزيد باطلهم إلا وضوحا، في حين أن حقنا يزداد تأييدا يوما فيوما في نظر جميع شعوب العالم، وصفوفنا تزداد تساندا في جهادها السلمي ضد هذا الخصم المغتصب فبالأمس كانوا يدعون أن حركتنا الوطنية مقصورة على بعض المهيجين السياسيين والطلبة. أما اليوم فلا سبيل لهم إلى هذه المغالطة بعد أن أعلنت جميع طبقات الأمة إرادتها إعلانا لا يقبل التأويل، فنادى بالاستقلال أعيان الأمة وعمالها، موظفوها وفلاحوها، علماؤها وأمراؤها، مسلموها وأقباطها، رجالها ونساؤها، ورددوا ذلك النداء في كل الظروف وأيدوه بالمقاطعة التامة لتلك اللجنة التي جاءت لتأكيد الحماية الباطلة وإغراء المصريين على التخلي عن استقلالهم.
فلجنة الوفد للسيدات تحتج اليوم على هذا الاعتداء الجديد الذي اقترفه الإنجليز على حرية النواب المصريين وتسجله عليهم سيئة من أفظع سيئاتهم ضد الشعب المصري.
ولقد حقت عليهم كلمة «جرون» الكاتب الفرنسي الكبير؛ حيث قال: إن الذي لا يريد لخصومه ما يريده لنفسه من الحرية، غير جدير بالحرية.
عن لجنة الوفد المركزية للسيدات
هدى شعراوي
خطابان متبادلان ...
كان هناك بعض الظروف والملابسات التي دفعتني إلى أن أكتب رسالة إلى سعد زغلول باشا رئيس الوفد المصري بشأن هذه الأحداث، وقد تلقيت منه رسالة فيها الكثير من التقدير لجهاد المرأة المصرية والتأييد لموقفها، وهذا هو نص الرسالتين المتبادلتين.
حضرة صاحب المعالي سعد زغلول باشا رئيس الوفد المصري
مرسل لمعالكيم برفقة هذا نسخة من قرار لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات يتضمن نظرياتها في مشروع الاتفاق، وهي تكرر لمعاليكم بنوع خاص، مع عبارات خالص الشكر والثناء على ما قمتم به نحو الأمة المصرية والوطن المحبوب من أجل الخدمات، تمسكها بتلك التحفظات التي بدونها نكون قد أيدنا على أنفسنا شروط الحماية المقنعة وفقدنا كل حق في المطالبة باستقلال مصر التام وفيه حياتنا، وإنا لنرجو أن ننال على أيديكم غايتنا المنشودة.
ثم نلفت نظر معاليكم إلى الاحتجاج الذي اضطررنا لتقديمه وذلك لأن مندوبي الوفد فضلا عن كونهم قد تساهوا أولا عن دعوتنا كباقي الهيئات لإبداء آرائنا في المشروع، قد أظهروا الضجر وعدم الرغبة في أخذ آرائنا عندما قدمنا لهم طلبا بذلك، مصرحين بأنه لا يجوز للنساء التدخل في الأمور السياسية، ولولا إلحاح مندوبنا الشديد، لما تنازلوا بإجابة طلبنا، وإننا لفي غاية الاندهاش والاستياء من معاملتهم هذه لنا التي تنافي الخطة التي اتبعتموها معنا للآن، وتخالف المعاملة التي عودتمونا عليها بتعضيدكم لنا في مشاركتنا لكم في الحركة الوطنية، وتحبيذكم لعملنا وقت تشكيل لجنتنا بتلغرافاتكم المظللة بأسمى عبارات التهاني والأماني ... والذي يزيد من استيائنا هو أن يثبت الوفد بعمله هذا ظن الهيئات الأجنبية بمصر اللاتي أولن نهضتنا بخلاف الحقيقة؛ حيث قالت: إن اشتراك النساء في الحركة المصرية لم يتم بدافع الوطنية، بل بإيعاز فئة من الوطنيين لاستعمالهن كآلة مؤقتة لإيهام الأمم المتحدة، ولتعتقد هذه بنضوج الأمة المصرية في الرقي وكفاءتها لحكم نفسها بنفسها، وتعضدها في نوال هذه الأمنية ونهضتها كما تعلمون بريئة من مثل هذه التهم، فضلا عن كونها كسبت ميزة لم تنلها مثيلاتها، والآن وقد قربت القضية المصرية من حل مرض، فلا يليق بالوفد المصري الذي يطالب بحقوق مصر ويعمل لنوال استقلالها أن ينكر على نصف الأمة حقها فيه، وجئنا نطرح أمام عدالتكم مسألتنا هذه كي نقف على رأي معاليكم فيها، متسائلين عما سيكون مركز مصر والمرأة المصرية في المستقبل ولنا في صائب حكمكم عظيم شفيع.
وقد رد سعد باشا زغلول على هذه الرسالة برسالته المؤرخة في 27 أكتوبر 1920، والتي يقول نصها:
حضرات صاحبات العصمة، رئيسة الوفد النسائي، وأعضائه المصونات، تشرفت بمكتوبكن الكريم ثم تلغرافكن المفيد، وأتأسف شديد الأسف لعدم تشرف حضرات مندوبي الوفد بعرض المشروع عليكن، كما عرضوه على غيركن، ولكني أؤكد لحضراتكن أنهم لم يفعلوا ذلك استخفافا بكن أو إهمالا لشأنكن، بل لظروف أجنبية عن هذا المعنى، ولو كنت فيهم لامتنع تأثير هذه الظروف، وتعين علي أن أقوم بشخصي بعرض المشروع عليكن وتوضيح معانيه ومراميه؛ رغبة في الاستنارة بآرائكن التي لها المقام الأول من الاعتبار عندي وعند زملائي، ويسرني جدا أنكن مع ذلك فهمتن المشروع حق الفهم، وأبديتن فيه تحفظات أراها غاية في الأهمية، وأرى التشبث بها من أخص أحبائي، وإني أول من يرى أنه لا يمكن أن تتقدم هيئة اجتماعية بدون أن يشترك حسكم اللطيف فيها، وأرجو أن تتفضلوا مع هذه الكلمات بقبول أطيب تحياتي وأوفر احتراماتي.
سعد زغلول
الفصل التاسع عشر
كنا طوال الوقت نتابع أخبار الوفد ونؤازره في كل ما يتخذ بشأن المسألة المصرية، وقد ظلت الأمور على هذا الحال إلى أن أرسل الوفد مندوبيه الأربعة لعرض المشروع على المصريين. وقد عرضوه بالفعل على جميع الهيئات - فيما عدا هيئة لجنة السيدات. وقامت غالبيتها تقابلهم بالطبل والزمر كما هي عادتنا في استقبال الحوادث.
ولما كان هذا المشروع لم يعرض على هيئة لجنة السيدات التي كان لها نصيب كبير في العمل بجانب الوفد في الحركة الوطنية، فقد اجتمعت لجنة الوفد المركزية للسيدات بمنزلي بالرمل لدراسة المشروع. وبعد دراسته دراسة داخلية، وجدنه لا يفي بتحقيق أمانينا الوطنية، فنشرنا رأينا على صفحات الجرائد، وكتبنا خطابا لسعد باشا ننتقد فيه تصرف هؤلاء المندوبين الذين هضموا حقوقنا وأنكروا وجودنا بإغفال هيبتنا في عرض المشروع، وكانت الرسالتان المتبادلتان بيني وبين سعد باشا زغلول، وقد سبق الحديث عنهما، وبعد ذلك وصلتنا رسالة من سكرتير الوفد في ذلك الوقت مصطفى النحاس بك، ويقول: «إننا لنفخر بنهضة سيداتنا واهتمامهن بمستقبل البلاد، ويسرنا أن تتفضل اللجنة المركزية للسيدات بأن ترسل إلينا برأيهن في مشروع الاتفاق وملاحظاتهن عليه. وإننا سنحلها محل الاعتبار اللائق بها.»
وقد عقدت لجنة الوفد المركزية للسيدات جلستها الثالثة عشرة في منزلي بلوران يوم 25 سبتمبر 1920. وسجل محضر الجلسة أن اللجنة قد استعرضت شروط الاتفاق المنشورة ببلاغ الوفد إلى الأمة والشرح الذي قدمه حضرات مندوبي الوفد لهذه الشروط، وقررت ما يلي: (أ)
شكر حضرات أعضاء الوفد. (ب)
عدم صلاحية قواعد الاتفاق لأن تكون أساسا لمعاهدة تعقد بين مصر وإنجلترا، إلا إذا أضيفت إليها التحفظات الآتية: (1)
أن ينص في الفقرة الأولى من المادة الثالثة على إلغاء الحماية. (2)
أن تعين الحقوق التي تمنحها مصر لإنجلترا بأنها الحقوق المذكورة في مشروع الاتفاق كي لا تتعدى هذه الحقوق ما ذكر في المشروع. (3)
أن تتعهد بريطانيا بتعضيد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها إذا طلبت مصر هذا التعضيد، وفي نظير ذلك تسمح مصر لها باستعمال طرق مواصلاتها إذا كانت بريطانيا تحارب في بلاد لا يمكنها الوصول إليها إلا عن طرق مصر. (4)
أن يكون لمصر حق عقد جميع المعاهدات مع الدول الأجنبية إلا المعاهدات السياسية التي تضر بمصالح إنجلترا، وكذلك لا يجوز لإنجلترا عقد محالفات سياسية تتعارض مع مصالح مصر. (5)
أن يحدد عدد الحامية العسكرية ومعداتها ومركزها ومدة وجودها، على شرط أن يكون ذلك المركز بعيدا عن المدن والعواصم وأن تدفع الحكومة الإنجليزية أجرا لهذه الأرض حتى لا تصير ملكا لها، وأن يذكر صراحة أن مهمة هذه الحامية المحافظة على قناة السويس فقط. (6)
أن يسمى الموظف الإنجليزي الذي سيحل محل صندوق الدين بمراقب صندوق الدين، وأن تحدد وظيفته باختصاصات صندوق الدين فقط، ولا يكون له صفة استشارية مطلقا في الحكومة، وأن ينص صراحة على انتهاء وظيفته بمجرد سداد الدين سواء كان ذلك بعمل قرض داخلي بوساطة الحكومة أو انتقال أسهمه إلى أيدي المصريين. (7)
لا داعي لبقاء المستشار القضائي بالمرة ما دام للممثل البريطاني حق نقض القوانين المجحفة بالأجانب. (8)
لا بأس من قبول النص الثاني من الفقرة الخامسة بند رابع مع النص على رفع الأمر عند قيام أي خلاف إلى سلطة عليا وتعيين هذه السلطة. (9)
أن يكون الممثل البريطاني كباقي ممثلي الدول ولا يكون له مركز استثنائي في مصر بأي حال من الأحوال. (10)
أن تستبدل عبارة «الضباط والموظفون الإداريون» في الفقرة السابقة من البند الرابع بالعبارة الآتية: «الموظفون العسكريون والملكيون». (11)
ألا يوقف تنفيذ المعاهدة على رضاء الدول بإلغاء الامتيازات بل تنفذ عند توقيعها مباشرة وأن تعتمد من جميع الدول. (12)
أن تشترك مصر مع إنجلترا في الاتصال بالدول الأجنبية بخصوص إلغاء الامتيازات وفي توقيع الاتفاقات الخاصة بها. (13)
لا بأس أن يذكر أن الحكومة المصرية تصدر أمرا عاليا يقضي باعتبار جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والقضائية التي اتخذها القائد العام لجيوش ملك بريطانيا في مصر بمقتضى الأحكام العرفية صحيحة، ولن تستثني منها التصرفات التي يرى فيها إجحاف بحقوق مصر، وأن يكون للحكومة المصرية الحق في إبطال مفعول هذه الإجراءات إذا كانت مستمرة التنفيذ. (14)
أن تشترك مصر في تبليغ نص المعاهدة المشار إليها في البند الثالث إلى الدول الأجنبية مع بريطانيا لإقرارها، وأن تعضد بريطانيا الطلب الذي تقدمه للانضمام إلى عصبة الأمم. (15)
أن ينص في المعاهدة على رضاء المتعاقدين بتحكيم محكمة لاهاي أو ما يقوم مقامها في كل خلاف ينشب على تفسير شروط المعاهدة أو على عدم تنفيذها.
أما مسألة السودان فيجب أن نتمسك بحقوقنا فيه باعتباره جزءا لا يتجزأ من مصر لا باعتباره مستعمرة. (16)
وكانت الجلسة التي اتخذت فيها هذه التوصيات قد بدأت في الساعة الثامنة صباحا واستمرت حتى الساعة الواحدة ظهرا، ونظرا لخطورة الموقف والأحداث والتطورات، فقد اتفق على العودة للعمل في الساعة الخامسة من مساء اليوم نفسه، وفي هذه الجلسة صدر قرار لجنة الوفد المركزية للسيدات الذي اتفق على نشره في جميع الصحف المحلية، والذي ينص على ما يلي:
اطلعنا على قواعد الاتفاق المنشورة ببلاغ الوفد إلى الأمة وعلى الشرح الذي قدمه حضرات المندوبين لهذه القواعد، ودرسنا كل ما كتب بخصوصها من نقد ومزايا، فقررنا بالإجماع ما يأتي: (1)
شكر حضرات أعضاء الوفد المخلصين على ما بذلوه من الهمة والجهد للوصول إلى تحقيق أمانينا القومية التي نرجو نيلها بحسن تصرفهم في جهادهم للحق الذي أكسبهم إعجاب وثقة شعوب الأمم الراقية رغم كل مقاومة. (2)
عدم صلاحية تلك القواعد لأن تكون أساسا لمعاهدة تعقد بين مصر وإنجلترا إلا إذا أضيفت إليها التحفظات المذكورة في المحضر السابق. (3)
عرضت مسألة الاحتجاج على مندوبي الوفد لعدم عرض المشروع على لجنة وفد السيدات وطلب إبداء رأيها فيه كما حدث مع جميع الهيئات ... فوافق الجميع على هذا الاقتراح وتقرر كتابة ذلك بالصورة الآتية:
حضرات أصحاب السعادة والعزة مندوبي الوفد المصري
إن لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات بصفتها هيئة منتخبة ممثلة لنصف الأمة المصرية التي انتخبت وتأسست لمساعدة الوفد المصري والسير على برنامجه للمطالبة باستقلال مصر التام، وقد قامت بواجبها نحو الأمة والوفد المصري كما يجب، قد اجتمعت اليوم بمنزل حرم صاحب السعادة علي شعراوي باشا بلوران برمل الإسكندرية، وقررت بناء على دعوتكم ما يأتي:
الاحتجاج على عدم دعوتها لعرض المشروع عليها للمناقشة فيه وأخذ رأيها كما اتبع مع جميع الهيئات أو إبداء رأيها كتابة إلا بعد أن قدمت طلبا بذلك.
وأذكر أنه كان لرأينا هذا ضجة بين المتتبعين لأعمالنا، فأيده بعضهم وأنحت علينا الأغلبية باللائمة كالمعتاد. فقد كان كل شيء يصدر من سعد مقبولا ولو لم يكن في مصلحة الوطن، والدليل على ذلك رفض الأمة لمشروع ملنر بعد الطبل والزمر الذي قوبل به، وكان رفضه بناء على تنويه من سعد باشا بأنه لا يحقق أماني البلاد، إذ علموا أنه لم يرسل المشروع لاستفتاء الأمة إلا إرضاء لرغبة بعض أعضاء الوفد المؤيدين له، وإذا بأعضاء آخرين يرجعون بعد ذلك من باريس الواحد تلو الآخر. وكان أول من رجع منهم قبل عرض المشروع هو زوجي علي باشا شعراوي، الذي دهش مثلنا من عدم عرض المشروع عليه ولم يدع للانضمام إلى مندوبي الوفد الذين قدموا لعرض المشروع رغم أنه وكيل الوفد المصري. وقد أدى ذلك إلى أن بعض السيدات كن يسألنني: هل رجوع الباشا لاختلاف في الرأي بينه وبين سعد باشا؟ فكنت أنفي هذا الزعم؛ لأن الباشا لم يكن قد صرح لي بشيء من هذا القبيل، ولم يقطع صلته بأعضاء الوفد الذين قدموا لعرض المشروع ... وبهذه المناسبة أذكر أن زوجي توجه لزيارتهم عقب عودتهم من أوروبا رغم أن سعد باشا لم يكتب إليه بالانضمام إليهم في عرض المشروع، ولم يرد أحد منهم زيارته إلا لطفي السيد بك الذي كان صديقه الوفي.
ولما سمع سعد باشا بأن الحكومة الإنجليزية لا ترغب في مفاوضته بصفته نائبا عن الأمة، ولكنها تريد أن تتفاوض مع ممثلي الحكومة المصرية، لم يطق البقاء في باريس وعزم على العودة إلى مصر كما هو معروف. فقامت البلاد تحتفي بقدومه حكومة وشعبا، وكان بعض المفكرين المصريين وبعض أعضاء الوفد ومنهم زوجي يفضلون عدم قيام سعد باشا بمفاوضات رسمية ليبقى كمرجع أخير للمفاوضين الحكوميين، يشد أزرهم ويكون لهم بمنزلة دعامة يرتكزون عليها ويعمل حسابها المفاوضون الإنجليز، وبذلك تنجح المفاوضات. ولكن ذلك لم يكن متفقا مع اتجاه سعد باشا الذي كان يريد أن يتم على يديه كل شيء خاص بالقضية المصرية، فبذر بذور الشقاق، وكانت برقيته الشهيرة التي نوه فيها بأن بعض أعضاء الوفد تواطئوا مع الحكومة على الاتفاق مع الإنجليز على معاهدة لا تحقق مطالب المصريين، فقامت البلاد وقعدت لهذه الجرأة لا سيما وقد جاءت هذه البرقية في وقت كانت النفوس فيه ثائرة متعطشة لشيء من الحرية، ولذلك كانت تنتظر بفارغ الصبر عودة سعد باشا إلى مصر.
وقبيل وصول سعد باشا بيوم أو يومين، كنت في مكتبي ... وإذا بأحد أقاربي جاء ليسألني عن حقيقة ما سمعه من أن شعراوي باشا قرر عدم استقبال سعد باشا بالمحطة يوم حضوره، ولم أكن أعرف من ذلك شيئا. فقال قريبي: هل تجهلين أنه قد حدث بينه وبين سعد باشا خلاف في أوروبا أدى إلى تركه أمانة صندوق الوفد وعودته إلى مصر، ولما كنت أجهل ذلك أيضا، فقد قلت له: لا أظن أن هذا صحيح؛ إذ قال لي شعراوي باشا إنه لم يرجع إلا لأسباب صحية، وحقيقة أن صحته كانت معتلة جدا. فتعجب قريبي وانصرف.
الوحيد الذي لا يقابل زغلول
ولما حضر الباشا، سألت عن حقيقة هذا الخبر وأنا متأثرة من إخفائه عني رغم سؤالي المتكرر له عن سبب عودته. فقال لي: حقا إنني غضبت من سعد باشا عندما كنا في باريس، لأنني سألته مرارا عن أوجه صرف مبالغ الوفد التي كان يطلبها مني لتدوين ذلك في دفاتر حساب الوفد، فكان سعد باشا يبدي امتعاضه، ولما ألححت عليه يوما في السؤال، رد ردا جافا حملني على الاستقالة. ولكنه بعد ذلك صافحني وتصافينا، وظننت أنه لم يبق في نفسه أثر من ذلك كما هو الحال عندي، ولم أترك بعد ذلك باريس إلى مصر إلا لاضمحلال صحتي، دون أن يكون بيننا جفاء، ولكن يبدو أن سعد باشا حنق علي، وظهر ذلك في عدم طلب إشراكي مع المندوبين الأربعة الذين جاءوا لمصر لعرض مشروع ملنر على الهيئات المصرية، وبناء عليه عزمت على عدم الذهاب لمقابلته في المحطة.
فقلت له: كيف يكون ذلك؟ أتريد أن تكون الوحيد في عدم استقبال سعد، بينما تستقبله الأمة كلها وتحتفي به؟
فقال لي: سأكون ذلك الوحيد.
وفعلا لم يتوجه لاستقباله ... وكنت مستاءة من ذلك، ولكنني أعطيته الحق عندما رأيت بعيني معاملة سعد باشا لرئيس الوزراء عدلي باشا يكن وباقي الوزراء عندما ذهبوا لاستقباله في المحطة؛ حيث قابلهم ببرود وعدم اكتراث، وقد أثر فيهم ذلك حتى لقد بدت عليهم علامات التأثر ولاحظ ذلك كل الموجودين.
وقد شاهدت بعيني ذلك؛ حيث كنت مع وفد السيدات في استقباله هو وحرمه، ولما عدنا إلى منزل سعد باشا الذي كان غاصا بالجماهير من الرجال والنساء، وقد نصب في جانبيه سرادقان أحدهما للرجال والآخر للنساء، كنت أشعر بشيء من الخجل لوجودي في ذلك الجمع، بينما زوجي الذي خدم الوفد - ولولا خدماته ما كسب ثقة الأمة - قد بقي منفردا في بيته لا تعرف الأمة له قدرا أو حقا.
وبينما أنا في ذلك الجمع الحاشد ينتابني ذلك الشعور المر وتمر في مخيلتي تلك الأفكار، إذا بصوت سعيد آغا يناديني ويقول لي: إن سعد باشا يبحث عنك ويقول أين الرئيسة. فدفعني حرج مركزي إلى التواري بعيدا عن عيني سعد، ولكنني صادفته وأنا في طريقي للخروج وهو يشق صفوف السيدات قائلا: أين الرئيسة لأشكرها ...
فتقدمت نحوه، وهنأته بسلامة العودة، ورجوت «شريفة هانم رياض» وباقي أعضاء وفد السيدات أن ينبن عني، ويعذرنني في ابتعادي للسبب الذي يعرفنه من حرج الموقف. وخرجت.
ورغم ذلك، كتب صاحب الكشكول في مجلته يقول إنني في ذلك اليوم كنت جالسة بجانب سعد، ألقي على السيدات درسا في السفور.
وقد تألمت عندما علمت أن سعد باشا قد جاء في اليوم التالي إلى منزلنا، وترك لي وحدي بطاقة شكر على مقابلتي له بالمحطة وزيارتي للسرادق، ولكن كان سروري بعد ذلك عظيما، جاء سعد باشا بعد ذلك بيوم وصافح زوجي في بيتنا. نعم فرحت كثيرا وقدرت فيه هذا الوفاء.
حملة على الوزارة
قام سعد باشا بعد ذلك بحملة ضد الوزارة والمؤيدين لها في سفرها للمفاوضة، رغم نصائح زوجي وبعض أقطاب الوفد ... ولست أدري داعيا للخوض في تفاصيل هذه الحملة الشعواء التي شنها ضدهم وإن ذلك شيء يطول شرحه، فضلا عن وجوده في عدة كتب.
وقد تفاوض عدلي باشا في مشروع كيرزون، ولكنه لم ينجح كما كان منتظرا؛ لأنه لم يكن مؤيدا من الوفد الذي لم يأل جهدا في معاكسته بكل الطرق. فلما لم يصل إلى شيء مما كان يأمل فيه، رفض الاستمرار في المفاوضة ورجع إلى بلاده راضي الضمير مستريح البال، فسررنا بذلك. ولكن علمنا أن الوفد بالرغم من رفض عدلي باشا قبول المعاهدة يستعد للقائه بكل تحقير وازدراء بتنظيم مظاهرات ضده وإعداد بعض الناس ليرموه بالطماطم والبيض الفاسد ... فهالنا هذا الأمر، واتفقنا في اجتماع عقدناه نحن أعضاء لجنة الوفد المركزية للسيدات أن نتوجه إلى سعد نفسه، ونطلب منه أن ينصح رجاله بعدم إتيان مثل هذه الأعمال الصبيانية ... فلما وصلنا إلى المنزل وطلبنا مقابلته، اعتذرت لزميلاتي عن عدم إمكاني البقاء معهن في تلك المقابلة، نظرا للخلاف الجديد الذي قام بيني وبين زوجي من جراء معاكسته لعدلي باشا معاكسة لم ير زوجي لها مبررا ... وبقيت مع زوجته صفية هانم في الصالون وتركت الأعضاء بالردهة الصغيرة لمقابلته. فلما حضر لمقابلتهن ولم يرني بينهن أصر على مقابلتي أولا، فقبلت على شرط أن يكون ذلك من وراء الباب، فحياني بالشكر على ما قمت به من خدمات للقضية المصرية كان لها أثر فعال في تقوية مركز الوفد. وقال لي: إنه يتمنى لو أتيح له أن يكافئني بشيء على خدماتي. فقلت له: يا سعد باشا ... كل منا يعمل لاعتقاده بأن عليه واجبا يؤديه لوطنه في هذا الوقت الحرج، وأنا لم أعمل ما أستحق عليه الشكر ولا الجزاء.
فقال: كيف ذلك وقد خدمت الحركة، وأنا لا أعرف بأي وسيلة أكافئك.
فانتهزت فرصة سروره وتقديره لعملي، وقلت له: ما دمت تصر على إقناعي بأنني أستحق مكافأتك، فإن لي عندك طلبا أرجو تحقيقه.
فقال: بكل سرور ... ما هذا الطلب؟
قلت له: أن تقابل عدلي باشا بمثل ما قابلك من حفاوة وتكريم يوم عودتك إلى الوطن، وأن تمنع المظاهرات المزمع قيامها وتنظيمها لرميه بالطماطم والبيض الفاسد.
فتمهل قليلا كأنه لم يكن ينتظر مني مثل هذا الطلب، ثم قال: والله لو كان الأمر متعلقا بي شخصيا لأجبت رغبته إرضاء لخاطرك، ولكن إن رضيت أنا، لا يرضى غيري بذلك.
فقلت له: ومن الذي يخالفك في الرأي إذا أردت شيئا؟
فأسرعت صفية هانم وقالت له: والله يا سعد لو وضعت يدك في يد عدلي، لن أكون لك زوجة بعد الذي فعله.
فقال لي: أسمعت يا سيدتي بآذانك؟
فقلت: سمعت. ولم يبق لي كلام بعد ذلك إلا أن أطلب من الله عز وجل أن يهدئ الخواطر ويهيئ ما فيه الخير.
وكان أن تركني وانصرف لمقابلة أعضاء اللجنة، وكان اللقاء بينه وبينهن ... قصة أخرى! ...
الفصل العشرون
بعد ذلك اللقاء العاصف بيني وبين سعد باشا زغلول تركني وتوجه إلى الغرفة الأخرى، لمقابلة أعضاء لجنتنا ولم يدم هذا اللقاء إلا دقائق قليلة؛ حيث أخبروني بأن السيدات قد خرجن من الغرفة ويردن الانصراف، وأن سعد باشا قد غادر المكان، وخرجت مع صفية هانم من الصالون فوجدت زميلاتي يرددن في حالة من التوتر والارتباك: «هيا بنا. مصر لها رب.»
وبعد أن سلمنا على صفية هانم وخرجنا وركبنا عرباتنا، ركبت معي مدام ويصا خياط وسيدة ثالثة لا أتذكر من هي الآن، فسألتهن عما دار بينهن وبين سعد باشا بخصوص الموضوع الذي جئنا من أجله، فأخبرنني أن سعد باشا قد دخل عليهن وهو يقول: «هل أعطيتن رشوة حتى تأتين لطلب مثل ذلك الطلب؟» فقلن له: «نحن لا نرتشي، ولو كان ذلك ما وقفنا هذا الموقف.» فقال لنا: «من هو ذا عدلي؟ الأمة كلها معي.» فردت عليه مدام خياط قائلة: «إذا كان في الأمة واحد يخالفك الرأي، فالأمة إذن ليست بالإجماع معك.» فغضب واحتد عليهن وعاد يقول: «لا بد أنهم أعطوك رشوة.» فقامت السيدات محتدات، وأرسلن إلي لكي أخرج. ورجعنا بعد ذلك إلى منزلي. وبقينا نفكر فيما نفعل مجتمعات لدرء هذا العمل المخزي، وكان التليفون يدق بين الحين والآخر؛ حيث يسأل الطلبة وبعض الأعيان عن نتيجة مقابلتنا لسعد، بعد أن سمعوا أن وفد السيدات قد توجه إليه ليطلب منه أن يحسن مقابلة عدلي باشا، ويستفسرون عما إذا كان هذا صحيحا، وماذا تم في الأمر.
وهنا، لا بد أن أعترف بأننا قد أخطأنا خطأ كبيرا عندما تسترنا على هذا الخبر ونفينا صحته، وأعتقد أننا لو كنا قد أخبرناهم بالحقيقة، لعرف الناس نية سعد باشا ولانفض من حوله كثيرون.
وقد وصل عدلي باشا في اليوم الثاني لهذا اللقاء بعد أن قام بواجبه نحو بلاده، ولكن للأسف لم يقدر الشعب المصري جهود رجاله المخلصين. وقام سعد يرمي عدلي بالخيانة، فكتبت إليه خطابا أرجوه فيه عدم استعمال الكلمات الجارحة في انتقاده، لا سيما أن عدلي لم يسئ إليه بقول أو بإشارة في خطاباته. فوعدني أنه سيلطف من حدته لإرضائي. ولكن للأسف وجدته غير قادر على كبح جماح نفسه في مهاجمة عدلي بمختلف الطرق المبتكرة المنظمة، ثم أرسل لي يقول: «لقد تبعت مشورتك، ولعل كلامي قد أعجبك.» ففهمت أنه يتهكم علي، ولم أرد عليه.
وقد بقي هذا الصراع بعد ذلك بين سعد وعدلي وثروت وأصحابهم، حتى انتهت المسألة بنفي سعد باشا إلى سيشل، فحرك فينا هذا التصرف شعور الثورة بعد أن كنا نستهجن خطة سعد وأصحابه وتهريج أتباعه، فقمنا نحتج على نفيه ونطالب بإعادته لبلاده، وعقدنا الاجتماعات تلو الاجتماعات، بعضها في منزل أحمد بك أبو إصبع وبعضها الآخر عندي. وقد أقسمنا على أن نقاطع الإنجليز والتجارة الإنجليزية. وكان أعضاء الوفد من الرجال قد قرروا أيضا القيام بمثل هذه المقاطعة، ولكنهم تلقوا تهديدا بالنفي فلم يجرءوا على تنفيذها، واكتفوا بأن أرسلوا إلينا يوم اجتماعنا خطاب شكر وتشجيع.
كذلك فقد فكرنا ذات يوم من الأيام في إرسال نجدة لخلاص سعد باشا وإعادته إلى مصر، وبحثنا الموضوع والأساليب التي تؤدي لنجاحه، ولو ترتب على ذلك نفينا نحن أيضا، وقد وجدنا أن الطريق بعيد والمسالك وعرة، فضلا عن أننا لم نتعود القيام بمثل هذا العمل الخطر، فقررنا الاكتفاء مؤقتا بالدعاية لمقاطعة البضائع الإنجليزية وإنماء روح الثورة في نفوس المصريين، وصرنا نعقد الاجتماعات المتوالية في منزل سعد وفي منزلنا، ونحرص على مواساة زوجته المسكينة في هذه المحنة.
الثورة والاحتجاج
ولقد كان الإنجليز في تلك الأثناء قد وجهوا إلى سعد باشا زغلول إنذارا بالكف عن العمل في السياسة، وبالبقاء في بلدته بعيدا عن كل نشاط سياسي. وقد رد سعد باشا على الماريشال اللنبي برسالة مقتضبة قوية الحجة قال فيها: «لقد اختارتني الأمة للمطالبة باستقلالها، ولا أعترف لغير الأمة بسلطة إعفائي من هذه المهمة، وللقوة أن تصنع بي ما تشاء.»
وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الجمعة 23 ديسمبر 1921، اقتحمت فصيلة من الجنود الإنجليز بيت الأمة، واعتقلت سعدا، وذهبت به إلى جزيرة سيشل التي اختارها الإنجليز منفى له ...
ولم تكد هذه الأخبار تعرف وتنتشر، حتى نشبت الثورة واندلعت نيرانها في القاهرة، وتأججت منتقلة إلى الوجه البحري والوجه القبلي إلى أن عمت مصر كلها.
وقد سار الشعب رحلة شديدة المراس في جهاده ضد الإنجليز وكان جهادا مليئا بأعمال البطولة، وجدير بالذكر أنه على إثر قيام الثورة، اتحدت الصفوف من جديد، وزالت الخلافات الحزبية، وأصبح المصريون جميعهم رجلا واحدا في الكفاح والجهاد.
ولقد كانت المظاهرات الصاخبة تجتاح كل نواحي القاهرة وتحتشد في الشوارع والميادين، وكانت هذه المظاهرات تواجه بأزيز رصاص الجنود البريطانيين ووقع حوافر فرسان الجيش الإنجليزي وعلى ظهورها الضباط والجنود وقد لمعت سيوفهم في محاولة لإخماد ثورة الشعب، فلا يجدون من المتظاهرين إلا كل أنواع البطولة والبسالة، رغم العشرات الذين كانوا يهوون تحت سنابك الخيل أو يسقطون قتلى بالرصاص.
وخلال هذه الملحمة الشعبية الهائلة، كتبت هذا الاحتجاج الذي هو أقرب ما يكون إلى الإنذار، وبعثت به إلى الماريشال اللنبي في 25 ديسمبر 1921، نيابة عن السيدات المصريات:
إذا كنت يا صاحب الفخامة تعتقد في نفسك القدرة على خنق صوت الأمة المصرية بإبعاد الرجل الذي عهدت إليه بأن يتكلم باسمها، فارجع عن هذا الاعتقاد أيضا ، إذ إن القوة تفنى والحق يبقى! ... وسوف نواصل احتجاجنا بلا انقطاع على التدابير الجائرة الظالمة التي تتخذها فخامتك ضدنا، وهي تدابير لن تؤدي إلا إلى إثارة غضب الشعب وغضب الله! ...
عن السيدات المصريات
هدى شعراوي
خطاب مفتوح
ولقد حرصت لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات أن تكون في قلب الأحداث في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ مصر، وكانت تتابع كل التطورات السياسية وتعبر عن رأيها في المواقف والأحداث دون أن يعنيها الأشخاص.
وعندما قطعت مفاوضات عدلي - كيرزون بعد أن باءت بالفشل، تباطأ عدلي باشا يكن في تقديم استقالته، فما كان من لجنة الوفد المركزية للسيدات إلا أن وجهت إليه هذا الخطاب المفتوح:
حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا ...
إننا نربأ بموقفك الحاضر أن يحوم شك حول استقالتكم لعدم ظهورها للآن ليطلع عليها الشعب التائق لمعرفة صيغتها بعد أن قمت بالواجب عليك لبلادك برفضك مشروع كيرزون ووقوفك موقفا شريفا.
تعلم دولتكم أننا في أحرج موقف تمر به بلادنا، وأن من مصلحة هذا البلد المغلوب على أمره أن تؤدوا واجبكم للنهاية بنشر عريضة استقالتكم حالا حتى لا يسبب موقفكم الغامض طمع بعض من تسول له نفسه الدنيئة إذا صح أن بمصر خائنا يقبل أن يكون آلة تسخره إنجلترا لتنفيذ حكم الموت على بلاد نشأ فيها وغذاه نباتها ورواه نيلها، ونحن نطالب دولتكم بذلك لظننا أن وطنيتكم لا تقف أمامها قوة في سبيل تأدية واجب عليكم لوطنكم.
عن لجنة الوفد المركزية للسيدات
هدى شعراوي
وبعد أن تناثرت الشائعات عن استقالة عدلي باشا يكن، نتيجة فشل المفاوضات التي أجراها مع اللورد كيرزون، كان المتوقع أن تعيش البلاد فترة مماثلة لتلك التي عاشتها من قبل عقب استقالة وزارة حسين رشدي باشا، ولكن ظهر في ذلك الوقت احتمال قبول أحد المصريين تشكيل الوزارة؛ فواكبت لجنة الوفد المركزية للسيدات هذا الموقف الجديد، ونشرت هذه الكلمة في الصحف:
لقد أدى عدلي باشا الواجب عليه برفضه مشروع كيرزون وتقديم استقالته وإن كانت لم تظهر صيغتها للآن. غير أننا نسمع أن وزارة ستشكل، وأننا إزاء ذلك لنقف مندهشين لا نكاد نصدق أن يوجد مصري تسمح له وطنيته أن يقبل الوزارة في أحرج وقت تمر به بلادنا المغلوبة على أمرها، إذا صح أن بمصر خائنا يقبل أن يكون آلة تسخره إنجلترا لتنفيذ حكم الموت على بلاده التي نشأ فيها وغذاه نباتها ورواه نيلها، بعد أن ظهرت نيات إنجلترا الاستعمارية في مشروع كيرزون ومذكرة اللورد اللنبي، وبعد أن ظهر ظهور الشمس أن إنجلترا تريد أن تكون الوزارة المصرية عونا لها على تنفيذ سياستها وقتل روح الوطنية ومحو كل مقاومة لاستعبادنا بالقوة الغاشمة ... فهل يرضى مصري بهذه الوصمة؟ إننا لا نصدق ذلك، والأمة والتاريخ له بالمرصاد.
ومن ناحية أخرى، فإننا على إثر فشل المفاوضات الرسمية مع اللورد كيرزون ومذكرة اللورد اللنبي، عبرنا عن رأينا فيما حدث في هذا البيان:
لقد انتهت المفاوضات الرسمية بين الحكومة المصرية والحكومة الإنجليزية ونشرت بالجرائد ليطلع عليها الشعب المصري والشعب الإنجليزي في آن واحد، فشهد الشعبان معا بل شهد العالم أجمع استعداد الأمة المصرية لعقد تحالف يضمن استقلال مصر ومصالح إنجلترا وباقي الدول فيها، كما شهد سوء نية الحكومة الإنجليزية وعدم رغبتها في الوصول إلى حل معقول بين الأمتين.
يهددنا اللورد اللنبي بالنيابة عن حكومته بالالتجاء إلى استعمال القوة والبطش إذا نحن لم نوقع صكا بعبوديتنا الدائمة بأيدينا، ويذكرنا بما لإنجلترا من الفضل علينا وبما نحن مدينون لها به بما قدمته لنا من مساعدات وخدمات ... نحن نعذر اللورد اللنبي لأننا نعتقد أنه لم يتمكن في المدة الوجيزة التي قضاها بيننا وفي ظروف استثنائية من درس أخلاقنا وقوميتنا، وإن كنا لا نظنه على جهل تام من معرفة تاريخنا المجيد. وكذلك نعذر الحكومة الإنجليزية الحالية؛ لأنها استعمارية وقد أعمتها مطامعها عن النظر إلى الحقائق وتقدير العواقب. ولكننا لا نجد عذرا ننتحله للأمة الإنجليزية بل وللأمم المتمدينة الأخرى إذا كانت هي أيضا تنظر بعيني اللورد اللنبي وحكومته، ولم تحسب حسابا للانقلاب الذي سيحدث في نفوس المصريين من قرب اليأس إلى قلوبهم، ولم تستدرك الأمر. إذا كان للإنجليزي فضل علينا، فذلك الفضل راجع إلى اللورد كيرزون الذي أدى إلينا بصراحة مشروعه خدمة لا تقدر، إذ كشف لنا النقاب عن نوايا إنجلترا الاستعمارية، وأوقفنا على درجة مهارة حكومتها من السياسة والحذق.
فليعلم اللورد اللنبي ولتعلم حكومته أنه إذا كان كما يقول من صالح المصريين أن يعيشوا على وفاق تام مع الدولة الإنجليزية، فما من مصري يجهل أنه من صالح إنجلترا أكثر أن تحافظ هي على صداقة الأمة المصرية لها وحسن ثقتها بها، وأنه لا يمكننا أن نتجاهل ولا نقدر ما يهدد مصر بل والدول الأخرى من الخطر العظيم إذا نحن قبلنا المشروع المعروض علينا. أما تهديدات الحكومة الإنجليزية ذاتها فلا ترهبنا ولا تزعجنا، بل تزيدنا ثباتا وعزما واتحادا على المثابرة في العمل لنجاح قضيتنا العادلة؛ لأننا نعلم أن سياسة الإرهاب والقوة قصيرة العمر خطيرة العاقبة على المستند عليها، خصوصا إذا استعملت ضد أمة أثيلة في المجد تحتم عليها كرامتها أن تعيش حرة أو تموت.
وبعد أن ألف عبد الخالق ثروت باشا وزارته، وجهت إليه لجنة الوفد المركزية للسيدات خطابا تعترض فيه على ما انتهجته وزارته من عنف وقسوة ضد المواطنين، وقد هددناه في هذا الخطاب بأن تكون السيدات أول الطليعة التي تتلقى حراب جنود الحكومة ... وهذا هو نص الخطاب:
يا صاحب الدولة ثروت باشا رئيس مجلس الوزراء
أتيتم في وقت كانت الأمة المصرية تعمل فيه لاسترداد حقها المغتصب، غير طالبة أي مساعدة ... معتصمة بالحق، قوية باتحادها، فصرحتم بأن وزارتكم ستعمل لتحقيق أماني الأمة مسترشدة بإرادتها، فكان لهذا القول أحسن وقع في نفس الشعب الذي طالما انتظر تحقيق ذلك، ولكن مع الأسف قد أتت النتيجة مخيبة للآمال مثبطة للعزائم؛ حيث قد ظهرت أعمالكم مخالفة أقوالكم، فلما انتبه الشعب من سكرته وفطنت الأمة لنتيجة أعمالكم، قامت لإظهار شعورها وإعلان ثباتها على مبدئها، فقابلتم هذه الحركة بالعنف والقسوة وسلحتم الأخ ضد أخيه وأخرجتم القوانين الاستثنائية من قبورها لتعاقبوا بها المخلصين لبلادهم المتفانين في سبيل حريتها. وها قد امتلأت السجون بأبناء مصر الأبرياء وتخضبت الأرض بدماء شهدائها وتقرحت أعين الثكالى وتفتت أفئدة الأرامل واليتامى، فهل تعتقدون للآن بأنكم تعملون لتحقيق أماني الأمة، أم هي قوة تدفعكم إلى القيام بما لا يرضي الحق والعدل؟ فإن كان السبب الأول هو الدافع لكم، فقد ظهر أن سياسة الشدة أسوأ الطرق ... ونحن سيدات مصر أمهات وزوجات وأخوات نطلب منكم منع تدخل البوليس في المظاهرات السلمية، وإلا فنعلنكم نحن معشر السيدات أننا أول من يكون في الطليعة لنتلقى حراب جنودكم فداء عن أزواجنا وأبنائنا وإخوتنا العزل من السلاح، وإن كان السبب الثاني فدعونا نقف وجها أمام أعينكم، وتمثل مأساة سنة 1882 مجسمة، فتقضون على الأمة القضاء الأخير بدل أن تتمشوا على إرادتها كما تقولون.
بيان الوفد المصري
وقد أصدر الوفد المصري بيانا بشأن الوثيقتين الجديدتين، في أول مارس 1922.
وكان هذا البيان عبارة عن منشور تم توزيعه على جماهير المواطنين. وقد وقع البيان: حمد الباسل، ويصا واصف، علي ماهر، جورجي خياط، مرقص حنا، مراد الشريعي، علوي الجزار، علي الشمسي، واصف غالي.
وقد جاء في هذا البيان:
ظهرت وثيقتان جديدتان ليس فيهما من جديد سوى اللين في التعبير، أما الجوهر فهو هو بعينه الذي عرفناه في مشروع لورد كيرزون وتبليغ 3 ديسمبر 1921.
تصرح هاتان الوثيقتان أن الحماية انتهت، وأن مصر صارت دولة مستقلة ذات سيادة، ولا شك أن هذا التصريح إقرار بحق لمصر كانت تتبوأ به مكانا لائقا بين الأمم، لولا أن هاتين الوثيقتين ما كادتا تصرحان به حتى هدمتاه بسرعة هدما كاملا؛ لأنهما تقرران أن إنجلترا تتولى حماية مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي بالذات أو بالواسطة وتتولى حماية الأجانب ومصالحهم في مصر. وتزيد على هذا كله أمرا جديدا تقتضيه إنجلترا لنفسها وهو أنها هي التي تحمي الأقليات، وهو تدخل بين الحكومة المصرية ورعاياها الذين أجمعوا بأقليتهم وأكثريتهم على الخلاص من الحكم الأجنبي.
فالدول على هذا لا تعرف لمصر مركزا دوليا غير أنها محمية بالسلطة الإنجليزية خارجا، وهذه السلطة هي نفسها التي تحمي الأجانب والأقليات داخلا، وليس هذا وذاك سوى الحماية قانونا وفعلا.
وأما القول بأن هذه المسائل مؤقتة حتى يحين وقت المفاوضات فلا يغير في الموضوع شيئا؛ لأن التصريح بإلغاء الحماية جاء في وثيقة واحدة مقترنا بهذه القيود، ولأن تحديد وقت المفاوضة ليس من حق مصر وحدها. ومصر التي تعاني الاحتلال المؤقت منذ أربعين سنة أعرف البلاد بالتسويات المؤقتة، على أن المفاوضات قد لا تفلح، فتبقى الضمانات التي احتفظت بها إنجلترا في يدها.
ومتى كانت الحماية الفعلية باقية على هذه الصورة، وكانت إنجلترا لا تزال تعتبر مصر كلها جزءا من مواصلاتها الإمبراطورية وتحفظ في يدها حق تأمين هذه المواصلات بجيش إنجليزي يبقى محتلا للقطر المصري، فكل استقلال تعلنه إنجلترا استقلال لفظي.
أما الأحكام العرفية فتقول الوثيقتان إنها تلغى بعد الموافقة على قانون التضمينات وسريانه على جميع سكان مصر ... فالإلغاء معلق على أمور لا ترجع إلى مصر وحدها، وبذلك قد تبقى الأحكام العرفية إلى زمن غير محدود، أما الوعد بإيقاف سريانها فلا يمكن الاعتماد عليه؛ لأن الإيقاف غير الإلغاء بل هو البقاء والاستعداد للظهور في كل آن. وعلى هذا فيكون تأليف البرلمان حاصلا تحت سلطة الحماية الفعلية ومع وجود جيش الاحتلال والأحكام العرفية.
وغريب أن تطلب الحكومة البريطانية منا بعد كل هذا أن نحسن الظن بنياتها، إذ كيف يمكن أن يكون سبيل إلى حسن الظن ونحن نرى منها كل هذا الإصرار على أن تضرب على المصريين حماية رفضوها ... ونرى كل هذه المبالغة في إبعاد سعد باشا ورفاقه في الوقت الذي تعرض فيه تسوية وقتية، والذي تدعي فيه أن الكلمة أصبحت لمصر.
يأسفون لأننا نرى في التدابير الاستثنائية التي اتخذت أخيرا مساسا بمطمحنا الأسمى ... والمصريون لا يرون فيها ذلك المساس؛ لأن هذا المطمح أرفع من أن يمس. إنما يرون فيها مساسا بكرامتهم وشرفهم القومي، ويرون فيها إخلالا بمبادئ العدل الأولية.
حريتنا الشخصية مصادرة ... وحريتنا السياسية مخنوقة، والصحافة ما بين مكممة ومعطلة لا تستطيع نشر آراء الأفراد والهيئات في الحالة الجديدة. والاجتماعات العامة محرمة ... وزعيم البلاد رأس الحركة الوطنية مبعد عن الوطن ... والوطنيون مهددون بالنفي والاعتقال، كل هذا ويريدون أن يقنعونا بأن ذلك في مصلحتنا.
حقا إن مصلحتنا ومصلحتهم تقتضيان بأن يوضع حد لهذا الهياج، ولكن ذلك الهياج ليس إلا وليد سياسة الإرهاب والخديعة التي اتبعت في طول البلاد وعرضها.
إن مصلحتنا ومصلحتهم هي في رفع الظلم الذي وقع، وإلغاء التدابير الاستثنائية التي اتخذت، وتحطيم السلاسل التي تقيد حريتنا، وإعادة سعد والمنفيين إلى بلادهم، ورد المعتقلين السياسيين إلى أهلهم.
حينذاك تطمئن النفوس ويصبح في الإمكان بحث المسألة المصرية في جو هادئ، فنقول مصر كلها:
أيها المصريون ... إن السياسة البريطانية تريد أن تختبركم مرة أخرى، لقد سمعت طلباتكم ولم يبق خافيا شيء من الحل الذي يقضي به العدل، ولكن فريقا قليلا منكم أطمعوها فيكم وفي ثبات عزيمتكم، فوضعت يدها في أيديهم كي يكرهوكم بالحيلة والإرهاب على قبول نظام رفضتموه من قبل.
إنهم يظنون أن جهودكم التي بذلتموها بسخاء يمكن أن تضيع عليكم، فأثبتوا لهم مرة أخرى أنهم في ظنهم هذا واهمون، وأنكم تطلبون الاستقلال ولا تقبلون ما دون الاستقلال. «فلتحيا» مصر ... «وليحيا» سعد باشا.
