مقدمة
يعتبر الحاج أحمد، باي قسنطينة الأخير، من ألمع وجوه المقاومة في الجزائر، ومن أكبر قادتنا الذين دوخوا فرنسا، والذين يجب أن نفتخر بهم.
لقد اعترف له كثير من الجنرالات بالدهاء العسكري، وحاول المارشال فالي أن يتفق معه، اقتناعا منه بأن الرجل أهل للقيادة ولا يمكن أن يستسلم بسهولة.
وإذا كان المؤرخون الغربيون لم يعطوا له حقه، قاصدين بذلك تشويه التاريخ الجزائري المجيد، والتمييز بين مختلف عناصر الشعب للتقليل من أمجاد ماضينا الحافل بعوامل الأمل، ودوافع الإيمان بالمستقبل، فإن واجبنا نحن أن نزيل الغبار على هذه الشخصية، وغيرها من أمثال ابن سالم، ابن علال، حمدان خوجة، بومرزاق، بومعزة بوبغلة، بوعمامة، محمد الصغير بن أحمد بن الحاج، بوزيان الخ .. ونخرج من طيات النسيان تلك الصفحات الخالدة التي كتبوها بدمائهم، لنستوحي منها طريقنا نحو حياة أفضل.
لقد كان الحاج أحمد كرغليا، على حد تعبير المؤرخين الفرنسيين. ولكن المنطق يحتم علينا أن نؤكد عكس ذلك، أنه جزائري قبل كل شيء: ولد في الجزائر من أب ولد في الجزائر. زد على ذلك فهو ذلك الرجل الذي وهب حياته لهذا الوطن ولا يعرف وطنا سواه.
1 / 5
وإذا سلمنا لهؤلاء المؤرخين أن أحمد لم يكن جزائريا، فماذا نقول عن بونبرت الذي جاء لإلى فرنسا من جزيرة كورسكة؟ وماذا نقول عن الأمراء الفرنسيين الذين ينحدرون من سلالة بريطانية؟ وماذا تقول، أيضا، عن أباطرة روما العرب والأفارقة؟.
وإذا أردنا نحن أن نجرد أحمد من الجنسية الجزائرية يجب، قبل ذلك، أن نطرح على انفسنا السؤال التالي: لماذا أعطيت الجنسية الجزائرية لكل من طلبها ممن انخرط من الأجانب في صفوف جيش أو جبهة التحرير الوطني أثناء ثورة نوفمبر ١٩٥٤؟ هذا بالإضافة إلى أنه لا مجال للمقارنة بين أحمد وهؤلاء، لأن الباي لم تكن له جنسية أخرى، ولا لغة، ولا تقاليد، ولا عادات، ولا أخلاق، غير جنسية الجزائريين ولغتهم، وتقاليدهم، وأخلاقهم.
أما عن حياته، فإن السيد أحمد بوضربة، عندما قدم مذكراته إلى اللجنة الافريقية سنة ١٨٣٣، يذكر بأن الباي كان يبلغ من العمر في ذلك الوقت ٤٧ سنة، الأمر الذي يجعلنا نحدد تاريخ ازدياده بعام ١٧٨٦. وقد كان يسمى باسم أمه، فيقال الحاج أحمد بن الحاجة شريفة. وهي من أسرة ابن قانة المعروفة في الصحراء. أبوه هو محمد الشريف خليفة حسن باي الذي تولى الحكم بعد صالح باي المتوفى سنة ١٧٩٢. وأما جده فهو الباي أحمد القلي الذي حكم قسنطينة مدة ست عشرة سنة ابتدأها عام ١٧٥٥، والذي يقول عنه الحاج أحمد المبارك في (تاريخ حاضرة قسنطينة) أنه رجل عاقل صالح عالم بتسيير شؤون البلاد.
وقد نشأ أحمد في بيت أخواله، فشب على حياة البداوة، وتعلم الفروسية، وتدرب على القتال، فكان رجلا حاسما وشجاعا لا يعرف التردد عندما يجب الفصل في القضايا.
1 / 6
وان هذه الصفات الخليقة بكل مسؤول، هي التي جعلت الايالة تعينه، وهو لم يتجاوز الثلاثين خليفة لباي قسنطينة التي هي أكبر القاطعات في الجزائر وأهمها من جميع النواحي.
