Masalah Peradaban Moden
معضلات المدنية الحديثة
Genre-genre
أكتب هذا بعد أن فرغت من قراءة كتابين في الاجتماع الإنساني: أولهما كتاب تاريخ النشوء الاجتماعي للدكتور مولر ليير الألماني، والثاني كتاب الفساد والتجدد الاجتماعيان للدكتور أوستن فريمان الإنجليزي. والمؤلفان على جانب عظيم من الكفاءة والقدرة على البحث في معضلات الاجتماع العملي، وكلاهما واسع الاطلاع على معضلات علم الحياة (البيولوجيا) قوي الحجة في التدليل، ثاقب النظر في الاستنتاج، ثابت القدم في الاستقراء، لهذا تجد أن اختلاف نظرهما في النتائج التي وصلا إليها يحدث في نفسك أثرا قويا يحملك على الاعتقاد بأن المدنية الحديثة لم تصبح حلا موافقا لطبيعة الإنسان خرج به من ظلمات الوحشية الأولى التي كانت تقف حائلا بينه وبين الارتقاء، بل تعتقد أن هذه المدنية أصبحت بذاتها وعلى نظاماتها الحاضرة معضلة كبرى تسوق بالنوع الإنساني سعيا في مدارج الانحطاط والفساد.
إن النظرة التي ينظرها رجل العلم الصرف في حالات الاجتماع مختلفة تمام الاختلاف عن نظرة الرجل السياسي، كما أنها تختلف عن نظرة المصلح الاجتماعي، فإن المتضلع من علم الحياة (البيولوجيا) لا يفكر إلا في القرون واللانهاية، ينظر في المستقبل وينظر في الماضي على نمط يكفي لأن يسقط أقوى السياسيين تمكنا من عبادة الجماهير، فإن السياسي لا يهمه من شيء في الحياة إلا أن يرقب من أين تهب رياح الجماهير في الغد، ولكنه لا يحفل بالتفكير فيما سوف يحدث في المستقبل، قريبا كان أم بعيدا. كذلك يعتقد رجل العلم أنه لن يستطيع أن يغزو الطبيعة ويتسلط عليها إلا إذا مضى مطيعا لنواميسها، وهو لن يعتقد أن الطبيعة البشرية يمكن أن تتبدل أو تتغير متطورة، حتى في خلال عشرة قرون متوالية، إلا إذا تعهدتها يد الانتخاب الطبيعي؛ تنتقل بها من درجة ارتقائية إلى درجة أخرى على تتالي الأجيال، فإن رجل العلم لا يؤمن بشيء إلا بما توحي إليه به مبادئ العلوم الثابتة التي هو عاكف على درسها وبحثها، هو لا يخاطب العواطف ولا الشعور ولا المعتقدات التقليدية التي يمضي عليها الناس عاكفين، بل يناجي أبا الهول الرابض في فلوات العالم المجهول، هو يناجي النواميس العنصرية التي لن تكذب ولن تموه، تلك النواميس التي تتحكم في مستقبل الأمم والشعوب والأنواع والسلالات المختلفة، كما تقتضي سننها الخالدة الثابتة، تلك السنن التي إذا سايرت الأحياء مقتضياتها تطورت وارتقت، وإذا صادمتها واعترضت طريقها اضمحلت وفنيت.
على أن العلم لم يصل بعد إلى درجة من التأثير تمكنه من أن يشكل معتقدات الشعوب العملية في الحياة على صورة ما؛ لأنه ظل طوال العصر الماضي بعيدا عن التأثير في ميدان السياسة، مقصيا به عن المشاعر بتأثير الدين. غير أنك تجد اليوم أن كل ما قام في رءوس الناس من محاولة التوفيق بين العلم وبين تقاليد أهل اليقين قد أهمل وترك في زماننا هذا، بل إن شئت فقل: قضي عليه قضاء تاما، فإن العلم على الرغم مما يثبت فيه إقدامه من ميادين العمل الصرف، لم يؤثر أي أثر في ثبات المعتقدات الدينية بصفتها عاملا نشوئيا في تطور الشعوب. نزع العلم نزعته المادية الصرفة عندما أخذ يقاوم الأساطير والخرافات التي استمكنت من عقول الناس أزمانا متطاولة عريقة في القدم، لكنك تجد أن العلم منذ أن حرر نفسه من أثر الأساطير ومعتقدات أهل اليقين، أخذ يخطو قدما بعد قدم نحو الفلسفة، وأخذ ينتفع بكثير مما ذاع في أواسط القرن الثامن عشر من مذاهب الفلسفة المثالية في ألمانيا وفرنسا. كذلك تحولت الموقعة من تناحر بين العلم والدين إلى شجار قوي قائم بين العلم وبين النزعات الثورية التي تجفل من حكم العقل، والتي تعمل بكل ما في مستطاع القوة أن تؤثر إفسادا في الجماعات الإنسانية وتحليلا من وحداتها المتجانسة، ولهذا تجد أن القائمين بغرس بذور الثورات الحديثة غالبا ما ينفرون من ذكر العلم والعلماء، عاملين بأقصى مستطاعهم على هدم نتائج العلم التي يخرجها المؤمنون بموحيات العقل؛ نابذين موحيات المشاعر؛ لأنهم في ثورتهم هذه لا يقومون في وجه النظام الاجتماعي القائم وحده، بل يثورون ضد القانون الاقتصادي وضد الجمعية البشرية، ككائن عضوي يرجع بنشأته إلى أعرق العصور قدما.