الفصل الحادي والعشرون
في شهر مارس 1923، تلقينا دعوة من الاتحاد النسائي الدولي لحضور المؤتمر الذي يعقد في روما، وكانت الدعوة موجهة إلى نساء مصر، وكانت لجنة الوفد المركزية للسيدات المصريات هي إذ ذاك الهيئة النسائية البارزة، ومن ثم جاء تفكيري في تشكيل جمعية الاتحاد النسائي المصري من بين أعضاء لجنة الوفد. وقد انتدبت الجمعية عنها وفدا لحضور هذا المؤتمر مكونا مني ومن زميلتي السيدة نبوية موسى والآنسة سيزا نبراوي، وكانت هذه هي أول مرة يرتفع فيها صوت المرأة المصرية في الخارج باشتراكها في هذا المؤتمر.
وأستطيع أن أقول بصراحة إنه بالرغم من سروري بهذه الدعوة واغتباطي بالوصول إلى هذه النتيجة، فإنني قد سافرت متهيبة تلك المسئولية الكبرى، خاشية مغبة الفشل.
ولكن بقي يقيننا بالله يقوي إيماننا بأننا نحمل رسالة المرأة المصرية التي عاشت إلى ذلك الحين مهضومة الحق مهيضة الجناح لا سيما أن هذه كانت فرصة تتيح لنا دحض الافتراءات التي أثيرت في الخارج حول حركتنا الوطنية وحاولت أن تنال من جلالها وعظمتها.
وقبل أن أتحدث عن مؤتمر روما، فإنني أود أن أعطي صورة عن تشكيل الاتحاد النسائي المصري، فبعد أن وصلتنا الدعوة لهذا المؤتمر وجهت إلى بعض السيدات الرسالة التالية:
حضرة السيدة الفاضلة
بما أن مؤتمر النساء الدولي الذي سينعقد في روما بتاريخ 12 مايو 1923 لغاية 19 منه قد أرسل دعوة لسيدات مصر، وبما أن من مصلحتنا نحن معشر السيدات المصريات ومن مصلحة قضيتنا المصرية أن نعمل لرفع شأن المرأة المصرية والمطالبة بما ينقصها من الحقوق، وجب علينا أن نوفد من يمثلنا في هذا المؤتمر للاندماج في عضويته ضمن بعض أعضائه للسعي في تحقيق هذا الغرض.
لذلك نتشرف بدعوة حضرتك للحضور يوم 16 مارس الجاري الساعة الرابعة مساء بمنزلي بشارع قصر النيل نمرة 2 بمصر للاشتراك في تأليف لجنة للعمل وانتخاب من يمثلها في المؤتمر.
واقبلي وافر احترامنا
هدى شعراوي
وقد ترتب على هذا الاجتماع؛ بدء تشكيل الاتحاد النسائي المصري، وقد جاء في القانون الأساسي لهذا الاتحاد ما يلي:
المادة الأولى:
تأسست في شهر مارس 1923 جمعية باسم الاتحاد النسائي المصري.
المادة الثانية:
أغراض الجمعية هي رفع مستوى المرأة الأدبي والاجتماعي للوصول بها إلى حد يجعلها أهلا للاشتراك مع الرجال في جميع الحقوق والواجبات.
المادة الثالثة:
تسعى الجمعية بكل الوسائل المشروعة لتنال المرأة المصرية حقوقها السياسية والاجتماعية، وهذه الأغراض هي الأغراض نفسها التي تسعى في تحقيقها جمعية الاتحاد النسائي المصري أن تكون ممثلة لها في مصر.
المادة الرابعة:
تمثل هذه الهيئة جمعية عمومية ومجلس إدارة.
المادة الخامسة:
تتألف الجمعية العمومية من أعضاء مشتركات وأعضاء مراسلات.
المادة السادسة:
يتألف مجلس الإدارة من عشرين عضوا ينتخبن بواسطة الجمعية العمومية ومن بين أعضائها المشتركات.
وبعد ذلك تأتي المواد الإدارية والتنظيمية.
مؤتمر روما
ونعود بعد ذلك إلى اشتراكنا في المؤتمر الدولي الذي عقد في روما في مارس 1923، فعندما وصلنا إلى روما، وجدناها تغص بمندوبات الدول الست والثلاثين التي اشتركت في هذا المؤتمر ، وكانت كل دولة قد أوفدت أكثر من عشرين مندوبة عدا الصحافيات والصحافيين والوافدات لمشاهدة المؤتمر.
وأذكر بهذه المناسبة أننا عندما ذهبنا إلى المؤتمر، وجدنا أعلام الدول ترفرف في قاعة الاجتماع، ولم نكن قد استعددنا لذلك لعدم معرفتنا ببروتوكول المؤتمرات، ولذلك فقد طلبنا من طلاب البعثة المصرية هناك تجهيز علم مصري يتعانق فيه الهلال والصليب، وقد صنعوه أكبر حجما من كل الأعلام الموجودة، فلما لفت نظرهم ذلك، قالوا: إن مصر أعرق الأمم ويجب أن يكون علمها أكبر الأعلام، وعندما قدمت العلم المصري لرئيسة المؤتمر، نقلت لها وجهة نظر أبنائها الطلبة، فتبسمت، ولما فتحنا أمامها العلم ورأت عليه الصليب يعانق الهلال، تأثرت تأثرا عظيما، وأمرت بوضعه على يسار المنصة معادلا للعلم الإيطالي الذي كان إلى اليمين فشغل بذلك الموقع الممتاز بعد علم الدولة المنعقد المؤتمر بأرضها، وقدمتنا للمؤتمر تقديما فيه كل التقدير والإعجاب، وكان ذلك أكبر عامل في إزالة الفكرة التي شابت حركتنا الوطنية بوصفها بالتعصب الديني.
وما كدنا نندمج في المؤتمر، حتى لمسنا عن كثب أثر المرأة الأوروبية في نهضة الغرب. ومن ناحية أخرى، فإن وفدنا رغم أنه كان أقل الوفود عددا، إلا أنه أحدث تأثيرا كبيرا ولقي ترحيبا عظيما؛ لأنه ظهر أمامهن بمظهر أرقى مما كن ينتظرن، فصرن يسألننا في فضول وإلحاح إن كنا حقا مصريات وكلما أكدن لهن ذلك شاهدنا علامات الدهشة على وجوههن كأنما كانت المرأة المصرية المحجبة مطبوعة في مخيلتهن بطابع الجهل والهمجية، ولكن سرعان ما تغيرت تلك الفكرة في أذهانهن عندما رأيننا نؤدي رسالتنا على الوجه الأكمل، تلك الرسالة التي رحبن بها وعضدنها ودعوننا للانخراط في سلك الاتحاد النسائي الدولي كفرع منه يمثل مصر، فإنه مبحث جمعيتنا منذ ذلك الحين في عضوية هذه الهيئة النسائية الدولية، وأصبح اتحادا ذا صفة دولية وصفة قومية، معترفا به في مصر والخارج. وقد أخذنا على أنفسنا عهدا أن نحذو حذو نساء أوروبا في النهوض بنسائنا لنصل ببلادنا إلى المكان اللائق بها بين الأمم الراقية مهما كلفنا ذلك، وأن نؤدي بأمانة وإخلاص الخدمات الاجتماعية والإنسانية التي يتطلبها برنامج الاتحاد النسائي الدولي، ورجعنا بحمد الله مرفوعات الرءوس، معتقدات أننا قد أدينا خدمة جليلة لوطننا ولجنسنا بما قمنا به من دعاية طيبة وسط ذلك الجمع الحاشد من مندوبات الدول الست والثلاثين المشتركة في المؤتمر.
ولقد اندمجت جمعيتنا في الاتحاد النسائي الدولي على أساس المطالبة بحقوق المرأة السياسية والمدنية لتخويلها حق الانتخاب، وللعمل على نشر مبادئ السلام وتوطيد دعائمه، فأصبحت جهود المرأة المصرية عالمية لا محلية فقط، وهذا نصر كبير لبنات القرن العشرين في مصر.
لقد أخطأ الكثيرون فهم المبدأ الأساسي للاتحاد النسائي بشأن المطالبة بالمساواة في الحقوق السياسية للمرأة، فقد توهموا أن غرضها من الحصول على حريتها ومساواتها بالرجل في الحقوق هو الوصول إلى السفور ومزاحمة الرجل في مبادئ السياسة والعمل، مما أدى إلى تذمر بعض الرجال، والحقيقة أن مطالبة المرأة بحقها السياسي ليس معناه التدخل في الأمور السياسية والحزبية المحضة، بل للحصول على حقها في التشريع والتنفيذ حتى يمكنها المساهمة في علاج الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبخاصة ما كان منها متصلا بشئون المرأة والطفل، وكان سفورها من الوسائل اللازمة للحصول على هذا الحق لا حبا في السفور كوسيلة للتبرج، ولا سيما إلى مزاحمة الرجل كما اتهمت بذلك زورا وبهتانا.
حقوق المرأة المصرية
وكنت قد ألقيت خطابا في المؤتمر النسائي الذي يمثل مصر، وقد يكون من الأفضل أن أسجل هنا هذا الخطاب لتتضح أبعاد الصورة أمام كل الأعين، وهذا هو نص خطابي في المؤتمر:
إنه ليسرني حقيقة أن أجد نفسي بينكن في هذه الجمعية المحترمة التي تمكنت فيها المرأة المصرية لأول مرة في التاريخ من المجيء والمناقشة في حقوقها، وإنني لأجد ما يدعو إلى الفخر والغبطة في اختياري لإظهار تلك الرابطة التي تربط بنات النيل بأخواتهن في أوروبا.
حقا لقد مر عصر طويل كنا نعمل فيه بمعزل عن العالم أجمع خلا أزواجنا وأقاربنا، فنشأ عن ذلك انزواء شخصيتنا وبقاؤنا وراء حجاب، على أننا إذا تأملنا في تاريخنا الغابر رأينا أنه في الوقت الذي كانت مصر فيه تشرق في سماء المجد ويتفجر نورها على البلدان، كانت المرأة المصرية تتمتع بحقوق الرجل نفسها. وقد حافظت على هذه الحقوق إلى اليوم الذي وقعت فيه مصر تحت نير الأجنبي، وأصاب المرأة ما أصاب نساء الشرق اللاتي ظللن ولا قانون يحميهن من استبداد الرجل، وقد بقين في هذا الدرك حتى ظهر الإسلام الذي منح المرأة حقوقا لم تحصل عليها من قبل، والتي تقاتل وستقاتل المرأة الغربية في سبيل الحصول عليها اليوم وغدا وبعد غد.
وقد احتفظت المرأة حتى الساعة بهذه الحقوق التي يعترف بها القانون الديني، غير أنها لم تفكر في استعمالها بسبب الجهل الذي شبت فيه ودرجت أربعة قرون كاملة.
وما أفاقت مصر من سباتها العميق إلا في أوائل حكم محمد علي، ذلك المصلح الكبير الذي نهض بالبلاد، وأنشأ المدارس التي فتح بعضها أبوابها للنساء ولولا الاحتلال الأجنبي لما وقفت في سيرها هذه الجهود التي كانت تعمل على رفع مستوى المرأة العقلي، ولكان من المأمول اجتناء جمع ثمارها.
على أن مسألة التعليم الإجباري كانت موضوع المناقشة والبحث في عهد السلطان حسين، ولكن أولي الأمر قر رأيهم على تأجيل إصدار هذا القانون بصفة نهائية ثلاثين عاما.
وقد حرمت الحكومة البنات ابتداء من سنة 1909 من حق أداء امتحان البكالوريا، ثم حرمتهن من نيل شهادة الدراسة الابتدائية، ولهذا السبب فإن بناتنا اللاتي يتعلمن في مدارس الحكومة لا يسمح لهن أن يحترفن إلا إحدى المهنتين مهنة مدرسة ومهنة قابلة.
ولكن لا يجوز أن نغفل هذه الحقيقة الأخرى، وهي أن النقاب كان من أكبر العوامل التي أدت إلى بقاء المرأة في درجة من العلم لا متأخر عنها ولا متقدم، ذلك بأنه في سن معينة يحال دون ذهاب الفتيات إلى معاهد التعليم، ورغما من هذه العقبات تمكنت الكثيرات منهن من ارتشاف مناهل العلم الراقي وبلوغ مكانة أخواتهن الأوروبيات، وقد قصد بعضهن جامعاتكن لإتمام دراستهن.
وقد بدأت المرأة المصرية - بفضل تعلمها ومعرفتها حقوقها أكثر من قبل - تظهر الميل إلى الاستفادة من الامتيازات التي يخولها القانون إياها، وها نحن أولاء نراها اليوم تحتل مكانة هامة في الأسرة والمجتمع والحياة السياسية.
والآن، فلنخلص الحقوق والمطالب التي سنبسطها غدا.
أما فيما يتعلق بتعدد الزوجات الذي انتقده أهل الغرب انتقادا مرا، فإني أظن أن القرآن الكريم بتحديده عدد النساء إلى أربع مطاع، ولكنه لا يوحي بهذه العادة التي كانت منتشرة عند قبائل العرب قبل الإسلام، فإنه يقول بالنص:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة .
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم .
إذن يكون لها حق المطالبة بإلغاء هذه العادة التي توجد الشقاق في الأسر وتولد البغضاء بين الإخوة والأخوات من أمهات مختلفة، والرجوع إلى حكم الشريعة التي لا تبيح الانقسام والتفرقة.
وإننا ليسرنا أن نرى أن هذه العادة مع انتشار التعليم تتلاشى شيئا فشيئا؛ لأن شعور المرأة بكرامتها في الازدياد يأبى عليها أن تقبل حالة أخرى لزوجها، ولأن الرجل الذي يزداد حرصه على السعادة والطمأنينة في البيت لا يفكر اليوم مطلقا في إدخال عوامل التفرقة من الباب.
أما الطلاق فإنه وإن كان الرجل هو الذي يلجأ إليه عادة، إلا أن المرأة في وسعها أن تتخذه سلاحا تدافع به عن نفسها؛ لأن القانون لا يعترض على استعمالها هذا الحق. ويمكن للمرأة المصرية أن تحتفظ بأبنائها لغاية السابعة أو التاسعة من عمرهم.
وفيما يتعلق بالوراثة، فإن البنت لا حق لها إلا في نصف ميراث الأخ، ولكن يجب ألا يفوتنا أن مقتضيات الزواج أن يقوم الرجل بنفقات البيت أيا كانت ثروة زوجته.
والمرأة ترث عن زوجها ربع ما يملك إذا لم يكن له ولد، والثمن في الحالة الأخرى، وللأبناء الذين يعترف بهم أبوهم عين حقوق الوراثة التي يتمتع بها الأبناء الشرعيون.
وقد أدخلت أخيرا بعض إصلاحات من شأنها تحسين حالة المرأة من جهة النفقة التي يطالب بها الزوج في حالة الانفصال. فإذا لم يدفع المبلغ الذي تراعي المحكمة في تعيينه مقدرته على الدفع، ألقي به في السجن، فالرجل يخشى الجزاء، والمرأة المهجورة تجد في القانون حماية لها.
وتتمتع المرأة المسلمة في الحياة المدنية بكفاءة كاملة؛ لأن القانون يكفل لها الاستقلال التام في التصرف في أملاكها متى بلغت سن الرشد، وفي إمكانها البيع والشراء والوصية دون وجوب الحصول على تصريح من زوجها بذلك، والاشتراك في أي عمل مالي أو تجاري بالتساوي مع الرجل، وعدا ذلك فإنها تستمد من قانون الإسلام حق الاحتفاظ بجنسيتها في حالة ما إذا تزوجت بأجنبي.
ولم تأخذ المرأة إلى الآن من الحياة العامة بنصيب من النشاط، ومنشأ ذلك جهلها، ولكن بما أن القوانين لا تشتمل على أي تقييد يتعلق بكفاءتها، فسيكون في وسعها متى شاءت أن تطمح إلى الوظائف العمومية وجميع المهن التي يحترفها الرجال والاشتراك في كافة الجمعيات.
وقد ظهرت المرأة المصرية في صورتها الحقيقية في حركة سنة 1919 في الوقت الذي كانت فيه الأمة من أولها إلى آخرها بحاجة إلى قواها كلها للمطالبة باستقلالها.
وشاركت المرأة الرجل في كفاحه السياسي بتداخلها في الإدارة والكتابة في الجرائد وتأسيس المجلات، وأنشأت بمالها الخاص مدارس حرف للفقراء، وملاجئ للمرضى الفقراء، وكونت جمعيات علمية.
يتبين مما تقدم أن المرأة المصرية التي تتمتع في المجتمع بامتيازات خاصة من وجهة القوانين، ليست بحاجة لتصبح مساوية للرجل إلا في التعلم والمطالبة بإصلاح بعض العوائد المتعلقة بالزواج والطلاق، فإن روح القانون فسرت بها خطأ.
وقد تألفت أخيرا في سبيل الوصول إلى هذه النتيجة، جمعية الاتحاد المصري النسائي، ورسمت لنفسها البرنامج الآتي: (1)
رفع مستوى المرأة الأدبي والخلقي لتحقيق المساواة السياسية والاجتماعية بالرجل من وجهتي القوانين والآداب العامة. (2)
المطالبة بمنح الطالبات حرية الالتحاق بالمدارس العالية. (3)
إصلاح العوائد الجارية فيما يتعلق بطلب الزواج حتى يتيسر للطرفين أن يتعارفا قبل التعاقد. (4)
الاجتهاد في إصلاح بعض طرق تطبيق القوانين الخاصة بالزواج التي يستمد تفسيرها من روح القرآن، ووقاية المرأة بهذه الطريقة من الظلم الذي يقع عليها من تعدد الزوجات الذي لا مبرر له، ومن الطلاق الذي ينطق به صاحبه غالبا من غير روية أو باعث جدي. (5)
المطالبة بقانون يجعل سن الزواج عند البنت 16 سنة. (6)
العمل على نشر الدعوة في سبيل الصحة العمومية. (7)
تشجيع الفضيلة ومحاربة الرذيلة. (8)
محاربة الخرافات وبعض العوائد التي لا تتفق مع العقل. (9)
نشر الدعوة بمبادئ الجمعية بواسطة الصحافة.
والآن قبل أن أنسحب، اسمحن لي أيتها السيدات أن أشكركن على إلحاحكن في إظهار الرغبة في إشراك المرأة المصرية في عمل الاتحاد العظيم.
ولنا الأمل الكبير أن نصل بفضل نصائحكن التي هي لنا الهادي والاحتذاء على مثلكن الذي نجده خير مشجع إلى تحقيق رغباتنا وبلوغ القصد.
وإننا نضع أنفسنا تحت تصرفكن لخدمة مبادئكن ونشر أفكاركن، أما والاتحاد قوة، فإننا نرجو من صميم الفؤاد أن يتحقق في القريب العاجل، الغرض الذي نسعى إليه، أعني انتصار حقوق المرأة في العالم أجمع.
مقابلة موسوليني
كان من بين ما حققه مؤتمر روما الدولي، أننا التقينا بالسنيور موسوليني ثلاث مرات ...
الأولى: عندما ترأس جلسة الافتتاح في سراي المعرض ... والثانية: عندما أقام حفل شاي للمندوبات في الكابيتول ... وكانت المرة الثالثة: بعد أن انتهى المؤتمر من أعماله؛ حيث توجهت المندوبات المشتركات في المؤتمر لمقابلته في قصر الرئاسة وتعمدن أن يذهبن سائرات على الأقدام كرجاء له في أن يمنح المرأة الإيطالية حق الانتخاب.
وقد استقبلنا وصافح أعضاء المؤتمر واحدة واحدة ... وعندما جاء دوري وقدمت إليه كرئيسة وفد مصر عبر عن جميل عواطفه ومشاعره نحو مصر، وقال: إنه يرقب باهتمام حركات التحرير في مصر، وجهاد المصريين والمصريات في سبيل استقلال بلادهم، ثم تحدث عن تطلعه إلى توطيد العلاقات التي تربط إيطاليا بمصر وغيرها من دول البحر المتوسط، وأشاد بماضي مصر المجيد ومدنيتها العريقة وبما كان بين الدولتين من علاقات طيبة وصداقة قديمة وأعرب عن أمله في تجديد ذلك ودوام ارتباطه.
ولقد كانت هذه اللفتة منه نحو مصر جديرة بالتقدير، فأعربت له عن فائق تأثري بهذه العناية وبدوري تحدثت عن مجد إيطاليا السابق والحاضر. ثم كررت رجائي الخاص بمنح المرأة الإيطالية حقوقها السياسية.
الفصل الثاني والعشرون
بعد أن عدنا من المؤتمر النسائي الدولي الذي عقد في روما، كان علينا أن نلتقي مع أعضاء جمعية الاتحاد النسائي المصري، لنستعرض جهود مندوبات الجمعية في مؤتمر روما، ونتدارس مطالب المرأة المصرية، وقد انتهى هذا الاجتماع إلى تحديد هذه المطالب، واتخذنا فيه قرارا بتقديمها للوزارة ...
وفي يوم 2 يوليو 1923 ذهب وفد من أعضاء الجمعية لمقابلة دولة رئيس مجلس الوزراء ... وكان هذا الوفد مكونا من السيدات: شريفة رياض، إحسان أحمد، عزيزة فوزي، جميلة عطية، وغيرهن، وكانت الجمعية قد حددت مطلبين أساسيين:
أولهما:
فتح باب التعليم الثانوي والعالي في وجه الفتيات.
ثانيهما:
سن قانون يمنع زواج البنات قبل سن السادسة عشرة.
وكنت قد كتبت رسالة إلى دولة رئيس الوزراء، حملتها الزميلات إليه في هذا اللقاء ... وكان نص هذه الرسالة كالتالي:
حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء
من أهم المسائل التي تناقشت فيها جمعية الاتحاد النسائي التي عقدت بدار الجامعة المصرية يوم الثلاثاء 26 الجاري، موضوعان:
الأول:
حالة التأخر الظاهر في التعليم العام للفتاة.
الثاني:
إغفال الشروط الضرورية لمنع الحظر الصحي والعائلي عن زواج الفتاة.
وبعد المناقشة فيهما، رأت الجمعية في المسألة الأولى أن من أهم العقبات في طريق رقي الفتاة عدم السماح لها من وزارة المعارف في دخول الامتحانات العامة لنيل الشهادات الدراسية الثانوية والشهادات العالية.
إن تصرف الوزارة المشار إليه في هذا الباب مخالف للمصلحة العامة للرجال والنساء على السواء؛ حيث أصبح من القضايا المسلم بها أن رقي الأمة تابع لدرجة التعليم فيها، ولا يستقيم التعليم إلا إذا انتشر بين جميع الطبقات لا فرق بين الرجال والنساء؛ لأن قانون التضامن بين أبناء الأمة لا يظهر أثره إلا إذا كان كل فرد ذكرا كان أو أنثى أهلا للقيام بنصيبه المفروض عليه للهيئة الاجتماعية.
والأمة المصرية دخلت في مضمار الجهاد، وتريد أن تصل إلى منزلة من المجد والعز مثل تلكم التي وصلت إليها الأمم المتمدنة، فهل، وهذه رغبتنا جميعا رجالا ونساء، يمكن أن نصل في هذا الجهاد إلى أمنيتنا بمجهود الرجل وحده، مع أن الأمم التي نريد اللحاق بها تسير بمجهود الجنسين معا؟!
وزارة المعارف يا دولة الرئيس من وضع هذه العقبات في طريق تعليم الفتاة، إن كان لها بعض العذر في الماضي، فلا شك في أن الظروف قد تغيرت اليوم ... والوزارة بنفسها أخذت ترسل البعثات خاصة من الفتيات لإتمام تعليمهن العالي في أوروبا، وليس من حسن السياسة أن يجعل التعليم مقياسا للفتاة، فإن كان في أوروبا أجزنا أن يكون واصلا إلى التعليم العالي، وإن كان في مدارسنا في مصر وقفناه إلى ما دون ذلك؟
من أجل هذا يرى دولة الرئيس أن لنا الحق في أن نلتمس منه العمل على إزالة هذه العقبات، وإفساح الطريق أمام الفتاة حتى تنال من العلم ما شاءت لها مواهبها الفطرية.
ورأت الجمعية في المسألة الثانية أن المصلحة العائلية وخطورة الواجبات التي تلقى على الزوجة بعد زواجها سواء من جهة الواجبات المنزلية أو ما تتوقعه من الواجبات التي تعرض لها بصفة عامة، تقضي بوضع حد أدنى من السن يكون شرطا لزواجها، وقد عرضنا في برنامج الجمعية هذا الحد الأدنى بسن 16 سنة، وراعينا في هذا التقدير أنه هو الحد الأدنى لتكوين الفتاة تكوينا طبيعيا، والحد الأدنى لما يمكن أن تصل إليه الفتاة من التعليم الضروري.
وليلاحظ دولة الرئيس أن هذا الملتمس هو النتيجة الطبيعية لتنفيذ ما اشترطه الدستور من جعل التعليم الابتدائي تعليما إلزاميا؛ لأن الوصول في الغالب إلى إتمام الدراسة الابتدائية لا يتم إلا عند هذه السن.
إن انتشار التعليم بين الشبان من شأنه أن يضاعف مسئولية الزوجة أمام حاجة زوجها المتعلم، ومن المستبعد جدا إن لم يكن مستحيلا أن تدرك الفتاة قبل سن السادسة عشرة وقبل أن تصل إلى درجة وافية من التعليم واجباتها المنزلية نحو هذا الزوج، لذلك يكون من مصلحة العائلة أن يمنع زواج الفتاة قبل بلوغ تلك السن.
كذلك يندر أن الفتاة إذا تزوجت قبل هذه السن ورزقت بأطفال، ألا تتعرض هي وأطفالها إلى أمراض خطيرة تعرض حياتهم دائما للشقاء.
لذلك رأت الجمعية أن تطلب من دولتكم معالجة هذه المسألة الاجتماعية المهمة، وأدنى علاج لها هو ما عرضناه من منع زواج الفتيات قبل وصولهن لسن السادسة عشرة.
ولي الشرف أن أكون لسان الجمعية في تبليغ دولتكم هذا القرار، ملتمسة العمل على تحقيق رغباتها في المسألتين المذكورتين.
انتظرنا وقتا طويلا أن يتحقق ما طالبنا به، أو على الأقل أن نلمس نوعا من الاهتمام بهاتين القضيتين، دون جدوى، ولذلك لم أجد أمامي إلا أن أكتب مرة أخرى إلى دولة رئيس الوزراء مذكرة إياه بالرجاء العظيم الذي عادت به أعضاء اللجنة، وقد جاء في هذه الرسالة التي تحمل تاريخ نوفمبر 1923 ما يلي:
انتظرنا دولة الرئيس نحو الخمسة أشهر، كانت فيما نظن كافية لدراسة ما عرضناه وتقرير وجه المصلحة فيه، ولكن علمنا ما كاد يبدد هذا الأمل؛ حيث قيل لنا: إن عريضتنا لم تفكر أي وزارة من وزارات الحكومة التي يعنيها النظر في مطالب الجمعية لتحقيق المطالب التي تضمنتها عريضتنا.
نعلم أن مشاغل الدولة كثيرة، ونعلم كثرة ما اهتمت به الوزارة من التشريع في المسائل التي رأتها محتاجة للحل السريع، ولكن يا دولة الرئيس اسمح لنا أن نلاحظ أننا نرى أيضا أن إصلاح حال المرأة من الأمراض التي تعانيها وهي نصف مجموع الأمة، لا يقل أهمية عن المسائل التي عنيت الوزارة بحلها وإصدار القوانين.
قيل لنا أيضا إنه يوجد في الوزارة ميل إلى ترك النظر في مطالبنا حتى يحلها البرلمان، ونحن وإن كنا نقبل بغاية الرضا تشريع نواب الأمة فيما يتعلق بحياة الأمة الاجتماعية التي منها مطالبنا، ولكن نستغرب أن الوزارة التي تأخذ على مسئوليتها حل معضلات كثيرة يرى كثير من الناس أن فيها بعض الإجحاف بحق الأمة، لا تقبل مسئولية تنظيم مسألة جوهرية لحياة المرأة لا تصادف اعتراضا عليها من أحد.
لذلك نرجو أن تعيدوا دولتكم النظر في طلبات الجمعية ... وتقبلوا مسئولية إصلاح حالة المرأة على أيدي وزارتكم، فهي ضرورة مستعجلة تدعو إليها حاجة الإصلاح والحرية والمساواة.
حقوق المرأة في الإسلام
ولقد كان ذهابنا إلى المؤتمر الدولي الذي عقد في روما، فرصة للحديث عن حقوق المرأة، وأصبحت هناك أقلام كثيرة تناقش هذه القضية، وكان من ذلك ما كتبه الشيخ عبد العزيز جاويش في جريدة الأخبار، وقد علقت على هذا المقال في العدد الصادر في 17 يونيو 1923، بالخطاب التالي:
اطلعت بجريدتكم الغراء على كتاب الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز جاويش تحت عنوان: «حقوق المرأة في الإسلام»، فشكرت له حسن عنايته وعظيم اهتمامه بالنهضة النسائية، ولكني مع هذا الشكر والإقرار بالجميل للأستاذ، ألاحظ أن ما تضمنته هذه الرسالة غير متفق مع الخدمات التي أديناها بمؤتمر روما.
لم نذهب إلى ذلك المؤتمر لنلجأ إليه بطلب إلغاء تعدد الزوجات أو تعديل نظام الخطبة أو تضييق دائرة الطلاق على الرجال كما ظن فضيلته.
وإنما الأغراض التي حملتنا إلى التوجه إلى هذا المؤتمر هي:
أولا:
ظهور المرأة المصرية بحقيقتها الثابتة أمام المرأة الغربية التي تجهل عنها كل شيء، أو تعرف عنها معلومات مشوهة قرأتها في كتب ذوي الأغراض الاستعمارية، وبيان أن المرأة المصرية الحديثة تكاد تساوي أختها الغربية في مدنيتها، وأن الدين الإسلامي منحها من الحقوق ما تود المرأة الغربية لو تناله.
ثانيا:
رأينا أن نلبي دعوة هذا المؤتمر رغبة منا في الإعلان عن المرأة المصرية الناهضة، وحبا في اكتساب عطف الأمم الراقية على مصر بالاختلاط بنسائهم في هذا المؤتمر والتحدث معهن في شئوننا العامة وما نئن منه ونتألم، وقد كانت نتيجة هذا أن أصلحنا معلومات عنا وأزلنا ما كان فيها من تشويه ومسخ، وكنا ندرك ذلك منهن بوضوح وجلاء.
ثالثا:
رأينا أن المرأة المصرية في أشد الحاجة إلى الاشتراك مع المرأة الغربية لتقتبس من أخلاقها وعادتها ومدنيتها ما لا يتنافر مع الدين وما يتفق مع النهضة العامة.
وقد كان لموقفنا في هذا المؤتمر أحسن أثر في نفوس المؤتمرات، ولذلك كنا موضع إجلال وإكبار منهن.
وإني أؤكد للأستاذ إننا لم نترك مطعنا لطاعن أو منفذا للتأويل المشوه الذي خشيه فضيلته في كتابه؛ حيث أثبتنا أن الدين الإسلامي منح المرأة حقوقا كثيرة، إلا أن جهلها لانحطاط التعليم في مصر هو سبب استسلامها لهضم تلك الحقوق.
ولو أنها نالت من التعليم قسطها؛ لتمتعت بكل حقوقها ولأصبحت في رغد من العيش وطمأنينة من الحياة، كل ذلك وضحناه في المؤتمر بصوت عال ودللنا عليه بالحجج والبراهين.
ولا أظن فضيلة الأستاذ يصر بعد ذلك كله على إنكار السفر علينا إلى المؤتمر.
أما مواد البرنامج، فإننا لم نفكر في أخذ رأي المؤتمر فيها ولا في الاستعانة به في تنفيذها، اللهم إلا مادة واحدة هي مساواة المرأة للرجل في جميع أدوار التعليم بمصر. أما بقية المواد فسنتولى تحقيقها وتنفيذها بأنفسنا، وبمعونة عقلائنا من المفكرين أمثال فضيلة الأستاذ.
وفقنا الله جميعا إلى ما فيه الخير للبلاد وإسعادها.
إن جمعية الاتحاد النسائي كانت قد عرفت طريقها وحددت مسارها، ولذلك حرصنا على أن نبذل في مختلف المجالات الاجتماعية.
ومن ذلك ما قمنا به في مجال محاربة المسكرات، فقد كان فضيلة شيخ الأزهر الشيخ محمد أبو الفضل قد تقدم بمذكرة إلى دولة رئيس الوزراء في هذا الشأن، وكان أن كتبت إليه باسم الجمعية الرسالة التالية في 22 أكتوبر 1923:
حضرة صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر
تقدم جمعية الاتحاد النسائي المصري التي تكونت بالقاهرة في شهر شعبان الماضي لفضيلتكم جزيل شكرها وعظيم امتنانها وسرورها للمذكرة التي قدمها فضيلتكم لصاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء بخصوص محاربة المسكرات، وترى الجمعية في قيام فضيلتكم بهذا الواجب أكبر عون على تقليل شر هذه الموبقة وتطهير البلاد من أثر أم الخبائث.
ومما يزيد الجمعية سرورا أنها تجد في عمل فضيلتكم مساعدا قويا لتحقيق المادة السابعة من قانونها الذي تسعى بكل قواها لتنفيذه نظرا لمقام فضيلتكم الديني، وترجو الجمعية أن تكون هذه المذكرة أول حلقة من سلسلة مذكرات البلد في أشد الحاجة إليها ... وترجو أن يكون نداؤكم هذا منبها للأفكار إلى ما حوته الشريعة الغراء من تقبيح شرب الخمر وخطر مضاره، كما ترجو أن يقتدي جمهور الأمة بهذا الإرشاد حتى يكون عضدا لجمعية الاتحاد النسائي في تسهيل مهمتها لنشر الدعوة المحققة لما قصدته الشريعة الغراء، وهي ترجو من مقامكم استمرار العناية في حث رجال الحكومة على مؤازرة الفضيلة، وفي حملها على إصدار قانون يحرم استعمال هذه المسكرات.
والجمعية ترجو من فضيلتكم أن تضيفوا إلى ما يستحق عنايتكم لفت نظر الحكومة إلى محلات الفسق التي انتشرت في البلاد بشكل أصبح خطرا على الأخلاق والفضيلة، ففي الاعتراف بها والتصريح بوجودها أكبر عار على حكومة إسلامية تنص في دستورها أن دين الدولة الإسلام.
وللجمعية كبير الأمل في تعضيد فضيلتكم لكل من يعمل بما يعود على البلاد بالخير والإصلاح، ونتشرف بأن نهدي لفضيلتكم نسخة من قانون الجمعية راجية أن ينال من فضيلتكم عطفا وقبولا.
هدى شعراوي
وفي 30 أكتوبر، تلقيت خطابا من فضيلة شيخ الأزهر ردا على خطابي إليه، وقد نشرته الصحف في اليوم التالي. وهذا نص الخطاب:
إلى صاحبة العصمة السيدة هدى شعراوي رئيسة جمعية الاتحاد النسائي المصري
تلقينا بمزيد من السرور كتاب عصمتك الكريم المؤرخ في 22 أكتوبر سنة 1923، الذي تفضلت فيه بإبلاغنا شكر الجمعية على المذكرة التي قدمناها لحضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء ببيان ما في المسكرات من الضرر العقلي والبدني والمالي، والتماسا بلسان الشرع الشريف منع تعاطي المسكرات واقتنائها وإدخالها المملكة المصرية حفاظا للأمة وعملا بما يقتضيه الدين الحنيف.
ولقد علمنا من قدر هذه الجمعية الشريفة الأمور حق قدرها وسعيها في نشر الفضائل ومحاربة الرذائل. إن في مصر الآن من فضليات السيدات من لا تقل شأنا عمن لهم أثر صالح من الرجال في الهيئة الاجتماعية ... ونسأل الله جل شأنه أن يكثر من السيدات المتمسكات بالآداب الشرعية، الداعيات إليها، لتنال الأسرة المصرية سعادتها الكاملة.
ومما عنينا به ولا يزال نصب أعيننا ما أشارت إليه الجمعية من الكلام في تطهير البلاد المصرية من محلات الفسق التي هي خطر عظيم على الأخلاق الدينية.
وإنا لنثني على الجمعية الثناء المستطاب لتفكيرها في هذا الأمر أيضا، ونشكر لها تفضلها بإرسالها إلينا نسخة من قانونها الذي سننظر فيه من الوجهة الشرعية.
ونسأل الله لها المعونة والتوفيق إلى ما فيه الخير، ولعصمتك وللجمعية منا التحية والسلام.
شيخ الأزهر
محمد أبو الفضل
الفصل الثالث والعشرون
طوال الفترة التي أعقبت اندلاع ثورة 1919، كانت البلاد تغلي بالأحداث، وكانت الموافق تتصاعد في بعض الظروف والأوقات، وكان الزعماء يتنافسون ويتناحرون؛ ولذلك كثرت البيانات التي تشايع فريقا، والتي تتهم الفريق الآخر.
ومن ذلك أنه بعد أن ألف عدلي باشا يكن وزارته، وأعلن بيان هذه الوزارة، قام الوفد المصري بنشر رده على هذا البيان، ذهب فيه إلى أن الوزارة بدلا من أن تقوم بواجبها الأول من تقوية رابطة الاتحاد بين الجميع واحترام إرادة الأمة، تخلت عن هذا الواجب وطلبت من الأمة أن تهيئ لها جوا صالحا يسهل عليها المفاوضة ... وتساءل البيان: إنها فقدت نفوذها في الأمة، فكيف تلاقي الأجنبي وعلى أي قوة تعتمد أمامه؟
وكان كل فريق لديه ما يتذرع به من حجج ومواقف لإثبات أنه على حق، وأن الفريق الآخر على باطل، وفي غمار هذه الأحداث، أكدت المرأة المصرية أن الوفاء لمصر أولا وأخيرا، وأنها مخلصة لهذه القضية أكثر من إخلاص الرجال.
لقد كنا حريصات على حقيقة واحدة، وهي أن نكون حيث يكون الحق؛ ولذلك فقد أرسلنا كتابا إلى دولة رئيس الوزراء في يوم 7 مايو 1921، جاء فيه:
دولة رئيس الوزراء:
بالاطلاع على بيانكم المنشور أمس ومقارنته بكتابكم لعظمة السلطان في 17 مارس 1921، وجدنا بهما ذكر «استقلال مصر» فقط خاليا من الكلمة التي يترنم بها كل مصري ويهتز طربا على ذكرها، وهي «الاستقلال التام لمصر والسودان»، مع أنكم صرحتم بأنكم ستحققون الآمال الوطنية مسترشدين بما رسمته إرادة الأمة، وليس للأمة آمال غير الاستقلال التام لمصر والسودان، فهي لا تنزل على إرادتها قيد شعرة، ولا تعضد من يسلك سبيلا يخالف خطتها مهما كانت شخصيته وعقيدته؛ لأنها لا تنظر للأشخاص ولا تغتر بالظواهر والتمويهات، ولكنها تنظر للمبادئ والأعمال، ولذلك فإن لجنة الوفد المركزية للسيدات قررت بجلستها المنعقدة اليوم عدم تعضيد الوزارة للأسباب الآتية: (1)
عدم برها بوعدها إلى الآن من رفع الأحكام العرفية والرقابة الصحفية، بل على العكس شددتها بدليل إصدار قرار جديد يمنع التجمهر وعدم نشر ما يرسل إلى الجرائد من القرارات، وهذا ينافي تصريحاتها، وأيضا حوادث طنطا المؤلمة. (2)
عدم اتباعها برنامج الأمة وهو المطالبة بالاعتراف باستقلال مصر والسودان. (3)
الاستعداد لانتخاب وفد رسمي بدون وكيل الأمة الذي تثق به وثوقا تاما.
واقبلوا ما يليق بمقامكم من الاحترام.
وكانت اللجنة قد أصدرت قبل ذلك بيانا بتاريخ 4 مايو 1921، وكان أيضا موجها إلى رئيس الوزراء، بشأن حادثة طنطا المحزنة المؤلمة، وصدور الأمر بإعادة تنفيذ قانون التجمهر، علاوة على بقاء الأحكام العرفية والرقابة الصحفية.
وقد تلقيت خطابا من سعد باشا زغلول بتاريخ 9 مايو 1921، تعليقا على موقف اللجنة والبيانين اللذين أصدرتهما. وكان نص الخطاب كالتالي:
حضرة صاحبة العصمة رئيسة لجنة الوفد المركزية للسيدات
اطلعت على صورة الكتابين اللذين أرسلتهما لجنتكن لرئيس الوزراء ومنعت الحكومة نشرها بالجرائد، ويظهر أن الوزارة عاملة جهدها الآن في منع نشر كل ما من شأنه أن ينمي روح الوطنية في صدور الوطنيين والوطنيات ويشد عزائمهم، ويظهر بمظهر المطالبين للحق الغاضبين لإنكاره، ولكن الظلم لا يدوم، والضغط على الحرية لا يضرها بل يقيدها، وإني أعجب لوطنية السيدات عموما ووطنيتكن خصوصا، وأعتقد تمام الاعتقاد أنه ما دام هذا الشعور الحي موجودا في صدور الأمة، فلا بد أن تصل إلى مطلوبها مهما وضع أمامها من العقبات، وأرجو تبليغ تشكراتي إلى أعضاء لجنتكن البهية ووافر احتراماتي، وأهديكن تهنئاتي بحلول شهر الصوم المبارك، وأدعو الله أن يعيده علينا جميعا ببركات الاستقلال التام.
سعد زغلول
وفي يوم 25 مايو 1921، تلقيت رسالة أخرى من سعد باشا زغلول، هذا هو نصها:
حضرة صاحبة العصمة رئيسة وفد السيدات
تشرفت بخطابكم الكريم ومعه صورة كتابكم المملوء عزة وغيرة وحماسا إلى عدلي باشا، ونظرا لما اشتمل عليه من العواطف الرحيمة قد وضعت رجاء للأمة بالمعنى الذي تفضلتم بالإشارة إليه.
وأتشرف بأن أرسل لكم نسخة منه، وأملي أن يحل هذا الرجاء من الجمهور محل القبول.
وفي الختام أرجو أن تتقبلوا تشكراتي وتبلغوها لحضرات السيدات أعضاء لجنتكن البهية.
سعد زغلول
وقد نشرت جريدة المقطم في عددها الصادر بتاريخ 29 مايو 1921، تحت عنوان «صوت السيدات المصريات» ما يأتي:
أرسلت حضرة صاحبة العصمة حرم صاحب السعادة شعراوي باشا الكتاب التالي بالفرنسية إلى حضرات معتمدي الدول وهو:
بصفتي رئيسة للجنة السيدات المصريات المركزية، أعرب باسم جميع بنات وطني لجنابكم عن حزننا الشديد من جراء الخبر الذي نشرته أمس جريدة «الجورنال دي كير» وسواها من الصحف الأوروبية بمناسبة حوادث الإسكندرية الأخيرة التي يؤسف لها كل أسف، فقد جاء في هذا الخبر أن قناصل الدول أرسلوا التلغرافات إلى حكوماتهم يبلغونهم الحالة ويطلبون أن تحمي حياة مواطنيهم حماية وافية.
إنه يتعذر علينا أن نصدق أن جنابكم قد سعيتم هذا السعي إذ لم يقع حتى الآن ما يسوغ هذا الخوف؛ نعم إن بعض الصحف شرع من مدة يجسم الحالة ويظهر بمظهر المعادي لحركتنا لأسباب نجهلها حتى الساعة.
فإذا صح ما وقع في ظننا فإننا نرجو منكم يا جناب المعتمد أن تكذبوا هذه الشائعات الباطلة التي تصير موقف شعب حسبه ما لقي من أشياء بأن ينسب إليه خطأ لم يرتكبه وبإثارة الرأي العام عليه.
فإذا كنتم قد أوجستم شرا من هذه الروايات الباطلة التي لا يفتأ أعداؤنا يذيعونها عنا بجميع الطرق، ويشوهون الحقيقة خدمة لمصالحهم، فسعيتم هذا السعي الضار بقضيتنا والذي لا تستحقه، فإننا نناشدكم بإنصافكم وتنزهكم عن الأغراض، ونطلب أن توقفوا حكومتكم على الحقيقة التامة حالما تتبين على من تقع تبعة ما جرى.
ونرجو أن تتفضلوا فتبلغوا حكومتكم عن لساننا أن الشعب المصري الذي يقدس الضيافة، والذي عرف كيف يكسب عطف مواطنيك وإعجابكم في أعظم ساعات أزمته السياسية، إن هذا الشعب الشاعر بتبعاته دقة، وشدة، وحقوقه، سيظل أهلا لتلك العواطف إلى النهاية.
وتفضلوا يا جناب المعتمد بقبول احترامي الفائق.
هدى شعرواي
وفي 17 يونيو 1921، سلم وفد من السيدات احتجاجا إلى اللورد اللنبي، على أن يقوم بإبلاغ هذا الاحتجاج إلى الحكومة البريطانية. وقد جاء في هذا الاحتجاج:
في اليوم الثالث والعشرين من شهر ديسمبر، رأيتم لثروت باشا أن يؤلف وزارته ولبريطانيا العظمى أن تنفذ سياستها في مصر، وأن يلقى القبض على مختار الشعب «سعد باشا» وأن يرسل إلى المنفى من غير أي مراعاة لشيخوخته وحالته الصحية، ومن غير مبالاة بكرامة شعب هو زعيمه ورمز أمانيه، واحتقارا للعدالة وكل قانون بدون أي سؤال أو محاكمة أو حكم، أخذ سعد إلى عدن ومنها إلى جزيرة سيشل.
وارتفعت على إثر ذلك الاحتجاجات من كل ناحية تطلب لسعد إصلاح الظلم الذي ارتكب، وتطلب للأمة غسل الإهانة التي لحقت بشرفها، ولكن هذه الاحتجاجات الصادرة من شعب بأسره وصوت العدالة الصارخ وصوت الشرف المثلوم لم يستطع أن يحرك أولئك الذين لم يريدوا أن يصغوا إلا لصوت الشهوة والمصلحة.
والآن وقد ظهر تقرير رسمي بأن سعد باشا مريض، وأن جماعة من خيار الإنجليز قد طالبوا بإطلاق سراح هذا المنفي العظيم، فها نحن أولاء: سيدات مصر ننتظر بفارغ الصبر جواب الحكومة البريطانية.
أتراها ستفهم أن شرفها ومصلحتها يحتمان عليها إطلاق سراحه فورا، أم تراها ستضيف إلى جنايات ارتكبت غلطة لا تمحى على مر الدهور؟
أتراها ستجدد فينا روح الثقة وتخلق فينا شعور الصداقة، أم تراها تفضل استفزاز قضيتنا وإثارة الحقد والكراهية في صدورنا؟
إن آتون «رواية» قد جعل من راعية صغيرة أعظم رمز لأطهر وطنية، وإن أسر «سان هيلانة» قد أكسب نابليون من المجد ما لم تكسبه مئة نصر.
وسيشل قد جعلت من سعد زغلول رجلا مقدسا، وإن اعتقاله بها لو طال سيجعل منا شعب أبطال وشهداء.
هدى شعرواي
قرار
وفي 20 يناير 1922 اجتمعت السيدات المصريات في جلسة فوق العادة، وقررن ما يأتي:
أولا:
إعلان إيمانهن القوي في مستقبل بلادهن.
ثانيا:
تقديم أسمى عبارات الاحترام إلى زعيم الأمة وإهداء تحياتهن إلى رفاقه في المنفى.
ثالثا:
المعارضة بكل ما لديهن من قوة لفكرة تشكيل وزارة في الظروف الحاضرة.
رابعا:
مشاركة الأمة في عدم إمكان تشكيل أي وزارة قبل تحقيق الشروط الآتية: (1)
سحب مشروع كيرزون ومذكرة اللورد اللنبي. (2)
عودة صاحب المعالي سعد زغلول باشا وزملائه من منفاهم وإعادة حريتهم إليهم. (3)
إلغاء الأحكام العرفية وجميع الأحكام الظالمة المترتبة عليها ... (4)
إلغاء الحماية الباطلة التي أعلنت على مصر سنة 1914 وصادقت عليها الدول.
خامسا:
تسجيل العار على كل مصري يتقدم بأي بيان سياسي لتشكيل الوزارة قبل تحقيق جميع الشروط السابقة.
سادسا:
إبداء أسفهن الشديد؛ لأن البنوك الأجنبية لم تحتج بلهجة الحزم على المساس بحق سر المهنة.
سابعا:
إبداء أسفهن لعدم ارتفاع صوت ممثلي الشعوب التي انتصرت لقضية العدل وقاتلت في سبيل حق تقرير مصير الشعوب بالاحتجاج على أعمال العسف والقهر التي حلت بنا.