ولقد ظهر أحمد، أثناء ممارسته هذه المسؤولية الجبارة، مهارة كبيرة وخبرة واسعة في اكتساب ثقة الأهالي وضمان تعاونهم معه، بحيث أنه، عندما وقع الخلاف بينه وبين رئيسه، وأمر هذا الأخير بحبسه، وجدناه يحظى بمساعدة أعيان المدينة والبايلك بصفة عامة لمغادرة المكان والتوجه إلى العاصمة بسلام.
وفي منفاه، ظل الباي متمسكا بسيرته الأولى، فكان يبرهن على شجاعته وتفانيه كل ما دعي للمساهمة في عمل من الأعمال. وفي البليدة، استطاع أن يثير إعجاب يحي آغة باستقامته وإخلاصه، وانقلب هذا الإعجاب محبة بعد تجارب طويلة، وخاصة بعد الدور الذي لعبه أحمد أثناء الزلزال الذي أصاب البليدة سنة ١٨٢٥. ولذلك رأينا الآغة، صاحب النفوذ والسلطان في ذلك الحين يتدخل لدى الداي، ويحصل للحاج على العفو في مرحلة أولى، ثم على البايلك في مرحلة ثانية سنة ١٨٢٦.
هكذا، حصل أحمد على هذا المنصب باستحقاق. وبمجرد ما تسلم مسؤوليته الجديدة شرع في تنظيم الأمور والقضاء على الفوضى. وتبين من خلال هذه الأعمال أنه قائد مقتدر له من الدهاء العسكري والسياسي ما لم يتوفر لسابقيه. ولذلك تمكن من البقاء اثنتين وعشرين سنة على الرغم من المشاكل والمحن، ومن المجهودات والتضحيات التي بدلتها فرنسا للقضاء عليه.
هذا، وإننا سنفرد للحاج أحمد دراسة مستقلة في وقت لاحق. أما اليوم، فإننا ننشر مذكراته التي يجمع المؤرخون على أن لها قيمة تاريخية كبرى. ولقد سبق أن نشرها
1 / 7
بالفرنسية وعلق عليها السيد مارسال أمريت في المجلة الأفريقية الصادرة سنة ١٩٤٩. ورجعنا إلى المخطوطات الوطنية في باريس، فوجدنا أن هناك نسختين من هذه المذكرات مكتوبتين باللغة الفرنسية، وأن هناك بعض الاختلاف بينهما من حيث الشكل لا من حيث المضمون، الأمر الذي جعلنا نتأكد من أن المذكرات إنما كتبت في أصلها بالعربية، وترجمها شخصان مختلفان. ولكن الترجمة التي نشرها أمريت هي الأتم على ما نعتقد. ولذلك لجأنا إليها لنعيد المذكرات إلى لغتها الأصلية .. وما لجأنا إلى ذلك إلا بعد أن يئسنا من وجود الأصل العربي.
المترجم
باريس ١٤ نوفمبر ١٩٧١
1 / 8
مذكرات أحمد باي
1 / 10
في سنة ١٨٣٠ ذهبت إلى مدينة الجزائر لأداء الدنوش أو الزيارة الإجبارية التي يؤديها إلى الباشا جميع البايات مرة كل ثلاث سنوات. كنت بايا لقسنطينة منذ أربعة أعوام، وكانت تلك هي المرة الثانية التي أقوم بهذا الواجب.
فلم أكن إذن، مستعدا أي استعداد لمحاربة الفرنسيين، ومع ذلك كان الداي حسين قد أخبرني بمشاريعهم في رسالة ذكر لي فيها أنه بجب أن أهتم بعناية فقط. ولم يكن قلقا لا على نفسه ولا على مدينته الرئيسية. وهكذا، جئت كالعادة أحمل «اللازمة» ومعي أربعمائة فارس أو أقل، وأذكر من جملة القادة الذين اصطحبوني: ولد مقران، ابن حملاوي آغا، شيخ النغاس، قائد الزمالة، الوردي قائد بن عاشور، وشيخ بوشناح. وعندما حضرت بين يدي الباشا قال لي: «ليس لديكم أكثر من الوقت الكافي للخروج إلى الفرنسيين الذين سينزلون بسيدي فرج، إنني أعرف مكان النزول من الرسائل التي تصلني من بلادهم ومن كتاب طبع في فرنسا وأرسله لي جواسيسي من مالطة وجبل طارق» ثم أضاف بأن الرسائل ترد إليه باستمرار من فرنسا وانه على علم بكل ما يجري هناك.