ومع كل هذا، وعلى الرغم من التطورات العظيمة التي انتابت الفكر الإنساني في خلال القرنين الفارطين، تجد أن ميول الرأي العام لا تنفك مؤثرة في مباحث العلوم بما يعوق خطاها المنبعثة في سبيل التقدم والاستكشاف العلمي، ولا مناص لنا من القول بأن أشد الباحثين استمساكا باستقلال رأيه وأكثرهم تقديرا واحتفاظا بحرية تفكيره لا يمكن أن يخرج عن حكم الزمان الذي يعيش فيه والمؤثرات التي تتناوح رياحها من حوله، فهو على الرغم من كل هذا صنيعة نشأته وعبد بيئته، فإن ذلك الحلم اللذيذ الذي استقوى على الفكر الفرنسوي في أواخر القرن الثامن عشر، حلم أن الإنسان مستعد بطبعه إلى بلوغ درجة الكمال؛ قد تحيز في عقول الباحثين بحيث أصبح المعتقد أن النشوء والارتقاء قانون الطبيعة الثابت، وكانت مباحث «لامارك» الفيلسوف الفرنسوي الكبير مؤيدة لهذه الوجهة من النظر الطبيعي. فلما أن انقلبت أساليب الحياة الحديثة في أوروبا عامة وفي غربيها خاصة، من حياة الهدوء والسكينة التي ألفتها الجماعات هنالك طوال القرون الوسطى، إلى الحياة الاقتصادية الحديثة التي غشت أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر بحياة الإنتاجية الصناعية؛ وجد الناس في مبدأ التناحر على الحياة الذي وضعه العلامة «داروين» أكبر نصيب يرضي النزعة الحديثة في الذهاب بالمنافسات الاجتماعية إلى أبعد حد مستطاع؛ ليخلص كل شعب من الشعوب بحظه من الحياة، على قاعدة أن الحياة عبارة عن تناحر يؤدي من طريق الانتخاب الطبيعي إلى بقاء الأصلح، على هذا المبدأ الذي أساءت الجماعات فهمه وأساءت تطبيقه سارت المدنية الحديثة وعليه تسير. (1) تاريخ النشوء الاجتماعي
يتخيل الدكتور مولر ليير النوع البشري خارجا من بداياته الفطرية الأولى حيوانا منحط الصفات دنيء النشأة ماضيا في سبيل النشوء والارتقاء درجة بعد درجة وحالا بعد حال، متنقلا من صورة إلى أخرى من صور الحياة، كان الإنسان في تلك الحال جاهلا كل الجهل ما ينتظره من ضخامة المستقبل الذي هيأ له القدر أن يساق في سبيله، غير أنه مرت على الإنسانية في حياتها الأولى فترات أدرك فيها الإنسان حقيقة الخطوة التي هو ماض في سبيلها، وعدت قوة إدراكه على حالته اللاشعورية الأولى فأدرك أن له وجودا وأن له مستقبلا. ومنذ ذلك الحين تبدل الإنسان من الاستهداء بقوة غرائزه بالاستنارة بقوة عقله ومداركه، وتبدل من حالة الجبر الغريزية بحالة الاختيار الإدراكية؛ فأصبحت كل أفعاله قصدية غائية، بعد أن كانت فطرية لا إدراكية لا أثر فيها لقصد معروف ولا غاية مرسومة، وكبر عنده الأمل في أن يصبح يوما ما قادرا على أن يضبط مناحي تقدمه وأن يتحكم في درجات ارتقائه. غير أن هذا الأمل لم يتحقق حتى اليوم، ولن يمكن أن يتحقق قبل أن نفقه تلك السبل المشعبة التي مضى فيها النشوء الاجتماعي متدرجا في عدد من الحلقات المتباينة. على أن دكتور ليير ليعتقد بأن هذه الحلقات يمكن استكناهها، وأننا إذا وقفنا على حقائقها وطبيعتها استطعنا أن نتخذها مطالع نرقب منها المستقبل. وهو يمضي في كل بحثه منتحيا هذا المنحى متبعا وحي هذا القول في تفسير حادثات التاريخ الاجتماعي؛ فهو يحصر بحثه في التطور الاقتصادي والأسرة والحكومة والعقل الإنساني والآداب والعدل والفنون، ويمضي في كل هذه الأبحاث فائضا بآيات من الحق بينات؛ ليؤيد نظريته هذه من كل ناحياتها.