ثامنا:
إعلان المقاطعة العامة لكل ما هو إنجليزي من بضائع وأشخاص سواء كانوا تجارا أو موظفين أو أطباء أو صيادلة ... إلخ، وعدم معاملتهم قطعيا.
تاسعا:
يقسمن أنه إذا لم يتدخل الشعب الإنجليزي لتقويم خطة حكومته نحو مصر وحملها على حل قضيتنا حلا يتفق مع الوعود التي قطعتها على نفسها وتنطبق على الشرف والعدل، ليبذرن في قلوب أبنائهن بذور البغض الشديد ضد الغاصب، ذلك البغض الذي تتوارثه الأجيال المقبلة جيلا بعد جيل.
وقد قامت لجنة الوفد المركزية للسيدات بالفعل بنشر الدعوة إلى المقاطعة، وقررن تشكيل لجان في كل أنحاء القطر المصري لنشر المقاطعة في كل واد وناد، في المنازل، في الأكواخ، في الدور، في القصور، في المزارع، في الأسواق بين الرجال والنساء، وفي الوقت نفسه نشرت كشفا بأسماء المحلات المصرية الجديرة بالتعضيد.
وكانت هذه بداية الدعوة إلى التعامل مع كل ما هو وطني، وبخاصة الصناعات الوطنية.
الفصل الرابع والعشرون
سبق أن قلت إنني كنت على اتصال بسعد زغلول في منفاه؛ لدرجة أننا فكرنا في وقت من الأوقات العمل لخلاصه من منفاه، لولا بعد المسافة، لكنني لم أكن أعدم وسيلة الكتابة إليه وإيقافه على مجريات الحوادث قدر الإمكان، كذلك فقد كتبت إليه أكثر من برقية للاطمئنان على حالته الصحية، كما أرسلت إليه برقية يوم 25 مايو 1922 أخبره فيها بهذا القرار: «لجنة الوفد للسيدات قررت عدم الاحتفال بالعيد بسبب إبعادكم، نبعث إليكم بتمنياتنا الطيبة.»
وكانت لجنة السيدات سباقة في هذا القرار، فبعد يومين اجتمع رجال الوفد، وأصدروا منشورا تحت عنوان «نداء العيد من الوفد إلى الأمة»، أعلنوا فيه عدم الاحتفال بالعيد في ذلك العام، وقد جاء في هذا البيان:
أبناء الوطن
لن يضيع في سبيل الوطن بذل، أو مجهود عمل، وكل تضحية تحمل في نفسها جزاءها؛ فأشعروا بالصبر قلوبكم، وقووا بالمثابرة جهودكم، وظلوا على الاتحاد المتين والإرادة الصلبة التي لا تلين، فإنكم واصلون بإذن الله إلى تحقيق أمانيكم جميعا.
سيعود سعد، وستحرر الحرية، وسيحل الاستقلال فيملأ القلوب والرءوس، ويعم أرجاء البلاد.
حينذاك ترتفع بالدعاء والحمد أصوات ملائكة السماء، ومن ارتفع في خدمة الوطن من الشهداء؛ فتمتزج أصواتهم بأصوات الأحياء.
وحينذاك يكون عيد في الأرض وعيد في السماء.
وقد وقع على هذا المنشور الذي صدر يوم وقفة عيد الفطر: حمد الباسل، ويصا واصف، جورجي خياط، مراد الشريعي، علوي الجزار، علي الشمسي، واصف غالي.
وقد ظلت الرسائل متبادلة بيني وبين سعد زغلول باشا، كما كنت أرسل البرقيات إلى زوجته السيدة صفية هانم زغلول للاطمئنان على صحتها، حتى عندما ذهبت في رحلة استشفاء إلى الخارج.
بيان لجنة الوفد للسيدات
وفي الوقت نفسه، فقد ظل نضالنا في الداخل متصلا، وكان لنا رأي في كل المواقف والأحداث السياسية التي تجري ... ومن ذلك أن لجنة الوفد المركزية للسيدات أصدرت بيانا في 30 يونيو 1922 تتناول فيه الأوضاع القائمة في ذلك الوقت، وتحدد موقفها من وزارة عبد الخالق باشا ثروت التي لم تقم بأي عمل من الأعمال من شأنه تحسين الحالة في مصر. وكان نص البيان كالتالي:
تألفت وزارة ثروت في ظروف كانت ترى الأمة تشكيلها فيها مضرا بالقضية المصرية، فقررت اللجنة عدم الاعتراف بها لمخالفتها لإرادة الأمة، وأخذت ترقب أعمالها لعلها تجد بينها ما يبرر خروجها على إرادة الشعب، ولكنها مع الأسف لم تجد للآن ما يسوغ لها ذلك.
أبعد الزعيم وصحبه وكثير من أبناء مصر، فلم تطالب الوزارة بغسل الإهانة التي لحقت الأمة من جراء ذلك، ولو مجاملة للأمة، وليتها وقفت عند هذا الحد، بل استخفت بإرادة الشعب، وصادرت الحرية الشخصية بأكمل معانيها، فشددت الرقابة الصحفية، وحرمت على الصحف نشر الاحتجاجات وكل ما يتعلق بالزعيم وحرمه وصحبه حتى ذكر أسمائهم، ما جعل محلا للشك بأنها راضية عن إبعادهم، ومنعت الاجتماعات السلمية حتى لا يظهر معارض لها، وتعدت على حقوق الأمة بتشكيل لجنة الدستور، والأمة تطلب جمعية وطنية. أتت وزارة الاستقلال بكل ذلك، وانتهت بتعطيل لجنة الدستور عن العمل رغم إرادة أعضائها لأسباب ربما كانت عمل حضرات الأعضاء لصالح الأمة.
كل ذلك والأمة صابرة صامتة تعلل نفسها بالآمال قائلة «لعل لها عذرا وأنت تلوم»، وأما الآن وقد ظهر سوء نية الإنجليز وصاروا يعملون علنا على سلبنا حريتنا وإذلالنا وأخذ أموالنا وبلادنا تدريجيا منا، مخالفين عهودهم وتصريحاتهم المتكررة؛ فهم يعملون الآن على سلخ السودان من مصر، وهو لها بمثابة الروح للجسد، واعتبار السودانيين رعايا بريطانيين رغما عنهم وعن شدة تمسكهم بمصر، والمصريين أجانب بالنسبة للسودانيين كما جاء في تصريح الحاكم العام للسودان، وصادقوا على عمل قرض لتتميم خزان مكوار، مع أن العمل كان قد وقف لحين البت في المسألة المصرية.
ويضيقون على التجار المصريين في السودان بفرض الضرائب الباهظة عليهم ويعاملون الموظفين المصريين في السودان معاملة سيئة حتى يحملوهم على ترك السودان لهم. ويحاكمون الموظفين الملكيين والعسكريين السودانيين لإخلاصهم لمصر، ويمنعون المحامين المصريين من الدفاع عنهم.
يقتل رجالهم العسكريون المصريين بدون ذنب جنوه، وحادثة بائع البطيخ بشارع الشيخ حمزة أعظم شاهد لذلك، وكثيرا أمثالها من الحوادث التي لم ولن تعلم.
يعملون على منح الموظفين الإنجليز بمصر بدل اغتراب مع ضيق ميزانية الحكومة المصرية، ويطلبون فرض مبلغ كبير بصفة تعويض على الخزينة المصرية لكل إنجليزي يقتل بأي سبب من الأسباب، واعتبار أسباب القتل سياسية مع أنه لا توجد قرائن للآن تدل على أن القاتل مصري، ولم تعارض الحكومة في أي أمر من الأمور السابقة، ولم تقف موقف الدفاع عن حقوق مصر وأبنائها كما يجب، فلا يسعنا إلا مصارحتها القول ومطالبتها بالسهر والعمل لمصلحة البلاد، أو التخلي عن كراسيها إن كانت عاجزة عن القيام بتمام الواجب لمن يمكنهم العمل لمصلحة البلاد.
مواقف ... وبيان
وقد دارت عجلة الأحداث، وإذا بسعد باشا زغلول يطري موقف نسيم باشا في السودان، ولم يكن هذا موقفي أو موقف لجنة الوفد المركزية للسيدات، ولذلك فقد فوجئت بوجود اسمي ضمن أسماء السيدات اللائي حضرن اجتماع يوم 13 نوفمبر 1923 بنادي سيروس، وقد أدركت القصد من ذكر اسمي، وكان علي أن أواجه هذا الموقف صراحة ولذلك أصدرت البيان التالي:
ذكرت جريدتا الأخبار والبلاغ اسمي ضمن أسماء السيدات اللاتي حضرن اجتماع يوم 13 نوفمبر بنادي سيروس، على أني لم أحضر هذا الاجتماع لأني لم أدع لحضوره، وكنت ظننت أن ذلك حدث سهوا من سكرتارية الوفد، غير أنه باطلاعي على كلمة معالي الرئيس سعد باشا زغلول فهمت معنى عدم دعوتي لحضور الاجتماع، وأدركت القصد من ذكر اسمي بالجريدتين المذكورتين، يعلم الوفد أني مخالفة لنظريته في سياسة نسيم باشا التي كانت هادمة لحقوق البلاد، ولذلك لم يدعني لتلك الحفلة مكتفيا بذكر اسمي بين أسماء الحاضرات، ولما كنت أخشى إذا لزمت الصمت أن يستنتج الشعب المصري الكريم من صمتي، موافقتي على نظرية معالي الرئيس والوفد في أعمال نسيم باشا وتمجيدها لحفلته التي احتجت عليها لجنتنا في حينه، فإني مع احترامي لمعالي الرئيس أرى من واجبي في الظروف الحرجة التي تجتازها البلاد أن أجاهر برأيي ورأي اللجنة، مجددة احتجاجنا على أعمال نسيم باشا وما نتج عنها من تفريط في حقوق البلاد، وأسأل الله أن يرشدنا جميعا إلى الطريق السوي بمنه وكرمه.
هدى شعراوي
وأذكر أن إحدى الصحف قد علقت على هذا البيان فقالت:
إنا لنرى في هذا البيان الموجز معاني كبيرة تدعو إلى التبصر والتفكير. ليس في مصر من أقصاها لأقصاها من ينكر على هدى هانم وطنيتها العالية وإخلاصها الذي لا تشوبه شابة.
وليس في مصر من ينكر ما للسيدة هدى هانم من اليد البيضاء على الوفد المصري نفسه. وليس في مصر من ينكر عليها وعلى أعضاء لجنتها ما أبدين من الغيرة والشهامة على الاحتجاج على التصرفات الصادرة من وزارة نسيم باشا ساعة أحجم الوفد عن الاحتجاج، بل ساعة تقدم الوفد وكتابه مدافعين عن نسيم وعن آثام نسيم.
إذا كان هذا هو تصرف الوفد مع هدى هانم على مكانتها من هذه الأمة، فما بالكم بتصرفه مع من لم يسعدهم الحظ بأن تكون لهم مكانة هدى هانم؟!
لا نريد أن نسترسل اليوم في الكلام على نفسية الوفد، فإننا نفضل أن نترك للأيام وحدها تشريح هذه النفسية وبسطها أمام الناس حتى يروا بأعينهم، ويلمسوا بأيديهم حقيقة هذه النفسية من غير حاجة إلى من يفسر أسرارها أو يشرح غوامضها.
عندئذ يدرك الناس مبلغ ما قاسى ذوو الضمائر من أنصار الوفد، إذ لم يستطيعوا مجاراته في الخير وفي الشر جمعيا، فكان جزاؤهم منه الطرد من حظيرة الوطن والحرمان من رحمة الله.
رسالة سعد باشا
وقد تلقيت بعد ذلك رسالة من سعد باشا زغلول بتاريخ 18 نوفمبر 1923، حاول فيها أن يعطي الأمور اتجاها آخر. وهذا يبدو من سطور الرسالة المنشورة مع هذه المذكرات.
على أن ما يعني هنا هو أن هذا الخلاف قد أثار حوارا ساخنا على صفحات الجرائد.
فقد كتبت إحدى الصحف تقول:
يأبى الوفد أن يدعو هدى هانم لحضور حفلته بأنها مخالفة لنظريته، فهو يحكم بحرمانها من التشرف بحضور اجتماعاته عقابا لها على حرية رأيها، ولكنه لا يريد أن يعلم الناس بأن هدى هانم مخالفة له في هذه النظرية، إذن يجب أن يذكر اسم هدى هانم بين الحاضرين الذين قالوا إنهم صفقوا لنسيم وهتفوا باسم نسيم، يجب أن يذكر اسم هدى هانم - ويجب أن تقبل هدى هانم بهذا الحكم.
فالوفد أجبن من أن يتحرش بهدى هانم، ولكنه أهل لأن يدس اسم هدى هانم دسا في بلاغه للصحف، ليخدع الناس ويضللهم.
ولكن هدى هانم شجاعة وجريئة، فهي لا تهاب تحرش الوفد ولا تقبل دسه؛ تعلن على رءوس الملأ براءتها من نظريته في نسيم وتفضح دسه عليها.
وردت صحيفة أخرى على ما نشرته صحيفة «الليبرتية»، فقالت: يتعرض ذلك الكاتب السفيه في الليبرتية لهدى هانم، فيصف كلمتها للصحف بأنها باعثة على السخرية والضحك، لا يستحي هؤلاء المتطفلون على مصر أن يرموا أبر أبناء مصر بسفاهاتهم ووقاحتهم ... ولكن ماذا يضير كتاب الليبرتية أن يطعنوا في كبار مصر وكبيراتها؟
يظهر هؤلاء الكتاب التحمس لسعد ولنسيم؛ لأن مال سعد وفير، ولأن نسيما أغدق عليهم النعم في وزارته، وسعد ونسيم لا يهمهما إلا أن يطعن كل إنسان يحاول أن يحتفظ بكرامته وحرية رأيه فكيف إذن تجرؤ هدى هانم على تبرئة نفسها من أي مخالفة لرأي أريد إلصاقه بها غصبا؟!
ولست أريد أن أستطرد في ذكر تفاصيل كل ما حدث في ذلك الوقت، ولكنني فقط أردت أن أبين أبعاد الموقف الذي حدث في احتفال 13 نوفمبر 1923، وهو الموقف الذي ترتب على حوار سابق دار بيني وبين سعد باشا زغلول أثناء عودته إلى مصر من منفاه، فقد حدث أنني كنت في أوروبا في ذلك الوقت، وشاءت الأقدار أن أعود على الباخرة نفسها التي عاد عليها سعد، وتطرق الحديث أثناء رحلة العودة إلى مسائل شتى، إلى أن انتهى عند موقفي من وزارة نسيم باشا بسبب التفريط في السودان.
ورغم أنني ذهبت إلى بيت الأمة مهنئة بعد عودة سعد باشا إلى البلاد، فإنه ظل على موقفه مني، وبدا ذلك بوضوح في احتفال 13 نوفمبر 1923، وإن كان قد حاول أن يغلف هذا الموقف بدواع وتفسيرات أخرى، أراد بلباقته أن يردها إلى موقف لجنة الاحتفال، وليس إلى موقف الوفد نفسه.
أما ماذا دار بيننا من حوار العودة، فهذه هي القصة على ظهر الباخرة أثناء رحلته، وهي قصة نشرت في ذلك الحين، وكان نشرها هو الذي دفع سعد باشا إلى كتابة رسالته.
الفصل الخامس والعشرون
كان الغرض من هذا البيان هو ألا يظن الناس أنني كنت أشارك سعد باشا زغلول آراءه في إطراء نسيم باشا الذي تنازل عن حق مصر في السودان، فقد اعتبر سعد باشا أن تخلي نسيم باشا عن الحكم بعد فعلته، جعله يستحق تقدير الوطن، وكان هذا الاختلاف في وجهات النظر موضع مناقشة حادة قامت بيني وبين سعد باشا بشأن هذا الموضوع، عندما تقابلنا على باخرة واحدة في رحلة العودة من أوروبا؛ حيث كان هو إذ ذاك عائدا من منفاه.
رست الباخرة في «برنديزي»؛ حيث كنت في انتظارها للعودة إلى مصر، ولما ركبت الباخرة، علمت أن سعد باشا عائد على ظهرها من جبل طارق، فبادرت بزيارته، وهنأته على إطلاق سراحه وعودته إلى وطنه المحبوب، وبعد أن شكرني، قال وهو مطرق: غريب جدا!
قلت: وما هو الغريب؟
قال: علمت أنك تغيرت عن المبدأ وانقلبت علينا.
قلت: وما دليلكم على ذلك؟
قال: تلغرافك الذي أرسلته إلي عندما سألتك عن حالة الوفد وبيت الأمة ومصر، لما اعتقلوا أعضاء الوفد وقفلوا بيتي.
قلت: لقد سألتني وأجبتك كما أعتقد أن مصر بحالة محزنة، وبيت الأمة أقفل، وأعضاء الوفد اعتقلوا بسبب سوء تصرفهم، وما زلت أعتقد ما قلت، ومستعدة لمناقشته ولإثبات أنني على صواب.
قال مندهشا لجرأتي: كيف ذلك؟
قلت: لما تنازل نسيم باشا عن حقوق مصر في السودان، وقامت الأمة ضده نساء ورجالا ... واضطرته إلى الاستقالة ... رأيناك تحبذ فعله، وتكتب في تلغرافاتك ومقالاتك أن نسيم قد استحق تقدير الوطن، وقد أدهشني ذلك، فجمعت السيدات أعضاء لجنتنا المركزية واقترحت عليهن أن نكتب إليك بالحقيقة، ظنا بأنك تجهل ما فعله نسيم ولم تصل إليك تفاصيل الأمر.
فقال: ولماذا لم تكتبي إلي؟
قلت: ظن السيدات أن في ذلك حكمة، وفضلنا أن ننتظر حتى تصلك الصحف ثم نرى تأثيرها عليك، وانتظرنا فعلا، ولكن رأيناك مستمرا في تحبيذ نسيم باشا، فدهشنا وتأسفنا، ولما استقال نسيم، وعرض جلالة الملك على عدلي باشا تشكيل الوزارة، علمت أنه اشترط لقبولها إعادة السودان إلى لقب ملك مصر، فسررنا لهذا الخبر، ولكن حال أعضاء الوفد دون تأليف وزارة عدلي، وأقاموا المظاهرات، وقد سمعنا الغوغاء في هذه المظاهرات يقولون: «الحماية على يد سعد ولا الاستقلال على يد عدلي.»
وحدث إثر ذلك أن أقفل بيت الأمة، واعتقل أعضاء لجنة الوفد، وتنحى عدلي باشا عن تشكيل الوزارة الجديدة.
ولما وصلني تلغرافك الذي فيه تستفهم أولا عن بيت الأمة، ثم عن أعضاء الوفد، أخيرا عن مصر، كتبت ردي على ما كنت أعتقده حقيقة من أن كل ذلك نشأ عن سوء تصرف أعضاء الوفد، ولولا تصرفهم هذا لما رفض عدلي باشا تأليف الوزارة ولا استعادت مصر بتنفيذ شروطه ما فقدته من حق أودى به نسيم.
فقال في ارتباك: أنا لا أحب نسيم، ولكني أعتقد أنه أحرج وتورط، وأنه أدى خدمة باستقالته ... ألم تقرئي ما نشره في الجرائد بعد ذلك؟
فقلت له: إني أدهش يا باشا من أنك ما زلت تجد في استقالة نسيم بعد تسليمه، شيئا من الشجاعة والوطنية، لقد كان في إمكانه أن يستقيل قبل أن يفرط في حقوق البلاد.
فقال: ليس هذا ذنبه، لقد قدم استقالته، ولكن جلالة الملك لم يقبلها وجميع الوزراء في حضرته، وقال لهم: إن في إصرارهم هذا خطرا على العرش ... وبكى واستبكاهم، فلم يسع نسيم إلا النزول على رغبة الملك، فإذن هو معذور.
قلت له في دهشة كبرى: هل كنت تفعل هذا لو كنت محل نسيم باشا؟ تبيع البلد لأجل دموع الملك؟
فقال: لا ... لا ...
قلت: لماذا إذن تحبذ ما لا تفعله؟
فسكت دون أن يظهر أي غضب، فظننت أنه اقتنع.
الحجاب الشرعي
وبعد ذلك دار الحديث في موضوعات أخرى، وقد بدأ يهنئني على توفيقي في الوصول إلى رفع الحجاب وكيفية عمل الحجاب الشرعي الذي أرتديه، وقال: إنه قد سر عندما رأى صورتي بهذا الزي الجديد في منفاه، ثم طلب من السيدة حرمه أن تقلدني، فوعدت بذلك.
وصرنا في وفاق وائتناس، وسعد باشا في تواضع غريب حتى اقتربنا من الإسكندرية، وبينما كنت جالسة مع صفية هانم على ظهر الباخرة، أقبل سعد باشا متهللا بيده برقية، وقال: صفية ... أتدرين ممن هذه البرقية؟
قالت: لا ...
قال: هي من إسماعيل باشا أباظة ...
وقرأ علينا ما معناه: أكتب إليك هذا وأنا على حافة القبر، ولا أنتظر من الحياة شيئا وليس لي مطمح فيها، راجيا أن تزيل كل خلاف بينك وبين خصومك في خدمة البلاد، وأن توحد صفوف الأمة لخدمة الوطن.
فقالت له صفية هانم: وهل ستجيب عليها؟
فقال: أنا؟
وسكت ...
وقد قلت في نفسي: لقد عادت له عظمته لما فهم من هذه البرقية أن الأمة المصرية ما زالت تؤيده، وما كان ذلك التواضع الغريب الذي لاحظته إلا لظنه أنه فقد شيئا من ثقة الأمة بتحبيذه لموقف نسيم باشا الذي أغضبها، ولكنه فهم من برقية إسماعيل أباظة باشا أن مركزه ما زال محفوظا، وإلا لما تنازل أباظة بكتابة هذه البرقية إليه، وقد زاد في اطمئنانه ذلك الاستقبال العظيم الذي ظهرت بوادره عند دخول السفينة البوغاز، فقد التفت حولها القوارب المليئة بالجماهير الهاتفة باسمه.
صعدت إلى ظهر الباخرة للنزول، وإذ بصفية هانم تقابلني ببرقعها وملاءتها.
فقلت لها: «أين وعدك لسعد باشا بارتداء الإزار الشرعي؟» فقالت: «أنا ليس لي زوج واحد ... واصف باشا غالي استحسن ألا أغير زيي حتى لا أحدث تأثيرا سيئا في المستقبلين» ... فعجبت من ذلك، وصافحتها، ونزلت إلى اللنش الذي كان في انتظاري.
ولما وصل سعد باشا إلى القاهرة، ذهبت إلى بيت الأمة مهنئة إياه بسلامة العودة ... وأعقب ذلك الاحتفال بيوم 13 نوفمبر في كازينو سيروس، ولم أدع إليه كالمعتاد، ولكن الجرائد ذكرت اسمي ضمن الحاضرات وأطنبت في الوصف؛ لدرجة أنها قالت: إنني كنت أقابل المدعوات، وقد عجبت لذلك، ولكني فهمت الغرض من عدم دعوتي، ثم نشر اسمي في الصحف بعد أن خطب سعد باشا خطبته التي أعاد فيها إعلان تحبيذه لعمل نسيم باشا، وذكر مآثره الوطنية حتى أنساه ذلك، ذكرى المحتفى بهما في هذا اليوم التاريخي العظيم، ألا وهما: زوجي علي باشا شعراوي، وعبد العزيز باشا فهمي!
وكان من الطبيعي إزاء ذلك كله أن أنشر بياني في الصحف وأن أؤكد فيه أنني لم أحضر هذا الاحتفال، وبالتالي لم أقابل المدعوات ولم أرحب بهن، كذلك فإنني كنت حريصة على أن أعبر عن رأيي إزاء موقف نسيم باشا من مسألة السودان؛ لأنني كنت على اقتناع كامل بوجهة نظري، ولو اختلفت مع وجهة نظر الوفد كما عبر عنها سعد باشا في خطابه في الاحتفال، وكما قلت في احتجاجي، كنت «أرى من واجبي في الظروف الحرجة التي تجتازها البلاد أن أجاهر برأيي ورأي اللجنة، مجددة احتجاجنا على أعمال نسيم باشا وما نتج عنها من تفريط في حقوق البلاد».
اللجنة والوزارة الجديدة
ولم تكن مثل هذه المواقف والأحداث لتؤثر في اهتمامنا بالأمور السياسية وبمشاكل البلاد، والدفاع عن مصالحها، ومستقبلها.
لقد مضينا على الطريق، وليس لنا من هدف إلا خدمة مصر، فبعد أقل من شهر من أحداث 13 نوفمبر 1923 عبرنا عن موقف لجنة الوفد المركزية للسيدات في الوزارة الجديدة، وكان هذا في البيان الذي صدر في 6 ديسمبر 1923. وهذا هو نص البيان:
سقطت الوزارة السابقة، فكان ذلك دليلا ملموسا على أن إرادة الشعب هي الدعامة القوية التي ترتكز عليها الوزارات، وأن كل وزارة تستخف بإرادة الشعب وتستأثر بالأمر مآلها السقوط، وقد تألفت الوزارة الجديدة، ووعدت بالعمل جهدها لتحقيق أماني الأمة، وقالت: إنها تريد أن يحكم عليها بأفعالها لا بالأقوال، وإنا وإن كنا معها في أن الحكم على الأعمال خير، غير أن الظرف الخطير الذي تجتازه الأمة يستوجب سرعة الإيضاح، وقد رأينا أن الوزارات لا يمكنها الوصول إلى تحقيق شيء من سياستها ما لم تكن حائزة ثقة الأمة مؤيدة منها، وكيف تؤيد الأمة وزارة لا تعرف لها برنامجا، وإن السكوت لا يحمد في هذا الموقف؛ بل تقابله الأمة بكل حذر وتحفظ، وربما تعدى ذلك إلى الريبة، فهل للوزارة أن تزيل هذه الشكوك ببيان توضح فيه خطتها، حتى إذا وافقت مطالب الأمة ساعدتها على تحقيقه، فإن وفقت كان ما تريد، وإن لم توفق تنحت عن العمل، فتكون قد خدمت بذلك بلادها ونفسها.
وقد وقعت هذا البيان ومعي أعضاء لجنة الوفد المركزية للسيدات: شريفة رياض، ألفت راتب، إحسان أحمد، رجينة خياط، نعيمة أبو إصبع.
تعليم نساء الشعب
ومن ناحية أخرى، فقد واصلت جمعية الاتحاد النسائي المصري رسالتها في خدمة الأهداف الاجتماعية، وأعلنا أن تطبيقا للبرنامج الذي وضعته الجمعية، قررت في جلستها المنعقدة بتاريخ 17 نوفمبر 1923 استئجار منزل بحي من الأحياء الوطنية يكون كمدرسة متنقلة لتعليم نساء الشعب مبادئ علم الصحة والتمريض وبعض الصناعات اليدوية، ومحاربة البدع والخرافات، ومعالجة المرضى منهن ومن أطفالهن مجانا، حتى إذا أتمت مهمتها في ذلك الحي، انتقلت إلى حي غيره، وهكذا دواليك حتى يتسنى لأولئك النساء الإلمام بما يقوم نفوسهن ... وينير عقولهن، ويقي أطفالهن شر الأمراض تلافيا لكثرة الوفيات المنتشرة بينهم، وحتى تجد المعوزة منهن طريقا شريفا للكسب.
وقد استأجرت الجمعية دارا لهذا الغرض بشارع يحيى بن زيد رقم 45 بالبغالة قسم السيدة زينب، سمتها «دار التعاون الإصلاحي».
وأعلنت الجمعية أن أعضاءها قد تطوعن لتعليم أولئك النساء، وهي في الوقت نفسه تقبل مع الشكر والسرور كل مساعدة من حضرات الأطباء وأصحاب المحلات التجارية والصيدليات ما يلزم للمعالجة ومساعدة الفقيرات، كما تقبل بكل ارتياح كل سيدة تتطوع لمعاونتها عمليا أو ماديا في القيام بهذا الواجب الإنساني.
الفصل السادس والعشرون
بعد أن شاركت المرأة المصرية مشاركة فعالة في ثورة 1919، وبعد أن عبرت عن نفسها وصوتها في كل الأحداث الوطنية الكبرى، وبعد أن استطاعت أن ترفع صوتها في المحافل الدولية، وأن تنال تقدير المرأة الأوروبية في مؤتمر روما، وبعد أن دعت إلى رفع الحد الأدنى لسن الزواج إلى ستة عشر عاما بالنسبة للفتاة، وطالبت بضرورة حصولها على كل فرص التعليم، وبأن تفتح أمامها أبواب المدارس العليا ... بعد كل هذا، فقد كنا نتصور أن يكون هناك اعتراف بأن المرأة تمثل نصف الأمة، وأن يتبلور هذا الاعتراف بتكريمها في المناسبات الوطنية المختلفة.
ولكن الحقيقة جاءت مختلفة عن ذلك تماما؛ فقد فوجئنا أن المرأة المصرية لم يقبل طلبها لحضور حفل افتتاح البرلمان، في الوقت الذي دعيت فيه سيدات أجنبيات لحضور هذا الحفل، وكان أن أصدرنا في 16 مارس 1924 بيان احتجاج على النحو التالي:
لجنة الوفد المركزية للسيدات تحتج بشدة بصفتها هيئة تمثل الأمة التي اشتركت في الجهاد والتضحية لاستقلال بلادها، على رفض طلبها لحضور حفلة افتتاح البرلمان، وترى في إغفال وزارة الشعب دعوتها في وقت دعت فيه سيدات أجنبيات عملا لا يليق بالكرامة.
وفي يوم الجمعة 31 مارس 1924، اجتمعت لجنة الوفد المركزية للسيدات بدار جمعية المرأة الجديدة، وقررت بالإجماع توجيه ما يأتي لمجلس النواب والشيوخ بمناسبة خطاب العرش.
مع ثقة أعضاء اللجنة بالوزارة، ترى أن خطبة العرش غير وافية، وفيها من الغموض ما يمكن أن يؤوله الخصم في مصلحته؛ لذلك تعتمد اللجنة على حضرات النواب أن يتداركوا بحكمتهم إدخال التعديلات الآتية على خطبة العرش: (1)
النص على تعديل الدستور حتى يكون طبق الدساتير الحديثة، وأن تذكر فيه حدود الدولة المصرية مع النص على أن السودان جزء منها لا يتجزأ. (2)
النص على إصلاح القوانين الخاصة بحرية الاجتماعات والصحافة. (3)
النص على تعديل مواد الدستور الخاصة بالمسئولية الوزارية تعديلا يجعل الأمة صاحبة الحق في حكم البلاد. (4)
النص على تقوية الجيش المصري والقوى الحربية الأخرى ما يكفل المحافظة على سلامة الدولة.
توقيعات: هدى شعراوي، نعيمة أبو إصبع، روجينة خياط، نعمت حجازي، أستر ويصا، فايقة رفيق، ألفت راتب، عزيزة فوزي، إحسان أحمد، فكرية حسني.
وكما قلت من قبل، فإننا في الوقت الذي كنا نشارك فيه ونتابع الأحداث السياسية وتطوراتها، كنا أيضا وبالحماسة نفسها، نبذل في ميدان الخدمة الاجتماعية، وهكذا فإنه في شهر أبريل 1924، أعلنت جمعية الاتحاد النسائي المصري الجمهور أنها فتحت أبواب دار التعاون الإصلاحي التي أنشأتها بشارع يحيى بن زيد رقم 45 بالبغالة لمعالجة الفقيرات وأطفالهن، وصرف الدواء لهن مجانا، وتعليمهن بعض الأعمال اليدوية ومبادئ الدين والمبادئ الصحية ومحاربة الخرافات، وأكدت أنها قد باشرت مهمتها منذ أول فبراير الماضي كل يوم صباحا بمساعدة حضرات الأطباء الغيورين المتطوعين لهذا الغرض الشريف حسب النظام الآتي:
يوم السبت:
الدكتور عبد العزيز نظمي لمعالجة أمراض الأطفال والعيون.
يوم الأحد:
الدكتور محجوب ثابت لمعالجة الأمراض الباطنية.
يوم الاثنين:
الدكتور عبد الحميد وفا لمعالجة أمراض النساء والجراحة.
يوم الثلاثاء:
الدكتور سامي كمال لمعالجة الأمراض الباطنية والأطفال.
يوم الأربعاء:
الدكتور عبد الحميد وفا لمعالجة أمراض النساء والجراحة.
هذا؛ ولما كان القيام بهذا المشروع يتطلب الكثير من النفقات، فالجمعية ترجو المعونة المالية من أهل الخير مساعدة لها على القيام بمهمتها الجليلة التي لها أكبر أثر في تحسين حالة الفقيرات الصحية والأخلاقية بما يتمناه كل وطني صادق.
كذلك يسر الجمعية لو تطوع بعض المعلمات أو المعلمين ساعة في اليوم للتعليم في دار الجمعية.
إلى الشعب المصري
كان صاحب الدولة سعد باشا زغلول على رأس الوزارة التي تألفت في شهر مارس 1924، وكنا قد نبهنا الأذهان إلى ضرورة النص على أن السودان جزء لا يتجزأ من الدولة المصرية، وقد حدث في يوم 24 مايو 1924 أن جرت مناقشة في مجلس النواب بين سعد باشا زغلول وبعض النواب بشأن الأعمال الجارية في السودان، وكان موقف سعد باشا من هذه المناقشة يدعو إلى أن نعبر عن رأينا، وكان هذا البيان الذي وجهناه إلى الشعب المصري رجالا ونساء:
هالنا ما جاء في مناقشة صاحب الدولة سعد زغلول باشا بمجلس النواب، بشأن الأعمال الجارية في السودان بجلسة السبت 24 مايو 1924.
هالنا أن يوجه دولته إلى حضرة النائب المحترم عبد الرحمن بك الرافعي، العبارة الآتية (نريد أن نعرف الطريقة التي نملك بها السودان والمشروعات ونحن ليس في إمكاننا منع ما هو حاصل).
تقبلنا البرنامج الذي وضعه دولته عند تشكيل وزارته بالرضا، واعتبرناه عهدا وميثاقا على وزارته أمام الأمة، فلم يكن أحد يشك في أنه أعد مع من اختارهم من زملائه الوسائل والطرق التي توصله لتحقيق مطالب الأمة (في الاستقلال الحقيقي لمصر والسودان)، خصوصا عندما رأيناه راغبا كل الرغبة في تبوء منصة الحكم رغم نداء طبقة كبيرة من الأمة على رأسها صاحب السمو الأمير عمر طوسون بعدم قبولها. انتظرنا من عهد توليته الحكم أن يعمل على تحقيق برنامجه، وقد مرت عدة حوادث كان من شأنها أن توجب الريبة والشكوى من تصرف الوزارة مثل تنفيذ قانوني التعويضات والتضمينات، ومثل رفضها إجراء أي تعديل وتوضيح لخطبة العرش.
فاحتطنا هذه التصرفات كلها انتظارا لما عسى أن تؤديه وزارة الأمة من تحقيق مطالبها الحيوية الخاصة بمصر والسودان. فإذا بدولة سعد باشا رئيس الوزارة ورئيس الوفد وواضع ذلك البرنامج ينادي في جلسة مجلس النواب بأنه في حاجة لمن يرشده إلى الطريقة العملية التي تنال بها مصر حقها في السودان، وإذا به كذلك يقول أيضا مخاطبا نواب الأمة (إذا كان في إمكانكم عمل تجريدة أو عندكم قوة لمنع الإنجليز وأخذ السودان من أيديهم، فتفضلوا ودلوني عليها).
إلا أن وضع هذا السؤال بهذه الكيفية - وسعد باشا يعلم كما يعلم غيره أن مصر لا طاقة لها على تعبئة تجريدة عسكرية تقوى على إخراج إنجلترا من السودان - هو اعتراف بالعجز وتصريح لا يقبل الإيهام بأن دولته لم يعد يعتمد على ذلك السلاح الذي كان يعتمد عليه قبل توليته الحكم، أي وهو سلاح الحق الذي تستمد منه الأمة قوتها ثقة أنه أعظم أثرا من القوة المادية التي يملكها خصمها.
في هذه الحالة، يعلن الشعب المصري الكريم رجالا ونساء أنه لا يوجد خطر على القضية المصرية أكبر من أن يتولى المفاوضات مع إنجلترا رجل يعترف علانية أمام هيئة رسمية نيابية، بأنه عاجز عن تنفيذ ما عاهد به الأمة قبل وعند توليه الحكم، ولعل سعد باشا يكون أول من شعر بعظم المسئولية ويهيئ لأمته مخرجا من هذا الضيق.
هدى شعراوي
استقالة شريفة هانم رياض
كانت السيدة شريفة هانم رياض من أبرز الشخصيات في لجنة الوفد المركزية للسيدات وأكثرهن نشاطا، وقد شاركتني في كثير من المواقف منذ بدأنا التفكير في إنشاء لجنة السيدات إثر اندلاع ثورة 1919.
وخلال الفترة الأخيرة، كانت قد اعتكفت بسبب ظروف الحداد، ولذلك فإنها لم توقع معنا على البيان الذي أصدرناه بمناسبة خطبة العرش في 21 مارس 1924، ولقد كانت الموافقة على هذا البيان بالإجماع، ولكن إزاء تطور الأحداث والمواقف، وقعت بعض الخلافات نتيجة اختلاف وجهات النظر، وفي الوقت الذي كنت أترقب فيه عودة شريفة هانم رياض لممارسة دورها في اللجنة، وصلني منها خطاب استقالة بتاريخ 18 يونيو 1924. وهذا هو نص الخطاب:
حضرة السيدة المحترمة رئيسة لجنة الوفد المركزية للسيدات
لقد حال حدادي دون الاشتراك مع الجمعية في عملها، ولما رأيت أثناء اعتزالي القهري وقع الخلاف في الرأي بين حضرات العاملات بالجمعية، سعيت جهدي للتوفيق بين حضراتهن فلم أوفق؛ ولذا أراني آسفة لاضطراري الاعتزال من العمل بالجمعية، على أني لا أدخر وسعا في العمل لما فيه صالح البلد عامة والمرأة خاصة متى استطعت لذلك سبيلا.
وتفضلي بقبول احتراماتي.
شريفة رياض
وفي اليوم التالي مباشرة، أي في يوم يونيو 1924، كتبت ردي على الاستقالة، الذي نشرته جريدة الأخبار، وكان نصه كالتالي:
حضرة صاحبة العصمة هانم رياض
تسلمت كتاب استقالتك من عضوية لجنة الوفد المركزية للسيدات، فكان له وقع شديد على نفسي، وأسفت غاية الأسف لاعتزالك العمل في هذا الوقت الذي هو أشد الأوقات حاجة لمن يعمل لمصلحة الوطن بنزاهة وإخلاص.
وإني مع تقديري للظروف التي اضطرتك لذلك، ما زلت عظيمة الرجاء في أن تكون هذه الاستقالة مؤقتة، وأنك ستعودين قريبا لاستئناف العمل معنا لما فيه المصلحة العامة.
وأرجو أن تتقبلي مع تكرار عبارات خالص التحية والاحترام.
هدى شعراوي
الفصل السابع والعشرون
في شهر سبتمبر 1924 تلقيت دعوة لحضور مؤتمر جراتز الدولي لمناقشة قضية إنسانية حيوية، وهي مشكلة الاتجار بالنساء والأطفال، وقد انعقد هذا المؤتمر لمدة ثلاثة أيام في الفترة ما بين يوم الخميس 18 سبتمبر إلى يوم السبت 20 سبتمبر، وما زلت أحتفظ ببطاقة عضوية هذا المؤتمر التي تحمل اسم «مدام شعراوي باشا» ورقم 142.
وقد حرصت على المشاركة في هذا المؤتمر الدولي لعديد من الأسباب في مقدمتها؛ أننا منذ ذهبنا إلى مؤتمر روما الدولي وأنا حريصة على التعبير عن المرأة المصرية في المؤتمرات الدولية التي تناقش القضايا الإنسانية والاجتماعية وأوضاع المرأة، كذلك فإن قضية الاتجار بالنساء والأطفال من القضايا الحيوية، وكان قد سبق لنا أن قدمنا مذكرة إلى رئيس الوزراء يحيى باشا إبراهيم بشأن أوضاع مماثلة تتعلق بحماية كرامة المرأة وإنسانيتها ... فضلا عن الدور الذي بدأته جمعية الاتحاد النسائي المصري على هذا الطريق وما زلت سائرة فيه ... وأخيرا، فإن هناك ذكرى خاصة، وهي أن مدينة جراتز بالنمسا بالذات هي التي شهدت الساعات الأخيرة لوالدي المغفور له محمد سلطان باشا.
وقد ذهبت إلى مؤتمر جراتز الدولي السادس لأشارك مشاركة إيجابية في أعمال هذا المؤتمر، وكان أن ألقيت هذا الخطاب الذي تناول هذه القضية في جوانبها العامة والخاصة: وهذا هو نص الخطاب:
أتقدم بالشكر إلى مس بيكر إذ دعتني إلى ذلك المؤتمر، فبعثت بذلك عندي فكرة الاشتراك في ذلك الفعل الإنساني العظيم، وسيكون من دواعي ارتياحي التام أن يعطف المؤتمر على الاقتراحات التي أقدمها إليه، إذ يسمح لي ذلك أن أقوم بنصيبي من العمل والمعاونة في تحقيق برنامجه، إني أرى أنه يجب على المؤتمر إذا أراد أن يصل إلى غايته المنشودة أن يجتهد بادئ ذي بدء في تحقيق ذلك المشروع، وهو أن يسعى لدى الحكومات ليحملها على أن تغلق منازل البغاء في جميع بلاد العالم إغلاقا تاما مطلقا.
ولما كانت غاية الاتحاد الدولي هي استئصال الاتجار بالنساء والأطفال، وإذا كانت الجهود التي بذلت إلى الآن لم تؤد إلى النتائج المقصودة، فإني أرى وجوب القضاء على الداء من أساسه، وذلك باجتناب كل تردد في طلب إغلاق منازل البغاء العامة؛ لأن وجود هذه المنازل بطريقة تقرها الدولة أو تتسامح في إجرائها كما هو الشأن في عدة بلاد منها مصر، في رأيي، إهانة للشرف واعتداء على الفضيلة والحياء العام، إن السماح بفتح هذه المنازل تشجيع للرذيلة وإطلاق لأيدي أولئك الذين يتجرون بالنساء والأطفال.
أرادت بعض الحكومات أن تحدد المضار وأن تقلل المخاطر التي تترتب على وجود هذه المنازل، فاعتقدت بفائدة ترك رقابتها إلى البوليس، ولكن إذا كان من الواجب أن نبت في ذلك الأمر طبقا للنتائج التي أسفر عنها ما يحدث في مصر، فإن لنا أن نعتقد أن البوليس لم يقدم الدليل على أنه يقوم دائما بمهمته كما يجب، أولا لأن من يقبلون أن يكتسبوا عيشهم من استغلال ذلك العمل التعس - البغاء - أشد حذرا وأغور دهاء من أن تضرب على يدهم أية مراقبة؛ بحيث إن رجال البوليس كثيرا ما يتهاونون في مراقبة أولئك النسوة السافلات من جراء اشمئزازهم منهن ومقتهم لهن، فيترتب على ذلك أن رقابة البوليس لا تفي تماما بالغرض، وإن الخطر ليعظم إذا كان رجل البوليس يهمل أداء واجباته من الفحص والتدقيق تحقيقا لمصلحة ما.
وإثباتا لما أقول أقص عليكم مثلا واقعيا. انتهت النيابة المصرية من تحقيق قضية بدأت بها في العام الماضي، وقد أسفر ذلك التحقيق عن إدانة عدد كبير من المتهمين وعن وجود منازل عديدة للدعارة في مدينة القاهرة، منازل كانت تساق إليها فتيات منكورات بينهن بنات قاصرات لم يتجاوزن الستة عشر عاما، بل وطفلات بين السابعة والتاسعة كن يسلبن من أهلهن بإغوائهن بوعود خلابة ووسائل جنائية أخرى؛ فإذا ما سجن في تلك المنازل، روقبن مراقبة صارمة تحول دون اتصالهن بعائلاتهن أو بأي شخص آخر غير مستغل لهن، فتعاني أولئك البغايا المنكودات أفظع ضروب الإنهاك دون أن يستطعن تذمرا أو شكوى؛ بل وثبت ما هو أكثر من ذلك ... ثبت أن كثيرا من المتجرين بأولئك النسوة لم يكونوا يقنعون بالاتجار بهن في منازلهم؛ بل كانوا يبيعونهن أيضا إلى أقرانهم في المنازل الأخرى بثمن من المال كأنهن سلعة يجوز الاتجار فيها أو تعتبر مصدرا للكسب، وذلك دون أن يصيب الفريسة نصيب من الغنم، وثبت أيضا أن كثيرا من أولئك الفتيات كن يقضين نحبهن بسبب الأمراض الفتاكة وإهمال وسائل الصحة والعلاج، وأن الأطباء المكلفين بالعناية بهن يغفلون أداء مهمتهم كما يجب؛ وذلك للسبب نفسه الذي أبديته عند كلامي عن البوليس.
وكان من نكد الطالع أن أسفر التحقيق في هذه القضية أيضا عن أن عددا من ضباط البوليس، معظمهم من الأوروبيين، كانوا يمالئون أصحاب هذه المنازل بإهمال مراقبتها المطلوبة إهمالا مقصودا، مما أدى إلى استكشاف عدد عديد من الرخص سلم إلى بنات دون العاشرة، وإذ كانت هذه الرخص خلوا من صور حاملاتها خلافا لما تقضي به اللوائح، فقد كانت تتداول من يد إلى أخرى دون أية رقابة أو مسئولية.
وقد ثبت أيضا أن معظم هذه المنازل السافلة تزاول تلك الأعمال الشائنة منذ أكثر من عشرين سنة تحت بصر البوليس وسمعه.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أبدي شكري للحكومة المصرية الحاضرة؛ لأنها اهتمت بتلك القضية، ولم تدخر وسعا في محاكمة المتهمين الأصليين وإحالة الضباط الذين اشتركوا في تلك الفظائع وأهملوا في تطبيق القانون عمدا على مجلس التأديب، إذ كان تصرفهم سببا في ذيوع الدعارة في عاصمة الديار المصرية إلى درجة سريعة. لست أستطيع أن أتصور كيف أن الحكومات التي عهد إليها بالسهر على الأمن العام والأخلاق العامة؛ تسمح بوجود هذه المنازل العامة، في حين أن الأزمة الحاضرة التي نجتازها عقب فقد الملايين الكثيرة من الفتيان الذين سقطوا في ميدان الشرف أثناء الحرب الكبرى، تتطلب التشجيع على الزواج؛ لتكثير عدد السكان الذي تحول دون كثرته هذه المنازل، وإنا لنرجو أن تحتذي حكومات العالم كله ببريطانيا العظمى وسويسرا فتحظر وجود هذه المنازل.
وإني لأرجو المؤتمر أن يتناول تلك المسألة بعين الاعتبار، وأن يضعها في مقدمة المسائل، وأن يسعى السعي اللازم لدى الحكومات ليفوز بمحو تلك البؤر الخبيثة.
أما في مصر فإن وجود الامتيازات الأجنبية يحول دون تشريع يقضي بمحو هذه المنازل إذا كان أصحابها من الأجانب، ولذلك فإني أطلب إلى المؤتمر أن يتدخل لدى الحكومات صاحبات الامتياز وأن يطلب إلى الدول أن تسمح للحكومة المصرية بأن تغلق هذه المنازل.
وإني أختم كلمتي بأن أرجو المؤتمر أن يغضي عن صراحتي فيما لاحظت إذ كنت أكثر مما يجب، فإني معتمدة على الاعتقاد الجازم والنزاهة الصادقة اللتين تخالجان المؤتمر للسعي إلى غايته. لم أتردد في أن أصرح فيما صرحت، ولو أني الشرقية الوحيدة التي حظيت بالمثول في تلك الجمعية الموقرة، فأنا مصرية ومن بلد تحميها حضارتها وتدفعها عواطفها الإنسانية الجمة الفياضة دائما إلى أن تعنى بالصالح العام قبل صالحها الخاص. ولكم في ذلك المثل قناة السويس التي هي اليوم بالنسبة لمصر مصدر للشقاء. إني أعتقد أن عملا إنسانيا كالذي نسعى إليه هنا هو قضية، لا تفريق فيها بين الجنس والوطن.
وقد نشرت جريدة الأخبار هذا الخطاب كاملا بتاريخ 25 سبتمبر 1924 وقالت تعليقا عليه: «وقد حاز خطاب السيدة الجليلة استحسانا جما، وقوطعت بالتصفيق مرارا. وأرسلت جمعية الطلبة المصرية بباريس تلغرافا إلى عصمتها تشكر فيه لها جهودها لخير الوطن ولمصلحة البلاد.»
