فأجبته: «لو كان كل الناس يستقون من منبع واحد هو هذا العالم الرائع لكان الناس أسعد حالا مما هم عليه الآن، ولاستراحوا من كثير من الأضاليل والأوهام التي تثقل عقولهم وتنوء بها أرواحهم في أودية الزمان، ولكن الله - لشقاء البشر - لم يطبع الناس على غرار واحد في المواهب والملكات حتى يمكنهم كلهم أن يتلقوا دروس الحكمة عن هذا العالم الكبير. أما استصحاب الكتب فقد أصبحت عادة لي كلما ذهبت إلى منتزه أطالعها حينا ، وأطالع الكون أحيانا، وأسترسل مع نفسي آونة في عالم كله أطياف وأحلام».
فالتفت إلي صاحبي، وكان قد رجع إلى الانكباب على «تاييس» وقال له: «وأنت ماذا تطالع يا صديقي؟ فإني أرى كتابك قد فتنك عن نفسك وملك عليك كل مشاعرك».
فقال وهو يبتسم: «تاييس».
فقال: «إن هذه القصة الفلسفية جميلة رائعة، ولكنها لا تعدو - كآثار كل أولئك الذين ندعوهم فلاسفة وشعراء ومفكرين - أن تكون ثرثرة نفس معذبة تحترق في جحيم الحياة».
فقلت: وكيف ذلك؟
قال: «لقد كتب هؤلاء الفلاسفة والشعراء والمفكرون كثيرا، بل أكثر مما يتصور العقل، ولكن الإنسان ما زال في صميمه هو ذلك الإنسان الأول الذي يقضي أيامه باحثا عن طريدته بين الأدغال والأودية، وفي شعاب الجبال وأحشاء الكهوف، وما زالت الطبيعة كعهدها منذ الأزل تلك الغابة الآبدة المرهبة التي يمشي في ظلماتها ركب الإنسانية التائهة بأقدام مهزولة وأجفان مطبقة ...».
فقال له صاحبي - وهو يعابث صفحات الكتاب -: «فما لك تنظم الشعر إذا يا صديقي؟»
فأجابه في لهجة ملؤها المرارة والألم: «لأنني لم أجد دورا أسخف من هذا أمثله في رواية الحياة السخيفة».
فابتسمنا حائرين، ثم صمتنا واجمين، ثم أطرقنا مكتئبين، وأخرج صاحبنا سيقارة أشعلها وانطلق يدخن صامتا. ثم وضع رجلا على رجل وولانا ظهره، وراح يغني أغنية رقيقة هادئة كثيرا ما يغنيها حينما تكون نفسه هائمة، وأفكاره مضطربة ثائرة. ومرت فترة من الزمن مثقلة بالحيرة والتشاؤم، وكان هو أثناءها يتغنى بصوت خفيف كأنما يناجي نفسه أو يخاطب روحا هائمة، ثم نهض واقفا وهو يقول: «لقد مللت هذا المكان. فهل لكم في غيره.»
فقلت له: «وكيف تمل يا صديقي وحولك هذا المشهد الطبيعي الجميل، وأمامك هؤلاء الصبايا اللواتي لم تخلقهن الحياة إلا ليحركن في الناس عبادة الحب والجمال.»
Halaman tidak diketahui