1 / 11
غادرت مدينة الجزائر بسرعة، واتجهت إلى المكان الذي تجمع فيه الجيش. وعقدنا مجلسا لتحديد خطتنا في الدفاع عن البلاد، وشارك معي في هذا المجلس الآغا ابراهيم، صهر الداي، ومصطفى باي التيطري، وخوجة الخيل، وخليفة ياى الغرب.
وقعت الندوة في مكان قريب من سيدي فرج. وابتدأ صهر الداي هكذا: «يجب بناء حصون على شاطيء البحر، وتزويدها بمدافع قوية حتى نمنع الفرنسييين من النزول.» وأجبت بأن هذا الرأي سديد، ولكننا لا نستطيع العمل به حينا، كما تقترحون ذلك، لأنكم لا تملكون الوسائل التي تمكنكم بسرعة من إقامة الحصون التي أشرتم إليها وبالفعل فكيف تحملون إلى هنا المدافع والذخائر الحربية التي تحتاجون إليها وليس في سيدي فرج سوى قلعة قديمة مخربة يحتاج إصلاحها إلى شهور كاملة. لقد استيقظتم متأخرين، وفي نظري، إذن فإنه لا ينبغي أن تنهكوا أنفسكم لصد نزول الفرنسيين، ومن المستحسن أن تبدوا بعض المقاومة وتهاجموهم بحيث تعرقلون النزول. ولكننا إذا وضعنا كل أملنا في إقامة التراسين والحصون، فإنكم لن تنتصروا، لأن نيران المراكب الفرنسية ستقضي على هذه
1 / 12
المنجزات المقامة بسرعة وتكون أعمالكم قد ذهبت سدى. ثم إنكم لن تتمكنوا من تسليح الحصون دون تعرية مدينة الجزائر التي ينبغي أن تهتموا كل الاهتمام بالدفاع عنها.
وإذا استطعنا أن نفسد مشروع الفرنسيين بواسطة المعركة الصغيرة التي سنشنها عليهم أثناء النزول، فإننا نحمد الله ونشكره على مؤازرته لنا. وإذا لم نتمكن من التصدي لنزولهم، فإنه يجب على الجيش أن ينسحب إلى مؤخرة جيوش الأعداء ثم نشطأ البحر من الجهة الغربية.
وتذكروا شيئا، فإن الفرنسيين يريدون إنهاء هذه الحرب بكل سرعة، وإرجاع الجيش إلى أوروبا. إنهم من بني الأصفر، ذوي الوجوه الشاحبة الذين يصعب عليهم تحمل مناخ هذه البلاد. وعندما نمدد الحرب في الزمن، فمعنى ذلك أننا سنحقق النصر لا محالة. وسيصيب أعداءنا ما وأصاب جميع الذين نزلوا هنا: إن الله كان دائما بجانب المؤمنين على الكافرين الذين يأتون لمهاجمة المدينة الموضوعة تحت حمايته، وهذه المرة أيضا، فإنه لن يتخلى عنا. ولاحظوا أن الفرنسيين لن يلحقوا ضررا كبيرا بالمناطق التي سيمرون بها لأن أراضيها تكاد تكون غير مزروعة، وليس فيها إلا عدد قليل من المساكن والأجنة.
1 / 13
وإذا وثقتم بي واتبعتم خطتي، فاننا نتجه إلى وادي مازفران، وعندها يقع أحد أمرين: إما أن يهاجم الفرنسيون مدينة الجزائر وإما أن يسيروا نحونا. ففي الحالة الأولى ننقض على مؤخرتهم فنأخذ مؤونتهم، ونهاجم قوافلهم فنقتل المتخلفين ونعمل على قطع الاتصال بينهم وبين مراكبهم، وهذه النقطة الأخيرة سهلة جدا لأن البحر يتغير ولا يسمح دائما بالنزول. أما إذا ساروا نحونا ليشنوا علينا الحرب، فإن واجبنا هو أن نتجنب المعركة ونجر جيوشهم إلى ميدان ملائم وبعيد عن مدينة الجزائر التي هي هدف مشروعهم.