لجنة المقاطعة
عدت إلى مصر دون أن أجد أي تقدم وتطور في المسألة المصرية، وبخاصة فيما يتعلق بالسودان. كان الزعماء قد انشغلوا بمسائل تتعلق بأشخاصهم دون أن يعطوا كثير اهتمام لقضايا البلاد، وكانت الجماهير قد انقسمت إلى سعديين وعدليين؛ لدرجة أن الصحافة أخذت تسخر من هذه الأوضاع، وتعبر عن مدى اهتمام المرأة بقضية السودان وتطالب الزعماء بأن يهتموا إزاء ذلك بنهضة النساء وترقية المرأة.
وقد دعوت النساء المصريات إلى اجتماع في منزلي يوم الخميس 30 أكتوبر 1924. وقررنا في هذا الاجتماع ما يلي: (1)
الاحتجاج على الحكومة الإنجليزية بشأن تصرفها الأخير في المسألة المصرية وبالأخص مسألة السودان، وأن يبلغ هذا الاحتجاج إلى الحكومتين المصرية والإنجليزية. (2)
المقاطعة العامة لكل ما هو إنجليزي داخل مصر وخارجها، ومطالبة الحكومة المصرية بمشاركة الشعب في هذه المقاطعة، ويكون ذلك: (أ)
سحب الودائع والأموال التي لها في البنك الأهلي. (ب)
سحب مكتب الحكومة المعين في إنجلترا لمباشرة مشترياتها وإلحاقه أو نقله لمملكة أخرى. (ج)
منع سفر العمال المصريين إلى السودان واستدعاء الموجود منهم في عمل الخزانات هناك، ومن كان منهم مرتبطا بعقد لمدة معينة فيؤمر بالعودة عند انتهاء تلك المدة لكيلا تساعد مصر بأيدي أبنائها على إقامة تلك الخزانات التي في إتمامها خطر على مصالح مصر. (3)
طلب الإفراج عن جميع المقبوض عليهم في السودان بسبب الحوادث السياسية الأخيرة التي لا يعاقب عليها قانون العقوبات المصري، والعمل على عدم تنفيذ الأحكام الصادرة عليهم. (4)
فتح كلية الخرطوم وإعادة التدريس فيها. (5)
أن تطالب حكومة مصر بحقها في إدارة السودان حتى يتم لها الاختصاص بالسلطة بكل الوسائل، والأمة مستعدة لتأييدها فيها. (6)
طلب رفع الراية المصرية الحالية على جميع محلات الحكومة عسكرية كانت أو ملكية في جميع مديريات السودان. (7)
تشكيل لجنة من السيدات تسمى لجنة المقاطعة، وكذلك تشكيل لجنة أخرى من الرجال، تعمل كلتاهما لتنفيذ قرارات هذه الجمعية.
تحيتي للجنس اللطيف
وحتى تبدو أبعاد الصورة واضحة في ذلك الوقت، فإنني أسجل هنا تلك التحية التي وجهها الأستاذ فكري أباظة إلى الجنس اللطيف في شخصي وقد نشرت في جريدة «السياسة» في نوفمبر 1924.
يقول الأستاذ فكري أباظة:
سيدتي هدى شعراوي
أحييك ثم أهنئك: أما «التحية» فلجمالك الوطني، وجلالك القومي ، وأما «التهنئة» فلأن «دولة الرجال» في عالم الجهاد قد دالت وقامت على أنقاضها «دولة النساء».
كنت خصما «للجنس اللطيف» لما كان الجنس اللطيف لا يفكر إلا في الأزياء الجديدة والألوان العديدة، وأما اليوم وقد تظاهر للسودان قبل أن يتظاهر الرجال، وأما اليوم وقد احتج على بلاغ السودان قبل أن يحتج الرجال، وأما اليوم وقد استأنف الجهاد بعد الفشل، والرجال غرقى في بحار الفشل ... فقد حق علي أن أعتذر، وقد حق علي أن أستغفر وأن أتوب.
سيدتي ... كان الجنس اللطيف فيما مضى مختصا بتدبير المنزل في الداخل، وكان علينا نحن الرجال تدبير الأمر في الخارج. أما اليوم يا سيدتي فسنعكس الموقف.
اهتمي أنت وجنسك اللطيف بالسودان وبلاغ السودان وتصريحات ماكدونالد عن السودان وتحقيقات السودان ومحاكمات السودان ومظالم السودان وسجون السودان، اتركي لنا - نحن الرجال - «تدبير المنزل»، فعلينا «الغسيل» و«العجين» و«ترضيع الأطفال» و«مسح السلالم» و«توضيب الأولاد» و«تخزين السمن». وعلى العموم سندير المنزل ونحن جلوس «على الشلت» حتى إذا عاد الجنس اللطيف من جهاده مع العدو الغاصب، قابلناه «بالزغاريد» ووجد كل شيء على أحسن حال؟!
سيدتي هدى ... لا والله ما قصرنا ... وإنما نحن هذه الأيام مشغولون، عندنا أمام محكمة الجنايات قضايا اللواء والسياسة والكشكول، وعندنا في دوائر الحكومات تعيينات وترقيات لأولادنا وأحبابنا وأبنائنا، وتشفيات وانتقامات ورفتيات وإحالات لأعدائنا وأشباه أعدائنا، وعندنا «النادي السعدي» نسعى في إعداده وتأثيثه قبل انعقاد البرلمان.
والنادي السعدي مشغولية كبيرة: فأودة الاستقبال القطيفة المشجرة لا نجد للآن لها «بساطا» أو «سجادة عجمي» توافقها، وأودة «اللعب» لا يزال عليها نزال ونضال ... وأودة السكرتارية ينقصها ضرب الحيطان بالزيت ... والبوفيه لم ترد إليه الأصناف بعد من «اسكتلندا» و«ملقا» و«ألمانيا» ... ألسنا معذورين إذا تأخرنا قليلا في مسألة السودان وبلاغ السودان و«بلادي» السودان!
سيدتي هدى فتح «الوفد» باب الاكتتاب لضحايا السودان من نصف عام، فجمع حتى الآن مئة جنيه وكسورا، وفتح في الوقت نفسه باب الاكتتاب «لنادي سعد» فجمع في «لحظة» لنادي سعد ثمانية عشر ألفا من الجنيهات، ولو عملنا النسبة الحسابية لكانت النتيجة ما يأتي:
نادي سعد 1800 جنيه.
السودان 100 جنيه.
إذن النادي أهم من السودان 180 مرة؟!
إذن لن يهتم الوفد بالسودان حتى «ينتهي» نادي سعد!
وعندما «ينتهي» نادي سعد، يكون السودان قد انتهى ...
سيدتي هدى ... أحييك ثم أهنئك ... أما «التحية» فلجمالك الوطني، وجلالك القومي ... أما «التهنئة» فلأن «دولة الرجال» في عالم الجهاد قد دالت ... وقامت على أنقاضها «دولة النساء»!
فكري أباظة المحامي
الفصل الثامن والعشرون
كنت قد تحدثت عن الاجتماع الذي عقد في منزلي يوم 30 أكتوبر 1924 والذي اتخذت فيه السيدات عدة مرات قرارات هامة، من بينها قرار مقاطعة كل ما هو إنجليزي، وقد أكدنا هذا الموقف بأن أرسلنا إلى اللورد اللنبي صورة مترجمة باللغة الإنجليزية من هذه القرارات، في 10 نوفمبر 1924، وقد كتبت رسالة مع هذه القرارات، قلت فيها: أتشرف بأن أرسل لفخامتكم ترجمة إنجليزية للقرارات التي اتخذتها السيدات المصريات المجتمعات في منزلي، وترون فخامتكم أننا مدفوعون بكرامتنا الوطنية إلى اتخاذ هذه القرارات.
وقد أحدث موقف المرأة المصرية رد فعل عنيفا في الأوساط الشعبية؛ حيث تكونت لجنة المقاطعة، والتي أصدرت منشورات تحث فيها الجماهير على تنفيذ المقاطعة والاقتداء بموقف المرأة المصرية، لتحقيق المقاطعة الكاملة التي تعبر عن استياء الأمة وغضبها من موقف إنجلترا بالنسبة للسودان.
وكان من بين ما جاء في نداء لجنة المقاطعة ما يلي:
ها هو فريق من بنات الوطن قام يرفع صوته بالاحتجاج على تصرفات إنجلترا الضارة بحقوق الأمة والماسة بكرامتها.
فاجتمعت طائفة كبيرة منهن تربطها بكم صلة الوطن الذي مست كرامته، وقررت مقاطعة التجارة والصناعة الإنجليزية إعلانا لاستياء الأمة وغضبها.
وها قد شكلت لجنة منهن لتنفيذ ما أقرته جمعيتهن، وهي عاملة على اختيار لجنة من الرجال للتعاون بأفكاره ونفوذها على تعميم هذه المقاطعة بقدر المستطاع، ولا شك في أن السيدات اللاتي اعتزمن القيام بهذا الواجب لم يقدمن عليه إلا وهن معتمدات على أن هذا النداء يصادف من نفوسكم قبولا، ومن وطنيتكم تشجيعا.
أبناء مصر، ها أنتم أولاء قرأتم الكتاب الأبيض الإنجليزي ينعي إليكم فصل السودان عن مصر، ويقر لكم حكم الإعدام عليكم بهذا الفصل.
وها أنتم علمتم ما أصاب إخوانكم بالسودان من السجن والإرهاب والطرد، لا لذنب جنوه سوى إظهار شعورهم نحو مصر والتمسك بها.
وما أنتم إزاء هذه التصرفات إلا بين أمرين: فإما أن تستسلموا لحياة تعسة وذل أبدي، وإما أن تبرهنوا على إبائكم وأنفتكم.
ليس لكم سلاح تشهرون، ولا أسطول تخوضون به غمار البحار، ليس لكم حول ولا قوة أمام حولهم وقوتهم، ولكن لكم سلاح أمضى ومدفع أبعد مدى، ذلك هو الإضراب عن معونة الإنجليز في جميع الأعمال الاقتصادية والتجارية والصناعية، فلا تشتروا بضائعهم، ولا تستأجروا مزارعهم، ولا تؤجروهم منازلكم، ولا تودعوا نقودا في مصارفهم، وطنوا أنفسكم على ذلك غيرة على حياتكم وشرفكم.
إنهم يريدون التحكم في مواردنا، ومنهل إسعادنا، وإن شعبا يريد بكم ذلك احتقارا لشأنكم، لخليق بأن تقطعوا كل صلة معاملة بينكم وبينه.
نداء الأمة
كنت قد أرسلت برقية إلى سعد باشا زغلول بشأن موقف الحكومة المصرية من قضية اغتيال السير لي ستاك، وكانت الصحف قد نشرت نص هذه البرقية تحت عنوان «نصيحة رشيدة لم يأخذ بها سعد باشا»؛ حيث طلبت إليه فيها أن يرفض كل طلبات إنجلترا.
وفي يوم 23 نوفمبر 1924، وجهت كتابا مفتوحا، لصاحب الدولة سعد زغلول باشا، وقد نشرته الصحف أيضا، وهذا هو نص الكتاب المفتوح:
قبل أن نطلع على ردكم لطلبات إنجلترا التي وجهتها للحكومة المصرية لمناسبة الاعتداء على حياة السير لي ستاك باشا، بادرت عن لجنة المقاطعة بإرسال تلغراف لدولتكم بما رأته اللجنة أقرب لمصلحة مصر، وهو أن تجيبوا على تلك الطلبات برفضها جميعا؛ لأن ما هو معروف عن التقاليد الدولية في الإنذارات المماثلة لهذا الإنذار أن الدولة المطالبة تعتبر شرفها مرتبطا بنيل طلباتها الواردة بذلك الإنذار.
فما كان أشد دهشتنا عندما قرأنا عكس ما كنا نرجو صدوره من دولتكم وهو الرفض التام، وكنا أكثر استغرابا لقبولكم بعض الطلبات دون احتياط بتعليق هذا القبول على تنازل الدولة عن بقية طلباتها.
والآن وقد حم القضاء ووقعنا فيما كنا نخشاه؛ حيث أصدر المندوب السامي أمره لحكومة السودان بطرد الجيش المصري من الأقطار السودانية، وبالتصريح لتلك الجزيرة أن تزرع ما تشاء دون قيد ولا رعاية لمصلحة مصر، كما أعلن أيضا عزمه على التدخل في شئون مصر الداخلية بحجة حماية مصالح الأجانب، فكانت النتيجة؛ أولا: أنك رضيت إهانة مصر بقبولك تقديم الاعتذار عن تلك الجريمة، وذلك يعد اعترافا رسميا بإدانة حكومة مصر وشعبها فيها أمام حكومة أصرت على العداء رغم تلك الترضية الباهظة، وكانت النتيجة ثانيا: أنك جعلت النصف مليون جنيه حقا مشروعا لتلك الدولة دون عوض عنه.
وكانت النتيجة ثالثا: أنك حرمت على الشعب إظهار شعوره بالمظاهر العلنية مهما كانت سليمة، مخالفا في ذلك الدستور، ولم تق البلاد من خطر تنفيذ ما بقي من الطلبات التي رفضتها بعدم احتياطك.
يا دولة الرئيس ...
تمسكت بك البلاد، وعهدت إليك بالحكم رجاء أن تفي بما وعدتها من تحقيق استقلالها التام في مصر والسودان، وها أنت ترى أنه كلما طال العهد على ولايتك الحكم، بعدت الأمة عن نيل هذه المطالب، وها أنت ترى أن ختامها اليوم، ما وقع من فصل السودان وطرد المصريين منه وتدخل الإنجليز في شئون مصر الداخلية نفسها.
لذلك ألتمس منك ما دمت لم توفق وأنت في الحكم بتحقيق عهدك بعمل إيجابي، ألا تكون على الأقل حجرة عثرة في سبيل جهاد أمتك للتخلص من الحالة الحرجة التي وصلت إليها (لا أقول بسبب سياستك بل يكفي أن أقول أثناء حكمك)، وذلك بعمل سلبي هو التخلي عن الحكم، فلم يبق سبيل لإظهار استيائك واحتجاجك على هذه التعديات ومشاركتك لأمتك في آلامها إلا الرجوع إلى صفوفها في هذا الوقت العجيب.
هدى شعراوي
وفي يوم 24 نوفمبر 1924، أذاع سعد زغلول باشا في عنوان «نداء للأمة»:
إن الوزارة بعد أن اجتهدت في تسوية الحالة السيئة التي نشأت عن الجناية المنكرة الممقوتة ... وبعد أن أفرغت جهدها في وقاية البلاد من شرها بحسب ما أملته عليها مصلحة الأمة، رأت أن استمرارها في الحكم صعب عليها وربما يعرض الوطن لأخطار قد لا تحدث في تخليها.
فلهذا رأت أن تستقيل من منصبها، وتفضل جلالة الملك حفظه الله بقبول هذه الاستقالة، فترجو الأمة أن تتفهم هذه الحقيقة حق التفهم، وأن تدرك أنها في مصلحة البلاد، وألا تأتي بأي عمل يكون فيه تكدير للراحة أو تشويش للأفكار، والله يحفظها من شر الغايات، وإنني مستعد مع أصدقائي لتأييد أية وزارة تشتغل لمصلحة البلاد ونطلب لها كل توفيق.
سعد زغلول
إعلان الاستياء
وقد يعتقد بعض الناس أننا كنا ننظر إلى الأمور نظرة شخصية، ولكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة والواقع، فقد ظلت مصر على الدوام هي القضية وهي الهدف.
وحتى تبدو كل الأمور في نصابها، فإنني قبل أن أكتب الرسالة المفتوحة إلى سعد باشا زغلول، أصدرت بيانا أعبر فيه عن وجهة نظر لجنة المقاطعة من الأحداث الجارية، وقد نشرت الجرائد هذا البيان في 22 نوفمبر 1924، وقد جاء فيه:
اجتمعت لجنة المقاطعة للسيدات بمنزلنا اليوم، وقررت إعلان شديد استيائها لحادث الاعتداء الفظيع الذي وقع على صاحب المعالي السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري ... وهي تعتقد أن تحقيق آمال الأمة لنيل استقلالها أساسه البعد عن ارتكاب أي عمل تحرمه الشرائع سواء كان على الأشخاص أو الأموال كما جاء ذلك ضمن النداء الذي وجهته للأمة عقب تشكيلها.
واللجنة وهي تعلن هذا الأسف، تكرر الرجاء لأبناء الوطن على اختلاف طبقاتهم باجتناب كل عمل جنائي يسيء إلى سمعة مصر، ويكون من نتائجه الضرر على قضيتها الكبرى، وهي في الوقت نفسه تأمل أن تساعدها الجرائد الإنجليزية على تحقيق هذا الرجاء بتخفيف لهجتها عند الكلام على هذه الحادثة وعدم إلباسها ثوبا يشف عن غرض لا يتفق وما ترجوه مصر وإنجلترا من عدم زيادة الهوة ومن تقريب حسن التفاهم بين الشعبين.
الرئيسة
هدى شعراوي
ومن ناحية أخرى، فقد اهتمت لجنة المقاطعة بأن تعطي جهودها لخطوات إيجابية على هذا الطريق، واستطاعت أن تسهم في حل المشاكل التي كانت تعترض فكرة المقاطعة، ومن ذلك المنشور الذي أصدرته في 1924 بشأن مشكلة الفحم ، والذي جاء فيه:
اجتمعت لجنة المقاطعة يوم الجمعة 21 الجاري، وقررت لنجاح مشروعها أن تلجأ إلى وطنيتكم خدمة للقضية الكبرى، راجية قبول دعوتها بمقاطعة المتاجر والمصانع الإنجليزية.
ولما كان صنف الفحم من الحاجات الضرورية، وكان يخشى صعوبة الحصول عليه من غير الإنجليز، فقد وفقت اللجنة لمعاملة محل مصري هو «الكونتوار التجاري المصري» لاستيراد الفحم الألماني اللازم لوابورات الزراعة والري والمطابخ بسعر أنقص من الفحم الإنجليزي وأجود منه، وتجدون عليه «كارت» موضحا به اسم المحل المذكور ونمرة التليفون وهو مستعد لتلبية طلبكم بأول فرصة.
الحقوق المقدسة
ويتجلى معنى الإخلاص للوطن وللقضية المصرية في تلك الجهود التي بذلت من أجل جمع الأمة على كلمة واحدة في مواجهة ما يبيت لها بليل، وبخاصة بالنسبة لقضية السودان، وقد حاولنا أن نلفت الأنظار إلى ضرورة أن تقف الأحزاب صفا واحدا «في أشد الأوقات خطرا واحتياجا للمؤازرة والتضحية».
وقد قلت في منشور صدر بتاريخ ديسمبر 1924:
ولا يسعني إزاء تلك الحالة المحزنة ونحن على أبواب انتخاب جديد إلا أن أنصح لإخواني المصريين جميعا أن يتحققوا قبل كل شيء من كفاءة من ينتخبونه وإخلاصه، جاعلين مصلحة الوطن فوق كل اعتبار؛ حتى لا نقع في مثل ما وقعنا فيه بالأمس، وحتى لا يجد الغاصب منفذا لأغراضه من طريق مشروع يسجل علينا الرق والعبودية أبد الآبدين.
وبعد أن استفحل الشقاق بين الأحزاب الوطنية، قلت في منشور في 28 ديسمبر 1924:
أبناء وطني الأعزاء ...
لقد رأيتم رغم الجهود التي بذلتموها في سبيل الاتحاد بين الأحزاب أن تلك المساعي أخفقت وفشلت وبقي حزب منها بمعزل عن الحزبين الآخرين لتشبث رئيسه، مع أن الحالة الدقيقة التي تجتازها القضية المصرية الآن كانت تحتم على كل فرد من المصريين أن يتكاتف مع أخيه ويعاضده، وأن يترك كل اعتبار شخصي إزاء تلك الحالة الحرجة، ليكونوا قوة كبيرة أمام العدو الذي لا يألو جهدا في استغلال هذا الخلاف، ليصل إلى تحقيق مطامعه الاستعمارية.
واليوم نحن أمام انتخاب جديد، أمام أمر واقع يجب البت فيه بشجاعة وإخلاص ونزاهة، ذلك الأمر الواقع هو المذكرة الإنجليزية التي تسجل علينا الموت الأبدي، إذا نحن أقررناها وسلمنا بها.
وقد تقدم الحزب الوطني وحزب الأحرار الدستوريين للانتخاب، ومع كل منهما برنامج هو مسئول عن التمسك به أمام ناخبيه.
أما الحزب السعدي، فلم يعلن إلى الآن برنامجا يرتبط به أمام الأمة، مع أن الحالة الراهنة تتطلب صراحة ولا تحتمل غموضا أو مغالاة في الثقة لما في ذلك من الخطر.
فإذا تقدم الحزب السعدي للانتخاب (وسيتقدم طبعا)، فواجب عليكم أن تطلبوا منه قبل كل شيء إعلان برنامجه، ليكون حجة عليه أمام ناخبيه، وهذه سنة متبعة في جميع الأمم المتمدينة، فإذا طلبتم ذلك فلم تطلبوا بدعة وإنما تطلبون حقا لكم يجب أن يؤدى إليكم، وبذلك تبرهنون للعالم أننا لا ننقاد انقياد الأعمى لإنسان مهما كانت قيمته ومكانته بين الأمة - وإنما ننقاد للمبادئ الحقة.
هذه نصيحتي أسديها إليكم بإخلاص غير متحيزة لفريق دون آخر، وغير واضعة نصب عيني إلا حقوق البلاد المقدسة.
هدى شعراوي
الفصل التاسع والعشرون
اهتمت المرأة المصرية منذ عام 1924 بأن تعبر عن وجودها وكيانها في قلب الحياة العامة بما يتناسب مع التطورات التي حدثت في الدول المتقدمة، ولقد دخلت المرأة المصرية هذه الحياة من أفضل الأبواب وأشرفها، وهو باب النضال الوطني من أجل الحرية والاستقلال منذ اندلعت الشرارة الأولى لثورة 1919، وكان من الطبيعي بعد أن عبرت عن صوت المرأة المصرية الجديدة في المحافل الدولية ابتداء من مؤتمر روما حتى المؤتمر الدولي السادس الذي عقد في مدينة جراتس بالنمسا، أن يكون الاهتمام منصبا على تطوير صورة الحياة العامة؛ بحيث تكون هناك مشاركة إيجابية وفعالة للمرأة في هذه الحياة.
ولتحقيق هذه الأهداف، عقدت لجنة الوفد المركزية للسيدات وجمعية الاتحاد النسائي المصري عدة اجتماعات برئاستي لمناقشة مطالب المرأة، وقد انتهينا إلى تصور شامل وعام لهذه المطالب، وأصدرناها في كتيب صغير في عام 1924، وقد وجهنا هذه المطالب إلى رئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب والصحافة والرأي العام، ولذلك حرصنا على أن يصل هذا الكتيب إلى أكبر عدد من المواطنين والمواطنات. وقد جاء فيه:
حضرة صاحب المعالي رئيس مجلس الشيوخ
إلى الصحافة.
إلى الرأي العام.
الآن وقد تولى التشريع في مصر رجال مختارون يمثلون إرادة الأمة، يحق لنا نحن السيدات أن نطالبهم بالسير بأمتنا المصرية إلى مصاف الأمم الدستورية المتحضرة.
ولما كانت المرأة المصرية هي نصف مجموع الأمة ومربية الجيل القابل رجالا ونساء، شعبا ونوابا، ولما كان هذا النصف قد حرم الاشتراك في وضع الدستور وفي الانتخابات وفي النيابة ومنع كذلك من البت في مصير البلاد، رأت لجنة الوفد المركزية التي مثلت نساء القطر منذ ثورة سنة 1919 منضمة إليها جمعية الاتحاد النسائي المصري التي قامت بكثير من الأعمال الاجتماعية والنسوية لصالح هذا البلد، أن تدلي إلى الأمة بآرائها ومطالبها بالنيابة عن نساء هذا القطر في الأمور السياسية والنسوية والاجتماعية، راجية أن يفحصها المحترمون بأقصى ما تستحق من همة وعناية وما يؤمل فيهم من شجاعة ووطنية.
وستسعى اللجنة من جهتها لتحقيق هذه المطالب بكل الوسائل المشروعة.
على أننا لا نجهل أن هذه الإصلاحات كثيرة متنوعة. تستلزم مجهودات هائلة ونفقات عظيمة، غير أنا نلفت النظر إليها حتى تدرس من الآن ويبت فيها ثم تنفذ على قاعدة تفضيل الأهم على المهم، وعندنا أن أهم ما يعنينا بعد المحافظة على كيان القطر وسلامته واستقلاله هي أمور التعليم والصحة.
ونرجو من الجرائد والرأي العام السهر على درس هذه المسائل وتشجيع الحكومة والبرلمان حتى يكون المجهود مضاعفا، فتبنى الأمة جميعها على أساس الاستقلال الحقيقي.
القسم السياسي (1)
الاستقلال التام لمصر والسودان. (2)
التمسك بحياد قنال السويس حسبما تحدده الفرمانات والمعاهدات، على أن يوكل لمصر المحافظة على هذا الحياد كما كانت الحال قبل الاحتلال. (3)
عدم التقيد بتصرفات إنجلترا في الأراضي المصرية سواء بالنسبة لنفسها أو للدول، وكذلك عدم التقيد بالاتفاقات التي سبقت دون أن تقرها الأمة وبخاصة اتفاقية السودان وتصرفات إنجلترا فيه وتصريح 28 فبراير وما ينبني عليه من القوانين والإجراءات. (4)
عدم الاعتراف بما ورد في معاهدة لوزان سنة 1923 من تحميل الخزانة المصرية قسما من ديون تركيا القديمة، فإن سيادة تركيا على مصر زالت وليس لها عليها حق ما. (5)
الامتيازات الأجنبية تحل حلا وديا بين حكومة مصر المستقلة (المطلقة التصرف) من جهة وبين الدول ذوات الشأن من جهة أخرى. (6)
إذا رأت الأمة وجوب الدخول في مفاوضة مع إنجلترا لاسترداد حقها المغتصب، فليكن بشرط أن تصرح الهيئة المنتخبة لإجراء المفاوضة بقاعدة صريحة، وبشرط أن تقبل إنجلترا مبدئيا هذه القاعدة حتى تكون المفاوضة مثمرة، ولا تفشل كما حصل مرتين.
تعديل الدستور (1)
النص على أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر مع تعديل سائر المواد التي يقتضيها هذا النص، وتسوية الحالة بالنسبة لقروض إنجلترا في السودان تسوية ضمن سيادة مصر في بقاعها حتى لا تكون لإنجلترا مصالح خاصة هناك، كأن تنتقل ديون السودان إلى مصر، وتسلم الخزانات لمصر أو توقف أعمالها حتى تباشرها لجنة فنية مصرية أو غير ذلك مما يراه المختصون، وإعادة النظر بما يتفق وسلطة الأمة وسيادتها في المواد المتعلقة بالأحكام العرفية: حرية الصحافة، حرية الاجتماع، التعيين في مجلس الشيوخ، التشريع في غياب البرلمان، تعيين الضباط وعزلهم، صيغة يمين الملك (أن يقسم يمين الأمانة للملك الدستوري)، استجواب الوزراء، وغير ذلك مما يرى تعديله. (2)
تعديل قوانين الانتخاب بما يلائم لوائح البلاد المتمدينة لا سيما جعل الانتخاب درجة واحدة. (3)
إلغاء القوانين الاستثنائية والرجعية وتعديلها: (أ)
سواء ما صدر منها قبل الحرب: قانون المطبوعات، إحالة الصحفيين على محكمة الجنايات، قانون التجمهر، النفي الإداري، المحاكم المخصوصة. (ب)
أو ما صدر منها بعد الحرب: قانون الأحكام العرفية، قانون الاجتماعات. (ج)
مراجعة التعديلات التي أدخلت على قانون العقوبات بشكل يتلاءم وروح العصر. (د)
استدراك ما عسى يمكن استدراكه من قانون التضمنيات. (4)
الدفاع: (أ)
وضع أساس شامل للبدء في تنظيم الجيش والبحرية والطيران بقدر ما تقتضيه سلامة البلاد. (ب)
تنظيم وسائل النقل والمواصلات البرية والنهرية والجوية والتلغرافية والتليفونية، وتوزيع الإرساليات المصرية على هذه الأسلحة إلى أقصى حد تسمح به الميزانية من كل عام. (ج)
التدرج في إلقاء مقاليد هذه الأمور إلى أيد مصرية عند نهاية مادة محدودة.
القسم الاجتماعي (1)
المبادرة في تنفيذ حكم الدستور الخاص بنشر التعليم الابتدائي في جميع أنحاء القطر بصفة إلزامية. (2)
إدخال التعليم الديني والخلقي في عموم المدارس. (3)
الإكثار من البعثات العلمية وخصها بالعناية التي هي في أشد الحاجة إليها الآن وانتقاء المشرفين عليها من رجال التعليم الوطنيين الأكفاء. (4)
جعل التعليم الثانوي والعالي غير مقيد بأية سن، مساعدة على نشر العلم. (5)
إدخال القواعد الأولية من علم الصحة ومبادئ القانون العام، وحبذا لو أدخل أيضا فن الموسيقى لما له من الأثر في تهذيب النفوس. (6)
التعجيل في إنشاء الجامعة وإنشاء لجنة لترجمة النفيس من المؤلفات الأجنبية الحديثة إلى اللغة العربية؛ لأن هذا هو السبيل الوحيد لاستقلال التعليم باللغة العربية. (7)
سن الأنظمة المشجعة للصناعات الوطنية.
والأهم من ذلك:
تعديل أنظمة الجمارك حتى تكون واقية لحماية المصنوعات الوطنية من مزاحمة المصنوعات الأجنبية ولا سيما الكمالي منها.
تشجيع مجال الصناعة بإقراضها النقود ما دامت مضمونة السداد.
الحث على إقامة مصانع متنوعة وتنظيم الأسواق في الداخل والخارج لعرض بضائعها وتصريفها.
وضع حد لإعطاء الامتيازات التجارية للأجانب ووقوفها عند حد الضروري منها. (8)
إصدار القوانين اللازمة لمحاربة المسكرات صيانة للأخلاق وحفظا للنسل. (9)
العمل على تعميم المستشفيات في جميع مراكز القطر ولا سيما مستشفيات الأمراض المعدية والسرية وأمراض البلهارسيا والانكلوستوما والعمل على تقليل أضرارها إن لم يمكن إبادتها. (10)
إقامة الملاجئ للشيوخ والعجزة وأبناء السبيل منعا للتسول. (11)
إصدار قوانين تلزم الآباء مسئولية العناية بأطفالهم إلى سن الرشد، ومنعهم من التسول أو انتهاك حرمات الآداب العمومية. (12)
تنظيم السجون بحيث تكون كمدرسة يدخلها المجرم ويخرج منها صالحا للعمل النافع بعيدا عن الإجرام، كما يجب أن يميز المسجونون السياسيون بمعاملة خاصة. (13)
محاربة البدع والخرافات التي تتعارض مع العلم الصحيح وذلك بأن: (أ)
يضرب على أيدي الدجالين. (ب)
عدم إعطاء رخص لإقامة الزار. (ج)
إنشاء مصحات لأطفال الفقراء يقصدها الضعفاء والناقهون لاسترداد قواهم، وتكون صيفا في جهة مناسبة كالإسكندرية أو بور سعيد، وفي الشتاء في جهة كالأقصر أو حلوان. (د)
إنشاء بساتين داخل المدن الأهلية مع إيجاد ملاحظات وطنيات أو أجنبيات عند الضرورة، لمراقبة أطفال الفقيرات اللاتي يذهبن للتكسب، بينما يكون أطفالهن يلعبون في هذه الحدائق النظيفة الهادئة تحت مراقبة هؤلاء المربيات. (ه)
سن قانون يحمي اليد العاملة من استبداد الرأسماليين. (و)
تعميم النقابات الزراعية في أنحاء القطر. (ز)
إدخال زراعات أخرى خلاف القطن حتى لا تعتمد ثروة البلد على محصول واحد.
القسم النسوي
لا حاجة للتدليل على أن أعمال النساء اللاتي هن نصف مجموع الأمة تمثل حركة تقدمها جميعا، ولا حاجة للاستشهاد بالتاريخ في مواطن عدة على أن رقي الأمم مرتبط طردا وعكسا برقي النساء فيها، فنحن إذا طالبنا بإصلاح النساء خاصة، فلسنا نؤثر أنفسنا على غيرنا من عناصر الأمة، ولكننا نعرف أن في إصلاح المرأة إصلاح المجموع.
ولا ريب أن خير وجوه الإصلاح العلم والتهذيب؛ لأنهما العامل الحقيقي في إعداد كل فرد للقيام بواجبه على الوجه الأكمل؛ مما ينهض بالبلاد نهوضا حقيقيا.
ولما كان الدين الإسلامي يأمر بتسوية الجنسين في أمور شتى (لا شك في أن التعليم أحدها) فلهذه الأسباب نلح على الحكومة والبرلمان والصحافة وطلاب الإصلاح الحقيقي أن يؤازرونا في هذا الباب الذي هو أولى الإصلاحات بالبدء.
ولا يمنعنا صرف همنا إلى التعليم من المطالبة بحقوق المرأة المهضومة، ولسنا بذلك نطلب بدعة، ولكنا نطالب بالحقوق التي اعترف لنا بها الدين والحق: (1)
مساواة الجنسين في التعليم وفتح أبواب التعليم العالي وامتحاناته لمن يهمها ذلك من الفتيات؛ تشجيعا لنبوغ من لها مواهب خاصة. (ولا يفوتنا ذكر مدام كوري مكتشفة الراديوم استشهادا على نبوغ المرأة)، وتسهيلا للتكسب لمن تحتاج منهن، ورفعا لمستوى العقلية العامة في البلاد. (2)
الإكثار من المدارس الثانوية للبنات، ويبدأ بعواصم المديريات ثم بالمراكز وهكذا. (3)
فصل إدارة تعليم البنات عن تعليم البنين (كما فصلت مراقبة التعليم الابتدائي عن التعليم الأولي على ما بينهما من الشبه). (4)
إحلال الخبيرات بشئون التعليم من النساء محل الرجال في كل فروع التعليم النسوي ومراقبته تدريجيا؛ بحيث لا يبقى فيها أحد من الرجال في نهاية مدة معينة، لأنهن أدرى بحاجة الفتاة وأكثر عناية بالسهر عليها . (5)
تعديل قانون الانتخابات بإشراك النساء مع الرجال في حق الانتخاب ولو بقيود في الدور القادم، كاشتراط التعليم، أو دفعها نصابا معينا على ما لها من الملك.
ولا يكون من الإنصاف الاعتراض على إشراك هذه الطبقة من النساء ولا سيما أن قانون الانتخابات يجعل للرجل الأمي والخالي من الملك حقا في أن ينتخب وينتخب.
وليس من المعقول ولا من العدل وأغلبية الرجال كذلك أن تحرم المرأة مع الشروط المتقدمة من المساواة بمثل هذا الجمهور من الرجال، كما أنه ليس من العدل أن تخضع النساء للتشريع ويتجرعن آثاره وهن نصف الهيئة الاجتماعية دون أن يكون لهن رأي في وضعه. (6)
إصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية وجعلها منطبقة على ما أرادته روح الدين من الأسر وإحكام الرابطة العائلية وذلك بأن: (أ)
يسن قانون يمنع تعدد الزوجات إلا لضرورة، كأن تكون الزوجة عقيما أو مريضة بمرض يمنعها من أداء وظيفتها الزوجية، وفي هذه الحالات يجب أن يثبت ذلك الطبيب الشرعي. (ب)
سن قانون يلزم المطلق إلا يطلق زوجه إلا أمام القاضي الشرعي، والقاضي عليه معالجة التوفيق بحضور حكم من أهله وحكم من أهلها قبل الحكم بالطلاق طبقا لنص الشرع الشريف. (ج)
العمل مع الدول الأجنبية على نيل رضاها، باعتبارها الأحكام الشرعية التي تصدر بالنفقة واجبة التنفيذ أينما وجد المحكوم عليه ولو في أرض أجنبية.
الفصل الثلاثون
حل البرلمان في عهد وزارة زيوار باشا عام 1925 بسبب المشاحنات الحزبية التي كانت قائمة بين أفراد الأمة لانشقاقها الحزبي وتباين نزعاتها وألوانها، وكانت الحكومة إذ ذاك تحت إيعاز الإنجليز تحاول هدم الوفد والأحزاب الأخرى، وتكون حزبا جديدا يسمى حزب الاتحاد. في ذلك الوقت قام كبار المصريين وفي مقدمتهم الأمير عمر طوسون يدعون إلى الاتحاد، وقد سعى لذلك عند سعيد باشا، ولكنه لم يقبل المسعى نظرا لتمسكه بفكرة أن خصومه هم الذين يجب عليهم أن يعتذروا له وأن يطلبوا الانضمام إلى الوفد ...
وقد رأيت من جانبي أن أشارك في هذا المسعى، فقمت أولا بجس نبض الأحرار الدستوريين لأعرف إن كانوا حقيقة يميلون إلى الائتلاف، ولديهم استعداد للتضحية في سبيل الوصول إليه، فوجدت من جانبهم ميلا لذلك، وكان أن قفزت فوق عواطفي وكرامتي رغم كل ما فعله السعديون ضدي وكتبت إلى سعد باشا الكتاب التالي يوم 3 أبريل 1925:
حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا
دفعني إلى أن أبعث بهذا الكتاب إلى دولتكم ما رأيته من أن حقوق البلاد سائرة في سبيل الضياع، وأن هذا إنما هو نتيجة التمادي في المشاحنات الحزبية، واعتقادي أن الحالة إذا استمرت كذلك، فإن نصيب القضية المصرية لن يكون إلا الخسران.
وإني بالرغم من الجفاء السياسي الذي بيني وبينكم، وبالرغم أيضا من المجهودات العظيمة التي بذلت سدى في سبيل الاتحاد، لا أزال عظيمة الرجاء في أن إخلاصكم لنجاح هذه القضية يجعلكم تدوسون على كل اعتبار، توصلا لإنقاذ البلاد من الحالة السيئة التي وصلت إليها، ولا أشك في أنكم ستقدرون حرج المركز الذي نحن فيه الآن.
لذلك عملت على أن أتشرف بمقابلتكم إذا سمحتم للتفاهم معكم فيما يجب لتدارك الخطر، فإذا رأيتم التفضل بتشريفي في منزلي، شكرت لدولتكم هذا الفضل، وإن أبيتم إلا حرماني من ذلك التفضيل، فإني مستعدة للقائكم في الزمان والمكان اللذين تحددونهما.
هدى شعراوي
وقد رد دولته في اليوم التالي، أي يوم 4 أبريل 1925 بالكتاب التالي:
حضرة السيدة الجليلة هدى شعراوي
تشرفت بكتابكم الكريم، وأشعر القصد الجميل الذي دعاكم إلى كتابته، ويسرني أن أقابلكم عندي في اليوم الذي تختارونه صباحا من الساعة العاشرة أو مساء من الساعة الخامسة. ولحضرتكم فائق احترامي.
سعد زغلول
وفي حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم 5 إبريل، طلبت منزل سعد باشا تليفونيا، فرد خادمه بغلظة: من يريد محادثة الرئيس؟ قلت: منزل شعراوي باشا. قال: ولكن من أنت؟ قلت: أبلغ الباشا ذلك وهو يفهم. قال: هو لا يعرف ولا يكلم من لا يبوح باسمه، فقولي من أنت وماذا تريدين، أو انتظري إلى أن يحضر السكرتير في الساعة العاشرة.
اللقاء العاصف
وفي حوالي الحادية عشرة كلفت سكرتيري أن يطلب سكرتير سعد باشا الخاص، وذهب ليطلب المقابلة، ثم عاد ليقول: لتتفضل السيدة، فذهبت على الفور ... وعندما وصلت استقبلني الخادم على باب الحريم، وفتح لي، وكانت خادمة إفرنجية تنتظرني من جهة الباب الثانية من الداخل، فمشت أمامي إلى الصالون، وبعد أن استقر بي المقام، قالت لي بصوت مضطرب: «سيدي يعتذر لمرضه عن النزول، فإذا كنت تنوين مقابلته ولا يصعب عليك الصعود إلى الطابق الأعلى فتفضلي لمقابلته.» فقلت لها: «أستطيع الصعود ... فقط أخبريه بحضوري»، فذهبت وعادت بعد قليل تدعوني للصعود ... وعندما دخلت، وجدت سعد باشا جالسا على كرسي بمسندين، ولما رآني هم قائما ببطء وقال: «اعذريني إذا كنت قد كلفت خاطرك وأتعبتك بالصعود للدور العلوي، ولكنني أشعر بتعب في صدري إثر النزلة الشعبية التي اعترتني في الشتاء المنصرم، كنت قد تحسنت في مينا هاوس إلا أن المرض عاودني من مدة، فلم أخرج منذ أربعة أيام تقريبا.» فقلت له: «لا بأس عليك يا دولة الباشا.» وسألني عن صحتي وعن أولادي، فشكرته. وبعد ذلك سكت. قلت له: «يا دولة الباشا أوضحت لكم في كتابي السبب الباعث لطلبي هذه المقابلة، وبالرغم من أني لم أجد في ردكم ما يشجعني على الحضور، إلا أنني أتيت لأتبين ما إذا كنت مخطئة في ظني أو كنت محقة.» فقال: «ألم أشكرك في جوابي على القصد الجميل الذي دعاك إلى كتابته؟» قلت: «نعم. إن هذا ما تستوجبه المجاملة، ولكنه لا يفيد بأنكم توافقون على هذا المسعى.»
قال: «هذا شيء آخر يجب أن نتناقش فيه» ... قلت: «قبل المناقشة، أريد أن أعرف إذا كنتم توافقون مبدئيا على الغرض الذي أتيت من أجله» ... قال: «يجب أن نتناقش أولا» ... قلت: «الموضوع واضح، فإما أنك تشعر مثلي بأن الحالة السيئة التي نحن فيها الآن تحتم الاتحاد ... وإما أنك لا تشاركني هذا الرأي، وفي هذه الحالة لا فائدة من المناقشة» ... قال: «سبحان الله، كيف دون مناقشة يمكنني أن أقول شيئا؟ من يكره الاتحاد؟ لا أحد يميل للاتحاد مثلي، ولكني أريد أن أعرف مع من سيكون هذا الاتحاد؟ وعلى أي قاعدة ولأي غرض ؟» قلت: «أما السؤال الأول، فالاتحاد يكون مع خصومك، وعلى القاعدة التي تضعونها بعد التفاهم ... وأما الغرض فهو واضح كالشمس ... إخراج البلد من المأزق الذي هي فيه الآن بسبب الانقسام، ومنعها من السقوط في الهوة السحيقة التي ستسقط فيها إن لم تتحد الأحزاب وتعمل كلها يدا واحدة لمقاومة عدو الجميع ... العدو الخارجي.» قال: «أتريدين أن أتحد مع من هدموا الدستور؟» قلت: «ومن هدم الدستور؟ كيف يكون وراءك أربعة عشر مليونا من الأنفس ثم يأتي زيوار باشا إلى البرلمان بمفرده ويخرجه منه ثم لماذا لم تقل له عندما طلب منك الخروج وقفل مجلس النواب ما قلته عندما طلب الإنجليز نفيك ... أنا هنا بقوة الأمة ولا أخرج إلا برغبتها؟» قال متأثرا: «لم يكن هناك وقت للتفكير» ... قلت: «سبحان الله. هل في مثل هذه الظروف ينطق القلب أم العقل؟ كان يجب أن تخرج هذه الكلمة من قلبك، فالوطنية الصادقة تنطق بما يوافق الظروف.»
لماذا تحاسبينني وحدي؟
فأطرق ساكنا ثم رفع رأسه وقال: «لماذا تؤاخذينني على كل ذنب ولا تفعلي ذلك مع غيري؟» قلت: «غيرك مسئول عن نفسه ولا تؤيده الأمة ... فإذا أخطأ فلنفسه، أما أنت فتتكلم عن أربعة عشر مليونا، فإن أخطأت، أخطأت الأمة معك ... ولذلك أحاسبك على كل ما تفعل.» فقال: «ومن أنت؟ ومن تكونين حتى تعطي لنفسك هذا الحق؟» قلت: «أنا مصرية واحدة من الأربعة عشر مليونا الذين تتكلم بلسانهم، ولذلك أجد لنفسي الحق في أن أحاسبك على ما تفعل، وفضلا عن ذلك فإنك لا يمكنك أن تنكر من أنا، ولا ما قمت به من خدمات لوطني، ولا ما لبيتي وأسرتي من الفضل والمساهمة في هذه القضية.» قال: «هل نسيت كل ما فعلته في؟» ... قلت: «ليس هذا مجال عتاب.» قال: «لا بل يجب أن نتعاتب، أتظنين أنه كان من السهل علي أن أوافق على مقابلتك بعد كل ما فعلت بي؟» فأجبته على الفور: «كنت أظن أنك ستفرح وتفخر اليوم بأني نسيت كل أعمالك وأني دست على كرامتي بعد ما فعلته صحفك في ، وكنت أظن أنك ستقدر وطنيتي هذه وتعرف أن ما دفعني إلى ذلك هو حبي لوطني وثقتي بأنك ركن متين في بناء النهضة، فلما رأيت كل المعاول تعمل لهدمك، جئت لأقدم لك مساعدتي ناسية كل شيء ... وما دمت لم تقدر هذا كله ... فنهارك سعيد.»
إذن فالمسألة شخصية
وقمت خارجة، فقام خلفي، وأمسك بيدي وقال: «أعذريني ... لقد تعديت حدود اللياقة، فلا تغضبي»، وأجبرني على الدخول ثانية والجلوس واستئناف المناقشة بعد عتاب تناول بعض الموضوعات الشخصية، مثل عدم سؤالي عنه وهو مريض ... فأعطيته الحق فيما هو محق فيه، وأعطيت نفسي الحق فيما لا حق له فيه، وعند استئناف الحديث قال: «من يقول إن سعدا يكره الاتحاد؟ ألست أنا الذي بذلت كل جهدي لكي أمنع الانقسام والخلاف وأنا في أوروبا؟ ثم بعد أن عدت إلى مصر، ألم أذهب بنفسي لزيارة خصومي في بيوتهم؟ (ويقصد بذلك زوجي) واجتهدت أن ألم شعثهم.»
قلت: «هذا صحيح، ولكنك بعد ذلك قمت فورا تنشر الانقسام، هل نسيت خطبتك التي ألقيتها في شبرا وغيرها؟ لماذا لم تترك عدلي يسافر؟ وما الذي صنعه عدلي؟ إنه لم يفرط في شيء، بل رفض مشروع كيرزون ورجع مرفوع الرأس موفور الكرامة، فهل كان يستحق المقابلة التي قوبل بها ولا سيما بعد أن أذن له الإنجليز بمبلغ 300 جنيه شهريا؟» قلت: «لهذه المناسبة، هل لك أن تقول لي ما هي الخيانة التي ارتكبها ثروت حتى اقتنع بأنه خائن؟ وهل لك أن تبرز ما عندك من الأدلة على خيانته، فقد داخلني في الرجل الشك وقتا ما لما رميته بالخيانة، وكنت أنتظر منك عند تسلمك مقاليد الحكم بعده أن تقيم الأدلة على خيانته.» قال: «نعم ... كيف لم يرتكب أكبر خيانة؟ إنه انتهك حرمة منزلي في غيابي وأمر بتفتيش أشياء من زوجتي.» وهنا لم أتمكن من منع نفسي من مقاطعته قائلة: «هل هذا كل ما اقترفه ثروت؟ إذن فالمسألة شخصية لا تمس حقوق البلد في شيء ... وإن كنت ترى في عمل ثروت هذا خيانته للبلد، فاسمح لي أن أخلفك في هذا التقدير»، فرد بحدة قائلا: «لماذا تقاطعينني ... دعيني أتكلم كيف ترين هذا قليلا وقد أقدم عليه موعزا من الإنجليز؟» قلت: «وما الذي يثبت لك ذلك؟ هل وجدت عندما وليت الحكم وتسلمت أوراق الوزارة ما يثبت هذا الظن؟» قال: مرة ثانية: «ألم تقرئي الكتاب الأبيض؟» قلت: «وماذا يقول ذلك الكتاب الأبيض؟» قال: «إذا كنت لم تقرئيه، فكيف تقولين إنك تشتغلين بالسياسة؟» قلت: «لقد قرأته، ولكن لم أجد فيه شيئا مما تقول.» قال: «ألم تقرئي في الفقرة التي كتبت فيه لمناسبة قفل بيت الأمة والاعتداء على أشياء زوجتي بتفتيشها أن بعض رجال الدوائر الحكومية قد ارتاحوا لهذا العمل؟» قلت: «وهل هذا دليل أن ثروت كان ذلك المرتاح؟ ربما كان غيره. ولو فرضنا أنه ارتاح لهذا العمل، فله بعض العذر، فثروت ليس ملاكا يتغاضى عن كل المساوئ ولقد أسأت إليه كثيرا، فهو إنسان وعنده نفس، إذن فله العذر إن كان قد تشفى فيك، إن خصومك يا سعد خونة كانوا أو غير خونة، أنكرتهم أم لم تنكرهم، هم موجودون ولهم حيثية ولهم أولاد وأصهار وأنساب وأحساب وأتباع، ولهم في البلاد مصالح، وهم من كبار البلاد وذوي العقول الناضجة فيها، فلا يمكنك أن تبيدهم عن آخرهم، إذا رأيت في ذلك تطهيرا للبلد منهم ووقاية لها من شرهم، ولكن إذا أردت ذلك، فلا يكون إلا عن طريق واحد وهو تحويل هذه العقول وتلك الهمم إلى ما فيه صالح الوطن وخيره وإزالة الخلاف الذي بينكم، وبذلك تنتفع البلد بالتفافهم حولك بدلا من أن تخسر كما هو جار الآن من جراء انشقاقكم. ولا يمكن أن يكون هذا صعبا عليك أنت الذي أمكنك أن تجتذب قلوب الأربعة عشر مليونا من المصريين، تضللهم إذا شئت وتهديهم بإشارة منك». قال: «أتريدين أن أتحد مع عبد العزيز فهمي الذي قال: إن الشعب المصري غبي وجاهل؟ هل أعجبك منه هذا القول؟» قلت: «لا، أنا لم تعجبني بعض تصريحاته وما كان يليق به وهو وزير أن يتفوه بتلك التصريحات يجاهر بجهل المصري حتى ولو كان ذلك صحيحا.» فقال بلهجة خطابية: «هل الأمة المصرية غبية؛ لأنها جاهلة؟ لا. وأنا أفضل الجاهل المخلص على المتعلم.»
