واتَّفقوا على إِجادة المصنَّف في جُملَه وتفصيله، ونقله وتعليله، وسارت النُّسخُ في الآفاق سَيْرورةَ ذُكاءَ في الإِشراق، فلم يقدم مِقْدامٌ مَتَعَنِّتٌ، ولا هَجَمَ مِهجامٌ متبكِّتٌ، على مؤاخذته بشيءٍ مما فيه، ولا حدَّث محدَّث نفسَه بحلِّ عقد من مغازيه، حتى ذكر اسماء الأماكن التي أَسس عليها أَبو محمد المقامات، فانبتَّ سِلْكُ دُرِّ عِقْد لآليه، وتداعى ما شيَّدَه فضلُه من مبانيه، وعاد رَوضُه الأَريض مصوَّحًا، وقريب إِحسانه مطوَّحا، وظلّ رَكْبُ فضائله طليحا، وتمامُ خلْق بُرهانه سطيحًا، وأَخذ يخلِّط تارة ويَخلِطُ، ويتعثَّر في عَشواءٍ الجهالة ويخبط. فإِنه قال في المقامة الكرجية: وكَرَجُ بلدة بين همذان وأَذربيجان، وإنما هي بين همذان وأَصفهان، والقاصد من همذان إلى أصفهان يأخذ بين الجنوب والمشرق، والقاصد من همذان إلى أذربيجان يأخذ بين الشمال والمغرب، والقاصد إلى هذه يستدبر القاصِد إلى هذه.
وقال في البَرْقَعيدية: وبَرْقَعيد قصبةُ الجزيرة، وإِنما هي قرية من قُرى بقعاء الموصل، لا تبلغ أَن تكون مدينةً، فكيف قصبةً؟
وقال في التّبْريزية: وتبريز بلدة من عواصم الشام، بينها وبين مَنْبج عشرون فرسخًا، وتبريز بلدة أَشهرُ وأَظهرُ من أَن تخفَى، وهي اليوم قصبة نواحي أَذربيجان، وأَجَلُّ مُدُنها. وإِلى غير ذلك من أغاليط غيره، فصار هذا الإِمام ضُحْكةً للبطالين، وهُزْأَة للساخرين، ووجد الطاعنُ عليه سبيلًا، وإِن كان مع كثرة إحسانه قليلًا، فلو كان له كتابٌ يَرجع إليه، ومَوْئلٌ يَعتمد عليه، خلص من هذه البليَّة نجيًّا، وارتقى من الهبوط في هذه الأَهوية مكانا عليًّا.
وكان من أَول البواعث لجمع هذا الكتاب، أَنني سُئلتُ بَمرْو الشاهجان، في سنة خمس عشرة وستمائة، في مجلس شيخنا الإِمام السعيد الشهيد فخر الدين أَبي المظفّر عبد الرحيم ابن الإِمام الحافظ تاج الإِسلام أَبي سعد عبد الكريم السَّمْعاني، تَغَمَّدَهما الله برحمته ورضوانه، وقد فُعِل الدعاء إِن شاءَ الله، عن حُباشَةَ اسم موضع جاءَ في الحديث النبويّ، وهو سوقٌ من أَسواق العرب في الجاهلية. فقلت: أَرى أَنه حُباشَةُ بضم الحاء، قياسًا على أَصل هذه اللفظة في اللغة، لأَنّ الحُباشَةَ: الجماعة من الناس من قبائل شتى، وحبَشْتُ له حُباشَةً أَي جَمعت له شيئًا. فانبرى لي رجلُ من المحدّثين، وقال: انما هو حَباشةُ بالفتح. وصَمَّمَ على ذلك وكابَرَ، وجاهَرَ بالعنِادِ من غير حُجّة وناظَرَ، فأَردْتُ قطعَ الاحتجاج بالنّقْل، إذ لا مُعَوَّل في مثل هذا على اشتقاق ولا عَقْل، فاستعصى كَشْفُه في كتب غرائب الأَحاديث، ودواوين اللغات مع سعة الكتب التي كانت بِمَرْوَ يومئذ، وكثرة وجودها في الوقوف، وسهولة تناولها، فلم أَظْفَر به إِلا بعد انقضاء ذلك الشَّغَب والمِراء، ويأْسٍ من وجوده ببَحْث واقتراء، فكان موافقًا والحمد لله لما قُلْتُه، ومَكيلًا بالصاع الذي كِلتُه، فأُلقَي حينئذ في رُوعي افتقارُ العالم إِلى كتاب في هذا الشأْن مضبوطًا، وبالإتقان وتصحيح الأَلفاظ بالتَّقييد مخطوطًا، ليكون في مثل هذه الظُّلمْة هاديًا، وإِلى ضَوءِ الصواب داعيًا، ونُبَّهتُ على هذه الفضيلة النبيلة، وشُرِحَ صدري لنيل هذه المنقَبَة التي غفل عنها الأَولون، ولم يَهْتَدِ لها الغابرون. يقول من تَقْرَعُ اسماعَهُ: كم تَركَ الأَول
1 / 10