وإنكم لا تجهلون كم سيفقد الفرنسيون من الجنود، أثناء ملاحقتهم لنا، نتيجة للحرارة، وفقدان الماء وانعدام العديد من الأشياء الأخرى التي تعودوا بها والتي لا يمكن أن تتسع لها مراكبهم، هذا بالإضافة إلى أننا نكون قد حافظنا على مدينة الجزائر. إذن، فرأيي هو الرجوع إلى الوراء.»
وأجاب صهر الباشا بحمية جاهلية وثقة مزهوة في نجاح الخطة، بأن عدم مجابهة العدو ليس من عمل الرجال الشهام، وأن الله لن يغفل عن مساعدة من سيهاجمون الكفرة عند نزولهم وهم به واثقون.
1 / 14
وأثر هذا اللجوء إلى الله تأثيرا كبيرا على عقول الحاضرين. واستعملت نفس الوسيلة وأردت حملهم على أن يتركوا مدينة الجزائر تحت رعاية الإله يفعل بها ما يشاء ولكنهم عارضوني وتقرر أن يسيروا لمجابهة الفرنسيين.
وهكذا، شرع في بناء المتاريس بسيدي فرج، ولكنها لم تسلح إلا بمدافع خفيفة لعدم وجود العربات التي يمكن أن تحمل المدافع ذات العيار الكبير. وتم النزول، وبعد انتصار الفرنسيين على مقاومتنا، تقرر التراجع وانتظارهم في سهل سطاولي حيث بنينا حصونا بسرعة وزودناها ببعض المدافع. وكان الباشا قد وزع عددا منها كذلك على جميع الأعيان الذين كانوا يقودون الجيش وعلى من كانوا مثلي قادمين من مناطق بعيدة. وقد خسرنا هذه المدافع في معركة سطاويلي التي ربحها الفرنسيون. وكان مدفعي قد سقط مرة أولى بين أيديهم، ولكنني جمعت فرساني وهاجمنا فخسرنا أكثر من مائتي جندي، ولكن الله مكنني من الانسحاب ومعي المدفع الذي أعطيت.
وبعد معركة سطاويلي، هاجم الفرنسيون برج مولاي حسان. وكنت إذ ذاك قد انسحبت إلى المكان المسمى
1 / 15
بوادي القليعة (١) وسقط البرج خرابا بفعل البارود، ثم استسلم الباشا للفرنسيين الذين دخلوا من غدهم مدينة الجزائر. عندئذ، انسحبت مع فرساني إلى عين الرباط (مصطفى باشا)، وواصلت سيري نحو جنان الباشا (٢) حيث لحق بي جميع الهاربين. فأصبح معي ١٦٠٠ شخص وفي مساء يوم الاحتلال انسحبت إلى قنطرة الحراش حيث قضيت الليلة على الضفة الأخرى من الوادي. وفي الغد توجهت إلى الخميس (٣) وعسكرت في الفندق. (٤) وفي أثناء الليل وقع إنذار وأعلن عن ظهور طلائع الجيش الفرنسي.
فركبت حصاني على الفور واصطحبت أربعين من فرساني، ولكن الإنذار كان خطأ. وواصلت طريقي، وعندما بلغت أولاد زيتون اتصلت برسالة من الجنرال الفرنسي المسمى بورمون. (٥)
_________
(١) - هو الوادي الذي يأخذ منبعه من باب البحر ويشق بوفريزي ثم الأبيار ليصب في وادي مازفران.
(٢) - هو مستشفى مايو حاليا.
(٣) - المقصود هو خميس الخشنة على بعد حوالي ٣٠ كلم شرقي مدينة الجرائر.
(٤) - قرية صغيرة على بعد حوالي ٢٥ كلم من مدينة الخميس الآنفة الذكر.
(٥) - هو دوبرمون، قائد الحملة العسكرية ضد الجزائر، وصاحب معاهدة ٥ جوليت.