قلت: «كيف تفضل الجاهل على المتعلم العاقل؟ ... وهل يقود الأمم إلا نخبتها أم تقودها العامة والجهلة؟ إن الأمة التي تخضع للعامة تسودها الفوضى».
فقال: «إن الشعب الذي يقوم كما قام الشعب المصري لهو جدير بكل تبجيل، وإنه لشعب نبيل.» قلت: «نعم، ولكنه لم يقم من تلقاء نفسه ... وأنت مثلي تعلم كيف هب ومن الذين ساعدوه على هذا القيام ... وما هم إلا هؤلاء الرجال الذين تسميهم خصومك ... وحرام يا سعد أن تحرم الأمة الانتفاع بهذه العقول النيرة وتلك الكفاءات.» قال: «ولماذا لا ينضمون إلى الوفد؟» قلت: «كيف ينضمون للوفد وليس للوفد برنامج ولهم برنامجهم؟» قال: «كيف؟ ... لنا برنامج.» قلت: «وأين برنامجكم؟» قال: «ألا تعرفين أن برنامجنا هو الوصول إلى الاستقلال التام لمصر والسودان؟» قلت: «هذه غاية الجميع، وهم وضعوا لتحقيقها برنامجا يوضح طريقة الوصول إلى ذلك الاستقلال. لذلك نريد أن تتحدوا لتتفقوا على تنفيذ هذه الوصية.»
قال: «إذن فليأتوا إلي ليعتذروا أولا، ثم بعد ذلك نتباحث.» قلت: «لا يمكنني أن أطلب منهم ذلك بعد كل الشتائم والتهم التي وجهتها إليهم؛ لأن لكل واحد كرامته وعزة نفسه.» قال: «أتريدين أن أذهب أنا إليهم؟» قلت: «لا ... هناك طريقة تسهل عليكم هذا الأمر، يمكنكم أن تشرفوني وتحددوا موعدا لهذا التشريف، وأنا أدعوهم للحضور والاجتماع بكم في أي وقت تريدون، وإن كنت لا تود أن يعرف أحد أن هذا الاجتماع قد انعقد عندي أو أنني قد نلت هذا الشرف، فلك ألا يعرف أحد ذلك حتى أهل منزلي ... ويمكنك أن تنسب ذلك إلى مسعى الأمير عمر طوسون باشا الذي كان له الفضل الأول في السعي لهذا الاتحاد.» قال: «لا ... لا يمكنني أن أتنازل عن رأيي وهو وجوب انضمامهم إلى الوفد إذا كانوا يريدون الاتحاد» ... وهنا رأيت أن لا فائدة من الإلحاح ... لا سيما وقد استغرقت المقابلة أكثر من ثلاث ساعات، وقمت متأهبة للخروج، فأوصلني حتى السلم ، وهناك وضع يده على كتفي وقال: «لماذا لا تشتغلين معي؟» ... قلت: «لا، أنا مع الحق». فقال محتدا: «وهل أنا الباطل؟» فقلت: «لا أعلم.» قال: «غدا ترين ما يحل بك!» ... قلت: «أنا لا أخشى شيئا لأنني واثقة بأنني لا أعمل لأي غرض إلا لخدمة بلادي، وإن يدك يا سعد لن تصل إلي ولو فرضنا أنك ستحرض علي صبيان الوفد ليرموا منزلي بالحجارة أو ليقتلني أحدهم، فهذا كل ما أتمناه، وهو أقل تضحية في سبيل خدمة بلادي.»
الفصل الحادي والثلاثون
دخلت المرأة المصرية في الحياة العامة من باب السياسة؛ لأننا في الوقت الذي كنا نفكر فيه في إصلاح حال المرأة وتنويرها، قامت ثورة 1919، وكان حتما أن يقف كل مصري ومصرية في صفوف الثوار حتى تنال بلادنا استقلالها وحريتها، وتكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في أمورها ومستقبلها، ولقد كانت المرأة المصرية صورة طيبة للمشاركة وصدق المشاعر الوطنية، حتى إن الكتاب قارنوا بين موقفها وموقف بعض الرجال، واعترفوا للمرأة بأنها أكثر إيجابية وموضوعية.
وبعد أن استقرت الأمور بعض الشيء في عام 1926 كان علينا أن نتجه بالجهد الأكبر إلى المجال الاجتماعي وأن نهتم بالقضايا الاجتماعية والنسائية باعتبار أن المرأة هي نصف مجموع الأمة، وكل ما تحققه ينعكس على الحياة العامة ويدفع إلى تطور المجتمع.
ولذلك فقد دعوت نساء مصر إلى لقاء في جمعية الاتحاد النسائي المصري في نهاية أبريل 1926، وألقيت فيهن خطابا حول القضايا الاجتماعية والنسائية.
وقد نشرت بعض الصحف هذا الخطاب في أول مايو 1926. وقد جاء فيه:
حضرات السيدات
دعوتكن اليوم لا لأعرض عليكن عملا من الأعمال السياسية التي ألفنا غير مرة الاجتماع للتحدث عن شأن من شئونها، ولا لأحدثكن عن شأن من شئون أي حزب من الأحزاب التي تشتغل بهذه السياسة، فإني أرى اشتغال المرأة بمثل هذه الشئون كان يجب أن يكون بعد أن تنظم من شأنها في العائلة مركزها في المجتمع.
أيتها السيدات: إذا كنا في الماضي بدأنا بمشاركة الرجال في الاشتغال بتلك المسائل، فعذرنا في هذا أن حالة البلد كانت مدة الحرب العالمية وعقبها في مركز استثنائي يثير النفس مهما تعودت الصبر؛ لأن ما نال البلاد في تلك الأيام من الغبن وسوء المعاملة كان يحتم على كل كائن فيه إظهار تذمره وصياحه في وجه الظالمين.
أما اليوم وقد استقرت الحالة على نوع ما، ونالت البلاد الحكم الدستوري، فإن من الواجب علينا أن نترك تلك الأمور السياسية مؤقتا اكتفاء بأولي الشأن فيها من الرجال لنتفرغ لما هو خاص بنا. على أننا قد رأينا بالرغم من مشاركتنا للرجال عدة سنوات؛ إهمالهم شأن المرأة في تقرير حقها السياسي، حتى في أبسط الحقوق الأولية كقبولها ناخبة، مع أن هذا حق لكل رجل مهما كانت درجته من الجهالة وتجرده من أي ميزة تميزه عن أقل امرأة في الهيئة الاجتماعية، لذلك كانت دعوة اليوم للتحدث معكن فيما تم على يد جمعية الاتحاد النسائي التي لها الحظ الأوفر بمعاضدتكن لها واشتراككن فيها، ولست بحاجة إلى أن أذكركن أن هذه الجمعية تأسست سنة 1923 لتكون واسطة تعارف وتعاون بين المرأة المصرية وأختها الغربية. لقد كان هذا التعارف ضروريا جدا لإزالة ما علق بأذهان الغربيين من تصور المرأة المصرية عضوا أشل أو لعبة من لعب الزينة في أيدي الرجال، ولست أدعي أن الجمعية استطاعت أن تحقق كثيرا من مقاصدها، وذلك:
أولا:
لأن كل عمل إصلاحي تعترضه في بدايته عقبات من ذوي الأفكار الرجعية الذين انطبعوا بطابع التقاليد العتيقة الجامدة.
ثانيا:
لأن المعونة اللازمة لتقوية هذه الجمعية ونشر مبادئها، لم تكن مصحوبة بالغيرة الكافية والمثابرة الواجبة.
سيداتي: بالرغم من السببين السالفين، وبالرغم من أن العاملات المثابرات على خدمة هذه الجمعية من أعضائها لم يزدن على عدد أصابع اليد إلى اليوم ... وبالرغم من كل ذلك، أتت هذه الجمعية بثمرات باهرة في خارج القطر وداخله، ونالت من حسن السمعة ما يشجعنا على مضاعفة مجهوداتنا، ويقوي يقيننا في قرب تحقيق أغراضنا.
أيتها السيدات: عقب إنشاء هذه الجمعية، سافر أول وفد عنها إلى المؤتمر النسائي الدولي العام الذي عقد بمدينة روما في مايو 1923. وهناك تبينت رسلكن وكادت تلمس الفرق العظيم بين حياة المرأة الغربية ومركزها في الهيئة الاجتماعية وبين زميلتها في الشرق، وقد كان هذا الدرس أول قبس اتخذ أساسا لوضع قواعد الإصلاح الواجبة للمرأة عندنا؛ لذلك فكرنا فيما يجب أن نبدأ به؛ لذلك فكرنا في الإصلاح وتنظيم حالة العائلة.
ولما كان الزواج أول مرحلة من مراحل تأسيس العائلة، كان الاشتغال بتنظيمه الحجر الأول في بناء الإصلاح، ولما كان الزواج المبكر عندنا هو أول عقبة تحول بين الفتاة وبين تكوينها تكوينا صحيحا ينهض بها في معترك الحياة، وكان هذا النوع من الزواج شائعا بطريقة مفزعة في أنحاء القطر ولا سيما في القرى والريف: رأينا أن نبدأ عملنا بطلب تشريع يعصم الفتاة من الزواج قبل بلوغها السادسة عشرة من عمرها، ليكون لديها من الوقت ما يسمح لجسمها بالتكوين ولعقلها بالتهذيب والتثقيف.
وقد كان نظام التعليم لذلك الوقت يحول بين الفتاة وبين أمانيها في التعليم الثانوي، فطلبنا أيضا إلى الحكومة أن تذلل هذه العقبة وتساوي بين الولد والبنت في جميع درجات التعليم.
سيداتي: تذكرن أن وفدا منكن ذهب بتقرير أقرته هذه الجمعية إلى رئيس الوزارة يومئذ صاحب الدولة يحيى باشا إبراهيم، ومما يستحق أن يخلد بجميل الذكر ما نالته هذه الطلبات من عناية دولته؛ إذ قبل انقضاء سنة 1923 صدر المرسوم بمنع مأذوني عقود الزواج عن تحرير أي عقد إلا بعد التثبت من بلوغ البنت السادسة عشرة من عمرها والولد الثامنة عشرة.
وفيما يتعلق بطلب المساواة في التعليم بين الجنسين، قد تلقت الجمعية من صاحب المعالي زكي باشا أبو السعود وزير المعارف في ذلك الوقت كتابا أنه أخذ في درس هذا الطلب ويعد تحقيقه وإجابته قريبا، وها قد تحقق أمر المساواة في التعليم من أوائل سنة 1924.
إذا ذكرنا هذا - ونحن نغتبط بما صادفناه من النجاح - فلا يسعنا أن نمر بدون إظهار أسفنا واستيائنا مما تلا مرسوم الزواج الصريح من صدور منشور سنة 1924 يفسره تفسيرا لا يتفق والروح التشريعية التي صدر من أجلها، إذ إن الحكمة في هذا التشريع صيانة البنت من تصرف والديها تصرفا ضارا بتزويجها تزويجا مبكرا قبل بلوغ تلك السن، فوزير الحقانية أجاز للقضاة في تفسيره أن يقبلوا زواج أية فتاة مهما كانت سنها إذا شهد أبواها أو أحد من أولياء أمرها أنها بلغت السادسة عشرة دون أن يقدموا مع هذه الشهادة ما يؤيدها كورقة الميلاد أو أي وثيقة أخرى رسمية، فكأنه في ذلك اعتبر الخصم حكما، وبهذا أضاع المصلحة وساعد الأولياء على تأدية شهادة قد لا تكون في كثير من الأحوال متفقة مع الواقع.
وإني في هذا المقام مضطرة لأن أطلب من الجمعية الاحتجاج على هذا المنشور، وأن يطلب من معالي وزير الحقانية الحالي إلغاؤه.
أيتها السيدات: إن نجاح الجمعية في فتح طريق التعليم للفتاة إلى آخر مدى، جعلنا نفكر فيما عسى أن يكون من مركز الأم الجاهلة أمام ابنتها المتعلمة؛ إذ كما بعدت الثقة بينهما في قوة الإدراك والحكم على الأشياء ضعف نفوذ الأم وكرامتها في نفس ابنتها، فرأينا علاجا لهذه الحالة أن نصرف همنا أيضا لإصلاح الأم وترقيتها بقدر الإمكان، فأنشأنا دارا سميت «دار التعاون الإصلاحي» لتدريب الأمهات على المسائل الأولية المنزلية وتعليمها مبادئ القراءة والكتابة والحساب وبعض الصنائع اليدوية، وجعلنا بهذه الدار قسما آخر لمعالجة من يؤمه من المرضى الفقيرات وصرف الأدوية مجانا، وتقديم النصائح في كيفية تنظيف أولادهن وتمريضهن وإلقاء محاضرات في قانون الصحة. وكان لنا رجاء أن تنال هذه الدار إقبالا من الأمهات والزوجات الفقيرات معاضدة من السيدات بتطوع فريق منهن لإلقاء هذه المحاضرات والنصائح الصحية بالتناوب بينهن من يوم لآخر، وبالمساعدة المالية التي تمكن الجمعية من إنشاء دور أخرى على هذا النمط في أنحاء متعددة من المدينة، ولكن بقيت هذه الدار وحيدة إلى اليوم، ومما يؤسف له أن السيدات القليلات اللاتي تطوعن في بداية الأمر لإلقاء النصائح على الأمهات، حينما انقطعن عن العمل لأسباب مختلفة، لم يتقدم من يخلفهن في القيام بهذا الواجب الإنساني، وصار القسم الصحي عيادة عادية كالعيادات الأخرى المخصصة للفقراء.
أما القسم الخاص بتعليم القراءة والأشغال، فقد علمتن ما وصل إليه من الرقي والنجاح في مدة قصيرة، وأن ما عرض بنادي الاتحاد النسائي بقصر الدوبارة في أوائل الشهر الجاري من مصنوعات هذا القسم، حاز إعجاب من زاره من جميع الطبقات.
سيداتي: إذا شكوت إليكن من تقصير بعض منا إزاء هذا الواجب الإنساني المقدس، فلي عوض مقابل هذا، وهي تلك اليد البيضاء التي مدها حضرات الأطباء الذين تطوعوا من أول إنشاء هذه الدار بالحضور إلى عيادة المستوصف بعد أن قسموا العمل بينهم يوميا، وكثيرا ما تبرعوا بأموالهم أيضا لمواساة مرضاهم، كما اتفق غير مرة أن يأخذ بعضهم من مرضاه من كان في حاجة إلى إجراء عملية جراحية كبرى بعيادته الخصوصية وقام بإجرائها مجانا.
بجانب هذا العمل الجليل الذي قام به حضرات الدكاترة، قامت سيدة أجنبية بخدمة هذه الدار مدة طويلة، تذهب إليها يوميا من الصباح إلى المساء، تقسم وقتها هناك بين قسم الشغل وبين المستوصف، تدخل في صفوف التلميذات فتراقب أعمالهن ونظافتهن مراقبة دقيقة، وفي الوقت نفسه تلقي النصائح وتجهد نفسها ليكون النظام تاما والسكون سائدا، وعلى العموم كانت تعمل على إصلاح ما تراه ناقصا، ولم تكن في المستوصف أقل نشاطا في القيام بالواجب الإنساني، وطالما ذهبت إلى بيوت المرضى لتتحقق من حالها الصحية وما تحتاج إليه، وما كانت تطرق هذه المنازل كزائرة عادية ولكن كناصحة ومرشدة للخير.
تلك السيدة اليابانية حرم المرحوم أحمد بك فضلي، وفي الواقع كانت اليد اليمنى لإدارة هذه الدار، وكل ما رأيته من تقدم ونجاح، فإنما هو ثمرات مجهودات هذه السيدة الفاضلة. وأنه ليحزنني جدا أن أخبركن أن هذه السيدة بارحت القطر في أوائل هذا الشهر، وقد دعتها إلى السفر ضرورات شخصية، فشيعت منا ومن كل من يعرفها بالعبرات والحسرات.
بعد هذا فوجئنا بصدمة أخرى لوفاة عضو عامل كفؤ في جمعيتنا، تلك هي صغرى أخواتنا الناهضات العاملات الآنسة «فكرية الصلح» وافتها المنية في الأسبوع الماضي وهي في الثالثة والعشرين من عمرها في السن التي لا تفكر فيها مثيلاتها إلا في ملابسهن وزينتهن، كانت كرفيقتها مدام فضلي بك تمضي أيامها في دار الإصلاح دون أن تضن بوقتها ومجهوداتها.
وإن هذه الصدمة لتذكرنا بخسارة كبيرة أخرى لحقتنا في السنة الماضية، وفي مثل هذا الميعاد تقريبا، بوفاة المأسوف عليها زميلتنا «سعاد الهلباوي»، وكانت بين أعضاء الجمعية مثلا أعلى في الإخلاص والنشاط ومكارم الأخلاق، فتكريما لذكراهما أسمح لنفسي بطلب وقف الجلسة خمس دقائق حدادا عليهما ومناجاة لروحيهما.
سيداتي بجوار هذه الأعمال رأينا أن نعرض عليكن في ختام كلمتنا هذه ثلاثة أمور مهمة:
الأول:
عزمنا على إجابة دعوة مؤتمر النساء الدولي العام الذي سيعقد بباريس في 21 مايو المقبل لتمثيل جمعيتنا هذه التي هي فرع من فروعه، وحبذا لو سنحت الفرصة لبعض منكن بالسفر معنا لهذا الغرض، إذ كلما كثر عدد الوفد الذي يمثل هذه الجمعية، زادت شأنا وكانت أعظم أثرا في تأييد المشروعات الناقصة التي ستنظر في المؤتمر هذا، ولن تكون مباحث المؤتمر مقصورة على المشروعات النسوية، بل ستتناول مسألة كبرى تطمح إلى تحقيقها جميع شعوب العالم، تلك المسألة هي طريق الوصول إلى تحقيق السلام العام، وإن أكبر فخار لمصر أن يكون لنفر من أبنائها قسط وافر في بحث هذا المشروع ودرسه والمساعدة على تحقيقه.
الثاني:
ملخص التقرير الخاص بإدارة هذه الجمعية والدار التابعة لها من الوجهة المالية، وهذا لكي ترين يقينا أن المساعدة المالية كانت أيضا ضئيلة، ولعل ذلك يستنفر غيرتكن وغيرة كل مصرية ويدعو إلى زيادة البذل والتضحية وانضمام عدد كثير من السيدات إلى صفوفنا.
الثالث:
مشروع تقرير نرغب في عرضه على الوزارة، ويتضمن طلب إصلاح خمس مسائل كبرى تخص المرأة، وهي: (1)
وضع حد لتعدد الزوجات. (2)
وضع حد لفوضى الطلاق الحاصل الآن. (3)
إصلاح القوانين الخاصة بما يسمى دار الطاعة. (4)
حق الأم في حضانة أولادها. (5)
إلغاء منشور سنة 1924 المعطل لقانون تحديد سن الزواج.
وإني لا أشك في أنكن ترين المصلحة العظيمة في إقرارنا على هذه المطالب، فأرجو إذا صح ظني هذا أن تنتخبن بعد الموافقة لجنة لتقوم بتقديمه إلى صاحب الدولة رئيس الوزراء وصاحب المعالي وزير الحقانية .
هذا ما أردت بيانه اليوم، وأسأل الله أن يوفقنا جميعا إلى النجاح.
الفصل الثاني والثلاثون
انعقد المؤتمر النسائي الدولي العاشر في باريس، وقد اختيرت جامعة السوربون مقرا لهذا المؤتمر الذي عقد تحت رعاية وزير المعارف الفرنسي، وذلك في الفترة ما بين 30 مايو و6 يونيو 1926، وجدير بالذكر أن جلسات هذا المؤتمر قد بدأت بصفة غير رسمية قبل موعد انعقاده بخمسة أيام، كما استمرت بعد موعده الرسمي بيومين، وبذلك تكون أعماله قد امتدت إلى خمسة عشر يوما.
وقد اشتركت في هذا المؤتمر 42 دولة، مثلتها حوالي 500 من الأعضاء الرسميات إلى جانب بضع مئات أخرى جئن بصفة غير رسمية لمتابعة قضايا المرأة في مختلف أنحاء العالم.
وتناول المؤتمر الذي عقد برئاسة مسز «اشبي» رئيسة الوفد الإنجليزي، عديدا من الموضوعات الاجتماعية والنسائية، وشكلت اللجان المختلفة لدراسة هذه الموضوعات وهي:
الأم غير المتزوجة، وجنسية الزوجة، وحقوق الزوجة.
المساواة بين الجنسين في العمل، وحق المرأة في أن تكون ناخبة وقابلة للانتخاب.
منع تجارة الرقيق ومقاومة البغاء.
السلام العام.
النشر والدعوة لتحرير المرأة.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان من الأعمال غير الرسمية التي سعى إليها المؤتمر توثيق الروابط بين الشعوب، ولتحقيق ذلك دعيت الوفود المشتركة في المؤتمر لزيارة البلدية، والمستشفيات الخاصة بالنساء والأطفال، والمعاهد، والمصانع، ودور الفنون.
وقد انتخب الوفد المصري سبع سيدات للذهاب إلى مؤتمر باريس، اعتذرت منهن سيدتان وسافرت الخمس الأخريات. وكان هذا الوفد تحت رئاستي؛ حيث تحدثت في جلستين رسميتين هما حفلة الافتتاح الكبرى بالسوربون وحفلة السلام في تروكاديرو، وتحدثت السكرتيرة الآنسة سيزا نبراوي في حفلة ممثلات الشعوب في مركز الجمعيات البلدية، وتحدثت السيدة أستر فهمي ويصا بالإنجليزية عن رأيها في عصبة الأمم.
وقد وقعت حادثة صغيرة في جلسة الافتتاح، فقد كنت قد سلمت العلم المصري إلى سكرتارية المؤتمر لترفعه بين الأعلام الأخرى في انفتياترو السوربون، ولكن حدث سهو أدى إلى عدم رفعه وعندما جاء دور مصر في إلقاء كلمتها، بدأت خطبتي بإعلان الأسف إذ لم يكن العلم مرفوعا بين الأعلام الأخرى، رغم أن مصر كانت ولا تزال مهد السلام والاعتراف بحقوق المرأة، وهما الأمران اللذان اجتمع المؤتمر للدفاع عنهما. وقد اعتذرت رئيسة المؤتمر لهذا النسيان، كما اعتذر وزير المعارف الفرنسي الذي كان يرأس جلسة الافتتاح، وأضاف أن مصر التي هي أول مناهل الحضارة والتي لا تزال تتصل وفرنسا بروابط ود لا تنسى لا يمكن أن يحصل إزاءها هذا النقص قصدا؛ بدليل العطف والتقدير اللذين أظهرهما جمهور الفرنسيين عند قيامي بإلقاء كلمتي، وقد تم رفع العلم المصري بعد ذلك في كل المواقع التي كان للمؤتمر شأن فيها.
وجدير بالذكر أن الوفد الفرنسي قد عبر عن أطيب النوايا عندما بدأ بترشيحي عضوا في اللجنة التنفيذية للاتحاد النسائي الدولي، وقد تبعته الوفود الأخرى في تزكية هذا الترشيح. وبذلك أصبحت الممثلة الوحيدة للمرأة في بلاد الشرق الأقصى والأدنى في هذه اللجنة.
كذلك فقد انتخبت ضمن أعضاء اللجنة المعنية ببحث مسألة السلام الدولي، وكان هذا الانتخاب انتصارا لمصر التي كانت تسعى للسلام، وترغب في دخول عصبة الأمم مساواة بالبلاد المستقلة الحرة، وقد صادف هذا الاختيار سعي عدلي باشا يكن لإدراج مصر ضمن عصبة الأمم.
وقد انتهزنا فرصة انعقاد المؤتمر لعرض بعض المصنوعات المصرية الدقيقة إلى جانب معروضات البلاد الأخرى، وقد لقيت مصنوعاتنا إقبالا ونجاحا كبيرين، وكانت وسيلة طيبة للدعاية لمصر ولقضيتها.
وأذكر أن رئيسة المؤتمر «مسز كوريت اشبي» قد هنأتني على نجاح مجلة «المصرية» واعتبرتها من عوامل نهضة المرأة في مصر والشرق، وترجمانا عن هذه النهضة في بلاد الغرب؛ حيث كانت تصدر باللغة الفرنسية، وقالت: إنها من أرقى المجلات النسوية في العالم.
الحركة النسوية في مصر
ولقد شهد مندوب جريدة السياسة هذا المؤتمر، وكتب إلى جريدته في أول يوليو 1926 يتحدث عن المؤتمر فقال: «لقد ساعدني الحظ في شهود هذا المؤتمر فرأيت كيف تتضافر سيدات العالم في النضال عن حقوقهن وعن حقوق الإنسانية جمعاء، وعجبت كيف لا يزال بين المتعلمين النابهين من يمعن في الأثرة على حساب المرأة، وهي كما جاء في مطلب الاتحاد النسوي المصري نصف المجموع ومربية الجيل القابل جميعه، رجالا ونساء، شعبا ونوابا. وشهدت المؤتمر وتتبعت آثاره في الإصلاح والنهوض والمعاونة، فازددت يقينا على يقيني بأحقية المرأة في ضرورة فتح باب المساواة المطلقة يدخل منه كل من يستطيع بمقتضى الأحقية لا بمقتضى النوعية؛ لأن التمييز النوعي لا يفيد التفوق في الكفاءة.
على أنه لا محل للصخب ولا للأخذ والرد الآن ولا تزال مطالب المرأة المصرية محدودة ضمن دائرة صغيرة لا تكاد تتعدى إصلاح العائلة، كتحديد الزواج والطلاق، وحماية المطلقة والطفل، ومقاومة الأمراض الضارة بالنسل، وتعميم التعليم الأولي بين الفتيات، وفتح باب التعليم العالي لمن تريد منهن.
وعندي أن وزارة عدلي باشا في غنى عمن يقنعها بأحقية هذه المطالب في العصر الحاضر، وأظن أن ثروت باشا كان قد شكل لجنة في الحقانية لإنصاف المرأة حسبما يوافق الشرع وروح العصر.
وبمناسبة هذا المؤتمر، أقول إن هدى هانم شعراوي رئيسة الاتحاد النسائي ومؤسسته في مصر ورئيسة الوفد المصري النسائي خارج القطر؛ بذلت من الجهد سابقا في روما وجراتز وواشنطن وفيينا، ولاحقا في باريس، ما جعل مصر مرفوعة الرأس موفورة الكرامة.
إن هذه الجهود العظيمة على تواضعها، الشاملة على نزاهة مقصدها، الهادئة على ما فيها من تضحية، لتستحق التقدير، وكل ما يستطيع مثلي لا يملك إلا قليلا إزاء هذه المصرية الكبيرة، هو أن يتقدم إليها على صفحات هذه الجريدة الغراء التي طالما خدمت قضية المرأة بأسمى عبارات الاحترام والتقدير.»
زعيمة النهضة النسائية
وبعد عودتنا من المؤتمر، تحدثت الصحف والمجلات عند دور الوفد النسائي المصري في باريس، وكان من ذلك ما كتبته الآنسة «فتاة الريف»، وجاء فيه:
جاء عصر قالوا فيه الرجال بالأعمال، وظهرت هدى هانم شعراوي فمن حقنا أن نقول: هدى من عظماء هذا العصر.
الرجل في كل زمان ومكان بعمله، وهدى لم تظهر بمالها وجاهها ولا بنبل عائلتها، إنما ظهرت بعملها.
بين الرجال والسيدات مكان من ذوي المال والنبل والجاه، وكلهم نكرات لا يعرفهم حتى جيرانهم، حياتهم في خمول فهم أحياء في قبور، ومن الناس كثيرون بلغوا الشهرة غير الخالدة ، فهي شهرة لم تدعم ولم تقم على أساس متين، أما وقد برزت زعيمة النهضة النسائية في مصر، فقد جمعت إلى الثروة والنبل، العلم الصحيح والاطلاع الواسع والرغبة القوية في العمل المجدي وقوة الإرادة والاستخفاف بالمصاعب، صفات متى توفرت لإنسان، قام عمله على أساسات قوية متينة، فتلك هي هدى هانم، زعيمة بحق جمعت كل الصفات اللازمة للزعامة كاتبة وخطيبة ومبصرة حكيمة. إنها لم تعمل في دائرة محدودة متناسية قوة فرد من أفراد الجنس اللطيف، إنما طلبت العالم كله ميدانا لعملها الخطير ورفعت صوتها عاليا مطالبة بحقوق المرأة، لا لتسمع أهل مصر فقط، إنما رفعته باسم المرأة المصرية لترفع صوت مصر ومقام المرأة المصرية في نظر العالم المتمدين كله، وقد فعلت ... كانت هدى في مصر زعيمة للنهضة تدبر الأمر بحزم، وظهرت في المؤتمرات النسائية الأوروبية في أرفع طبقة من طبقات الزعماء في أنحاء العالم، فقدرها الرأي العام قدرها الصحيح وعرف مكانها من العلم والأدب، فأدرك القاصي والداني مقام المرأة المصرية بين طبقات المتحضرات، وما ذلك كله إلا بفضل تلك الزعيمة الخالدة، وليس هذا مقاما عن أعمالها وآرائها في المؤتمرات وفي كل مكان صاحت فيه باسم المرأة المصرية؛ لأن هذا الشيء إذا كتب لا تكفيه المجلدات، إنما كتبت هذه الكلمة بلسان النهضة النسائية لشكر الزعيمة الجليلة على المجهودات التي بذلتها في سبيل هذه النهضة المباركة لرفع اسم المرأة المصرية، ومن حقنا بل ومن الواجب أن نستقبل الزعيمة الخطيرة بقلوب تخفق ابتهاجا بعودتها سالمة في صحة جيدة، وبصدور منشرحة تنطوي على الحب الكامن في القلوب لهذه الزعيمة الجليلة وتقديرها قدرها الذي استحقته بالتضحية والعمل المنتج، ولو أن في وسعنا أن نجعل الأفئدة سرادقا تحل فيه للتكريم، لفعلنا مبتهجات، وإنما المعقول الذي في المقدرة هو تكريس قلوبنا لصورتها المحبوبة، فاتحة عصر جديد للنهضة النسائية تمدها بروح منها فتبعث فينا الهمة والرغبة في العمل. وفقنا الله جميعا للسبيل القويم.
جمعية السلام
لقد قيل الكثير والكثير بالنسبة لمشاركة المرأة المصرية في المؤتمرات النسائية الدولية، وقد أردت هنا أن أسجل بعض ما قاله الرجال، وأيضا ما قالت المرأة، وليس يعنيني هنا الحديث عن هدى شعراوي كشخص بقدر ما يعنيني هذا الحديث كرمز ... فقد انطلق صوت المرأة المصرية في المحافل الدولية، واستطاعت أن تخدم القضية المصرية فضلا عن خدمة القضايا النسوية والاجتماعية.
لقد كتبت الصحف تقول: «خطبت السيدة هدى شعراوي وهي لابسة الثوب الوطني عن النساء المصريات، وكان الاستحسان العظيم الذي قوبلت به خطبتها بمثابة أعظم «بروباجندا» لمصر في الصحف العديدة والأوساط الكثيرة، وقد أذيعت الخطبة باللاسلكي.»
ومن هذه السطور، يبرز معنى أننا كنا نحمل رسالة مصر إلى كل مكان، ونعبر عن وجه مصر في كل مؤتمر، ونتحدث باسم مصر في كل موقع.
ومن أجل هذا الهدف أيضا ذهبت إلى جنيف في سبتمبر من العام نفسه تلبية لدعوة من المكتب الدولي لجمعية السلام، باعتباري عضوا فيه، لحضور الاجتماعات والمناقشات الخاصة بتقرير أفضل الوسائل لاشتراك النساء في خدمة السلام العام، وقد انتهزت فرصة هذه الاجتماعات لكي أتحدث عن التطور العقلي للحركة النسائية المصرية، وأذكر أن أعضاء المكتب قد قابلن حديثي بإعجاب وتقدير، وكان هذا تعبيرا عن نظرة مصر إلى السلام، وعن جهادها من أجله، وعن دفاعها عن حق الشعوب في أن تعيش حرة كريمة في ظل السلام.
الفصل الثالث والثلاثون
بعد أن عدنا من مؤتمر باريس، وبعد أن شاركنا فيه بقسط وافر، وحققنا فيه نتائج باهرة من أجل قضية المرأة والتطور الاجتماعي والسلام العام، كان علينا كعادتنا أن نعكف على دراسة ما قام به أعضاء الوفد المصري في المؤتمر، ولذلك دعوت أعضاء الاتحاد النسائي لعقد عدة جلسات من أجل هذا الغرض، وقد انتهت هذه الجلسات إلى إعداد تقرير، رفعته جمعية الاتحاد النسائي المصري في 21 نوفمبر 1926 إلى أصحاب الدولة والمعالي رئيس مجلس الوزراء ووزير الحقانية ورئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب.
وكان هذا هو نص التقرير:
حضرة صاحب ...
تتشرف جمعية الاتحاد النسائي المصري بأن تعرض على أنظاركم أربعة مطالب حيوية تحتاج لشيء من عنايتكم، وترجو - ولها كبير الأمل في غيرتكم - أن توفقوا في القريب العاجل لوضع نظم لإصلاحها؛ لأنها تمس حياة كل عائلة مصرية تقريبا، ولها كبير الأثر على راحة الأسر وسلامها.
إننا نطلب إصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية، وجعلها منطبقة على ما أرادته الشريعة من إحكام الروابط العائلية وسيادة الهناء فيها، ولذلك نطلب صيانة المرأة من الظلم الواقع عليها:
أولا:
من تعدد الزوجات بدون مبرر.
ثانيا:
من الإسراع في الطلاق بدون سبب جوهري.
ثالثا:
من الظلم والإرهاق اللذين يقعان عليها فيما يدعى بدار الطاعة.
رابعا:
من أخذ أولادها في حالة افتراق الزوجين في سن هم فيها في أشد الحاجة لعناية أمهم وحنانها.
ونكاد نكون واثقات أن ترى معنا أننا لا نطلب إلا عدلا وسلاما هم غرضان مهمان من غرض الشارع، لا شك أن في إباحة الدين لتعدد الزوجات عند الضرورة وفي إباحة الطلاق عند انقطاع الرجاء من إصلاح ذات البين، حكمة ورحمة، ولو أن كل رجل اتقى الله واستعمل هذا الحق عند الضرورات التي شرع لها، لما كان هناك محل للشكوى، غير أن هذين السلاحين اللذين أوجدهما الشارع ليكونا نعمة ورحمة عند الضرورة، أسيء ويساء استعمالهما خصوصا من الجمهور الجاهل وهو الأغلبية الساحقة في هذه البلاد، وأصبحنا ... وهذان السلاحان سيفا نقمة مسلولان يهددان هناء العائلات وسلامها، ومن أدرى سواكم بعدد ضحايا الظلم والجهل.
فإذا نحن طالبنا بسن قانون يمنع تعدد الزوجات إلا لضرورة، كأن تكون الزوجة عقيما أو مريضة بمرض يمنعها من أداء وظيفتها الزوجية (وفي هذه الحالات يجب أن يثبت ذلك الطبيب)، وإذا نحن طالبنا بسن قانون يلزم المطلق ألا يطلق زوجه إلا أمام القاضي الشرعي الذي عليه معالجة التوفيق بحضور حكم من أهله وحكم من أهلها قبل الحكم بالطلاق، فلأن هذه القوانين تزيل الفوضى الحاصلة في مسائل الزواج والطلاق، وبالتالي تزيل التعس والشقاء اللذين يرزح تحتهما الألوف من النساء بسبب سوء تصرف الرجال في ذلك الحق، فكم من نساء يطلقن لأوهى الأسباب، وفي لحظة تنحل الرابطة العائلية المقدسة، وكم من نساء يتزوج أزواجهن بغيرهن لغير سبب إلا أنانية الرجل ، ناهيك بما يصيب الأولاد في الحالتين من جراء قطع الصلة بين والديهم، مما لا يحتاج إلى شرح.
أخطر من السجن!
أما المسألة الثالثة، أي إكراه الزوجة على الذهاب إلى ما يدعى دار الطاعة، فتتطلب النظر في تحديد الحقوق المقررة في باب ولاية الزوج وما يدعيه من الحقوق على زوجته؛ لأن المسألة من الأهمية بمكان وأصبحت سلاحا يستعمله الرجل حينما تخرج زوجته من دار الزوجية لسوء معاملته أو تعذر العيش معه بهدوء وراحة. تخرج فيتركها تخرج لأي وقت شاءت، وقد يجد سعادة في هذا الفراق. فإن حدثتها نفسها بطلب الإنفاق عليها (وقد يكون الباعث لها على هذه الرغبة هو الطلاق من الزوج)، تراه يطلب من القاضي الشرعي الحكم عليها، لا رغبة في معاشرتها، وإنما هو سلاح يريد إكراهها به (إن كانت موسرة) على إعطائه مبلغا مقابل الطلاق، وإن كانت معسرة فلإكراهها على إبراء ذمته من نفقة وغيرها.
إن دار الطاعة هي أخطر من دور السجن المعدة لإيواء الأشقياء والمحكوم عليهم بارتكاب الجرائم والمنكرات؛ لأن المسجونين تحت إشراف أناس محدودة سلطتهم في القانون وليس بينهم وبين المحكوم عليهم عداء أو خصومة تستفزهم إلى التنكيل والتعدي على حدود السلطة التي لهم قانونا، أما الزوج (وهو الخصم والحارس على المرأة التعيسة المقضي عليها بالدخول تحت طاعته) فلا سلطان لأحد عليه أمام هذه المسكينة. وهو يملك كما يقول بعض الفقهاء إغلاق الباب عليها ومنع كل إنسان من الدخول عليها إلا بإذن، كما يملك الادعاء عليها وهي في السجن أنها خالفت أمرا، ويتعدى عليها بالسب والضرب، والمحاكم الشرعية لا تعتبر كل هذا خروجا من الزوج على الحدود التي له شرعا على زوجته.
أيكون للحكومة تشريع عام يعاقب أي شخص يعتدي على حرية الغير بالحبس طال الوقت أم قصر. ويعاقب أي شخص اعتدى على كرامة الغير بالسب أو بالشتم، ويعاقب أي شخص آذى غيره مهما كان الإيذاء خفيفا. كل هذا التشريع يتمتع به جميع أفراد الأمة إلا هذه الزوجة المسكينة إذا كان المعتدي عليها زوجها، يحبسها ولا عقوبة عليه ... ويسبها ولا عقوبة عليه ... ويضربها ولا عقوبة عليه ... كل هذه الجرائم ترتكب باسم الدين، ونحن نعتقد ببراءة الدين من كل ذلك، بدليل قوله تعالى:
ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا
وقوله أيضا:
فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف .
المسألة الرابعة، وهي رعاية الطفل وتقرير من له حق الولاية عليه عند اختلاف الأبوين أو موت أحدهما، من المسائل التي تستدعي النظر في إصلاحها؛ لأننا نرى أن الجاري عليه العمل في القضاء الشرعي ليس وافيا دائما بوضع الطفل تحت مراقبة صحيحة عطوفة ويد باردة تعنى بتربيته تربية صحيحة جسميا وأخلاقيا، وأسوأ الحالات وأبعدها عن الإنصاف حالة وجود أم للطفل مطلقة وغير متزوجة، أي متفرغة للسهر على مصلحة أولادها، ينزع ولدها من حضانتها في سن السبع إن كان ذكرا والتسع إن كانت أنثى، ينتزعون منها وهم في سن أحوج ما يكونون فيها لرعايتها وعنايتها، ينزعون منها وهي أحق الناس برعايتهم وأحن عليهم من أي إنسان، تقضي المحاكم الشرعية بحرمان الأم من أولادها في السن المذكورة مع أنه بمقتضى حكم الشريعة يبقى الولد في حضانة أمه حتى يستغني عن النساء، والبنت حتى تحيض، والإمام مالك نص على أن يبقى الصبي في حضانة أمه حتى يحتلم والبنت حتى تتزوج. فهل يصح، وهذا نص الشريعة ورأي إمام مشهور، أن تكون السابعة أو التاسعة سن الاستغناء عن النساء، وإن صح ذلك محتمل يوم أن كانت الحياة أقل تعقيدا وأقرب إلى البداوة منها اليوم، فهل يصح في العصر الذي نعيش فيه وقد تضاعفت الحاجات وتعددت وسائل التربية وطرق الوقاية الصحيحة؟ المشاهد أنه لا يمكن الاستغناء عن معونة الأم ونصائحها قبل السادسة عشرة، والدليل على ذلك أن الحكومة نفسها جرت على هذه القاعدة وقررت حديثا اعتبار سن الرشد مبتدئا من الحادية والعشرين.
الإصلاح الاجتماعي
ولقد كان ما ينادي به الاتحاد النسائي المصري موضع تقدير الرأي العام. وكانت الصحافة تؤيد المطالب التي ننادي بها، ليس باعتبارها مطالب نسائية وإنما باعتبارها في الواقع مطالبة بالإصلاح الاجتماعي.
وقد كتبت جريدة السياسة اليومية في عددها الصادر بتاريخ 5 ديسمبر 1926 تحت عنوان «الاتحاد النسائي المصري ومطالبه في سبيل الإصلاح الاجتماعي» تقول:
يقوم الاتحاد النسائي المصري برئاسة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي إلى جانب نشاطه السياسي بنشاط اجتماعي بعيد المدى في حياة الأسرة المصرية.
ولم يقف نشاط الاتحاد النسائي عند السعي لتطور العادات القديمة تطورا يكفل سير المرأة في السبيل الصالح ويحول دون الطفرة المفسدة. بل أضاف إلى ما قام به في هذه الناحية والسعي لتطور التشريع في الأحوال الشخصية تطورا يجعله دائما في حدود الشريعة الإسلامية السمحة، على ما أقرها أكابر الفقهاء عليهم رضوان الله مع اتفاقه وحاجات هذا العصر الذي نعيش فيه.
والقراء يذكرون ما تقدم به الاتحاد النسائي في شأن تحديد سن الزواج وما لقيه من نجاح. كما يذكرون مطالبه في شأن الطلاق وتعدد الزوجات وسائر الإصلاحات التي طالب بها ملحا في تحقيقها.
ومن الخطأ تصور هذه الطلبات على اعتبارها نسائية، وهي في الواقع مطالبة بالإصلاح الاجتماعي يشمل النساء والرجال معا ... وهل في الحياة شيء يتأثر به أحد الجنسين ولا يتأثر به الجنس الآخر.
ومضت الصحيفة في مقالها تقول: «ومن الخطأ كذلك النظر إلى هذه المطالب التي تقدمها السيدات نظرة خصومة بين الجنسين، ذلك لأنها كما سبق القول لا تتناول النساء وحدهن بل هي تتناول الأسرة كذلك. والأسرة تجمع الرجل والمرأة والطفل. والأسرة نواة الجماعة، ثم إن تصوير الخصومة بين الرجل والمرأة في الإصلاحات الاجتماعية أو السياسية تصور عتيق أساسه باطل، فالحياة تضمن حتى في التنافس، وأول ما يكون التضامن وأشده وأبعده عن منطقة التنافس، تضامن الرجل والمرأة فهما قوام العائلة. وأنت لا تستطيع أن تتصور عائلة قائمة على التنافس والخصومة بين أعضائها، من غير أن تتصور البؤس والشقاء حليفين لهذا التنافس.»
وواصلت الصحيفة مناقشة بموضوعية، فقالت: «ومن الخطأ النظر إلى هذه المطالب بعين التهاون أو الاستمهال فهي ليست بنت اليوم بل هي بنت سنة 1899 حين تقدم بها المرحوم قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة، بل هي أقدم من ذلك عهدا، فقد كان الناس في كل زمان ومكان يطالبون بإصلاح نظام الأسرة وبالعمل لإزالة كل ما يقوم عائقا في سبيل هناءتها وتمكينها من القيام بالواجب الاجتماعي والسياسي العظيم الملقى على عاتق كل فرد من أفرادها. وهبها كانت بنت اليوم، فهي لن تكون كذلك أقل خطورة واستعداء للعناية والاهتمام فليس من ينكر أن لحالة العائلة في مصر اليوم تأثيرا مباشرا على كثير من أمراضنا الاجتماعية، وأن إصلاح هذه الحال يترتب على شفاء هذه الأمراض.»
وانتهت الصحيفة إلى القول: «ومسألة الطلاق ليست أقل من مسألة تعدد الزوجات خطرا. ونحن في غنى عن وصف الشقاء والبؤس المترتب على إلقاء حبل الرجال على غاربهم في هاتين المسألتين، وفي غنى عن القول إن الشقاء والبؤس لا يتناول النساء والأطفال وحدهم بل يتناول الرجال معهم. وهم إذا لم يحسوا به أول ارتكاب هذه الآثام فإنهم يحسون به فيما بعد.
وما دام في مذاهب الشرع السمح الحنيف ما يسمح بهذا التنظيم كما نظم الزواج والتعاقد عليه من قبل، وكما نظمت أشياء كثيرة تنظيما أقره الفقهاء؛ لأن الشرع أقره، فإنا نكرر أن من حقنا ومن الواجب علينا تأييد الاتحاد النسائي في مطالبه، ومن حق الحكومة ومن الواجب عليها أن تعمل لتنفيذ هذه المطالب، وأن تسن القوانين الخاصة بها لتقدم إلى الهيئة التشريعية لإقرارها وإصدارها.»
وكانت صحيفة «الأهرام» قد أجرت معي حديثا بشأن تعدد الزوجات، أكدت فيه أن منع الرجل من الزواج بامرأة ثانية إلا إذا أذن القاضي، يضع عقبة إلى حد ما في طريق ذوي الشهوات من الرجال، ولكن هذا وحده ليس كافيا لدرء ويلات الجمع بين الزوجات، والحل الأمثل هو منع الرجل المتزوج من أن يتزوج بامرأة ثانية إلا في حالة ما إذا كانت زوجته مصابة بالعقم أو بمرض غير قابل للشفاء.
وقد علقت على هذا مجلة «الحسان»، فقالت: «يجب أن يكون قانون الزواج صريحا في نصه بعدم تعدد الزوجات إلا في حالة الضرورة القصوى التي تضطر الرجل أن يأخذ زوجة أخرى؛ لأن الرجل لا يتزوج بامرأة واثنتين إلا لشهوته ومطامعه البهيمية، وبذلك أصبحت المرأة في نظره مثل الثياب تتغير مع الموضات ويجددها بتغير الفصول!»
الفصل الرابع والثلاثون
كنت أريد أن يصل صوت المرأة المصرية إلى كل مكان في العالم، وكنت حريصة على أن تعرف الدنيا كلها ما حققته المرأة المصرية الحديثة من تطور، وكنت أدرك أن هذا كله في صالح مصر وفي صالح القضية المصرية، ولا شك في أن الرأي العام يتجاوب مع مطالب بلد تحققت فيه للمرأة مكانة طيبة، فضلا عن أن هذا يعتبر في حد ذاته دليلا على تطور مجتمع هذا البلد.
وكان قد سبق أن التقيت مع مستر ومسز بيرت تايلور، وهما من الشخصيات المعروفة في المجتمع الأمريكي، وكانا في زيارة إلى القاهرة، فانتهزت هذه الفرصة لدعوتهما للوقوف على تطور المرأة الحديثة، وكان هذا اللقاء مدعاة للتفكير في زيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شجعني على القيام بهذه الخطوة أن ابنتي كانت متزوجة من محمود سامي باشا، الذي كان يشغل منصب وزير مصر المفوض في واشنطن في ذلك الوقت.
