Mu'jiz Ahmad
اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي
Genre-genre
Retorik
وتوقدت أنفاسنا حتى لقد ... أشفقت تحترق العواذل بيننا
الإشفاق: الخوف مع الرحمة.
يقول: ألهبت أنفاسنا حرارة الشوق، حتى خفت أن تحترق العواذل اللائي كن بيننا. ووجه إشفاقه عليهن، مع أن العواذل يكن مبغضات للعشاق، لأن العاذل لا يكون في الأغلب إلا من يكون قريبًا، أو ناصحًا شفيقًا. وقيل: إنه خاف أن تنم أنفاسه على حالهما، من حرارة الشوق. ويجوز أن يكون خوفه من احتراق نفسه واحتراق حبيبه، ثم يتعدى الاحتراق إلى العواذل، لأنهن لا يحترقن بحرارة أنفاسهما إلا بعد احتراقهما. ومثله قول بعض المتأخرين:
والبين يقدح من أنفاسنا شررا ... أشفقت تحرقنا يوم الوداع معا
أفدي المودعة التي أتبعتها ... نظرًا فرادى بين زفراتٍ ثنا
سكن الفاء من زفرات ضرورة وأصلها الفتح. وثنا: أصله المد فقصره ضرورة أيضًا وفرادى: صفة لنظر؛ لأنه مصدر يقع على الواحد والجمع.
يقول: أفدى التي ودعتني وودعتها، فبقيت أنظر في أثرها لا أطرق ولا ألتفت إلى سواها، وكانت زفراتي تتصاعد اثنين اثنين؛ لشدة الجزع. يعني كلما نظر في أثرها مرةً زفر مرتين.
أنكرت طارقة الحوادث مرةً ... ثم اعترفت بها فصارت ديدنا
اعترفت بها: أي عرفتها وتعودتها. وقيل: معناه. صبرت لها حتى صارت لي عادة.
يقول: كنت في أمن من حوادث الدهر، فلما حدثت مرة أنكرتها وجزعت منها، ثم تكررت علي حتى صارت عادة لي، فلا أنكرها الآن. وهو من قول أبي العتاهية:
تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
ومثله لآخر:
روعت حتى ما أراع من النوى ... وإن بان جيران علي كرام
ومثله لآخر:
روعت بالبين حتى ما أراع به ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
وقطعت في الدنيا الفلا وركائبي ... فيها ووقتي: الضحى والموهنا
الفلا: نصب بقطعت. وركائبي، ووقتي: معطوفان عليها. والضحى، والموهنا بدا في وقتي. والوهن والموهن: قطعة من الليل، وقيل: صدر الليل قدر ساعتين منه؛ والضحى: صدر النهار.
يقول: استفدت لكثرة أسفاري في الفلوات، وأنضيت الركاب، وأفنيت ساعات نهاري وليلي. فعبر بالضحى، عن جملة النهار، وبالموهن: عن جميع الليل.
فوقفت منها حيث أوقفني الندى ... وبلغت من بدر بن عمار المنى
وقفته وأوقفته: أي حبسته، وبغير الألف أفصح. والهاء في قوله: منها راجعة إلى الدنيا.
يقول: لم أزل أطوف في الدنيا حتى وصلت إلى بدر، فحبسني جوده ونداه عنده، وبلغت عنده كل ما أتمناه: من نيل الغنى وإدراك العلا ومثله قوله من أخرى:
وقيدت نفسي في ذراك محبةً ... ومن وجد الإحسان قيدًا تقيدا
لأبي الحسين جدًا يضيق وعاؤه ... عنه ولو كان الوعاء الأزمنا
جدًا: أي عطاء.
يقول: إن عطاءه قد بلغ إلى حدٍّ يضيق الوعاء عنه، حتى لو كان الزمان وعاءه، لضاق عنه.
وشجاعةٌ أغناه عنها ذكرها ... ونهى الجبان حديثها أن يجبنا
وشجاعةٌ: معطوفة على قوله جدًا، وموضعه رفع بالابتداء.
يقول: إن شجاعته قد اشتهر ذكرها وشاع في الناس حديثها. فانقاد أعداؤه لحكمه، فاستغنى عن استعمال شجاعته لدخولهم في طاعته. وهو المراد بقوله: أغناه عنها ذكرها أي عن إظهارها واستعمالها، وقوي قلب الجبان من كثرة ذكرها، حتى اضطر إلى ترك جبنه.
نيطت حمائله بعاتق محربٍ ... ما كر قط وهل يكر وما انثنى؟!
نيطت حمائله: أي علقت، ونياط: عرق القلب معلق. والعاتق: رأس الكتف، وهو الكاهل أيضًا. وحمالة السيف: قلادته. والمحرب: كثير الجراءة والهاء في حمائله: للممدوح ومحرب: أراد به الممدوح أيضًا.
يقول: إن حمائل سيفه منوطة بعاتقه، وهو كثير الحرب، وإنه إذا حمل على عدوه لم ينثن عنه، فيحتاج إلى الرجوع إليها، لأن الكر يكون بعد الفر.
فكأنه والطعن من قدامه ... متخوفٌ من خلفه أن يطعنا
يقول: إنه يتقدم في المعركة، ويلقي الطعن قدامه ولا يتأخر، حتى كأنه يخاف أن يطعن من خلفه، فهو يتحرز بالتقدم كأنه يطعن من خلفه
نفت التوهم عنه حدة ذهنه ... فقضى على غيب الأمور تيقنا
فاعل نفت: هو حدة.
1 / 132