1 / 16
يقول لي بورمون، في رسالته: إن الفرنسيين قد خلفوا حسين باشا في الحكم، وإنني احتفظ بمرتبة باي قسنطينة إذا رضيت أن أدفع لفرنسا «اللازمة» التي كنت أدفعها للداي، وباختصار إذا قبلت الاستسلام. وأجبت بأن السلطة تسلمتها من حسين برضا جميع سكان قسنطينة ومقاطعتها وإنني راجع إلى مركز قيادتي، وإذا كانت إرادة قادة قسنطينة تتفق مع رغبة الجنرال الفرنسي، فإنني سأخضع لها بكل سرور.
انتهت هذه المفاوضات عند هذا الحد، وتوجهت إلى قسنطينة عن طريق الأعمال والبيبان، ثم بلغت منطقة العوامر بالقرب من سطيف وبعد ٢٢ يوما من السير، منذ أن غادرت مدينة الجزائر، وصلت إلى المكان الذي يسمى الحامة (٦) بنواحي قسنطينة.
في أثناء غيابي عن قسنطينة دبرت مؤامرة ضدي. لقد تركت في المدينة حامية الشتاء وهي مكونة من الأتراك
_________
(٦) قرية على بعد ٧ كلم شمال قسنطينة، تدعى الآن حامة بوزيان.
1 / 17
واليولداش (٧). فأراد هؤلاء الأجناد أن يقلدوا ما كان قد جرى في مدينة الجزائر، وأعلنوا أنهم لم يعودوا يعترفون بي كباي وعينوا مكاني القائد سليمان، الباي الذي قاد المؤامرة بمساعدة خليفته ولد شكال محمود. وعبد الله خوجة وسطامبولي وجيمي علي ووزان أحمد وزمير لي بشير وضبيات علي.
وعندما علم هؤلاء الناس بمقدمي، أرادوا أن يثيروا علي القبائل المقيمة في نواحي سطيف ولكنني هزمت من خرج إلى وقصدت قسنطينة التي غادرها المتآمرون ليعترضوا سبيلي، وبمجرد ما خرجوا من المدينة اجتمع الطلبة والسكان بسرعة تحت قيادة الباشا حمبا كيمان بن عيسى وألقوا القبض على سليمان وقتلوه أمام باب المدينة. وهكذا
_________
(٧) - كان اليولداش لا يخضعون إلى القانون، والداي وحده هو الذي له الحق في محاكمتهم، وكل من التجأ إلى مقهاهم ينجو من كل سوء. وكان ذلك يحدث بلبلة كثيرا ما يشتكي منها البايات إلى صاحب أمرهم (أنظر رسالة أحمد باي بخظ يده في المحفوظات الوطنية بباريس ف.٨، ١٦٧٣).
1 / 18
لم ألاق أي عناء لاسترجاع سلطاني (٨)، ولكنني أردت أن أضرب مثلا، فوضعت يدي على المجريين، ووفقا للقانون حكمت عليهم بالإعدام ونفذت الحكم فيهم. وبعد ذلك قررت أن أضع حدا للمناورات المستمرة التي يقوم بها الأتراك واليولداش (٩) وخشي الكثير منهم نقمتي العادلة فالتجأوا إلى العرب. فكتبت إلى كل الجهات أقول:
«تحللوا من هؤلاء الأجانب الذين لا يحملون إليكم سوى البلبلة ويمنعون الحاكم من أن يحقق الخير الذي يريده لكم.» ووجدت هذه الكلمات آذانا صاغية فدفع كثير من اليولداش ثمن الطغيان الذي فرضوه على البلاد زمنا طويلا.
_________
(٨) - يزعم ابن قانه أن الفضل يعود إليه في التغلب على هذه الصعوبات (كتاب بوعزيز بن قانه، لصاحبه، ص: ٣٨). وكتب صالح العنتري (ص: ٥٥) أن الشيخ لففون هو الذي تزعم الحركة المساندة للباي.
(٩) - يشير صالح العنتري (نفس المصدر) إلى أن الباي وضع حدا لتعسفات الأتراك، وذلك عندما كون جيشا من القبائل.
1 / 19
وبمجرد ما رجعت إلى الحكم، اتصلت، من مدينة الجزائر، برالة كتبها الجنرال الذي يسمى كلوزال. (١٠)
فعرض علي هو أيضا، الاعتراف بي كباي على قسنطينة ولكن شريطة أن أدفع اللازمة وقال بأنه سيرسل لي، عندما أستسلم، قفطان الشرف باسم ملك الفرنسيين.