وقد وصلت إلى أمريكا يوم 27 يوليو 1927، وكنت قد أعددت للقاءات واجتماعات في هذه الرحلة، أكشف فيها عن حقيقة أوضاع تخلفها عن الركب الحضاري، ولكن قبل أن أبدأ نشاطي هناك، استقبلني مندوبو الصحف الأمريكية ليسألوني عن قضية تعدد الزوجات ... وقد قلت لهم: إن تعدد الزوجات أمر شرعي في مصر، ولكنه غير مألوف الآن؛ إذ إن أغلب الناس لا يمكنهم تحمل نفقات أكثر من امرأة واحدة، وأضفت أيضا بأن مصر تحاول الآن سن قانون لمنع تعدد الزوجات، وإن وزير الحقانية قدم مشروعا بذلك إلى البرلمان المصري. كذلك فقد تحدثت إلى مندوبي الصحف عن أهمية التعليم بالنسبة للمرأة، وقلت: إنه أكثر أهمية من المطالبة بحقوقهن الانتخابية، وإن كان هذا لا يمنعني من المطالبة بحق المرأة في التصويت في الانتخابات النيابية.
وقد تمثل لي شعور الأمريكيين نحو المصريين في حادثين مختلفين كل الاختلاف. فقد أكرموني الإكرام كله وأحسنوا استقبالي في نيويورك وواشنطن وبخاصة في ديترويت، وكان ذلك فوق ما أستحق، لولا أنني عرفت أن هذا إعلان لشعور العطف نحو مصر، أما في المرة الثانية فقد تجلى ولكن بشكل آخر، فقد رأيت سيدة كبيرة السن تذرف الدموع السخية تأثرا لوفاة الزعيم الجليل سعد باشا زغلول، وخوفا على مصر من بعده، وتأبى قبول العزاء. وقد أشرت إلى هذا في خطابي الذي وجهته إليهم على صفحات جرائدهم. وهذا نصه:
إلى الشعب الأمريكي ...
أريد قبلما أبرح أرض الولايات المتحدة الأمريكية أن أرسل تحية ود خالصة إلى الأمة الأمريكية ممثلة في الأصدقاء العديدين الذين علموني كيف أحبها.
إلى هؤلاء الأصدقاء الذين مهدوا لي مثل ذلك الاستقبال الودي والترحيب القلبي، والذين يؤسفني استئذانهم في الرحيل، أريد أن أقول ما أصعب الفراق على النفس بعد شهرين تمتعت خلالهما بلذة صحبتهم والتغلغل في مجتمعهم والإعجاب عن كثب بهمتهم ونشاطهم وحبهم الخير وعملهم البر.
لذلك أود قبلما أغادر هذه البلاد الجميلة، أن أقول لهم إلى اللقاء لا وداعا؛ لأن من يذوق كرم الضيافة الأمريكية كمن يشرب من ماء النيل، كلاهما يعود.
إلى اللقاء أيها الأصدقاء الأمريكان الأعزاء، وشكرا لترحيبكم وبخاصة لما أظهرتموه نحو مصر من عطف وحنان مؤثرين بمناسبة وفاة زعيمنا الوطني المأسوف عليه أشد الأسف زغلول باشا، على الرغم من مشاغلكم المرهقة.
إنني لن أنسى العبرات التي رأيتها تجري من تلك العيون النجل، عيون خير أصدقاء مصر، عند إعلان ذلك الخبر المشئوم، هذه العبرات قد جمعتها في قلبي حتى أضيفها إلى عبرات بني وطني، فإنها ستزيد روابط الأمتين القوية الوثيقة قوة ووثوقا باتحاد المشاعر والتذكار الحزين والشجن الواحد المقدس.
وأذكر أن الكاتب الصحفي المعروف أحمد الصاوي محمد كان قد التقى بي في باريس عقب عودتي، وأجرى معي حديثا صحفيا عن رحلتي إلى أمريكا نشرته جريدة السياسة ... الأسبوعية في عددها الصادر بتاريخ 10 نوفمبر 1927، وبطبيعة الحال فقد سألني عن انطباعاتي عن أمريكا، فقلت له: لقد أردت أن أدرس حركة المرأة فقط، ولكن الحياة الاجتماعية الأمريكية شاقتني، فقد رأيتهم ذوي حيوية نادرة ونشاط خارق، وأمكنني بمساعدة مدام تايلور التي كانت ضيفتنا في مصر في العام الماضي وأرادت ضيافتي هذا العام، أن أزور مستشفيات ومعاهد للأطفال وبيوتا لتعليم الفقراء، أخذت عنها مذكرات أظنها تنفع البلد، وسأعرضها عند عودتي على أولي الشأن لتطبيقها بقدر الإمكان.
أما بالنسبة لمعرض الخزف، فقد استحسنت عرض هذه المصنوعات المصرية في أرض مصرية، ولذلك رفضت عروض بيوت المعارض في نيويورك، واخترت عرضها في المفوضية المصرية بواشنطن. وكانت محل إعجاب كل من رآها وبخاصة من الشرقيين كسفراء اليابان والصين والهند وغيرهم من رجال السياسة.
ومما جعلني لا أعرضها في «جاليري» هو عدم وجود صور زيتية أو تماثيل ودمى؛ لأنهم يعتقدون أن الفن الجميل قد مات في مصر، فأبيت أن تثبت هذه الفكرة، ولو بطريق غير مباشر، فعدلت عن المعرض. وعندنا مختار ويوسف كامل وعياد وناجي وأحمد يوسف وهدايت وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم ... ولذلك أبقيت ذلك للاتفاق مع جماعة محبي الفنون لعمل معرض واف في السنة التي بعدها في فرنسا وأمريكا، ولا شيء يرفع من شأن مصر مثل هذه الأشياء، وكان إقبال الجمهور وإعجابه مما يشجع على عمل مشروع أكبر وأعظم، وأتمنى على مواطني في مصر مساعدتي، ومما لوحظ أن عرض هذه المصنوعات وحدها غير كاف، بل يجب أن يكون مكتوبا «صنع في مصر» على كل قطعة، فهذه وحدها لها قيمتها الكبرى.
وقد سألني الأستاذ الصاوي: وما حكاية المؤتمرات التي تتنازع فخر وجودك فيها؟
فقلت له: لقد وصلتني وأنا في أمريكا دعوة من مؤتمر التدبير المنزلي بروما، فأرسلت تلغرافا بالاعتذار لبعدي عن المكان، وأرسلت إلي الحكومة المصرية تعرض علي رئاسة وفدها، وهي ثقة أقدرها وأشكرها عليها، ولكنني اعتذرت لأنني مضطرة لحضور مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي العام الذي أنا عضو في مكتبه الرئيسي. وسيعقد في 21 الجاري في أمستردام ... وكنت قد رجوت وزارة المعارف الاشتراك في مؤتمر روما؛ لأن الاطلاع على ما يعمل في البلاد المتمدنة يهم بناتنا، ولأنني أحب أن تكون مصر ممثلة في جميع بلاد العالم لأننا في صف الأمم الممتازة، والاحتكاك بالغربيين له نفع جزيل.
مؤتمر أمستردام
عقد المؤتمر النسائي الدولي بأمستردام في موعده، أي في 12 نوفمبر 1927، وقد بدأ المؤتمر يوم الخميس واختتم أعماله يوم الأحد التالي، وجدير بالذكر أن هذا المؤتمر لم يقتصر على بحث المطالب والرغبات النسائية، ولكنه كان ذات أهمية عامة بما لأعضائه وعضواته من الشخصية والصفات الفردية، وبما كان للموضوعات التي طرحت على بساط البحث من الصبغة السياسية الدولية.
فقد تحدث المسيو مرييت في أسباب الحروب، وأكد أن العامل الاقتصادي له تأثير كبير في هذه الأسباب، واختتم حديثه بالدعوة إلى تشييد نظم الدول على قاعدة اقتصادية عامة تقاوم الروح الاقتصادية التي تسودها الوطنية.
وتكلمت مدام مالاتير، وهي فرنسية، فقالت إن التعاون الدولي يتم بحركة تطور وتحول كالحركة التي أدت إلى إفهام الناس أن الوطنية والحماسة لا تعنيان بغض الأجنبي.
وخطب مسيو شايمان فدعا إلى ضرورة نزع سلاح الدول العظمى بعبارات فصيحة قابلها الحاضرون بالهتاف وقوفا.
وقد خصص المؤتمر يوم الجمعة لبحث مسألة التحكيم والسلامة الوطنية، وفي مساء ذلك اليوم تحدثت في مأدبة العشاء التي أقيمت للوفود، باسم المرأة المصرية، وقد بسطت في كلمتي حالة مصر المفجعة، وقلت: إنها بلاد مسالمة جدا ولكنها مستهدفة بحكم موقعها الجغرافي لأن تعاني حربا لا تريدها ولا تدعو إليها ولا يد لها فيها بسبب قناة السويس المراد بها خدمة السلم ... فإن هذه القناة تقرب من مصر شعبا قد يهددها فجأة، كما أنه يهدد السلم أيضا إذا لم تكفل سلامة الحالة باتفاقية دولة تضمن حياة القناة إلى الأبد.
أما في يوم السبت، فقد بحث المؤتمر مسألة نزع السلاح، وقد استرعى الأسماع بوجه خاص الخطاب الذي ألقاه المسيو مادارياجا مندوب بلجيكا في المؤتمر.
وقد اختتم المؤتمر مباحثاته بإبداء رغبات متعددة فيما يتعلق بالموضوع الاقتصادي، ومسألة التحكيم، ومسألة نزع السلاح، ورغبة النساء في الاشتراك في عضوية اللجنة الاستشارية الاقتصادية المؤلفة في جنيف، وقد انتهزت هذه الفرصة لأعبر للمؤتمر عن رغبة خاصة في إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر، وقد أحيلت هذه الرغبة إلى لجنة البحث، ومن ناحية أخرى فقط طلبت إلى زميلاتي في المؤتمر أن يعملن على معاونة مصر في سبيل إلغاء هذا النظام العتيق.
وبعد انتهاء المؤتمر، عدت إلى مصر يوم 3 ديسمبر 1927، وفي اليوم التالي نشرت جريدة السياسة هذا التعليق على رحلتي إلى أمريكا ثم هولندا:
وصلت في منتصف الساعة الحادية عشرة من مساء أمس صاحبة العصمة السيدة الفاضلة هدى هانم شعراوي، عائدة من رحلتها الطويلة التي تنقلت فيها بين أوروبا وأمريكا، باذلة جهودها في سبيل رفع اسم مصر وإعلاء شأن المصريات.
فقد أقامت حضرتها في المفوضية المصرية بواشنطن معرضا للمنتجات المصرية النسوية، كان له أحسن الأثر في نفوس الأمريكيات والأمريكيين الذين لم يكونوا يعرفون مصر إلا من خلال الأقاصيص التي تروى لهم.
وقصدت حضرتها إلى أمستردام؛ حيث مثلت مصر في المؤتمر الدولي الذي عقد في المدينة الهولندية، فرفعت صوتها بالاحتجاج على نير الامتيازات الأجنبية، وطلبت إلى زميلاتها في المؤتمر أن يعملن في بيئتهن على معاونة مصر في سبيل إلغاء ذلك النظام العتيق.
وإنا لنهنئ السيدة شعراوي بعودتها، ونذكر لها ما بذلته أثناء رحلتها من جهود ... راجين أن تتوج كلها بالنجاح ... كما نرجو للسيدة الفاضلة دوام الصحة ودوام عملها في سبيل التحرر النسوي المصري.
الفصل الخامس والثلاثون
مات الزعيم سعد زغلول وأنا موجودة في رحلتي بالخارج، ولم يتح لي بالتالي أن أشارك في وداع هذا الزعيم، وإذا كانت هناك مواقف قد حدثت بيني وبينه فإن هذا لا ينتقص من قدره كأحد رجال مصر الأوفياء.
ولقد كتبت الصحف كثيرا عن سعد باشا بعد رحيله، وعددت مواقفه ومناقبه، سواء تلك الصحف التي كانت تؤيده أو تلك التي كانت تعارضه - وأذكر أن مجلة «روز اليوسف» كتبت تحت عنوان «بين المغفور له سعد باشا وصاحب الجلالة الملك فؤاد»: تقول: لعل أبدع الحفلات التي أقيمت ابتهاجا بعيد جلوس جلالة الملك هي الحفلات التي أقيمت أثناء حكم الوزارة السعدية، فقد اشترك فيها الشعب، وبدت العاصمة في مساء يوم عيد الجلوس كأنها شعلة من نار، وازدحمت الجماهير على جانبي الطريق الذي مر منه الموكب الملكي إلى ميدان باب الحديد؛ حيث أقامت لجنة الاحتفال سرادقا فخما شرفه جلالة الملك بزيارته، ازدحمت الجماهير تحيي الركب الملكي بالتصفيق وهتافها العالي يشق عنان السماء: سعد ... سعد ... ويعيش الملك.
ومرت بين الجموع المتراصة سيارة جلالة الملك، وقد ركب المغفور له سعد باشا إلى يسار جلالته، ولما توسطت العربة ميدان الأوبرا، وكان الزحام هنا على أشده، والهتاف يعلو ويتجمع ثم يتدافع، التفت سعد باشا إلى جلالة الملك وقال: «إنهم يهتفون لجلالتكم.» فأجابه صاحب الجلالة على الفور وهو يبتسم: «هل أنت متأكد؟!»
وكانت حادثة السردار المشئومة، واستقالة الوزارة السعدية، وطلب السلطة البريطانية إلى سعد باشا أن يترك القاهرة ويقيم إلى حين في فندق مينا هاوس.
وزاره ذات يوم في الفندق المذكور نفر من النواب والعيان ودار الحديث حول الحادثة المشئومة ودسائس بعض رجال السراي، والشائعات التي كانت تتناقلها الأفواه في تلك الأيام العصيبة عن البرلمان والدستور والدس للدستور، ورأى سعد باشا أن الحديث يتطور، وأن بعض الألسن بدأت تتكلم بغير ما يجب، فأسكتهم قائلا: «أنا لا أصدق أن جلالة الملك يرضى عن هذه الأفعال، أو يشجع بسكوته على الاستمرار فيها. لقد رأيت من جلالته في أكثر من مناسبة واحدة أنه حريص كل الحرص على صونه، وأن جلالته يعتبر الدستور شجرة من غرس يديه.»
وأضاف قائلا: «وإذا كان في ظواهر الأحوال ما يدعو إلى التأمل أو يدخل على النفس شيئا من سوء الظن، فمن الواجب ألا ينطق اللسان مع الهوى، وأخيرا يحسن بنا أن نقول مع من قال «لعل له عذرا وأنت تلوم!»
وزاره رحمه الله بعد ائتلاف الأحزاب الأستاذ سليمان أفندي فوزي صاحب جريدة الكشكول، وكان متهيبا من مقابلة الفقيد العظيم، ولاحظ سعد باشا على زائره أنه مضطرب قليلا، فقابله ببشر وحفاوة وأخذ يؤانسه حتى ذهب روعه، ثم قال له: «شوف يا سليمان أفندي ... أنا رجل أقدس النقد وحرية الرأي، أنا لا أطلب من أحد أن ينظر إلى أعمالي بغير عينيه، أو يحكم عليها بغير عقله أو ينزل ضميره على غير ما يرضى. لك أن تقول في إعمالي ما تشاء، وأن تبدي فيها رأيا سواء كان لي أو علي، ولكن الذي أبغضه وأمقته ولا أطيقه إنما هو الكذب ... قل للناس إن شئت إن سعدا رجل دجال مشعوذ، فهذا رأي وأنت حر في رأيك، ولكن لا تنشر على الناس أن سعدا ذهب إلى دار المندوب السامي، أو أنه أرسل رسولا إلى العميد البريطاني ليتحدث إليه في كيت وكيت من الأمور، في حين أنني لم أذهب ولم أوفد رسولا. هذا هو السلاح الذي أنزهك وأنزه كل صحفي شريف عن الالتجاء إليه.»
محاضرة في كلية الأمريكان
عقب عودتي من أوروبا، وجهت إلي رئيسات كلية الأمريكان للبنات الدعوة لإلقاء محاضرة عن الحركة النسائية، وكان لدي من المشاغل ما منعني عن تلبية الدعوة لفترة من الوقت، إلى أن أتيحت لي الفرصة في نهاية شهر مارس 1928. وهذا هو نص المحاضرة:
سيداتي:
شرفتني السيدات الفضليات رئيسات هذه المدرسة فطلبن مني عند عودتي من أوروبا أن ألقي عليهن في هذا المعهد العلمي كلمة في الحركة النسائية، وتركن لي حق اختيار الموضوع فيها، ولكن أشغالي الكثيرة التي تراكمت علي بطول غيابي لم تمكني من القيام بهذا الواجب في حينه، فأرجو قبول معذرتي ... وأشكر السيدات اللاتي منحنني هذا الشرف وتلك الثقة الغالية بالرغم من أنهن وضعنني في مركز حرج، وهو الوقوف أمام سيدات أمثالكن، نلن من العلوم والمعارف وسعة الإطلاع ما لهن فيه غنى عن سماع كلمتي.
وقد توخيت أن يكون حديثي اليوم في موضوع المقارنة بين المرأة المصرية وأختها الغربية في الحركة النسائية؛ إذ إنني صرفت وقتا طويلا في معالجة هذا الموضوع.
سيداتي:
بالرغم من العقبات التي تعترض المرأة في سبيل رقيها من فريق المتشائمين بحركتها والمستخفين بكفاءتها، تسير المرأة في طريق نهضتها للوصول إلى تحقيق غرضها، ألا وهو إسعاد الأسرة البشرية وذلك منذ أدركت أن سعادة هذه الأسرة مرتبطة بسعادتها هي، وأن بيدها وحدها مقاليد الأمور لما لها من السلطان على الرجل في كل أدوار حياته، فهي مربيته طفلا، وعونه زوجا، وممرضته أيام مرضه وشيخوخته، وهي مدبرة البيت وقوام نظامه.
أيتها السيدات:
بينما الرجل يحترف حرفة واحدة، تقوم المرأة الضعيفة (كما يزعمون) بأعمال شتى تندمج فيها كثير من الوظائف الرئيسة فلها شأن كبير في التربية والتدابير الاقتصادية والصحية والسياسية، فهي تجمع في وظيفتها كل ما له اتصال بالحياة، لأجل هذا وجب عليها أن تتهيأ لهذه الوظائف، ولا يتسنى لها القيام بها إلا إذا نالت قسطا وفيرا من الحرية والحقوق التي تمكنها من أداء الواجب عليها.
ولما كانت الأنظمة في بلاد الغرب أكثر إجحافا بحقوق المرأة منها في بلاد الشرق، المرأة الغربية أول من صاح بالمطالبة برفع هذا الغبن عنها، ونالها من العنف والاضطهاد بالسجن والتعذيب ما نالها حتى وصلت في بعض البلاد إلى ما تصبو إليه من المساواة بالرجل وحتى وقفت معه جنبا إلى جنب في جميع الوظائف.
وفي بعض ولايات أمريكا اتسع المجال أمام المرأة حتى صارت تشترك مع الرجل في جميع الحرف الحرة والمراكز العمومية، وذلك بعد أن تقررت لها الحقوق السياسية كالرجل سواء بسواء، ويوجد الآن في تلك البلاد عدد عظيم من النساء أعضاء في المجالس البلدية ومجالس الأقاليم والمجالس النيابية، وفي كثير من المحاكم الابتدائية والاستئنافية عدد غير قليل منهن بين قاضية ونائبة ومحامية، كما يوجد في القارة الأوروبية كثير من الممالك التي نالت فيها المرأة مثل هذه الحقوق. وقد أظهرت المرأة في وظائف القضاء بجلدها وصبرها وحكمتها وعلمها بنفسية الأحداث مقدرة قل أن تجارى فيها، فإن الإحصاءات والمشاهدات دلت على أن كثيرا من الأحداث يثوبون إلى الرشد ويصبحون أعضاء نافعة صحيحة بفضل تأثير النصائح التي تسدى إليهم من القضاة النساء.
سيداتي:
أتظنن أن المرأة الغربية التي جاهدت لنيل حقوقها، انتهت معركتها منذ تربعها على منصة الحكم بجانب الرجل؟ كلا. إنها لم تجاهد طمعا في المناصب الرفيعة أو حبا في مساواتها بالرجل فقط، بل إنها أرادت من وراء ذلك غرضا أسمى ومقصدا نبيلا هو تهذيب الهيئة البشرية وتقليل الشرور فيها والسمو بها إلى الكمال، فقامت الآن تنشد السلام في العالم وتستعد لمكافحة أسباب الحرب التي هي آفة الإنسانية، وويلاتها.
ولتحقيق هذا الغرض الجليل، يجب أن تتضافر نساء العالم، ولا أخال الطبقات المتعلمة من نساء مصر يحجمن عن مد يد العون وشرف الاشتراك في تحقيق هذه الغاية السامية، وها هو ذا باب الاتحاد النسائي المصري مفتوح على مصراعيه لمن تهزه نخوة الإنسانية للاشتراك في هذه الخدمة المقدسة.
سيداتي:
حقا لقد أعجبت بما كانت تبذله السيدات أعضاء الاتحاد النسائي الدولي في درس هذه المسائل العظيمة الشأن في المحاضرات التي ألقيت في اجتماع أمستردام، وكم تمنيت لو أن عددا من السيدات المصريات حضرن هذا الاجتماع ليشاهدن ما كانت تبذله المؤتمرات من الجهد في دراسة هذه المسألة الكبرى من جميع وجوهها.
أما المرأة الشرقية التي منحتها الشريعة السمحاء حقوقا تكاد تساوي حقوق الرجل بل تفوقها في بعض المواطن، فمن الأسف أنها لم تخط خطوات تذكر. وقد يعترض على قولي هذا بأن المرأة التركية وثبت وثبة واسعة المدى في مدة وجيزة، وهذا صحيح، غير أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه بمحض مجهوداتها، بل يظهر أن الأمة التي تريد رقيا كاملا تشعر أن ذلك لا يتم إلا برقي الجنسين معا، أدرك ذلك مصطفى كمال مؤسس تركيا الفتاة؛ فحث المرأة في بلاده على الاشتراك مع الرجل في القيام بالواجب. وبفضله ارتقت المرأة التركية، فأصبحت تركيا الحديثة بالرغم مما نزع من أملاكها وما قل من عدد أبنائها تعد في مصاف الأمم الكبيرة المتمدينة.
على أن الرغبة في إصلاح المرأة والأخذ بيدها للخروج من الهوة التي وقعت فيها، بدأت عندنا في مصر منذ خمسين سنة تقريبا، أو منذ فتحت المدرسة السنية للبنات بفضل ومسعى الأميرة «جشم ألفت هانم» حرم المغفور له الخديوي إسماعيل باشا، ومنذ ذلك العهد ظهر في عالم الأدب والتحرير أديبات وكاتبات كن طلائع النهضة في تحرير المرأة وتهذيبها، وأخذت هذه الروح تنتشر ويكثر أنصارها بين الرجال والنساء حتى ظهر كتابا «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» للمرحوم قاسم أمين.
إلى أن زادت هذه النهضة قوة وتوسعا، فتقدمت المرأة إلى الجموع العمومية مباشرة خطيبة رافعة صوتها في المطالبة بحقوقها، وأول من دخلت هذا الميدان المرحومة ملك حفني ناصف المعروفة بباحثة البادية، خصص فيها حينذاك قسم للسيدات تلقي عليهن فيه المحاضرات في الموضوعات المختلفة. وقد هم جماعة من السيدات سنة 1914 لتشكيل جمعية نسوية لترقية مدارك المرأة، ولكن الحرب عطلت تحقيق هذا المشروع؛ لأن المرأة المصرية لما أدركت الخطر الذي يهدد كيان البلاد، رأت نفسها مدفوعة لمشاركة الرجل في الدفاع عن شرف الوطن بعاطفتين راسختين: عاطفة الوطنية، وعاطفة نسوية بحتة هي عاطفة الشعور بالواجب، فتألفت منها جمعيات سياسية واجتماعية، وظلت تشتغل حتى تشكلت لجنة الاتحاد النسائي المصري عقب دعوة وصلتنا من جمعية الاتحاد النسائي الدولي أوائل سنة 1923 لحضور مؤتمر روما، فلبينا الدعوة وسافر وفد منا لهذا الغرض. وكان للاشتراك في هذا المؤتمر فضل كبير في تغيير عقيدة الغربيين في المرأة المصرية، ولذلك قبلت لجنة الاتحاد النسائي الدولي ضم جمعيتنا إليها واعتبارها فرعا من فروعها المنبثة في بلاد الشرق والغرب. وكان من أثر هذا النجاح أن تشجعت جمعيتنا بعد عودة مندوباتها من روما، فأرسلت وفدا لرئيس الحكومة المصرية يحمل طلبين مهمين؛ أولهما: إصدار قانون يحرم زواج الفتاة قبل السادسة عشرة. وثانيهما: مساواة البنت للولد في التعليم الثانوي والعالي. وقد وفقن لإجابة هذين الطلبين.
بعد هذا أخذت جمعية الاتحاد النسائي تتدرج في معالجة المسائل الخاصة بإصلاح المرأة سواء كانت من جهة التشريع أو من جهة التربية العقلية والجسمية بإنشائها مشغل ومستوصف دار الاتحاد أوائل سنة 1924، أما من جهة الإصلاح التشريعي فقد قدمت للحكومة مشروعا مطولا بطلب إصلاح قانون الأحوال الشخصية، وهي تعتقد أن جميع النقط التي طلبت إصلاحها ضرورية لتحسين حال العائلة لا المرأة وحدها، لذلك لنا أمل عظيم في أن الحكومة المصرية التي تمثل إرادة الشعب وتسهر على راحته وسعادته ستحقق هذا المشروع الحيوي المفيد.
سيداتي:
طالما كنت فخورة بما أحرزته المرأة المصرية منا لتقدم في هذه المدة القصيرة، ولكني كلما اتصلت بالمرأة الغربية وعلى الأخص الأمريكية ضعف ما كنت أشعر به من الارتياح لحركتنا لأني إذا قست خطواتنا بخطوات المرأة هناك، مع مراعاة أقدميتها في الحركة النسوية أو الاجتماعية أجد ما تتقدم إليه الغربية في عام قد لا نصل إلى مثله في جيل.
وإذا كان من المحقق والمعروف أن المرأة نصف الخليقة البشرية، فاعلمن أن السعادة والغنى في تلك البلاد قائمان على ساعد الرجل ونشاط المرأة.
سيداتي:
نزلت ضيفة عند صديقة لي في ديترويت، وأقمت عندها بضعة أيام ولا أحدثكن عما لقيته من كرم الضيافة الحاتمية وحسن الحفاوة بأختكن المصرية، ولكن ما رأيته من نظام في بيتها وعناية بأطفالها وروح الوفاق والإخلاص بينها وبين زوجها، كل ذلك كان كافيا لمحو ما علق بذهني مما كنت أسمعه عن طيش بنات اليسار من الأمريكيات، وقد تبينت أن سر النظام في أمريكا هو شعور المرأة بشخصيتها واحترام الرجل لها، وتقدير الرجل والمرأة للواجب، ووضع الشيء في موضعه، فمتى يا سيداتي يسعدنا الحظ ونخطو خطوة هذه الأمم الراقية.
لي أمل عظيم في أن اللاتي تخرجن في هذا المعهد الجليل وتمرن على المبادئ الأمريكية يكن طليعة المرأة الجديدة في بلادنا.
الفصل السادس والثلاثون
توطدت الصلة بين جمعية الاتحاد النسائي المصري وبين الجامعة الأمريكية في القاهرة بعد عودتي من رحلتي إلى أمريكا وأوروبا، وكان من دوافع ذلك أن دور الاتحاد في الحياة العامة قد أصبح بارزا ومفهوما، وبخاصة لدى المرأة الأمريكية والأوروبية، وكان من الطبيعي أن يحدث هذا التعاطف الذي يدل على التقدير المتبادل.
وكنت بعد عودتي من هذه الرحلة، قد دعيت لإلقاء محاضرة عن الحركة النسائية المصرية في الجامعة الأمريكية، وقد شاءت الظروف أن يتأخر موعد هذا اللقاء فترة من الوقت بسبب انشغالي ببعض القضايا الاجتماعية والنسائية، إلى أن أتيحت الفرصة وألقيت محاضرتي، وقد لقيت من الاهتمام والتقدير ما دفع الجامعة الأمريكية إلى تكرار هذه اللقاءات، تحقيقا للفائدة المرجوة من وراء إبراز دور الحركة النسائية في مصر، وقد رأيت أن تكون المحاضرة التالية للسيدة إحسان القوصي سكرتيرة الجمعية، وقد ألقيت المحاضرة في 14 أبريل 1928؛ حيث تحدثت إلى جماهير الحاضرين عن أعمال الاتحاد والنهضة النسائية وجهود جمعيتنا، وقد رأيت أن أسجل هذه المحاضرة للتاريخ.
أيها السادة ...
ليس بين نابهي المصريين من يجهل اسم أهم جمعية نسائية مصرية. ليس بينهم من لا يعرف شيئا عما قامت وتقوم به جمعية الاتحاد النسوي من جليل الأعمال، غير أن الذين يعلمون حق العلم حقيقة غايتها قليلون، وأرى المصريين تجاه هذه الجمعية ثلاثة أقسام: فريق العامة، وهؤلاء لا يعرفون عنها شيئا، اللهم إلا آلافا منهم نالهم من بر الجمعية ومساعداتها المادية والأدبية ما جعلهم يشعرون بوجودها وعظيم فائدتها.
وفريق الخاصة العاملين منهم والمتتبعين للحركة الفكرية والمهتمين بالنهضة العامة في جميع أنحائها، وهؤلاء أعرف الناس بها.
أما الفريق الثالث فقد عرف عن الجمعية شيئا وغابت عنه أشياء، ولذلك نرى منه العاطفين عليها والمحايدين وغير المرتاحين للفكرة لإساءتهم فهم غايتها وجهلهم حقائق لو علموها، لكانوا في طليعة المشجعين لنا.
عرف أعضاء الجمعية ذلك، فشعروا بوجوب إيقاف الجمهور على حقيقة أمرها، طلبا للإنصاف وتعضيدا للغاية السامية النبيلة التي تسعى إليها؛ لذلك أحدثكم الآن عن جمعيتنا ... حديثا يقف بكم على حقيقة غايتها وما قامت به داخل البلاد وخارجها وما تواصل السعي لتحقيقه، وغرضي من ذلك أمران؛ الأول: إزالة ما علق بأذهان البعض خطأ عن غايات الجمعية، والثاني: الحصول على المعونة الأدبية والفعلية من كل وطني يغار حقا ويسعى فعلا لنهضة بلاده واستقلالها.
أيها السادة ...
لقد كان من يمن مصر ودلائل نضوج نهضتنا النسوية المباركة، أن اجتمع لفيف من السيدات المصريات في السادس عشر من شهر مارس 1923 بمنزل السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي وقررن تأسيس جمعية الاتحاد النسائي المصري التي يتلخص برنامجها الواسع في الأمور الآتية: (1)
ترقية مدارك المرأة عقليا وأدبيا لتحصل على حقها في الحياتين الاجتماعية والسياسية ولتساوي الرجل أمام العرف والقانون. (2)
المطالبة بمساواة النساء للرجال في التعليم العالي لمن أرادت. (3)
تنظيم أسلوب الخطبة بحيث يكون الرجل على علم تام بامرأته قبل العقد، كما تكون هي كذلك. (4)
السعي لإصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية وجعلها منطبقة على ما أرادته الشريعة، وصيانة المرأة منا للظلم الواقع عليها بتعدد الزوجات بدون مبرر والإسراع في الطلاق بدون سبب جوهري. (5)
المطالبة بسن قانون يمنع زواج البنت قبل السادسة عشرة من عمرها. (6)
السعي بمختلف الوسائل لتحسين حالة الشعب الصحية. (7)
السعي لنشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة. (8)
محاربة البدع والخرافات التي تتعارض مع العلم الصحيح. (9)
نشر الدعوة بكل الوسائل المشروعة.
وهنا أيها السادة يجدر بي أن أقول كلمة موجزة عن كل مادة من المواد السابقة وما استطعنا الوصول إلى تحقيقه ... تطلب الجمعية في المادة الأولى حق الانتخاب والمساواة مع الرجل اجتماعيا وسياسيا وأمام العرف والقانون، وما أظن منصفا حتى ولو كان من غلاة الرجعيين ينكر أن المرأة تدفع الضرائب كالرجل سواء بسواء، وأنها مسئولة مثله أمام الشريعة والقانون، وأن الوطن وطنها كما هو وطن الرجل ويهمها من أمره ما يهمه ... فبأي حق يمنعها الرجل من الاهتمام بشئونه ومشاركته في العمل لخيره؟ وبأي حق وهي تدفع من ثروتها ما ينفق على مختلف المرافق العامة تبعد عن الاشتراك في تقرير وجوه صرفه؟ وبأي حق تخضع لتشريع وتتحمل آثاره وليس لها صوت في وضعه؟
هذه الأسباب أيها السادة مضافا إليها شعور المرأة بشخصيتها وكرامتها، هي التي حدت بنا للاحتجاج على الحكومة سنة 1922 لإغفالنا عند وضع الدستور وعدم إعطائنا حق الانتخاب، ذلك الحق الذي يتمتع به الأمي الجاهل ويملكه الخالي من الملك ولا تملكه المرأة ولو كانت متعلمة وتدفع الضرائب.
أما المادة الثانية فتطالب بمساواة النساء للرجال في التعليم العالي لمن أرادت، وهو طلب عادل يقضي به المنطق للأسباب الآتية:
أولا:
نعرف أنه كلما زاد تعليم المرأة أحسنت القيام بالواجب عليها زوجة وأما بيدها صوغ رجال المستقبل.
ثانيا:
تسهيلا لمن تبغي من ورائه الكسب الشريف.
ثالثا:
مساعدة لمن تمتاز بمواهبها على ظهور نبوغها والانتفاع به.
رابعا:
رفعا لمستوى العقلية العامة في البلاد.
خامسا:
لأن التفاهم أساس السعادة العائلية ولا يكون على أتمه بين زوج متعلم وامرأة لم تنل التعليم إلا يسيرا.
حقائق لم تغب عن ولاة الأمور، وبذلك أجاب سعادة زكي باشا أبو السعود وزير المعارف في ذلك الوقت بأنه سيدرس الموضوع ووعد بتحقيقه قريبا، ويسرنا أن قد تحققت المساواة في التعليم في أوائل سنة 1924.
أما المادة الثالثة فتقول بتنظيم أسلوب الخطبة؛ بحيث يكون الزوجان بعضهما على علم ببعض قبل العقد؛ ابتغاء للسعادة العائلية؛ وتجنبا لما عساه أن يحدث من عدم الوفاق لاختلاف الأذواق والمشارب بين الأفراد، والجمعية في ذلك غرضها تحقيق ما تقول به الشريعة وتتطلب المصلحة، ولا تريد بذلك التوسع في مقدمات الزواج كما هو في البلاد الغربية.
أما المادة الرابعة التي تنص على السعي لإصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية وجعلها منطبقة على ما أرادته الشريعة، وصيانة المرأة من الواقع عليها بتعدد الزوجات بدون مبرر والطلاق بدون سبب جوهري؛ فتحتاج إلى عناية كل فرد واهتمام أولي الأمر؛ لأنها تتناول مسائل حيوية يتوقف عليها هناء العائلة وسلامتها.
لذلك رأت الجمعية مطالبة أولي الأمر بإصلاح هذه الحال ليزول الإجحاف ويحقق العدل والسلام، فرفعت تقريرا في 21 نوفمبر 1926 إلى أصحاب الدولة والمعالي رئيس مجلس الوزراء ووزير الحقانية ورئيسي مجلس الشيوخ والنواب، تطلب فيه إصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية وصيانة المرأة من الظلم الواقع عليها:
أولا:
من تعدد الزوجات.
ثانيا:
من الإسراع في الطلاق بدون سبب جوهري.
ثالثا:
من الظلم والإرهاق الذي يقع عليها فيما يدعى دار الطاعة.
رابعا:
من أخذ أولادها في حالة افتراق الزوجين في سن هم فيها في أشد الحاجة لعنايتها وحنانها.
أمور أربعة أردت بها رفع الحيف وإحكام الرابطة العائلية وسيادة الهناء فيها: أمران هما ولا شك من أهم أغراض الشارع، ولو أن كل رجل اتقى الله وأحسن استعمال حقه عند الضرورات التي شرع لها لما كان هناك محل لشكوانا، لكن كم من نساء يطلقن لأوهى الأسباب، وكم من نساء يتزوج أزواجهن لغير ما سبب إلا أنانية الرجل وهواه.
أما مسألة إكراه الزوجة على الذهاب إلى ما يدعى دار الطاعة، فمسألة من الأهمية بمكان؛ لأنها أصبحت سلاحا يستعمله الرجل حينما تخرج زوجته من داره لسوء معاملته أو تعذر العيش معه بهناء وراحة. تخرج فيتركها لأي وقت شاءت وقد يجد سعادة في هذا الفراق، فإن حدثتها نفسها بطلب الإنفاق عليها، وقد يكون الباعث لها على ذلك رغبتها في الطلاق منه، فإنك تراه يطلب من القاضي الشرعي الحكم عليها بالدخول في طاعته، لا رغبة في معاشرتها وإنما يريد إكراهها على إعطائه مبلغا من المال نظير الطلاق إن كانت موسرة، أو إبراء ذمته من النفقة ومؤخر الصداق إن كانت معسرة.
بقيت المسألة الرابعة، ألا وهي رعاية الطفل وتقرير من له حق الولاية عليه عند اختلاف الأبوين أو موت أحدهما، وهي تستدعي النظر في إصلاحها لأننا نرى أن الجاري عليه العمل في القضاء الشرعي ليس وافيا دائما بوضع الطفل تحت مراقبة صحية ويد باردة تعنى بتربيته.
المادة الخامسة: رأت الجمعية أن السواد الأعظم من البنات يتزوجن في سن لا تكون فيها أعضاؤهن قد تم نموها، فيتسبب عن ذلك كثير من العلل التناسلية وضعف النسل والعقم ... إلخ، على أنه لصغر سنهن لا يحسن القيام بوظيفة الأمومة؛ لجهلهن بتربية الأطفال وسبل وقايتهم الصحية، فيتسبب عن ذلك موت الأطفال أو على الأقل اعتلالهم، وقد قدمنا طلباتنا في عهد وزارة يحيى باشا إبراهيم سنة 1923 فأعارها الاهتمام واقتنع بصحتها، وصدر القانون القاضي بمنع زواج البنت قبل السادسة عشرة. غير أن الوزارة سنة 1924 أصدرت منشورا يفسر هذا القانون تفسيرا لا يتفق مع الغاية التشريعية التي صدر من أجلها، إذ يجيز لمأذون العقود أن يقبل شهادة الأبوين أو أحد الأولياء بأن البنت بلغت السادسة عشرة، دون أن يقدموا ما يؤيد شهادتهم بوثيقة رسمية، فكأنه بذلك اعتبر الخصم حكما، وأضاع المصلحة بتفسيره، وساعد الأولياء على تأدية شهادة قد لا تكون في كثير من الأحيان متفقة مع الواقع، لذلك طالبنا أولي الأمر، ولنا كبير الأمل، أن يصدروا ما يعيد للقانون الأول قوته ويحقق الغاية من إصداره.
المادة السادسة: السعي بمختلف الوسائل لتحسين حالة الشعب الصحية، فقد عملت له الجمعية أولا بأن ضمنت مطالبها التي قدمتها لنواب الأمة وصحافتها سنة 1924 متحدة مع لجنة الوفد المركزية للسيدات الأمور الآتية:
أولا:
إدخال القواعد الأولية من علم الصحة في برنامج التعليم.
ثانيا:
إصدار القوانين اللازمة لمحاربة المخدرات والمسكرات صيانة للأخلاق وحفظا للنسل.
ثالثا:
العمل على تعميم المستشفيات في جميع مراكز القطر لا سيما مستشفيات الأمراض المعدية والسرية وأمراض البلهارسيا والانكلستوما.
رابعا:
إنشاء مصحات لأطفال الفقراء يقصدها الضعفاء والناقهون لاسترداد قواهم.
خامسا:
إنشاء بساتين داخل المدن مع إيجاد ملاحظات لمراقبة أطفال الفقيرات اللاتي يذهبن للتكسب ويتركن أطفالهن يلعبون في هذه الحدائق الصحية النظيفة.
المادة السابعة: السعي لنشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، رغبة في تحقيق ذلك الغرض الشريف، وإيمانا بأن الأخلاق هي الأساس المتين الذي تقوم عليه عظمة الأمم، تقوم الجمعية بتهذيب الفقيرات وتعليمهن ما يساعدهن على الكسب الشريف ويقيهن شر مخاطر الحاجة، كما طلبت إدخال التعليم الديني والخلقي في عموم المدارس، ومحاربة المخدرات والمسكرات والبغاء.
المادة الثامنة: محاربة البدع والخرافات التي تتعارض مع العلم الصحيح، ولتحقيق ذلك طلبت الجمعية من الحكومة أن تضرب على أيدي الدجالين وألا تعطي رخصة لإقامة الزار.
المادة التاسعة: وهي تتناول نشر الدعوة بكل الوسائل المشروعة، وفي الداخل كانت أعمال الجمعية كفيلة بتعريف الناس بها ونشر الدعوة لها ... أما في الخارج فكان الفضل الأكبر في نشر دعوة الجمعية ودعوة مصر لرئيسة الجمعية الفاضلة السيدة هدى هانم شعراوي مع اعترافي بما لكل عضو في الجمعية من فضل.
هذه كلمتي، أرجو أن تجد أذنا مصغية وهمة عالية، وقبل أختم كلمتي، أرجو أن يتأكد الرجال أننا لا نطلب حق المساواة لنزاحمهم وننافسهم، وإنما نطلبه لنتعاون وإياهم على ما فيه خيرنا جميعا وخير مستقبل بلادنا، فما الوطن إلا عائلة كبرى في حاجة لتعاون كل فرد فيها. ولا يتم التعاون الحقيقي إلا إذا ساد حسن التفاهم المؤسس على الحق والعدل.
الفصل السابع والثلاثون
لم يكن المرحوم قاسم أمين رجلا عاديا في تاريخ الحركة النسائية المصرية، فقد كان صاحب تحرير المرآة، وكان الصوت الذي لفت الأنظار إلى هذه القضية، وكان صاحب أكبر رصيد من الهجوم عليه والتجريح في شخصه، رغم أنه لم يكن صاحب أول صوت نادى بتحرر المرأة.
ومن الغريب أن قاسم أمين بدأ حياته الفكرية وهو يقف في صفوف أعداء المرأة، ولكنه عندما رأى صالون الأميرة نازلي فاضل يجمع العلماء والفضلاء وأصحاب الرأي والفكر ورجال الأدب والثقافة، وعندما استمع إلى حديثها بدعوة من صديقه سعد باشا زغلول، لم يلبث أن انتقل من صفوف الأعداء ليقف في مقدمة الصفوف نصيرا لقضية تحرير المرأة.
وفي مايو 1928 انتهزنا فرصة مرور عشرين عاما على رحيل المصلح الاجتماعي قاسم أمين لنقيم احتفالا لتكريم ذكراه، وقد أقيم هذا الاحتفال في دار مسرح حديقة الأزبكية، وضم عديدا من الشخصيات العامة والقيادات النسائية ... وكان مهرجانا لرد اعتبار الرجل العظيم الذي قضى نحبه حزينا محسورا بعد أن تكاثرت عليه سهام الأعداء من كل جانب، وبعد أن وصل التجريح إلى بيته وأسرته.
وقد كتبت جريدة السياسة في عددها الصادر في 6 مايو 1928 عن هذا الاحتفال بإفاضة، وكان من بين ما قالته عن هذه المناسبة: «إن الوفاء وعرفان الجميل من أخلاق المرأة، فالاتحاد النسائي بدعوته إلى الاحتفال بتكريم ذكرى قاسم أمين زاد شأن المرأة رفعة، وأرضى روح ذلك المصلح العظيم، وبرهن على أن المرأة خليقة بالمقام الرفيع الذي تسعى إلى تبوئه بمساعدة أفضل المصلحين من الرجال.» وأضافت الصحيفة قائلة: «وحسبنا أن ندل على مقام الحفلة بذكر الذين حضروا وفي مقدمتهم صاحبة العصمة أم المصريين، وأصحاب المعالي: واصف غالي باشا، وعلي الشمسي باشا، ومحمد صفوت باشا، وأحمد طلعت باشا، ومحمد علي باشا، وتوفيق دوس باشا، وأحمد شفيق باشا، ولطفي السيد بك، وعلي عمر بك، والدكتور طه حسين، والدكتور مصطفى فهمي، والأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق، وإسماعيل شيرين بك، وعدد كبير من السيدات والأوانس.»
وقد ألقيت بهذه المناسبة كلمة قلت فيها:
سادتي وسيداتي ...
اسمحوا لي أن أبدأ كلمتي بآخر كلمة نطق بها المرحوم قاسم بك أمين في حفلة نادي المدارس العليا وهو يحيي الطلبة الرومانيين ليلة وفاته، إذ قال: (كم أكون سعيدا في اليوم الذي أرى فيه سيداتنا يزين مجالسنا كما تزين طاقات الزهور قاعات الجلوس)، هذه هي آخر جملة نطق بها المرحوم قاسم قبل أن يلبي دعوة ربه ببرهة وجيزة، وهي كما ترون تتضمن أمنية غالية لم يمهله الموت حتى يشهدها.
ولما كان من أجل مظاهر البر بالموتى والوفاء لهم، القيام بما كان يجلب سرورهم لو أنهم على قيد الحياة، رأت جمعية الاتحاد النسائي أن أقل ما عليها نحو روح الفقيد العظيم إنما هو تحقيق تلك الأمنية بالاشتراك في هذه الحفلة اشتراكا عمليا، فإذا كانت الأرواح في عالمها الأعلى متصلة بعالمنا الذي نحن فيه، فلا شك في أن روح قاسم أمين ترفرف علينا الآن في هذه الحفلة الرهيبة، وهي ممتلئة غبطة وسرورا؛ لتحقيق المبدأ الذي طالما ناضل في سبيل الدعوة إليه حتى مات وهو في ميدان جهاده.
أيها السادة ... إذا قمنا اليوم بهذا الواجب لفقيدنا العظيم، فليس الدافع لنا محض الاعتراف بفضله وجهاده في نصرة المرأة فقط، بل لنحيي فيه العدالة أيضا وأثره في القضاء، ولنحيي فيه حب الخير ومعونته الصادقة في تكوين الجمعية الخيرية الإسلامية، ولنحيي فيه ابتكار فكرة الجامعة المصرية، ثم لنحيي فيه بعد ذلك الشجاعة الأدبية النادرة في تأليف كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» في وقت كان النطق باسم المرأة يعد سبة وخزيا.
نعم إن شخصية قاسم كانت شخصية بارزة عظيمة تزاحمت فيها صفات جمة، صفات القانوني الحكيم، والمصلح الخطير، والأديب القدير، والوطني الغيور، وكان حلية تلك الصفات شجاعته وإقدامه.
أيها السادة ... إذا حيينا في قاسم كل تلك المواهب الممتازة، ولا سيما بلاءه الحسن في تحرير المرأة، فلأننا نعتقد أن شعوره بواجب تحريرها وقيامه بالدفاع عنها والدعوة إلى تعليمها، لم يدفعه إليه مجرد احترامه للعدل والإنصاف فحسب بل وخالص حبه لمصر وتفانيه في رفع شأنها بين الأمم الحية، وهذه الغاية هي غايتنا نفسها التي ننشدها نحن معشر السيدات من وراء نهضتنا النسائية، ولو أمهله الموت وقدره قومه وأنصفه خصومه حينما شرع يطالب بتحرير المرأة ليتمم سلسلة إصلاحه، لخطت مصر خطوات واسعة من عشرين سنة مضت. ولكن القدر أبى علينا أن نتمتع بمواهبه السامية، فحاربه خصومه وخذله قومه وعاجلته المنية فكان موته خطبا فادحا، وقد كان من أمضى الأسلحة التي استعملها خصوم قاسم ضد مبدئه ما توهموه من تناقض بين رده على الدوق داركور وبين كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة، إذ إنه في كتابه الأول يدافع عن عادات بلاده ويحبذ تقاليدها، وفي كتابه الثاني يطالب بتحرير المرأة وفك قيودها. ولم يفهموا أنه في الحالة الأولى كان مدفوعا بعوامل الإصلاح والإخلاص لبلاده بعد تفكير عميق وبحث دقيق فيما يقتضيه النهوض، وكان مثله في رده مثل الرجل الأبي إذ مس شرفه بكلمة جارحة، دفعه إباؤه للزود عن كرامته، حتى إذا هدأ روعه وعاد إليه رشده، شرع يبحث في حقيقة ما وجه إليه. فإذا تبينه أمرا واقعا عمل على تداركه واستئصاله.
قرأ قاسم كتاب الدوق داركور «مصر والمصريين» الذي انتقد فيه كاتبه عاداتنا انتقادا مرا، وشنع علينا تشنيعا قاسيا، وحمل على الحجاب ونتائجه ومعاملة رجالنا لنسائنا حملة شعواء، قرأ قاسم ذلك الكتاب، فمرض عشرة أيام عقب قراءته لشدة تأثره وتألمه. ولعل بعض هذا التألم نشأ عن اكتشاف حقائق مؤلمة في غضون هذا النقد وكأنه لم ينتبه إليها من قبل بحكم العادة التي نشأ عليها، ومن ذلك الحين نبتت في نفسه فكرة تحرير المرأة المصرية وتعليمها انقيادا للحق وخضوعا لسنن الرقي.
وإذا علمتم أيها السادة أن هذا البناء الذي نحتفل فيه اليوم لإحياء ذكرى قاسم، شيده أحد خصومه بل أشدهم تمسكا بالقديم، أعني به ذلك المصلح الكبير والاقتصادي العظيم الذي يعد في طليعة رجال التطور ببلادنا، إلا وهو مدير بنك مصر محمد طلعت بك، فإذا علمتم ذلك، سلمتم بأن شأن كل مصلح الخضوع لسنن التقدم والرقي.
أيها السادة ... إذا تسنى لبني مصر أن يقيموا التماثيل لأولي الفضل من عظمائهم، وجب عليهم أن يذكروا أن قاسما في طليعة المصلحين المخلصين.
أيها السادة ... يظن البعض أن تعليم المرأة وإعطاءها حريتها يذهب بشيء من مميزاتها الطبيعية ويدخل في طباعها شيئا من الخشونة والرجولة، وقد وقع قاسم في خطأ ذلك الظن عند رده على الدوق داركور، إذ قال في دفاعه عن موضوع المرأة وهو يقارن بين الشرقية والغربية المتعلمة: (إن منظر الأم البارة يملك عواطفي ... ومنظر المرأة وهي قائمة بشئون بيتها يسرني، ولكني حينما أشاهد امرأة تبادرني وكتابها في يدها وتهز يدي بعنف صارخ: كيف الحال يا صديقي؟ أشعر نحوها بشيء لا يبعد عن النفور).
وقد تعلمون أيها السادة أن الإنسان ميال بفطرته لتشبهه بمن هو أرفع منه قدرا، فإذا حاولت المرأة المهضومة الحقوق أن تتشبه بالرجل، فلأنها تراه أرفع منها وأعز سلطانا في الهيئة الاجتماعية لتمتعه بكل حقوقه.
وإن اليوم الذي تصل فيه المرأة إلى حقوقها وتتبوأ مركزها بجانب الرجل، تحتفظ بأنوثتها ومميزاتها كما يحتفظ الرجل برجولته ومميزاته.
هذا عدا ما تجنيه الأمة من الفوائد العظيمة التي تنتج من تناسب الجنسين في كل مظاهر الحياة، ولست أشك في أن قاسما أدرك هذه الحقيقة أخيرا، فكانت من العوامل التي دفعته للمطالبة بتحرير المرأة وتعليمها، فرحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن المرأة وعن الوطن خير الجزاء.
خلفاء قاسم أمين
وبعد أن انتهيت من كلمتي، قدمت الخطباء واحدا بعد الآخر، وقد تحدث في البداية الأستاذ عبد الحميد حمدي المحرر بالسياسة، فاستهل خطبته بأبيات حسناء خاطب بها قاسما، وانتقل بعد ذلك إلى تاريخ النهضة النسائية في البلاد، وما كان لحركة سنة 1919 من التأثير فيها، وقال: «إن خلفاء قاسم أمين من الرجال وإن كانوا قد عملوا لنشر دعوته، غير أنهم وجدوا أنه خير للمرأة أن تتولى العمل بنفسها، وكان ما أملوه فأصبحت السيدة صفية زغلول في مقدمة العاملات لتحرير المرأة، ولا غرابة في هذا، فهي قرينة سعد زغلول الذي كان أصدق صديق لقاسم حتى إن هذا قدم إليه كتابه: «تحرير المرأة». ثم تقلدت هدى هانم زعامة الحركة، وهي كريمة سلطان باشا وزوج شعراوي باشا، ولكليهما نصيب كبير في الحركة الوطنية.»
وتحدثت بعد ذلك الآنسة عزيزة فوزي عن جهاد قاسم أمين في سبيل تحرير المرأة، وما كلل به عمله من النجاح رغم المعطلات.
دعوة على أساس الدين
وجاءت بعد ذلك كلمة فضيلة الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري، وقد ألقاها نيابة عنه عبد المعطي أفندي مرعي أستاذ اللغة العربية في المدرسة الحربية، وقد افتتحها بقوله: «إن كثيرين من الحاضرين كانوا أشد من وجع الضرس وضرباته على دعوة قاسم أمين وعلى شخص قاسم أمين.»
وقال إن قاسما كان في مبدأ حياته من الرجعيين، حتى إنه لما رد على الدوق داركور دافع عن الحجاب واستنكر السفور، فظنت الأميرة نازلي فاضل وكان مجلسها يجمع العلماء والفضلاء أمثال محمد عبده، سعد زغلول وعبد الكريم سلمان وفارس نمر ويعقوب صروف والمويلحي وابنه؛ أنه يقصدها، فغضبت لذلك، ولكن سعدا قدم صديقه إليها.
ولما رأى شدة عقلها ورجاحة حلمها ووثاقة فضلها، انقلب عن رأيه وأخذ يطالب بتحرير المرأة.
وأضاف بأن قاسما لم يكن ملحدا في مطالبته بتحرير المرأة بل بنى دعوته على قواعد الدين، كما أنه لم يرد تحرير المرأة من الرجل، بل أراد تحرير الرجل من المرأة الجاهلة. •••
وبعد ذلك تحدثت الآنسة درية أحمد شفيق من فتيات الإسكندرية، وألقت خطبة فرنسية قابلها السامعون بالتصفيق.
وكان أمير الشعراء أحمد شوقي بك قد أعد قصيدة بهذه المناسبة، وقد ألقاها بصوت جهوري شفيق بك جبر مدير مكتب معالي وزير المالية، ولقد كان من آيات نجاح دعوة قاسم أمين أن أمير الشعراء قد أصبح من مؤيديها بعد أن كان من معارضيها.
وكان من بين المتحدثين في هذا المهرجان، السيدة روفية رمضان ناظرة مدرسة الحلمية الابتدائية والأستاذ إبراهيم الهلباوي بك.
وختم الحفل الشاب قاسم أفندي أمين حفيد المرحوم قاسم أمين ونجل حضرة توفيق بك رشدي القاضي بمحكمة مصر، فشكر الاتحاد النسائي والخطيبات والخطباء الذين اشتركوا في حفلة التكريم بكلمات رقيقة، وقال: إن والديه سمياه باسم جده تيمنا باسم جده بذلك وأملا في أن ينهج نهجه.
الفصل الثامن والثلاثون
بدأت الحركة النسائية الأمريكية في تاريخ مواكب لتاريخ الحركة النسائية المصرية، ولذلك كان هناك اهتمام بما تحققه المرأة الأمريكية باعتبار أن هذا الدور يعطي صورة واضحة عما يمكن أن ينال اهتمام النساء في دول العالم المتقدم، وما يمكن أن تستفيد منه المرأة المصرية في هذا المجال، ومن هنا كان من الطبيعي أن تهتم الحركة النسائية المصرية بكل مؤتمر وكل إنجاز، وأن تتابع الصحافة المصرية معالم هذه النهضة لتفتح الأعين والأذهان على ما تحققه المرأة لخدمة الحياة العامة والاجتماعية.
وقد اهتمت الصحافة العالمية بالمؤتمر النسائي الأمريكي الذي عقد لمناقشة قضية السلام العالمي، وكتبت الصحف الإنجليزية تحت عنوان «نساء أمريكا ونساء العالم» تشير إلى ذلك المؤتمر الذي حضرته سبعمائة مندوبة من مختلف الولايات يمثلن عشرة ملايين امرأة في تلك البلاد، وقد بحث هذا المؤتمر موقف الحكومة الأمريكية إزاء دول العالم، وانتقد عزلة أمريكا وعدم تعاونها ومشاركتها في السياسة العالمية، وذهب المؤتمر إلى أن هذا الموقف هو الذي يفرض على الشعب الأمريكي بذل النفقات الطائلة لإنشاء أسطول عظيم يرقب الطوارئ ويدفع الملمات.
ومما يدل على أهمية هذا المؤتمر أنه قد حضره المستر دافيز وزير البحرية الأمريكية والأدميرال سكوفيلد بالنيابة عن الأساطيل، وقد ألقى كلاهما خطبة أيد بها سياسة تعزيز الأسطول الأمريكي لأغراض دفاعية فقط، ولكن المؤتمر النسوي استهجن هذا الأسلوب، وأصدر قرارا بأن الحكومة تسير على خطة من شأنها أن تزيد عوامل القلق وتجعل سلام العالم مهددا بأعظم الأخطار؛ لأن هذا البرنامج البحري الأمريكي سيزيد المنافسة بين الدول البحرية، وستؤدي الزيادة إلى تعكير جو السلام.
ولعل أهم القرارات التي أصدرها المؤتمر هو تنظيم خطة حملة عامة لتنوير أذهان الشعب الأمريكي وتحريضه على مطالبة الحكومة الأمريكية ببذل جميع المساعي الممكنة لحمل الدول على عقد محالفات متعددة لتحريم الحرب.
وقد وجه المؤتمر خطابا إلى المستر كوليدج رئيس جمهورية أمريكا، يستحثه به على استئناف المفاوضات مع الدول الأوروبية بقصد انضمام أمريكا إلى المحكمة الدولية.
وقد أثار هذا الموقف بعض الصحف الأمريكية، فانتقدت أعمال المؤتمر وقالت: إن المندوبات اللواتي حضرن المؤتمر لا يحجمن عن التضحية بمصالح الوطن بشرط المحافظة على السلام، وهي خطة لا تتفق مع الكرامة القومية في شيء، وليس للنساء شأن في الأمور الحربية حتى يتعرضن لها.
ولم تصمت المرأة إزاء ذلك ... فقد بعثت إحدى المندوبات برسالة إلى الصحيفة جاء فيها: «هناك أمور كثيرة نود نحن معشر النساء أن نعرفها، لقد كنا في الماضي مقيدات بقيود كثيرة، وكان يطلب منا أن نلزم عقر دارنا ونعنى بشئون بيوتنا، ولكن ذلك العهد قد انقضى وأصبح للمرأة في هذه البلاد وغيرها حقوق معترف بها، فهل يعاب علينا إذا نحن اهتممنا بمعرفة الأمور التي طالت خبرة الرجال بها، لقد اجتمع منا في هذا المؤتمر تسعمائة مندوبة يمثلن الملايين من النساء الأمريكيات، وإذا تذكرنا أننا شطر الأمة الذي يمد الوطن بالرجال، لم يبق وجه للاعتراض على عملنا ... إن خبرتنا بالشئون المنزلية قد علمتنا العناية بالأموال للاحتفاظ بميزانية الأسرة، وهذه الخبرة هي التي تدفعنا إلى الحرص على ميزانية الدولة ومنع كل عبث بها، فنحن نطلب أن نعرف - ولنا الحق أن نعرف - كيف تنفق الأموال وما هي وجوه ذلك الإنفاق.»
طريق السلام
كذلك فقد ألقت المسز شابمان، رئيسة الاتحاد العام للأندية النسوية الأمريكية، خطبة في المؤتمر قالت فيها: «إننا لا نعرف شيئا يضمن سلام العالم ويقصي شبح الحرب، وإنما نعرف أشياء كثيرة يجب أن نعمل معا إذا أريد تحقيق تلك الغاية، ومن جملة تلك الأشياء إنشاء نظام يضمن السلام ويوجد الطمأنينة في قلوب الدول ولا سيما الصغرى منها، وإيجاد نظام للفصل في المنازعات الدولية، وترسيخ فكرة السلام في عقول الناس وإزالة جميع عوامل القلق من النفوس، وتعويد الناس هذه الفكرة وهي أن القانون يجب أن يكون فوق القوة، وبذل كل سعي من شأنه تقوية دعائم السلام وترويج الدعوة إليه، وأننا نعتقد اعتقادا مخلصا أن السير على هذا السبيل يؤدي حتما إلى ضمان السلام وإزالة عوامل القلق من نفوس الناس.
هذا؛ وإن الاتحاد العام للأندية النسوية الأمريكية سيبذل كل جهوده ويعمل بكل قواه على تحقيق السلام العالمي ... السلام العادل الذي يشرف كل أمة، ويفسح لها مجال الرقي في ظل المدنية الحقيقية، وهذه مسألة جديرة بأن تسعى كل أمة إلى تحقيقها، وإن على نساء أمريكا تبعة خطيرة لا يستطعن التنصل منها، وهي السعي لضمان السلام العالمي.»
وقد نشرت جريدة السياسة الأسبوعية في عددها الصادر بتاريخ 26 مايو 1928 تعليقا مطولا على هذا المؤتمر وما دار فيه، وكتبت في نهاية التعليق تقول:
هذه خلاصة موجزة عن المؤتمر النسوي العظيم الذي عقد في أمريكا للدعوة إلى السلام، وهو كما قلنا أعظم مؤتمر نسوي شهده التاريخ، وقد لا نرى له نتائج محسوسة عاجلة ولكن تأثيره في المستقبل سيكون عظيما جدا، ومن أعظم الأدلة على عظم شأنه واهتمام الحكومة الأمريكية بأمره، حضور وزير الحربية الأمريكية وأحد أمراء البحر جلساته، واشتراكهما في مباحثاته، ولا نستطيع أن نتكهن الآن بما ستكون خطة الحكومة الأمريكية بعد القرارات التي أصدرها المؤتمر، ولكن ما يكاد يكون مؤكدا أن نساء أمريكا سيواصلن بذل جهودهن في سبيل سلام ورخائه.
السوق الخيرية
كان هذا النبض للحركة النسائية في مختلف أنحاء العالم يصل إلينا، فيدفعنا إلى مزيد من البذل، وكانت الحركة النسائية المصرية تركز على المجال الاجتماعي إلى حد كبير، باعتبار أن أول خطوة على طريق التقدم هي محاربة التخلف وبناء المستقبل السعيد للطفولة.
وتحقيقا لهذا الهدف، أقامت جمعية الاتحاد النسوي سوقا خيرية لصالح فتيات المشغل، كما أقامت حفلا خيريا للمساعدة في إعانة الطفل وتحقيق سلامته.
وقد تفضلت الأميرات آمنة إسماعيل وكمال الدين حسين وعفت حسن بافتتاح السوق وتشجيع الفتيات بشراء بعض منتجاتهن، كما تبرعت صاحبة السمو الأميرة أم المحسنين الوالدة ببعض الأموال للجمعية، فضلا عن مكافأة أربع عشرة فتاة من أوائل الناجحات بأساور وأقراط ذهبية جميلة، كذلك فقد وضع الأمراء آل لطف الله كازينة الجزيرة تحت تصرف الجمعية لإقامة حفلتها الخيرية.
وجدير بالذكر أن كرائم العقائل والآنسات قد تطوعن للظهور في المناظر الحية «التمثيل»، فكان لعلمهن نصيب في نجاح الحفلة وجمال تنسيقها.
وقد اجتمعت جمعية الاتحاد النسوي برئاستي لتقديم الشكر لكل من أسهم في هذا العمل الخيري، وقلنا في البيان الذي أصدرناه بهذه المناسبة:
إن إقبال حضرات الأميرات الكريمات على افتتاح السوق، والمساعدة في إعانة الطفل وسلامته، وحماية الفتاة والعناية بأمرها، يبعث في نفوسنا الأمل، ويقوي في صدورنا العزم، وإن هذا التشجيع الذي تلقاه جمعيتنا من أولي البر والإحسان يشد أزرنا ويدفعنا إلى مضاعفة الجهاد، فنحمد لهن جميعا سعيهن الجميل، وسنبدأ متى تهيأت لنا الأسباب في تشييد بناء مشغل ومكتب دار الاتحاد النسوي ومستوصفه، ليتسنى لنا توسيع دائرة عملنا في إعداد أمهات كاملات للمستقبل ... ومعالجة الأطفال الفقراء، وإرشاد أمهاتهم إلى مبادئ علم الصحة.
ولا يفوتنا أن نشكر حضرات الصحفيين الذين فرضوا على أنفسهم الجهاد في سبيل نشر التعليم وإعلاء شأن الوطن، ونشكر حضرات الآنسة أم كلثوم والأساتذة محمد العقاد ومحمد عبد الوهاب وسامي الشوا لمعاونتهم لنا بإدخال السرور على الذين شرفوا الحفلة.
وهذه التبرعات التي تفضلت بها:
جنيه
150
الأميرة أم المحسنين الوالدة
150
الأمير محمد كمال الدين حسين
100
محمد بك شعراوي
50
الأميرة نعمت مختار
50
الأميرة عزيزة حسن
30
صاحبة العصمة عائشة هانم فهمي
200
مسيو هيرمان، من شركة النقل الأمريكية
25
الأميرة خديجة عباس
20
الأمير كمال الدين حسين
10
الأمير ميشيل لطف الله
5
الأميرة فاضلة عزت
5
قليني باشا فهمي
1
مصطفى النحاس باشا
1
شركة الترام
1,5
البنك العثماني
1
مدام موصيري
1
مسيو جوزي كانبري
1
حنا بك باخوم
1
سعيد ذو الفقار باشا
1
إسماعيل سري باشا
0,5
حبيب بك دياب
6
تبرعات مختلفة
وإلى جانب هؤلاء فقد قدمت للجمعية هدايا من حرم المرحوم الدكتور طلعت باشا، وكريمة إسماعيل صدقي باشا، وكريمة حسين بك عاصم، وكريمات توفيق بك وعلي بك إسماعيل، وحفيدة الهلباوي بك.
هذا؛ وقد تحدثت مجلة «النور» في عددها الصادر بتاريخ 10 أبريل 1928 عن الدور الذي قام به الاتحاد النسائي من أجل تطوير الحياة الاجتماعية للمرأة، وبخاصة في أوساط الفقيرات ... وقالت المجلة:
لحضرة الفاضلة المحسنة الكبيرة هدى هانم شعراوي همة عالية، فهي لا تخطو خطوة ولا تأتي بحركة أو سكون، إلا لتنهض بعمل مفيد يعود على الأمة بالنفع، ناهيك بالمصنع العظيم الذي وهبت له الأموال الطائلة وأنشأته لعمل الخزف وجميع أنواع الصيني وجعلته خاصا لتعليم المئات من أبناء الفقراء والأيتام، وفوق ذلك فها هي المجلة الكبرى «المصرية» التي أنشأتها في مصر باللغة الفرنسية للدفاع عن كرامة السيدات المصريات تبرهن على سمو أفكارها، وكم لحضرتها رحلات في عواصم أوروبا وفي أمريكا ولأعظم مؤتمرات السيدات في الغرب، كانت فيها خير مثال لتشريف اسم السيدة المصرية.
الفصل التاسع والثلاثون
كانت مسز بانكهرست من أعظم الشخصيات النسائية التي برزت في بداية القرن العشرين، وكانت ابنة رجل من أعيان مدينة مانشستر، وقد تزوجت من الدكتور ريتشارد بانكهرست، وهو من كبار المحامين الإنجليز، وأنجبت منه ثلاث بنات وابنا واحدا، وكانت قد تلقت دراستها في مانشستر وباريس، وكان زوجها يعنى بكثير من الإصلاحات الاجتماعية، فكانت تساعده في ذلك وتؤيده، وبخاصة في كل ما له علاقة بإصلاح حال المرأة وتحريرها، وفي أوائل هذا القرن انتخبت عضوا في مجلس التعليم بمانشستر، ولكنها استقالت في عام 1906 وتفرغت للدفاع عن حقوق المرأة وإصلاح حالة الفقراء.
وكان زوجها قد مات قبل وفاتها في منتصف يونيو 1928 بثلاثين عاما، فانصرفت كلية طوال هذه الفترة لقضايا الوطن والمرأة، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، وقفت نفسها لخدمة الوطن، وتغاضت عن حقوق المرأة مؤقتا، وأخذت تعمل بين الشبان وتبث الدعوة للتطوع للحرب دفاعا عن الوطن ... وكانت لها خطب حماسية مشهورة يرددها الجنود في طريقهم إلى الميدان لترفع معنوياتهم وتزيدهم حماسة وصلابة.
وقد اهتمت الصحافة المصرية بنبأ وفاة مسز بانكهرست، باعتبارها زعيمة نسائية مرموقة على المستوى العالمي، وكتبت جريدة السياسة تقول:
في منتصف الشهر الحالي ... نعت الأسلاك البرقية مسز بانكهرست زعيمة المطالبات بحقوق المرأة في بلاد الإنجليز، وصاحبة الفضل الأكبر في تمتع النساء الإنجليزيات بما يتمتعن به من حقوق الانتخاب وما يتصل به من المزايا السياسية المختلفة، ولسنا نغالي إذا قلنا إن الثورة التي حملت مسز بانكهرست لواءها في إنجلترا ردحا من الزمن، هي سبب ما تتمتع به النساء اليوم في جميع أنحاء العالم من الحقوق السياسية والاجتماعية، فقد سرى لهيب تلك الثورة إلى جميع الأنحاء، وأيقظ في نفس المرأة الرغبة في التحرر من أصفاد الرق التي كانت ترسف بها منذ العصور المظلمة .
واستطردت الصحيفة تتحدث عن جوانب شخصية مسز بانكهرست، فقالت:
ولم تكن زعامة النهضة النسوية السياسية لتلهي مسز بانكهرست عن السعي لرفع مستوى تعليم المرأة والعناية بالعمال والعاملات وإصلاح شئونهم، وقد وقفت على ذلك قواها العقلية والجسدية ... ولحسن حظها كان زوجها يؤيدها في جميع مساعيها ... فكانت تزور المراكز التي تكثر فيها النساء العاملات فتدرس أحوالهن وتقف على جميع مطالبهن، ولم تكن حالة المرأة الإنجليزية يومئذ أحسن بكثير من حالة المرأة في العصور المتوسطة، ومع أن مسز بانكهرست رفعت صوتها بالشكوى من تلك الحالة مرارا ... إلا أن عظماء السياسة من الرجال وجميع الذين كان بيدهم مقاليد الأمور كانوا يسخرون بمطالبها ويصمون أذانهم عن سماع صوتها ضاحكين هازئين، ولم يكن عنادهم يزيدها إلا عنادا، فأخذت من سنة 1906 تجمع الأموال اللازمة لها لبث دعوتها ... وقد نجحت في هذا نجاحا غير منتظر، حتى قيل إنه ما من نهضة في إنجلترا جمعت لها الأموال التي جمعتها مسز بانكهرست لنشر دعوتها وإصلاح حالة المرأة الإنجليزية.
وما كادت الحرب تنشب في سنة 1914 حتى تناست مسز بانكهرست وجميع نساء إنجلترا قضيتهن، فسكتن عن المطالبة بحقوقهن مؤقتا وأخذن يوجهن كل جهودهن لخدمة الوطن وبث الدعوة بين الرجال لكي يتطوعوا للحرب، وفي مدة الحرب كلها لم يسمع أحد في إنجلترا بقضية حقوق المرأة، ولكن لما وضعت الحرب أوزارها وعاد الرجال إلى أعمالهم، عادت مسز بانكهرست وأترابها إلى النضال والكفاح، وكانت نفسيات الرجال في إنجلترا قد تغيرت إذ ذاك، فأصبح القوم أكثر عطفا على مطالب المرأة لما أدته لهم من الخدمات الجليلة في الحرب، وفي الواقع أن تلك الخدمات عادت على قضية المرأة الإنجليزية بأحسن النتائج؛ فقد شعرت الحكومة الإنجليزية بعد الحرب بأن الجنود العائدين من ميادين القتال، قد أصبحوا من أكبر مؤيدي المرأة العاطفين على مطالبها، فلم يكن من حسن السياسة الاستخفاف بعواطف الجنود وبدعوة مسز بانكهرست التي تكهربهم كلما وقفت للخطابة فيهم، ولا شك في أن مسز بانكهرست كان في إمكانها أن تسقط أية وزارة وأن توقد في إنجلترا نار حرب أهلية في ختام سنة 1918 لو أصرت الحكومة الإنجليزية على مناصبتها العداء، ولذلك رأت الحكومة أن تصغي إلى صوت العقل والحكمة، فهدمت جميع الحواجز التي كانت تحول دون وصول المرأة إلى حقوقها السياسية وإجابتها إلى جميع مطالبها ... فلم يكن من حسن ذلك كله لمسز بانكهرست التي كانت أعظم زعيمة نسوية عرفتها إنجلترا، بل أعظم زعيمة ظهرت في التاريخ.
كتاب مفتوح
هكذا كانت تتحدث الصحافة عن القيادات النسائية في مختلف أنحاء العالم، وهكذا كانت تؤازر النهضة النسائية المصرية، لكن رغم ذلك كان علينا أن نشق طريقنا وسط الصعاب، ولذلك وجهت كتابا مفتوحا إلى صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء وصاحب المعالي وزير الحقانية بشأن الدعوة النسائية للإصلاح الاجتماعي.
وقد جاء في هذا الكتاب المفتوح ما يأتي:
في شهر يونيو 1923 أوفدت جمعية الاتحاد النسائي التي لي شرف رئاستها وفدا من أعضائها لرئيس مجلس الوزراء يرفع إليه طلبين مهمين: تحديد سن زواج البنت، ومساواتها بالبنين في التعليم الثانوي والعالي، فرحبت وزارة صاحب الدولة يحيى إبراهيم باشا بهذين الطلبين مقتنعين بعدالتهما، وعملت فعلا على تنفيذهما.
امتلأنا غبطة وسرورا لإنصاف حكومتنا وحبها في الإصلاح، فشجعنا ذلك على تقديم مطالب أخرى حيوية تكفل سعادة الأسرة المصرية لما فيها من عدل وإنصاف يتفقان مع مقتضيات العصر الحاضر وروح الشريعة السمحاء.
رفعنا تلك المطالب في شهر نوفمبر 1926 في عهد وزارة صاحب الدولة عدلي باشا يكن إلى صاحب المعالي أبي السعود باشا وزير الحقانية إذ ذاك، فأعارها من الاهتمام ما هو معهود فيه من حب الإصلاح، ثم رفعناها أيضا إلى مجلس الشيوخ والنواب فصادفت ارتياحا من قبل الحكومة ونواب الأمة، فأحيلت على لجنة مكونة من نخبة من رجال الدين والقانون لدرسها درسا دقيقا، فرأت هذه اللجنة (اتقاء التصادم بأفكار الرجعيين) إدخال تعديلات كادت تذهب بمزاياها، وبعد الانتهاء من تعديلها، عرضها على مجلس النواب للتصديق عليها، فلم تسمح الظروف بنظرها، وتأجلت من جلسة لأخرى لاشتغال المجلس بغيرها من الأمور المستعجلة.
والآن وقد عطلت الحياة النيابية، وأخذت الحكومة الحاضرة على عاتقها القيام بتحقيق كل إصلاح ترى فيه سعادة الأمة المصرية بأسرها، رجالها ونسائها أغنيائها وفقرائها، كنا نأمل أن تعير مشروع الأحوال الشخصية ما يستحقه من العناية والاعتبار، غير متأثرة بعامل من العوامل إلا حب الإصلاح.
ولما كانت هذه عقيدتنا في الوزارة الحاضرة، هالنا ما قرأناه في جريدة المقطم مما يفهم منه أن الحكومة شارعة في إهمال مسألتي تعدد الزوجات وفوضى الطلاق أو تعديلهما تعديلا يذهب بالبقية الباقية من مزاياهما، بحجة أن تعدد الزوجات أخذ في التلاشي بسبب كثرة النفقات ولانتشار العلم والمعرفة، ولأن وقوع الطلاق على يد القاضي بعد ذكر أسبابه قد لا يكون في مصلحة الزوجين إذا فرض وكان لرجل ولزوجته ابنة في الثامنة عشرة من عمرها مثلا، وقد أتت الزوجة عملا منكرا يستحق الطلاق، فيكون في ذلك من التشويه بسمعة البنت ما يضر بمستقبلها ويقف حجر عثرة في طريق زواجها.
فهل هذه هي الأسباب الخطيرة التي من أجلها ترى الوزارة إهمال النظر في المسألتين السابقتين الحيويتين؟
لا نظن أن وزير الحقانية على ما نعهده فيه من الحكمة وسداد الرأي، يبدي مثل هذه الأسباب التافهة إذا أراد إهمال النظر في هاتين المسألتين.
أما عن المسألة الأولى، فإذا كنا نسلم بأن تعدد الزوجات قد أخذ في التلاشي، فقد يكون ذلك منحصرا في الطبقة الراقية من الأغنياء؟ لأننا لا نزال نرى بمزيد من الأسف كثيرا من المتعلمين يتزوجون بغير واحدة لا لسبب سوى إرضاء شهواتهم، كما نرى تعدد الزوجات شائعا بين الطبقتين المتوسطة والفقيرة، بالرغم من غلاء المعيشة، حتى إن بعض الفقراء إذا ادخر شيئا ولو قليلا من أجره اليومي، سارع إلى الزواج بزوجة أخرى بدلا من إنفاق ما ادخره في حاجات بيته الضرورية والعناية بأولاده وذويه.
أما المسألة الثانية، فإننا فضلا عن استيائنا لإهمال الوزارة جانب المرأة وحقوقها في هذا التعديل، فقد دهشنا كل الدهشة عند قراءة هذا السبب الغريب، إذ ليس من المعقول أن يعطل إصلاح عام حجم المزايا لفرض جزئي نادر الوقوع، على أن طلب الطلاق قد يكون من جانب المرأة لمثل هذه الأسباب أو غيرها.
ولو فرضنا وقوع مثل هذا الحادث الشائن، يظن أن الأولى بالتفكير في وقاية سمعة الأبناء والأحفاد هما الأبوان دون المشرع، وهما لا يعدمان حيلة تدبير الأسباب المعقولة لعرضها على القاضي عند طلب الطلاق.
وإذا فتشنا عن أسباب الطلاق، قل أن نجد من بينها مثل السبب الذي يخشاه المشرع.
بيد أن تقييد الطلاق بإذن القاضي قد يحفظ كيان الأسرة ويضمن طمأنينتها وسعادتها وفيه مجال للتريث وأناة، وهذا هو ما يرمي إليه القرآن الكريم إذ أمر بالتحكيم بين الزوجين إذا خيف شقاق بينهما، فقال تعالى:
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا .
فنرجو الوزارة باسم العدالة والحق أن تعير هذا المشروع ما يستحقه من العناية والرعاية، واضعة نصب أعينها أن سعادة الأسرة مرتكزة على سعادة المرأة، وأن امرأة اليوم ليست هي امرأة الأمس، وأنها لن تستطيع صبرا على هضم حقوقها إرضاء لشهوة الرجل.
ولنا أمل عظيم أن الوزارة تقدر الموقف، وتتدارك ما عسى أن يكون من ثورة نفس المرأة ونتائجها، فلا يكون نصيب هذا المشروع الحيوي المفيد في عهد وزارة الإصلاح الحاضرة نصيب قانون سن الزواج الذي سنته وزارة صاحب الدولة يحيى إبراهيم باشا، فجاءت وزارة المرحوم سعد باشا وأردفته بمنشور جرده من كل مزاياه وذهب بالفائدة التي كانت مرجوة منه، إذ أباح لموثقي العقود أن يكتفوا بشهادة الآباء والأولياء في تحديد السن دون أن يقدموا وثيقة رسمية بشهادة الميلاد أو شهادة طبيب تثبت السن الحقيقية.
وكان الغرض من سن هذا القانون، وقاية البنت من الزواج المبكر وحمايتها من تحكم آبائها وأوليائها في زواجها.
وبهذه المناسبة، نلفت نظر الوزارة إلى ما أحدثه هذا المنشور من إباحة زواج الصغيرة، وإلى الضرر المادي والمعنوي الذي ينشأ من هذا التصرف كالتشجيع على الكذب والتزوير وتضحية صحة الصغيرة والقضاء على نسبها.
ولنا رجاء عظيم أن الوزارة تحقق آمالنا فيها، ولا تتبع سنة بعض الوزارات السابقة كل منها تهدم ما بنته سالفتها. وأن يكون رائد وزارة الإصلاح في كل مشروع تقوم بتنفيذه العدل والإنصاف. وفقها الله إلى الخير والسداد.
الفصل الأربعون
كانت دعوتنا إلى إصلاح الأحوال الاجتماعية المتعلقة بالمرأة موضع مناقشة وجدل على صفحات الجرائد، وكان من الطبيعي أن تختلف الآراء بين مؤيد ومعارض، وكانت جريدة «التاج المصري» من بين الآراء المعارضة، ولكن حدث أن تصدى أديب كبير لوجهة نظرها بالنقد، فكتبت الصحيفة ردا عليه تحت عنوان «كلمة في رأي السيدة الزعيمة»، قالت فيه:
كتب إلينا أديب كبير يذكرنا بأن مبدأ الصحيفة أن تأخذ بالأصلح الأنسب، وأن ما تدعو إليه السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي إنما هو من هذا المبدأ، ورأى أن فيما كتبناه في الأسبوع الفائت من الرد على السيدة انحرافا عنه.
ولو أن سيدنا الأستاذ قد اطلع على الكتاب بأكمله الذي رفعته أخيرا السيدة إلى دولة رئيس الوزراء كما اطلع على ما كتبناه، لتأكد أننا في ردنا لم ننحرف عن مبدأ الصحيفة، ذلك لأن السيدة تطلب فيما رفعته أمرين؛ أولهما: منع تعدد الزوجات، وثانيهما: أن يكون الطلاق على يد القاضي، ونحن لم نرد عليها إلا في الأمر الثاني وتركنا الأول، لأننا نعتقد اعتقادا جازما أنها محقة فيه؛ لأن تعليق تعدد الزوجات على شرط العدل، وأن العدل غير قائم وأنه لفظ لا مدلول له في هذا الأمر، يشعر بأن هذا التعليق ضرب من التحريم، وأن الأولى مع هذا وما يسبب عنه من التعب العائلي واضطراب التربية أن يعدل عنه الراغب فيه.
ولكننا في الأمر الثاني أخذنا في نقده؛ لأننا نعتقد أن ما تطلبه السيدة ليس بالأصلح ولا بالأنسب وإنما هو إحراج ضرره أكبر من نفعه. وقد أبان معالي وزير الحقانية في حديث له بعض ضرره ومعايبه، ما دعانا إلى أن نعتبره غير صالح وما همنا فوق ذلك مما ذكرته السيدة إلا قولها: «وهما أي الوالدان لا يعدمان حيلة لتدبير الأسباب المعقولة لعرضها على القاضي عند طلب الطلاق.»
وواضح في هذه الدعوة التشبث بأن يكون الطلاق على يد القاضي، وأنه في حال وقوع ما يشين الزوجة يختلق الزوجان أسبابا يعقلها القاضي، لتسهيل سبيل الطلاق، وتكون شعارا على ما كتبته الزوجة الخائنة.
ولعمرنا إن التشريع الذي يدعو إلى الاختلاق لا يكون تشريعا يضعه مصلحون يرمون إلى تقديم الخلق، فإن كان سيدي الأستاذ الكبير لا يزال بعد ذلك يرى أن الطلاق على يد القاضي أوفى وأن السيد لا يزال بعد ذلك يرى صلاحية هذا التشريع، فإننا نقول له مع القائلين:
لكم دينكم ولي دين .
نصيب المرأة في الميراث
وفي ذلك الوقت الذي كانت تدور فيه مثل هذه المناقشات الحارة، اقترح الأستاذ الفاضل سلامة أفندي موسى في كتاب أرسله إلي أن أطلب إلى وزارة الحقانية سن قانون يساوي بين المرأة والرجل في الميراث، وقد أرفق خطابه بملخص محاضرة ألقاها بدار جمعية الشبان المسيحية عن نهضة المرأة في مصر، وكانت هذه المحاضرة قد نشرت في جريدة المقطم الغراء، وقد رددت على هذا الاقتراح بمقال في جريدة السياسة، قلت له:
يهمني أن أبلغ حضرة الأستاذ ومن حضروا خطبته أني في خدمتي لهذه النهضة أؤدي واجبا معهودا إلي من جمعية الاتحاد النسائي التي شرفتني برئاستها، ولما كان نصيب المرأة في الميراث ليس من المسائل الداخلة في هذا الموضوع، لا بإقرار الحالة الحاضرة ولا بتعديلها.
وإن كان لا بد من إبداء رأيي في هذا الموضوع، فأقول بصفتي الشخصية إني لست من الموافقين على رأي الأستاذ الخطيب فيما يتعلق بتعديل نصيب المرأة في الميراث. ولا أظن أن النهضة النسوية في هذه البلاد لتأثرها بالحركة النسوية بأوروبا يجب أن تتبعها في كل مظهر من مظاهرها، وذلك لأن لكل بلد تشريعه وتقاليده وليس كل ما يصلح في بعضها يصلح في البعض الآخر، على أننا لم نلاحظ تذمرا من المرأة أو شكوى من عدم مساواتها لرجل في الميراث، والظاهر أن اقتناعها بما قسم لها من نصيب، ناشئ من أن الشريعة عوضتها مقابل ذلك بتكليف الزوج بالإنفاق عليها وعلى أولادهما، كما منحتها حق استقلال التصرف في أموالها.
أما القول إن عدم المساواة في الميراث من دواعي إحجام كثير من الشبان عن الزواج في الشرق، فغير وجيه لأننا نشاهد في أوروبا انتشار هذا الداء في عصرنا الحالي انتشارا أشد خطورة منه في الشرق، بالرغم من أن الأوروبية ترث بقدر ما يرث الرجل، فضلا عن أنها ملزمة بدفع المهر، ومكلفة بالتخلي عن إدارة أموالها لزوجها.
ولو سلمنا بنظرية الأستاذ سلامة موسى وجاريناه في طلب تشريع جديد، فهل لا يخشى أن يؤدي ذلك إلى إسقاط الواجبات الملقاة على عاتق الزوج نحو زوجته وأولاده بإلزام الزوجة بالاشتراك في الصرف، وفي ذلك ما فيه من حرمان يعود بالشقاء والبؤس على الزوجات الفقيرات اللاتي لم ينلن ميراثا من ذويهن ... وهذه الطبقة تشمل أغلبية الزوجات، ولا يخفى ما هن عليه من جهل وأمية لا تسمحان لهن بمقاومة هذا الشقاء أو تلطيفه بخلاف مثيلاتهن في الفقر بأوروبا؛ لأن التعليم هناك يشمل كل الطبقات.
ترى الغربية أكثر حظا منها؛ لأنها تظهر لنا حائزة لقسط كبير من الحرية المدنية المساوية لحرية الرجل، بيد أنها أقل حظا من أختها الشرقية في الحرية الاقتصادية. فبينما الشرقية غير المتساوية مع الرجل في حق الميراث تتمتع بكافة أنواع الاستقلال في إدارة أعمالها وأموالها، نجد الغربية المساوية لأخيها في الميراث محرومة من هذه النعم، إذ لا يمكنها أن تنفق أي مبلغ من مالها، ولا أن تحترف حرفة دون تصديق زوجها وموافقته ... لذلك نراها ثائرة في جميع بلدان أوروبا على تلك القيود التي تحول بينها وبين الحرية الحقيقية والاستقلال منذ عصور طويلة.
ومن الرجم بالغيب أن يقال إن المرحوم قاسم أمين لما قام بنشر كتبه في سبيل تحرير المرأة، كان ينوي المطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الميراث وإن الذي أخره عن إعلان هذا المطلب هو انتظار نضوج الرأي العام.
فالمطلع على كتب المرحوم قاسم يقرأ من بين سطورها أنه كان يعنى فقط بجعل المرأة عضوا صالحا في الهيئة الاجتماعية، وأن نعد الفتاة لتكون أهلا للقيام بنصيبها من العمل في خدمة عائلتها ووطنها.
ليس في شرائعنا ما يميز بين المرأة والرجل في التعليم، ولا في أنواع الحرف، ولا في الوظائف العامة بدون أي اعتراض بقدر تدرجها في التعليم، ولذلك نشاهد في كل عام ازدياد عدد الموظفات في وظائف التعليم ومصالح التليفونات والطب وغيرها، ولا فرق في الأجر بين الرجل والمرأة المتساويين في الكفاءة بخلاف ما هو جار في أوروبا اليوم.
إن أهم ما يشغلنا اليوم في الوصول بالمرأة إلى المركز اللائق بها، ليس هو السعي لتغيير القوانين أو قلب الشريعة، فلله الحمد لم نجد في هذه ولا تلك من الأحكام ما يحملنا على التذمر والشكوى ... بل كل ما نسعى إليه هو حسن تطبيق هذه القوانين بما يطابق غرض الشارع وحكمه، وكل المطالب التي تقدمنا بها إلى الحكومة ترجع إلى تحقيق هذا الغرض لتحسين حال العائلة وهنائها.
وما عرضناه تنظيما لمسائل الطلاق والزواج والحضانة وبيت الطاعة يرجع إلى هذا أيضا، ولا يخرج عن أحكام الشريعة الغراء.
فإذا كان هناك من موجب لاستياء المرأة وشكواها، فليس من رجحان نصيب الرجل على نصيبها في الميراث، بل من تصرفات أخرى يتبعها الوالدان، وكثيرا ما تفضي إلى حرمانها من هذا النصيب الضئيل بطريق الوقف. وإذا شكونا منها لا نكون متظلمين من الشريعة نفسها بل من الخروج على أحكامها بهذه الحيل باسم الدين وهو بريء منها، أعني بذلك احتيال الوالدين على حرمان بناتهم مما قدر لهم شرعا بواسطة الوقف، فيرصدون أموالهم على الذكور، على أن المجمع عليه شرعا أن المورث لا يملك في حياته تعديل نصيب ورثته بعده، وكل تصرف يخالف ذلك يعتبر باطلا.
دعاة الإلحاد
ولعل حكومتنا القائمة بالإصلاح الآن توفق لأن تضع حدا لهذا الظلم المخالف للعدل ولروح الشريعة الغراء.
وقد هاجمت صحيفة الأخبار دعوة الأستاذ سلامة هجوما عنيفا. وقالت في مقال منشور بتاريخ 29 ديسمبر 1928: «مكانكم يا دعاة الإلحاد ... لقد كان في النية أن نرد كيد دعاة الفتنة إلى نحورهم، ولكنا رأينا أن حضرة السيدة هدى شعراوي هانم قد قامت بهذا الواجب ... ولعل في رد السيدة ما يرجع دعاة الإلحاد إلى الصواب، وإلا فإن هم عادوا عدنا وأخرجنا من الجراب ما يلقف ما صنعوه، وما صنعوا إلا سحر ساحر
ولا يفلح الساحر حيث أتى .»
رسالة الأمير طوسون
وقد تلقيت في أعقاب نشر المقال، رسالة من الأمير عمر طوسون يعلق فيها على موقفي من مسألة الميراث، وقد نشرت الصحف نص هذه الرسالة التي جاء فيها:
قرأنا المقال الحكيم المنشور في جريدة الأهرام الغراء تحت عنوان «نصيب المرأة في الميراث»، فسرنا أن تكون الحكمة رائد عصمتك فيما توخيته من نهضة المرأة المصرية والعمل على رقيها مع الاحتفاظ بالشرائع الإلهية والصالح من عاداتنا وأخلاقنا ومميزاتنا القومية كأمة لها كيان بمقوماتها ومشخصاتها. فهذه هي طريق الإصلاح النافع وسبيل النهضة الصحيحة.
أما الدعوة إلى إطراح قوميتنا والانفصال شيئا فشيئا عن أصول ديانتنا، تلك الدعوة التي يدعو إليها الآن نفر منا رأوا الشقة بيننا وبين الغربيين بعيدة، فأرادوا بحسن قصد فيما نظن أن يعلوا بنا إليهم من طريق الطفرة، وحسبوا من استحكام حلقات التأخر وتغلغله فينا أن ليس لنا نجاة إلا بتحطيم ما نحن عليه من خلق وعادات ودين، فتلك دعوة خطرة المغبة، سيرون بأعينهم قريبا من عملوا بها قد ضلوا الطريق وأصبحوا حيارى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
لذلك كان إعجابنا بمقال عصمتك في وسط هذه المحن التي تحدق بالشرق والشرقيين إعجابا لا حد له، وارتياحنا إليه من هذه الناحية عظيما كبيرا، خصوصا أنك أيدت فيه جانب الشريعة الإسلامية الغراء، وبينت وجه الحكمة وسر التشريع في نقص نصيب المرأة عن الرجل في الميراث ... وإذا كان اللائق في بعض الأحيان يدعو إلى الإغضاء على القذى والغض عن الإساءة، فالواجب يحتم أن يقال للمحسن أحسنت، وهذا هو الذي أردناه من كتابنا هذا إلى عصمتك.
عيد المصرية
وخلال هذه الفترة ... وبالتحديد في يوم 24 ديسمبر 1928، احتفلنا بالذكرى الثالثة لصدور مجلة المصرية «الاجبسيين»، وهي مجلة كنت أصدرها باللغة الفرنسية للتعريف بأحوال المرأة المصرية وتطوراتها ... وقد أقيم هذا الاحتفال في منزلي، وشاركت فيه شخصيات عامة من الرجال والنساء، تقديرا لدور هذه المجلة.
وقد كتبت جريدة المقطم بهذه المناسبة تقول: «اليوم تستقبل مجلة «المصرية» الذكرى الثالثة لظهورها، وإننا لسعداء بأن نحييها عند بزوغ فجر هذا اليوم سائلين لها عمرا طويلا وجولات صالحة في ميدان الخير العام.
إن مجلة «المصرية» هي مجلة نسوية تنادي بما يخالف مبادئنا وخطتنا في تربية المرأة وفي تحديد حقوق المرأة وبيان مهمتها، وفي القرن العشرين، عهد توزيع الأعمال والتخصص في فروع كل مهنة، تقول بمزاحمة الجنس اللطيف للجنس الخشن، ولكنها مع ذلك سدت من ناحية أعمال البر بالإنسانية وإغاثة الملهوفين وتشجيع الصنائع المصرية وبخاصة القديمة منها.
على أن الخلاف في الرأي لا بد منه في أمة تريد النهوض ... بل هو بمثابة عنصر في الدواء العام لمختلف الأمراض».
الفصل الحادي والأربعون
كنت حريصة على متابعة كل مظاهر النهضة النسوية وبخاصة في مجال التعليم، وكان يقيني أن التطور لا بد أن يتحقق مع تعليم الفتاة وتفتحها على الحياة والثقافة العصرية، وكان إيماني أن كل نافذة جديدة للعلم هي بمثابة انتصار جديد لقضية المرأة، ولقد كان تعليم الفتيات مقصورا في البداية على تخريج معلمات، أما في المجالات الأخرى فقد كان مقصورا على مراحل أولية أو متوسطة، ومن ذلك اشتغال الفتيات بالطب كان محصورا في مجال تلقي المبادئ الأولية الكافية لتخرج «قابلات»، ثم عرفت الفتيات بعد ذلك فن التمريض.
ولكن إنشاء الجامعة المصرية فتح الباب أمام الفتيات لتلقي العلوم العالية كما يتلقاها الفتيان، وحدث في أول العام الدراسي 28 / 1929 أن تقدمت ست فتيات ممن أتممن دراستهن الثانوية يطلبن الالتحاق بقسم التحضيري لكلية الطب بالجامعة وقد ترددت إدارة الجامعة أول الأمر في قبولهن، ولكنها لم تجد في القانون ما يساعدها في رفض طلبهن، وكان أن تحقق لهن ما أردن. وهؤلاء الفتيات الست هن: سعادات راشد، وحكمت البدري، وفاطمة فهمي، وعايدة أنطون، ونفيسة أحمد.
ولما كنت قد أزمعت السفر إلى مؤتمر برلين على رأس وفد الاتحاد النسائي، فقد رأيت أن أزور طالبات الطب بالجامعة قبل سفري حتى أقف بنفسي على سير تعليمهن ومبلغ نجاحهن ، وبذلك يمكنني أن أتحدث عن تقدم المرأة المصرية من موقع المعرفة والمتابعة، وهذا هو رأيي دائما: أن أتحدث عن معلومات معروفة بالنسبة لي تمام المعرفة، وأن أكون ملمة بكافة جوانبها ومستعدة للمناقشة فيها.