وفي الحين جمعت الديوان وقرأت عليه رسالة الجنرال. فكان رد الأعضاء أن قسنطينة كانت في الحقيقة تابعة لباشا الجزائر وتمتثل لأوامره، ولكن الجزائر، بدورها، كانت تابعة لسلطان اسطمبول: ولقبول الصلح المقترح علي يجب، أولا أن أحصل على موافقته، والإجابة الوحيدة هي أن نخبر الفرنسيين بأننا نستشير السلطان ثم نرفع الإرادة السنية بكل سرعة إلى الجنرال.
كان الديوان يحمل بغضا شديدا للفرنسيين، ولم يكن الغرض من الإجابة التي نصحت بتقديمها لهم سوى تمديد المفاوضات وإطالتها، ومنع البلاد من أن تتعرض لمصائب جديدة نتيجة رفض عنيف.
_________
(١٠) - هو المارشال الذي يحكم الجزائر سنة ١٨٣٠، ثم تولى قيادة جيش افريقية من سنة ١٨٣٥ إلى سنة ١٨٣٦ (ولد سنة ١٧٧٢ وتوفي سنة ١٨٤٢).
1 / 20
وأجبت كما أشار علي الديوان بذلك، وبعد وقت قصير علمت أن الجنرال الذي كان يحكم الجزائر أمر بعزلي، وأبرم في هذا الموضوع عهدا مع باي تونس. وينص هذا العهد على أن قسنطينة تكون تابعة لتونس، وأن سي مصطفى أخا العاهل التونسي هو الذي يتقلد مرتبة الباي فيها. (١١)
ولم يكن لهذا العهد أي مفعول، بل إنه ظل مجهولا من جزء كبير من السكان وبعد مدة قليلة من إبرام هذا العهد، وردت رسائل من تونس إلى مقاطعة قسنطينة، وحمل إلى عدد منها. إنها من الباي، وتقول أن قسنطينة كانت في الأزمنة الغابرة جزءا من مملكة تونس. وتقول أيضا أن الباي يعتزم استرجاع الوضع القديم، واستبدالي بأخيه أو بأي خليفة آخر يختاره وقد لاحظت أن هذه الرسائل لا تتكلم عن الفرنسيين أبدا. وكنت ممثلا فيها
_________
(١١) - المقصود هي معاهدة ١٨ ديسمبر ١٨٣٠ التي لم توقع عليها الحكومة الفرنسية.
1 / 21
كرجل مستبد وكانت نهايتها دعوة إلى الثورة حتى أطرد من بايلك قسنطينة. (١٢)
وحينما أطلعت على محتوى هذه الرسائل قلت: إذا كان مثل هذا التغيير بإرادة من الله ومن شأنه أن يساهم في إسعاد الجميع، فإنني مستعد لقبوله. ثم أردت أن أعرف رأي الديوان في هذا الموضوع فجمعته وعرضت عليه ادعاءات الباي الواردة في الرسائل التي تكاثر عددها في كل مكان وبعد تفكير وتدبير فيما ينبغي فعله في هذه الظروف، تقرر أن يكتب الديوان رسالة إلى باي تونس، فكانت كما يلي:
إن ما تقترحونه علينا لا يليق بنا مطلقا. إننا فرحون بحكم الباي أحمد ولا نريد استبداله. فكيف يمكن لكم أن ترغمونا على ذلك ألستم مثلنا، تابعين لخليفة اسطمبول وبأي عنوان تطالبوننا بالطاعة إن السلطان محمود وحده هو الذي يستطيع أن يقرر تقسيم أملاكه، ولو أننا دعينا إلى اختيار سيد غير السلطان الشرعي،
_________
(١٢) - كتب بارتوزين رسالة إلى المارشال سولت يوم ١٨٣١/ ٢/٢١ يقول فيها بأن ذلك كان نتيجة مؤامرة دبرها صهر أحمد مع باي تونس.
1 / 22
فاننا، وبكل صراحة، سنفضل احتلال الفرنسيين، لا حبا في الكافرين ولكن لأننا نعلم أن جوارهم سيجر لنا الحرب إن آجلا أو عاجلا ولأننا سنتعرض لهجوماتهم ولن تستطيعوا شيئا «لحمايتنا.»