وقد تمت هذه الزيارة بالفعل في الساعة الحادية عشرة من صبيحة يوم 2 أبريل 1929، وقد أثنى جميع الأساتذة على سير الفتيات في علومهن، وقالوا: إنهن يتميزن على الفتيان بعدة أمور منها إتقانهن اللغة، وجلدهن على العمل، وتخصيص أغلب أوقاتهن للدرس. أما عن الوجهة الأخلاقية فكان الثناء على الفتيات مقرونا بالإعجاب التام.
مؤتمر برلين
وكان من المقرر أن يعقد مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي اجتماعه السنوي الخامس والعشرين في شهر يونيو في مدينة برلين، وقد تعودت المرأة المصرية منذ شاركت في مؤتمر روما عام 1923 أن تحضر هذه المؤتمرات دوريا، وأن تشارك فيها بالدراسة والمناقشة، وكان الغرض من عقد مؤتمر برلين «السعي لتحرير نساء جميع الأمم بتوسيع نطاق حق تصويت المرأة وإصلاح أمور أخرى لا بد منها لإيجاد مساواة حقيقية في الحريات والحالات بين الرجال والنساء، وتعليم النساء ليتمكن من زيادة تنورهن في الحياة العامة».
وكان الاتحاد النسائي الدولي قد ازدهر في هذه الفترة، فبعد أن كان يضم في البداية عددا قليلا من الدول، كبر شأنه واتسع نطاقه وصارت له فروع في 45 قطرا من أقطار العالم، وجدير بالذكر أن اللجنة العاملة للمؤتمر كانت تضم اثنتي عشرة سيدة من اثني عشر قطرا من أوروبا وأمريكا ومصر، فلم يكن بين هذه الأقطار أي قطر شرقي آخر غير مصر.
وقد عقد المؤتمر في 17 يونيو 1929، وبلغ عدد أعضائه 500 عضو، وكان هناك من بين الدول المشتركة فيه 25 دولة قد منحت النساء حق الانتخاب.
وكان المؤتمر وأعضاؤه موضع عناية تامة من الشعب الألماني والحكومة الألمانية ... وقد اشترك وخطب فيه كبار رجال الدولة من وزراء وحكام وسياسيين. وإذا عرفنا أن 55 في المئة من نساء ألمانيا يشاركن الرجال في الأعمال، فإننا نستطيع أن ندرك من خلال ذلك مدى اهتمام الشعب الألماني بالجمعيات والمؤتمرات النسوية.
وقد ألقى الهر سفرنج وزير الداخلية خطبة الافتتاح، وكان مما جاء فيها: لو كان للنساء حق الانتخاب قبل سنة 1914 لما اندلعت الحرب وأنزلت الخراب بالعالم؛ لأن النساء قد يقدرن مخاطر الحرب ويألمن من عواقبها أكثر من الرجال، فبواسطتهن سيتحقق حلم الإنسانية الرامي إلى نشر السلم والإخاء بين الأمم، وعلينا ألا ننسى أن المرأة هي رئة الأمة، منها يدخل الهواء النقي المنعش لسائر أعضاء الجسم.
وقد أتيح لنا أثناء إقامتنا في برلين زيارة المستوصفات وملاجئ الأطفال وجمعيات رعاية الأمهات، وقد درسنا نظام تلك النشاطات الاجتماعية التي تمت وازدهرت في ألمانيا أكثر من سواها، وكان يتولى إرشاد الأعضاء في هذه الزيارة طائفة من سيدات الطبقة الراقية في برلين.
وإذا كان الوفد النسائي المصري قد استطاع أن يحقق فوائد أدبية كثيرة في هذا المؤتمر، فلا جدال في أن فوزه الأكبر كان في حمل المؤتمر على إقرار الاقتراح التالي:
جهودنا لإلغاء الامتيازات
نظرا؛ لأن نظام الامتيازات لا يدع للسلطات المصرية أية سيطرة على منازل البغاء الأجنبية، كما أنه لا يدع لها أية سلطة لمراقبة تجارة المواد المخدرة التي تفتك بالشرق فتكا ذريعا.
ونظرا لضرورة إلغاء تلك المنازل وهذه التجارة كما تقدمت توصيات بذلك إلى جمعية الأمم.
فإن المؤتمر يطلب من الجمعيات المشتركة فيه أن تسعى كل لدى حكوماتها لتسهيل ما تقوم به السلطات المصرية من أعمال التطهير صحيا وأدبيا.
وقد لقي هذا الاقتراح بعض الاعتراض، وبخاصة من جانب رئيسة الوفد الإنجليزي لعلاقته بنظام الامتيازات ما يجعل له صفة سياسية. وكان المطلوب هو إرجاء النظر فيه إلى مؤتمر قادم. ولكني حرصت على الاتصال برئيسات سائر الوفود بين الجلسات حتى كللت مجهوداتنا بالنجاح. ونذكر هنا بالفضل دور رئيسة الوفد الفرنسي مدام كرامر باك المحامية، فقد حملت على نظام الامتيازات المجحف حملة صادقة، فوافق المؤتمر على الاقتراح المصري بالإجماع ما عدا الوفد الإنجليزي الذي امتنع عن التصويت.
ومما يذكر أيضا أن المؤتمر قرر قبل انفضاض جلساته أن ينتخب مكتبا يسمى «مكتب الاتحاد النسوي العام» وهو مؤلف من عشرين عضوا، وقد أعيد انتخاب رئيسة الوفد المصري عضوا في هذا المكتب بعد أن رشحتها للعضوية ممثلات 211 دولة ونالت في الانتخاب العام 161 صوتا. فكان هذا إشادة بذكر مصر ورفع اسمها بين الدول.
المرأة المصرية في برلين
وقد كتب الأستاذ كريم ثابت، وهو أحد الصحفيين المصريين البارزين وابن رئيس تحرير جريدة المقطم، مقالا تحت هذا العنوان؛ حيث تصادف وجوده في ألمانيا أثناء انعقاد مؤتمر برلين، قال فيه:
اتفق وجودي في برلين في الشهر الماضي في أثناء انعقاد المؤتمر النسائي الذي دعا إليه الاتحاد النسائي الدولي. وقد مثلت مصر فيه السيدة هدى هانم شعراوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري والآنسة حداد والآنسة سيزا نبراوي والآنسة ماري كحيل تمثيلا لائقا مشرفا لهذه البلاد ولسيداتها الناهضات ... وحسبي أن أورد هنا للقراء ما حدث في المأدبة الشائقة التي أقامتها السيدة هدى هانم في فندق «كايزر هوف» ببرلين لجمهور من وزراء الألمان الحاليين والسابقين وكرائم السيدات والأوانس اللواتي ينتمين إلى أكبر البيوت الألمانية العريقة في الحسب والنسب.
وقد كان في مقدمة من لبى الدعوة إلى المأدبة المصرية سعادة الدكتور جرارد وزير الحقانية الألمانية الحالي وسعادة الهر روزن وزير الخارجية الألمانية الأسبق وقريناتهم، والبارونة كاردورف عقيلة وكيل مجلس الرخستاغ وزعيمة الحركة النسائية في ألمانيا، وغيرهم من الكبراء والعظماء. وكان الرجال لابسين ملابس السهرة الرسمية (الفراك لا السموكنج) ومتقلدين أرفع نياشينهم دلالة على عظمة تقديرهم للدعوة التي وجهت إليهم وشدة اعتبارهم لها.
وبعد الفراغ من الطعام، نهضت السيدة هدى هانم شعراوي وخطبت خطبة بليغة باللغة الفرنسوية، شكرت فيها الألمان ولا سيما السيدات الألمانيات على ما لقيه الوفد النسائي المصري من حفاوتهن وإكرامهن، وعلى ما صادفته الاقتراحات المصرية من العطف والتأييد في جلسات المؤتمر وخصوصا ما يتعلق بوجوب تعديل الامتيازات الأجنبية تعديلا يشد أزر الحكومة المصرية في الضرب على أيدي المتاجرين بالمواد المخدرة. وعقبتها الآنسة ماري كحيل فخطبت بالألمانية بطلاقة أدهشت سامعيها من أبناء تلك اللغة وبناتها. فبسطت للحاضرين المراحل المتعاقبة التي اجتازتها النهضة النسائية في مصر في السنوات الأخيرة.
ونهضت بعد ذلك البارونة كاردورف ، وارتجلت خطبة ضافية باللغة الألمانية تولت الآنسة ماري كحيل ترجمتها إلى الفرنسوية، ومما قالت زعيمة الحركة النسائية في ألمانيا إنها زارت مصر في الشتاء الماضي للاستشفاء، فانتهزت فرصة إقامتها فيها لتدرس حقيقة النهضة النسائية المصرية عن كثب، فخرجت من هذا الدرس وهي مطأطئة احتراما للمجهود الذي بذلته سيدات مصر في هذا الميدان، وقالت: «وبلغ من شدة إعجابي بنشاطهن وحماستهن أنني قلت في نفسي لو لم أكن ألمانية لأحببت أن أكون مصرية.» ثم استطردت إلى الكلام عن السجون والإصلاحيات والملاجئ والعيادات النسائية في مصر. فأفاضت في الكلام عما شاهدته من النظام والنظافة وحسن المعاملة في سجن النساء، وتكلمت بعد ذلك عن الملجأ الذي أنشأته السيدة هدى هانم شعراوي فوصفت أقسامه وما شاهدته من إقبال اليتيمات وغيرهن على الاستفادة من العلوم والصناعات التي يتلقينها فيه. وهنا نوهت الخطيبة بمآثر السيدة هدى هانم ومناقبها وبحسن بلائها في سبيل رفع لواء النهضة النسائية في مصر، فصفق الحاضرون وهتفوا لرئيسة الاتحاد النسائي المصري، فسارت البارونة كاردورف إلى حيث كانت السيدة هدى هانم جالسة وقبلتها بين تصفيق المدعوين الشديد. ثم تكلم كاتب هذه السطور بالفرنسوية.
وعقب سعادة الهر سفرنج ... فقال: «إن أول اجتماع للنهضة النسائية الألمانية عقد في حديقة داره من نحو خمس وعشرين سنة بناء على دعوة وجهت إلى سيدات برلين باسم قرينته، وأنه لما عقد يومئذ ذلك الاجتماع الأول من نوعه، تساءل الناس هل يكون الثبات شعار المرأة الألمانية والنجاح نصيبها، فإذا به اليوم يشاهد المرأة المصرية تجلس إلى جانب المرأة الألمانية وإلى جانب الفرنسوية والإنجليزية والأمريكية وغيرها، وتمثل بلاد الفراعنة تمثيلا خليقا بكل إجلال وإكبار؛ لأنها لا تقل بذكائها وفطنتها وعلمها ونشاطها عن أي امرأة كانت في أي بلد كان من بلدان الغرب.
وتلاه سعادة الهر جرارد وزير الحقانية الألمانية، فقال إنه يتشرف بأن يكون من أنصار النهضة النسائية في العالم، وإنه لمن بواعث اغتباطه أن يجاهر في هذه المأدبة المصرية بأنه وهو كوزير للحقانية الألمانية سيفرغ قصارى طاقته، ليعمل على تحقيق مطالب المرأة الألمانية التي ترمي إلى مساواتها بالرجل في الحقوق المدنية في ألمانيا، فنهضت السيدة هدى هانم وشكرته على هذه المجاملة الرقيقة.
هذه سطور رأيت أن أخطها عقب عودتي إلى مصر من أوروبا، ليطلع أبناء هذا الشعب وبناته على صفحة وجيزة من صفحات الجهاد القومي الاجتماعي الأدبي الجليل القدر، الذي تجاهده السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي في سبيل نشر الدعوة لبنات جنسها في بلاد الغرب؛ حيث لا يزال الناس يجهلون الشيء الكثير عن مصر والمصريين والمصريات.
الفصل الثاني والأربعون
كان صوت النهضة النسائية الصاعدة في مصر قد بدأ يحقق صدى طيبا بالنسبة للمرأة العربية في كل البلدان الأخرى، وكان من مظاهر ذلك أن قام المجمع النسائي العربي في بيروت، الذي يضم نساء لبنان وسورية وفلسطين، بعقد اجتماع في أكتوبر 1929 قرر فيه عقد مؤتمر نسوي عام في الربيع المقبل بمدينة دمشق، وذلك للنظر في حالة المرأة، وإحياء آداب اللغة العربية، وترويج المصنوعات الوطنية، وتعزيز الوحدة القومية بين نساء الطوائف المختلفة، وتعليم الفتيات وتهذيبهن لرفع مستواهن.
وقد كتبت الأديبة المعروفة «مي زيادة» مقالا مسهبا عن هذا المؤتمر في جريدة الأهرام الصادرة بتاريخ 12 أكتوبر 1939 قارنت فيه بين اهتمام الرجال بالسياسة، واهتمام المرأة بما هو أهم وأفعل وأنفع.
المرأة والتطور العالمي
وفي 12 نوفمبر 1929، ألقيت محاضرة في الجامعة الأمريكية تلبية لدعوة المستر مكلنهن مدير الجامعة، عن دور المرأة في حركة التطور العالمي، تناولت فيها كفاح المرأة في الغرب من أجل الحرية والمساواة، ثم تطرقت إلى دور الاتحاد النسوي المصري في المؤتمرات النسائية الدولية ابتداء من مؤتمر روما عام 1923 ثم مؤتمر جراتس عام 1925، وباريس عام 1926، وأمستردام عام 1927، وبرلين عام 1929، ثم رحلتي إلى أمريكا ولقائي مع المؤسسات النسوية ومعارضنا التي تصور النهضة المصرية، بالإضافة إلى ما حققه الاتحاد من تقدم كبير في حالة المرأة المصرية والغربية.
وقلت: «إذا كنا في نهضتنا لم نجد أساسا من الماضي نبني عليه، فما عدمنا من بين الرجال عضدا في فتح الطريق أمامنا وتشجيعنا على السير فيه.
فقد كان لصاحب الشريعة الإسلامية
صلى الله عليه وسلم
الفضل الأول في منح المرأة أمانة التشريع منذ ثلاثة عشر قرنا ونيفا؛ حيث قال: «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء»، وهو يشير بذلك إلى السيدة عائشة رضي الله عنها إلى غير ذلك من مكاسب المرأة؛ نتيجة جهود الاتحاد ومؤازرة رجال مصر النابهين.»
وقلت أيضا: «إن موقف المرأة الغربية إزاء الرجل في الحركة النسائية غير موقف المرأة الشرقية، فالغربية وهي تنشد استقلالها تصادف موانع كثيرة أساس معظمها القوانين، فكأنها في جهادها تعمل على إنقاص حق من حقوق الرجل، أما الشرقية فشأنها غير ذلك، فهي لا تطلب من الرجل إلا فتح أبواب الثقافة والتجارب أمامها لتحسن إدارة شئون واستقلال حقوق خولتها لها الشريعة الإسلامية.»
مبنى الاتحاد النسائي
وفي شهر أبريل 1931، قمنا بوضع حجر الأساس لمبنى الاتحاد النسائي قرب قصر العيني، وحضر هذا الاحتفال أعضاء اللجنة الاستشارية المكونة من محمد علي باشا، والدكتور محمد شاهين باشا، والدكتور طه حسين، والدكتور محمد حسين هيكل، والدكتور منصور بك، وأحمد فهمي العمروسي بك، ومصطفى عبد الرازق بك، وأنطون الجميل بك. ومن أطباء المستوصف التابع للاتحاد الدكتور سامي كمال بك والدكتور حجار.
وقد كتب الأستاذ أحمد الصاوي محمد في عموده «ما قل ودل» بجريدة الأهرام الصادرة في 4 أبريل 1931، يقول: إن يوم الاتحاد النسائي هو يوم مجيد عزيز على الأيام ... وهو يتوج مجهودات السيدة النبيلة هدى هانم شعراوي، وهو يشهد بهمة السيدات الفضليات اللواتي يقفن إلى جانبها، ويعاونها في المكرمات، وهو يوم فخر لمصر.
وقد ألقيت خطبة بهذه المناسبة، قلت في نهايتها:
ليس لدي ثوب أقدمه لحضراتكم اليوم سوى هذا العلم الذي يمثل وحدتنا القومية، وهو العلم الأول الذي اتخذناه رمزا لنهضتنا في أول مؤتمر دولي نسائي اشتركنا فيه بمدينة روما عام 1923. فهيا سادتي وسيداتي نحمل حجرنا الأساسي في هذا العلم المبارك إحياء لهذه الذكرى الجليلة التي نفخر بتدوينها في تاريخ نهضة المرأة المصرية.
مظاهرات السيدات
في أوائل مايو 1931، قامت مظاهرات وطنية قابلتها الحكومة بالقمع الشديد ... وكان أن قامت مظاهرة من النساء في القاهرة تحتج على هذا العنف ... فإذا بها تواجه مثل هذا العنف. وكان أن نشرت في الصحف تحت عنوان «خطاب مفتوح لرئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا» قلت فيه: «علمنا بمزيد من الحزن والأسف ما لحق سيدات مصر من الإهانة والتعدي على كرامتهن، وسوقهن إلى مراكز البوليس بطريقة وحشية عند خروجهن، للاطمئنان على ذويهن وعلى كبار رجال الأمة.
فباسم العدالة والإنسانية نرفع لدولتكم احتجاجنا هذا، ولعلكم تفطنون إلى أن مثل هذه التصرفات لا تربح منها الحكومة شيئا، سوى نفور الأمة وزيادة انحرافها عنها، وليس هذا من الحكمة السياسية في شيء.»
كذلك فقد قمت بزيارة بيت الأمة، وقابلت أم المصريين، وعبرت لها عن مشاعر المشاركة، وفي اليوم التالي كررت الزيارة مع نحو ستين سيدة في سياراتهن، وتعالت الهتافات بحياة دستور 1923، وحياة الزعيمين المؤتلفين مصطفى النحاس باشا ومحمد محمود باشا، وسقوط الانتخابات، وكانت هذه المظاهرة مفاجأة لوزارة الداخلية التي حاصرت السيارات، ثم أفرجت عنها واحدة بعد الأخرى، على أن تسير كل سيارة في اتجاه مخالف.
رفقا بالأطفال
وقد هالنا فيما بعد ما اتصل بنا من أخبار تعدي رجال البوليس على الأطفال الصغار الذين تجمعوا في شوارع القاهرة لمشاهدة مواكب السيدات، وأصدرنا احتجاجا باسم الإنسانية والقانون ضد هذه التصرفات التي لا مبرر لها إلا نشر الرهبة والفزع بين كل طبقات الأمة.
كذلك فقد احتجت الهيئات النسائية في مصر على هدم الدستور، واستمرار وزارة صدقي باشا في نشر سياسة الطغيان والإرهاب في البلاد، وأعلنا مقاطعة الانتخابات.
وقد امتدت المظاهرات إلى كل أنحاء البلاد، لدرجة إلقاء القبض على الأطفال في بني سويف، وتصدى البوليس لمظاهرة النساء في بور سعيد، ما أدى إلى جرح ثلاثين عسكريا.
غاندي في مصر
كان الزعيم الهندي المهاتما غاندي عائدا من لندن إلى الهند بعد حضوره مؤتمر المائدة المستديرة في ديسمبر 1931، وكان المفروض أن ترسو الباخرة في السويس، وهذا يتيح له زيارة القاهرة، ولكن السلطات البريطانية غيرت هذا الترتيب؛ بحيث ترسو الباخرة في بورسعيد فلا يتمكن من القيام بهذه الزيارة، وبخاصة أنها كانت تعلم مكانة غاندي في قلوب المصريين وإعجاب سعد باشا به، وكان أن فكرت الهيئات في إرسال وفود عنها لتحيته والتعبير عن مشاعر المصريين نحوه، وقد سافر محمود فهمي النقراشي باشا مندوبا عن الوفد وهو أحد الأعضاء البارزين فيه، والآنسة سيز نبراوي مندوبة الاتحاد النسائي، وقد طلبت منه سيزا أن يوجه كلمة للسيدات المصريات، فكتب بالإنجليزية ما نورد ترجمته بالعربية:
أرجو أن تلعب الأخت المصرية الدور نفسه الذي تلعبه أخواتها الهنديات في حركة تحرير أراضيهم المحترمة؛ لأنني أعتقد أن عدم القسوة هو امتياز المرأة.
محاضرات الاتحاد النسائي
استن الاتحاد النسائي سنة جديدة، وهي إقامة موسم ثقافي يحاضر خلاله كبار الأساتذة والعلماء الأفاضل ... وقد افتتح هذه المحاضرات الدكتور طه حسين عن «الأدب العربي من عهد الحملة الفرنسية إلى عهد الخديوي توفيق».
مقابلتي للملك فيصل
حدث أن كنت مسافرة إلى أوروبا على الباخرة شمبليون عام 1933، وكان جلالة الملك فيصل الأول ملك العراق ضمن المسافرين على هذه الباخرة، وقد التقيت به بعد الغداء وأنا في طريقي إلى المصعد؛ حيث حييته فرد التحية على أحسن ما يكون، ودار بيننا حديث قصير، قال لي في نهايته: «لقد قرأت عنك كثيرا، وأعجبت بجهادك كثيرا، والآن لما رأيتك، اطمأننت على أن النهضة النسائية في بلادنا العربية بخير، ودفتها في يد ربان جدير بإدارتها.»
الاحتفال بأولى الخريجات
وفي شهر فبراير 1932، دعوت عددا كبيرا من أعلام مصر وعظمائها لحضور حفلة احتفال الجمعية بأولى خريجات الجامعة وأول طيارة مصرية، وقد لبى الدعوة عدد كبير في مقدمتهم الأمير محمد باشا، والدكتور بهي الدين بركات باشا، وأحمد شفيق باشا، ومحمد علي علوبة باشا.
وقد تصدر المنصة الدكتور طه حسين والسيدة قرينته والآنسة الأستاذة نعيمة الأيوبي، وخريجات كلية الآداب: الآنسة سهير القلماوي، والآنسة فاطمة فهمي خليل، والآنسة زهيرة عبد العزيز، والآنسة فاطمة سالم، وفي الصفوف الأخرى كان الدكتور سامي كمال وبجانبه الآنسة الدكتورة كوكب حفني ناصف، والأستاذ فؤاد أباظة وبجانبه الآنسة لطيفة النادي، ثم جمعية شقيقات الاتحاد النسائي تتوسطهن الآنسة حواء إدريس، والآنسة أمينة السعيد ، والآنسة عظيمة السعيد، ثم الآنسة سيزا نبراوي، وبجانبهن الشاعر الكبير خليل مطران.
وفي كلمتي التي ألقيتها بهذه المناسبة، قلت: «يقولون في الأمثال السائرة (أول الغيث قطرة ثم ينهمر المطر) غير أن الغيث المصري إذ بدأ، انهمر انهمارا، والمصري أزلي في مدنيته، فإذا صادفه جو طيب جنح إلى أصله وتخطى دور الطفولة في نهضته.»
وقد قام محمد علي علوبة باشا بتقديم الآنسة نعيمة الأيوبي، وقام الدكتور طه حسين بتقديم خريجات كلية الآداب، وقام الدكتور سامي كمال - وهو أحد الأطباء الذين تطوعوا لخدمة الإنسانية في مستوصف الاتحاد منذ إنشائه - بتقديم الآنسة الدكتورة كوكب ناصف خريجة لندرة من بعثة مستشفى كتشنر.
الفصل الثالث والأربعون
كانت مناسبة طيبة وسعيدة أن نحتفل بتكريم أولى خريجات الجامعة وأول طيارة مصرية مع بدء افتتاح موسم الحفلات والمحاضرات في فبراير 1932.
وقد تحدثت في حفل التكريم، فقلت: باسم جمعية الاتحاد النسائي المصري، أرحب بحضراتكم وأتقدم إليكم بخالص الشكر لتنازلكم بتلبية دعوتنا ومشاطرتنا أفراحنا في هذا اليوم الذي نعتبره من أسعد أيام الاتحاد وأبركها.
فقد أتيح لجمعيتنا فيه أن تفتح موسم حفلات هذا العام بتكريم سرب من فضليات بناتنا حققن بنبوغهن آمالنا، برزن زرافات في ميادين العلم والعمل، فعززن نهضتنا ورفعن رءوسنا بين نساء العالم المتمدين، فأضفن بذلك قوة إلى قوتنا في جهادنا للحق والحرية.
كلمة علوبة باشا
وكانت بعد ذلك كلمة سعادة الأستاذ محمد علي علوبة باشا في تقديم الآنسة نعيمة الأيوبي المحامية؛ حيث قدم لها روب المحاماة هدية من الاتحاد النسائي، ثم قال: والآن يا حضرة الزميلة قد تفضل الاتحاد النسائي وأهداك هذا الثوب، وقد كان قبل أن يصير روبا له قيمة قطعة من القماش لا قيمة لها، والآن رداء المحاماة، رداء الشرف والعدل، هو رداء الشهامة، هذا الرداء قد أهداه الاتحاد فصونيه، واعلمي أن هذا الاتحاد يعطيك هذا الثوب طاهرا نقيا، فاحفظيه طاهرا نقيا.
وقام الدكتور سامي كمال بتقديم الدفعة الأولى من خريجات الطب وهن الآنسة هيلين سيدارس، والسيدة توحيدة عبد الرحمن، والآنسة كوكب حفني ناصف، وقد اعتذرت الأولى لانشغالها بالعمل، والثانية لوجودها بالصعيد.
وقال: من ذكر الآنسة كوكب حفني ناصف، فقد ذكر معنى من معاني مصر الحديثة، فلا يجهل أحد فضل حفني ناصف على اللغة والآداب، وفضل باحثة البادية ملك التي ترفرف روحها على هذا البناء في هذه الساعة وسترفرف بجناحيها على هذا الوادي كلما فكرت المرأة في النهوض والرقي.
د. طه حسين والمؤامرة
وقدم الدكتور طه حسين تلميذاته خريجات كلية الآداب: سهير القلماوي وفاطمة فهمي خليل وزهيرة عبد العزيز وفاطمة سالم، وقال في كلمته: أظن أن موقفي الآن، ولست من الرجال الرسميين، يسمح لي بأن أكشف لحضراتكم عن مؤامرة خطيرة جدا حدثت منذ أعوام وكان قوامها جماعة من الجامعيين، فقد ائتمر الجامعيون وقرروا فيما بينهم أن يخدعوا الحكومة وأن يختلسوا منها حقا اختلاسا لا ينبئونها به ولا يشاورونها فيه، وهو الإذن للفتيات بالتعليم العالي في الجامعة المصرية. وأؤكد لكم أيها السادة أنه لولا هذه المؤامرة التي اشترك فيها الجامعيون وبنوع خاص أحمد لطفي السيد باشا وعلي إبراهيم باشا وهذا الذي يتحدث إليكم، لولا هذه المؤامرة التي دبرناها سرا في غرفة محكمة الإغلاق لما أتيح لنا ولا للاتحاد النسائي أن أقدم إليكم الآن محامية مصرية وأديبات مصريات؛ اتفق هؤلاء الثلاثة فيما بينهم أن يضعوا وزارة المعارف أمام الأمر الواقع، وكان القانون الأساسي في الجامعة يبيح دخول المصريين، وهو وإن كان لفظا مذكرا ينطبق على المصريين والمصريات. وعلى ذلك ائتمرنا على أن تقبل الفتيات إذا تقدمن إلى الجامعة، وفعلا تقدم هؤلاء الفتيات فقبلناهن ولم نحدث أحدا بذلك، حتى إذا تم الأمر وأصبح لهن حق مكتسب في الجامعة، علمت الوزارة أن الفتيات دخلن الجامعة!
كلمة فؤاد أباظة
ثم وقف فؤاد باشا أباظة، فقدم الآنسة لطفية النادي أول طيارة مصرية، وأشاد بجرأتها وشجاعتها، وعرج على ما ينتظر الطيران في مصر من مستقبل، ثم قدم للآنسة باقة من الزهور باسم الجمعية.
شقيقات الاتحاد النسائي
لم يكن الدور الذي قام به الاتحاد النسائي المصري مؤثرا في مستقبل الفتاة المصرية التعليمي فقط ، بل إنه امتد أيضا إلى دورها الاجتماعي، ولذلك فقد سعت سعادة عظيمة بتلك الرسالة التي وصلتني من إحدى الفتيات النابهات وهي الآنسة أمينة السعيد؛ حيث رأيت فيها ثمرة لمبادئ الاتحاد واستجابة من بنات مصر المثقفات لداعي الوطن، ورغبة منهن في خدمة البلاد.
وما أن وصلني خطابها حتى عرضته على جمعيتنا التي وافقت بمنتهى السرور والتقدير على تحقيق رغبتهن، وشكلت جمعية الشقيقات منها ومن الآنسات المثقفات، وقد أسهمن بقسط وافر في خدمة الاتحاد منذ شكلت لجنتهن، وانضممن إلى صفوف الاتحاد فيما بعد، وكانت لهن أدوار هامة في خدمة الوطن.
وهذا هو نص الخطاب الذي بعثت به الآنسة أمينة السعيد في 27 نوفمبر 1932:
حضرة السيدة الجليلة رئيسة الاتحاد النسائي المصري ...
أهدي عصمتك تحية الإجلال والاحترام ...
في يوم الجمعة 18 نوفمبر اجتمع فريق من الفتيات المصريات، وبعد تشاورهن قررن تأسيس جمعية منهن سمينها شقيقات النهضة النسائية، ولما كان الغرض الأكبر من ذلك هو إيجاد هيئة تتقدم بمجهوداتها إلى عصمتك كرئيسة للاتحاد النسائي لترفع عنك عبء العمل ولو قليلا، وتضع مجهوداتها وإن كانت ضئيلة بين يديك ورهن إشارتك في تنفيذ مشروعاتك النسائية، فلا شك في أن عملنا هذا ما هو إلا تلبية لداعي الوطن واعترافا بخدماتك الجليلة التي بذلت في سبيلها النفس والنفيس، ولم تألي جهدا في سبيل رفع شأن مواطناتك المعترفات بجميلك العظيم، فضربت لنا خاصة ولأمتك عامة المثل الأعلى في الوطنية المنزهة، وجدت بشخصيتك البارزة لقيادة بنات وطنك قيادة يعجز عنها عظماء الرجال، فكنت عزاء لمصر التي هي في حاجة قصوى لأمثالك ومثيلاتك.
ولسنا نريد تكوين هيئة جديدة، بل كل غايتنا أن نمدك بجماعة يملؤها نشاط الشباب وحماسه، ينفذن ما تأمرين ويعملن ما تشائين، فإن قبلت ما نقدمه لك من مجهود، فقد أنلتنا شرف العمل تحت قيادتك وأدخلت علينا غبطة واطمئنانا على شخصك الجليل الذي نشعر أنه مرهق بكثرة العمل والإجهاد.
وقبل أن أختم خطابي هذا، أدعو الله أن يمن على شخصك العزيز بدوام التوفيق وأن يكلل حسن مسعاك بالنجاح، وما زلت أيتها الزعيمة الجليلة مرشدة لأمتك ونصيرة لبنات جنسك والسلام.
عن شقيقات الاتحاد النسائي
أمينة السعيد (سكرتيرة)
الاكتتاب لشراء الطائرات
كانت «الآنسة لطفية» النادي موظفة في المطار، ثم استطاعت أن تتفوق، وتصبح أول طيارة مصرية، ولذلك فقد دعوت المواطنين المصريين إلى الاكتتاب لشراء طائرة للفتاة المصرية الباسلة والطيارة الأولى «لطفية النادي» وقد اهتمت جريدة الأهرام بهذه الدعوة فكتبت في 30 ديسمبر 1933 تقول: «لقد كان نجاح الطيران مقرونا بالاكتتابات الأهلية، كان ذلك في فرنسا فيما قبل الحرب، وفي تركيا، وفي إيران الجديدة، وفي تركيا الفتاة، وقد اقتصدت معلمات اليابان جزءا من مرتباتهن لشراء طائرتين ... والمصريون والمصريات مطالبون جمعيا بالاكتتاب لشراء طائرة لطيارتهم الأولى والوحيدة لطفية النادي، ولا شك في أن أدنى ما تهديه أمة عظيمة كريمة، كالأمة المصرية، لفتاتها الطيارة هو طائرة.»
أصدقاء مختار
كان محمود مختار مثالا مصريا عظيما، وقد فكرنا في تخليد ذكرى أعماله ومآثره الجليلة، ومن أجل هذا الهدف ... عقدنا اجتماعات لتحقيق هذه الفكرة، وقد شارك في هذا الاجتماع مدام أوسكار ستروس عقيلة قنصل النمسا، وعثمان محرم باشا، وإسماعيل بك كامل، والأستاذ أميل زيدان، والأستاذ أحمد راسم وغيرهم، وقد قررت جماعة أصدقاء مختار أن تمنح جائزة سنوية للمثال المصري الذي يخرج أجمل أثر فني خلال السنة، وتبرعت لذلك بمبلغ خمسة وعشرين جنيها وميدالية فنية تذكارية كجائزة سنوية، ومن ناحية أخرى فإنني عندما سافرت إلى باريس، اتصلت بأصدقاء الفقيد وتكونت هناك أيضا لجنة باريسية لأصدقاء مختار.
ملكة الجمال
أقيمت في صيف 1934 مسابقات لملكة الجمال في حمانا بلبنان، وقد كانت هذه المسابقة حافلة، وفازت فيها ابنة خالي الآنسة حورية إدريس بلقب ملكة الجمال، وكانت بهذا الفوز سفيرة مصر الجميلة التي تعبر عن مدى تقدم الفتاة المصرية، وجدير بالذكر أن الشاعر الملازم أول عبد الحميد فهمي مرسي قد هنأها في هذه المناسبة بقصيدة بديعة نقتبس منها الأبيات التالية:
فوق الجمال وعرشه رفعوك
وإلى الجنان وحورها نسبوك
وجدوك يعلوك الجمال فأذعنوا
لأوامر الحسن الذي يعلوك
في الشام في أرض الجمال وأرضه
نصر الحجا والحسن من نصروك
نادوا بأنك للحسان مليكة
والله في ذا الحكم ما حبوك
مؤتمر مارسيليا
تلقينا دعوة من مؤتمر الاتحادات النسائية في العالم للمشاركة في المؤتمر الذي يعقد في مارسيليا في الفترة ما بين 18 و20 مارس 1933 ... وقد قررنا المشاركة في هذا المؤتمر، وكان المؤتمر قد ركز في دورته على حق المرأة في الانتخاب، وبخاصة بالنسبة للمرأة الفرنسية التي كانت الوحيدة بين نساء الدول المتمدينة التي لم يتقرر لها هذا الحق، وكان من رأي الاتحاد النسائي المصري أن هذا الموضوع سابق لأوانه بالنسبة لمصر؛ حيث إن النظام البرلماني لم يستقر استقرارا تاما، ولذلك فإن الاتحاد المصري يشترك في الفكرة فقط.
أما الموضوع الذي ركز عليه الاتحاد النسائي المصري، فهو مقاومة الرقيق الأبيض، واتجاه الرأي العام في مصر إلى إلغاء البغاء الرسمي وتأليف لجنة لهذا الغرض.
وبالنسبة للحقوق المدنية للنساء فهي مكفولة تماما في مصر، وكان هناك اقتراح بألا تتقيد المرأة بجنسية الزوج، وقد وافق الاتحاد النسائي المصري على الفكرة في حد ذاتها مع عدم الاشتراك في تنفيذها ما دامت الامتيازات الأجنبية قائمة في مصر.
وجدير بالذكر أن هذا المؤتمر قد جاء في الوقت الذي كان فيه الاتحاد النسائي المصري قد تأسس منذ عشر سنوات، ولذلك فقد كان المؤتمر مناسبة طيبة لعرض إنجازاتنا طوال هذه السنوات العشر.
الفصل الرابع والأربعون
وجه الاتحاد النسائي الدولي دعوته إلى الاتحادات النسوية لعقد المؤتمر الثاني عشر في مدينة إسطنبول في 18 أبريل 1935، وقد حرصت على أن يكون الوفد النسائي المصري إلى هذا المؤتمر كبيرا لإظهار مصر في المستوى اللائق بحضارتها وللتعبير عن الأواصر التي تربط بيننا وبين تركيا، وفعلا تكون الوفد برئاستي وعضوية اثنتي عشرة سيدة، وكان من المهم أن أفعل ذلك. بعد أن قامت مسز كوريث اشبي رئيسة الاتحاد النسائي الدولي بزيارة مصر في يناير، وقد قوبلت بمنتهى الحفاوة سواء من جانب رجال الدولة أو القيادات النسائية في الاتحاد، وقد بالغت الحكومة التركية في العناية بوفد جمعيتنا، فأوفدت معنا الملحق الصحفي بالسفارة التركية بالقاهرة ليسهل لنا مهمة الاتصال بالجهات والهيئات وكذلك شئون السفر والإقامة.
وقد أبحرنا على الباخرة التركية «أزمير» من ميناء الإسكندرية، وكان معنا الوفد الهندي، ووصلنا إلى أزمير بعد ثلاثة أيام؛ حيث كان الوالي في استقبالنا نيابة عن الحكومة، كما استقبلنا استقبالا حافلا من الهيئات الرسمية ومن الشعب التركي، كذلك فقد وصلتني كثير من رسائل التشجيع والتأييد من مواطنينا ومواطناتنا الأعزاء، ومن بينها برقية من صفية هانم زغلول تتمنى فيها النجاح والتوفيق لأعمالنا.
وفي منتصف أبريل، كان قد اجتمع وفود أربعين دولة، وكذلك مندوبو الصحف من جميع أنحاء العالم، وقد نشط الوفد المصري؛ حيث قام بمجهود مشكور في سبيل الدعاية لمصر ونهضة المرأة المصرية سواء في المحافل أو الأحاديث والمقابلات الصحفية، ما كان له أثر فعال في توجيه الاهتمام بنوع خاص إلى مصر وممثلاتها في المؤتمر.
وفي 18 أبريل، افتتح المؤتمر رسميا؛ حيث اجتمعت مندوبات أربعين دولة يمثلن مائتي مليون من نساء العالم في سراي يلدز. ومن الغريب أن هذه السراي كانت في سالف الزمن تؤوي نساء السلطان عبد الحميد، ثم دار الزمن دورته لتملي النساء على العالم رغباتهن من سراي يلدز نفسها!
رسالة السلام
وقد افتتحت المؤتمر مسز كوريث اشبي رئيسة الاتحاد النسائي الدولي؛ حيث ألقت خطابا مؤثرا وبليغا، دعت فيه الجميع إلى التعاون لتحرير المرأة ونشر السلام العام بين الأمم.
وتكلمت عن الوفد النسائي المصري، ولكنني قبل أن ألقي كلمتي بالفرنسية، ألقيت كلمة باللغة التركية شكرت فيها السلطات التركية والاتحاد النسائي التركي على الحفاوة البالغة التي يلاقيها أعضاء المؤتمر، ثم ألقيت خطبتي عن ضرورة تعاون الشرق والغرب ومقاومة الحروب التي تهدد العالم، وتحدثت عن انضمام الأمم الشرقية إلى الاتحاد النسائي الدولي رغبة في التعاون مع الغرب لنشر السلام العام بين الأمم جميعا، على أن يكون هذا السلام مبنيا على أسس العدل واحترام حقوق الشعوب وإزالة الفوارق الجنسية والدينية وغير ذلك من المسائل الجوهرية.
قرارات المؤتمر
وقد أصدر المؤتمر عدة قرارات هامة، بناء على اقتراحات الوفد النسائي المصري الذي كان له أكبر نصيب في هذه القرارات، ومنها أن الرقي يقضي بأنه على النساء في جميع بلدان العالم أن يوجهن أنظارهن إلى قاعدة المساواة والعدالة، وأن يجاهدن لاستئصال شأفة انحطاط منزلتهن التي يشكين منها من الوجهة القانونية والاجتماعية والاقتصادية.
وإن تطبيق مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في مسألة الجنسية يتعذر العمل به في مصر من جراء نظام الامتيازات الأجنبية، ولذلك فإن المؤتمر يتمنى زوال النظام المخالف لمبادئ المساواة، وبخاصة أن مصر هي البلد الوحيد في العالم الذي لا يزال قائما فيه هذا النظام.
ويقترح المؤتمر على الجمعيات المشتركة فيه أن تبحث جديا في الوسائل العملية، لمعالجة بعض الأضرار الحالية، كتقليل ساعات العمل وإنشاء صناعات جديدة وتسهيل الاعتمادات، وتعديل النقد بما يحقق رفع مستوى المعيشة في العالم كله وتثبيت أسعار السلع.
وإن النساء المجتمعات في المؤتمر يحتججن على جميع أنواع التجاهل والمظالم وعدم المساواة المرتكبة بحق الجنس الإفريقي في العالم كله، وكذلك على طريقة أخذ الثأر باليد الهمجية.
قلب الإسلام
وقد طلبت السيدة أستر فهمي ويصا أن يعقد المؤتمر القادم في مصر؛ لأنها قلب الإسلام، كذلك فقد عبر المؤتمر عن تقديره لجهود الوفد النسائي المصري بانتخابي نائبة لرئيسة الاتحاد النسائي الدولي بأغلبية 148 صوتا من بين 166 صوتا، وكنت أول شرقية تنال هذا اللقب الدولي المشرف.
مقابلة أتاتورك
وبعد انتهاء مؤتمر إسطنبول، وصلتنا دعوة لحضور الاحتفال الذي أقامه مصطفى كمال أتاتورك محرر تركيا الحديثة، وكنا قد فرغنا من مشاهدة بعض منشآت أنقرة ومدرسة عصمت أينونو للبنات وبعض المنشآت المهنية.
وفي الصالون المجاور لمكتبه وقفت المندوبات المدعوات على شكل نصف دائرة، وبعد لحظات قليلة فتح الباب، ودخل أتاتورك تحيطه هالة من الجلال والعظمة. وسادنا شعور الهيبة والإجلال؛ لدرجة أن مسز كوريث اشبي رئيسة الاتحاد النسائي الدولي كان يبدو عليها الوجل والتأثر، وهي تلقي كلمتها نيابة عن أعضاء المؤتمر.
ورد أتاتورك بالتركية، فشكر لها وللسيدات وحيا جهودهن في خدمة بلادهن. بدئ في تقديم رئيسة وفد كل دولة، وعندما جاء دوري تحدثت إليه مباشرة من غير ترجمان، وكان المنظر فريدا أن تقف سيدة شرقية مسلمة وكيلة عن الهيئة النسائية الدولية، وتلقي كلمة باللغة التركية تعبر فيها عن شكر وإعجاب سيدات مصر بحركة التحرير التي قادها في تركيا، وقلت: إن هذا المثل الأعلى من تركيا الشقيقة الكبرى للبلاد الإسلامية شجع كل بلاد الشرق على محاولة التحرر والمطالبة بحقوق المرأة، وقلت إذا كان الأتراك قد اعتبروك (أتاتورك) فأنا أقول: إن هذا لا يكفي، بل أنت بالنسبة لنا «أنا الشرق». فتأثر كثيرا بهذا الكلام الذي انفردت به، ولم يصدر معناه عن أي رئيسة وفد، وشكرني كثيرا في تأثر بالغ، ثم رجوته في إهدائنا صورة لفخامته؛ لنشرها في مجلة «الاجيبسيان».
ولقد كانت صورة تركيا الحديثة غير واضحة في الأذهان، ولذلك ذهب البعض إلى اتهامها بالكفر والإلحاد، وجرت في ذلك مساجلات فوق صفحات الجرائد والمجلات، ولكن الحقيقة كما قلت في حديث صحفي مع جريدة المقطم نشر بعد عودتي بيومين: إنه ليلوح لي أن هذا الجديد الذي أحدثه الغازي العظيم لم يكن يعني به إدخال القشور من مدنية الغرب على أبناء البوسفور أو بناته، وإنما كان يعني به تجديد العقليات وتوجيهها إلى وجهة التفوق مسايرة للجيل الحديث، فالسيدة التركية إذن لم تفقد روعتها الشرقية الغالية، ولكنها فقدت - بحكم النهضة الحديثة - هذا الجمود الذي كان يتناولها فيجعل منها مقعدة رهينة حجرات أربع، ورهينة جهل مريع، وهذا بلا ريب من نعمة الأقدار على أخواتنا في إسطنبول.
إلى رئيس الوزراء
كان من الطبيعي بعد عودتنا من المؤتمر، أن نبذل الجهود من أجل تطبيق هذه القرارات على حياتنا العامة، ولذلك فقد أرسلت باعتباري رئيسة للاتحاد خطابا إلى دولة رئيس الوزراء، ألفت فيه نظر دولته إلى ما جاء في هذه القرارات خاصا بمساواة الجنسين من الوجهة الأخلاقية وبمنع تعدد الزوجات وبحقوق المرأة السياسية.
وقلت في هذا الخطاب أنه فيما يتعلق بالقرار الخاص بالناحية الأخلاقية، فقد علمنا أن الحكومة مهتمة بتنفيذ التقرير الذي قدمته اللجنة الخاصة ببحث مسألة إلغاء البغاء الرسمي في البلاد، وبقاء تعدد الزوجات، فضلا عن كونه يسيء إلى سمعتنا الأدبية أمام العالم المتمدين ، فإن له تأثيره المؤلم في الحياة العائلية والاجتماعية، وهو في الحقيقة يخالف روح الشريعة التي لم تسمح به إلا تحت شروط يستحيل تحقيقها.
وفيما يختص بحقوق المرأة، فقد سجل المؤتمر عقيدته الراسخة في أنه لا يتحقق أي نظام حكومي بصفة دائمة ما لم يراع فيه هناءة المرأة والطفل، وما لم يعمل على الاستفادة من مواهب المرأة.
منشور إلى نواب الأمة
كذلك فقد وجهنا منشورا إلى نواب الأمة تحت هذا الشعار «أنصفوا المرأة تسعد الأمة»، وطالبنا فيه بتحقيق مطالب المرأة المشروعة، وهي: منع تعدد الزوجات لغير الضرورة، ومنع فوضى الطلاق، وإلغاء قضايا الطاعة، ومد أجل الحضانة للولد حتى يبلغ وللبنت حتى تتزوج، وتحديد سن الزواج.
زواج حورية إدريس
كانت الآنسة حورية إدريس (ابنة خالي) ضمن أعضاء وفد الاتحاد النسائي المصري الذي اشترك في المؤتمر الدولي الرابع عشر في إسطنبول، ولم تكن تركيا غريبة بالنسبة لنا، فإن والدتي تنحدر أصلا منها، وقد تعددت زياراتي لها، كما أسلفت في مستهل هذه المذكرات.
وكان من بين الهيئات التي قامت بتكريمنا هناك سفارتنا المصرية، وكان ضمن أعضاء السفارة سكرتير أول هو الأستاذ «حسن شفيق» ابن أحمد شفيق باشا، الذي كان رئيسا لديوان الخديوي، وهو رجل فاضل خدم وطنه حقبة طويلة من الزمن، وكتب تاريخ مصر في ثلاثة مجلدات سماها «مذكراتي في نصف قرن».
وقد نشأت بين حسن وحورية ألفة خلال الفترة القصيرة التي أمضيناها في إسطنبول، وما إن انتهينا من المؤتمر وعدنا إلى مصر، حتى عاد هو الآخر وطلب يد حورية مني، فوافقت على هذا الزواج، وأقمت لهما احتفالا لطيفا بمناسبة عقد قرانهما في منزلي بالرمل في 11 أغسطس 1935، وقد حضر هذا الحفل لفيف من الأهل والأصدقاء المقربين الذين كانوا يقضون الصيف بالإسكندرية.
وكانت المهور في ذلك الوقت مرتفعة جدا، ولذلك فقد انتهزت هذه الفرصة لأضع حدا للمغالاة في المهور، وقررت أن يكون مهر حورية خمسة وعشرين قرشا فقط، وكان هذا القرار مجال تعليقات صحفية، وكتب الأستاذ أحمد الصاوي في الأهرام بتاريخ 13 أغسطس 1935 يقول: «سمعنا المأذون يردد على أسماعنا جملة دهشنا لها أشد الدهش وطربنا لها أشد الطرب، وهي أن مهر هذه العروس قد قررته السيدة هدى هانم شعراوي حدا أدنى للمهر وهو 25 قرشا، ليكون ذلك مثلا يضرب للناس، وحثا على عدم المغالاة في المهور، وإبطالا لحجة كل شاب يعتذر عن عدم زواجه دائما بالمهر، وتوريطا لأولياء أمور الفتيات وتبصرة لهم بواجبهم نحو بناتهم، وأن المهر يذهب والرجل يبقى.
ولكن لما كانت السيدة هدى هانم قد رأت أن يكون هذا الزواج مثالا، فقد وضعت في الوقت نفسه لهذه القاعدة «فرملة» خشية الحظر، وإسراف الشبان في الزواج والطلاق؛ فجعلت الصداق ثلاث مئة جنيه، وبذلك وضعت الضمانات اللازمة لحماية الفتاة.»
Halaman tidak diketahui