وقد وقعت هذه الإجابة عندما تأثر سكان قسنطينة من مزاعم الباي، كما تأثر الديوان من قبلهم وجاؤوني يقولون: انظر هذا ملك تونس، وهو ندلك قد تلقب بالباشا فلا بد أن تفعل مثله في اللقب وأن تضرب النقود على غراره فأرغمت على اتباع نصائحهم وعينت ابن عيسى خزناجيا وأمينا للسكة التي ضربت، كما هي العادة، باسم سلطان القسنطينية ثم قررت أن أحيط علما بكل ما جرى، من كنت أرى فيه سيدا لي وهو السلطان محمود ﵀.
واغتاظ باي تونس من الرفض الذي لاقاه في قسنطينة، فكتب إلى اسطمبول يحرض علي ويتهمني بالطغيان. ويقول بأنني أثرت حقد جميع رعيتي. لقد علمت بذلك وعزمت أن أحارب الإدعاءات الكاذبة بلائحة يمضيها أهم القادة في مقاطعة قسنطينة. وضمنت رسالتي كل ما دار في الديوان بهذا الشأن وكذلك الرأي الذي تم التوصل
1 / 23
إليه، وختاما قلت: إنك الآن تعرف كل شيء وأنت صاحب الأمر، فإنني أنتظر قرارك». ثم رجوته أن يرشدني إلى الطريق الذي يجب اتباعه. وكان كل من حضر قراءة هذه الرسالة موافقا على مضمونها فوضعت عليها خاتمي ووضع الأعيان خواتمهم ثم ذيلوها بملاحق تعبر عن رأيهم في حكمي وعينوا واحدا منهم ينقلها إلى سيدنا ومولانا ويؤكد له ما احتوت عليه.
وكان سي علي بن العجوز، أحد أعيان قسنطينة، هو الذي كلف بأداء هذه المهمة، فأوفدت معه واحدا من عمالي، يدعى الحاج مصطفى.
ومضت أربعة أشهر قبل رجوعهما، وفي هذه الفترة من الزمن وقع ما وقع من الأحداث الهامة التي يضطرني سردها إلى الرجوع إلى ما قبل الأحداث التي ذكرتها الآن.
٣
كان مصطفى بومزراق بايا للتيطري (١٣) عندما استولى
_________
(١٣) - يقول أوكاتبان وفيدرمان في «مذكرة حول تاريخ وإدارة بايلك التيطري»، المجلة الأفريقية ج ٩، ١٨٦٥، ص: ٩٢٧: ان بومزراق حكم التيطري من سنة ١٨١٩ إلى سنة ١٨٣٠، وقد كان جنديا باسلا ونشيطا، لعب دورا كبيرا في معركة سطاولي.
1 / 24
الفرنسيون على الجزائر، فحاول أن يربط علاقات معهم للاحتفاظ بالسلطة ولكنه لما لم يتمكن من أن يعتمد لديهم أراد أن يستقل وتلقب بالباشا ثم كتب لي يقول بأن علي طاعته ودفع اللازمة إليه، ومقابل ذلك يبعث لي قفطان الملك. فأجبت رسوله بقولي: «كيف! بالأمس، كان مصطفى بايا مثلي، واليوم ينتصب باشا من تلقاء نفسه فما عليه إلا أن يأتي ليأخذ الاعتراف فليس عندي له إجابة والبارود وحده الذي يفصل بيننا.»
وأمام هذه الإجابة اندفع بومزراق في حمقه وأعلن أنه يعزلني وعين مكاني ابراهيم الذي كان بايا لقسنطينة في السابق والذي كان الداي حسين قد عزله. ولمحاربتي تحالف ابراهيم هذا مع فرحات بن سعيد (١٤)، شيخ العرب السابق الذي استبدلته مؤخرا بقريبي بوعزيز بن
_________
(١٤) - ابراهيم باي هو الذي عين فرحات بن سعيد في منصب شيخ العرب، بعد أن أرغم ابن قانه على اخلائه والتنازل عنه. وكان طموحا وفوضويا، ثار سنة ١٨٢١، لكنه سومح وظل يمارس سلطة كبيرة في الجنوب (مارسي، تاريخ قسنطينة، ص: ٣٥٧).
1 / 25