يعتقد دكتور مولر أن التهذيب العقلي حركة ارتقائية في مستطاعنا أن نتتبع آثارها منذ أن بدأ الإنسان في الظهور فوق هذه الأرض متطورا عن الحيوانات الأدنى منه في سلم الطبيعة نسبا، فإن استكشاف طرق التفاهم بالكلام واستحداث النار واستعمال الآلات ثلاث حوادث كبرى يمكننا أن نعدها من بين الأشياء التي وضعت حدا فاصلا بين عهدين متباينين مر بهما الإنسان في سرى تطوراته العديدة، فإن استعمال الآلات قد زاد عندما انتقل الإنسان من العصر الحجري إلى العصر النحاسي مارا بالعصر البرونزي إلى عصر الحديد، ولقد استقر عصر الحديد على مدنية الآلات الصناعية التي نستعملها في هذا العصر، على أنها مدنية حديثة كفى أن نعرف من حداثتها أنها لم تبدأ في إنجلترا - وهي عنوان الإنتاجية الصناعية القائمة على استعمال الآلات الحديدية - إلا منذ مائة وخمسين عاما لا غير؛ حيث نماها هنالك وأسس قواعدها عدة استكشافات متتالية كان من نتائجها إحداث ذلك الانقلاب الصناعي الذي تقوم عليه مدنية القرن العشرين. ولقد ترى أن كل الجهود الآلية التي تحتاج إليها الصناعات المختلفة آخذة في سبيل التحول من الاعتماد على عضلات الإنسان إلى الاعتماد على قوة الآلات الميكانيكية المركبة، حتى قال دكتور ليير في ملاحظة فيها كثير من الروعة والجلال إن نبوءة أرسطوطاليس كادت تتحقق في زماننا هذا، إذ قال في كتاب السياسة: «إذا أصبح من الممكن أن تعمل أكرة المنسج من تلقاء نفسها وإذا أمكن أن يتحرك منقر القيثارة والزيثار من تلقاء ذاتهما؛ لم يصبح هنالك من حاجة إلى العبيد ...» غير أنه يرى أن نشوء النظام الاجتماعي لم يساير تقدم الفنون العملية، ولم يساو ارتقاء الحياة الاقتصادية عامة، ولهذا ترى أن العمال الذين يعيشون من كد سواعدهم تلقاء أجورهم لا يزالون في حالة أشبه بحالات العبيد المسترقين تماما، وهذه أكبر دلالة عند دكتور مولر على أن عصر الآلات المدني لا يزال في بدايته؛ لم يدرج بعد من حجر الأيام.
ولقد أظهر من بعد ذلك أن نظام الرأسمالية قد نما وتكثر في ظل الإمبراطورية الرومانية، وأن الثروات الفردية كانت تحت حكم هذه الإمبراطورية أكبر قيمة وأعظم كمية منها في كل الأزمان التي تقدمت القرن التاسع عشر، ولكن أساس هذه الثروات كان قائما على جهد العبيد لا على الآلات. وكان يحسن بدكتور مولر أن يقول من بعد ذلك بأن تقدم الآلات وارتقاءها قد عاقه ووقف في سبيله نظام الرق واستعمال العبيد، وعلى هذا يلاحظ مستنتجا أنه كلما كان يفيض مد العبيد في روما كانت تنحط الإنتاجية؛ لأن القدماء لم يكن من عاداتهم أن يناسلوا العبيد بعضهم من بعض في مرابط (كمرابط الخيل) كما يفعل في هذا العصر المستنبتون في ولايات أمريكا الجنوبية، وبذلك يمكنهم أن يزيدوا من عدد العبيد محتفظين منهم بعدد تتزايد نسبته الرياضية جيلا بعد جيل. ومنذ ذلك العهد الذي تحطمت فيه الإمبراطورية الرومانية الغربية، حتى العصر الذي وقعت فيه ثورة الانقلاب الإنتاجي؛ كانت الرأسمالية ضعيفة الأثر ضئيلة القوة مشلولة الساعد، فإن الكنيسة لم تهمل ساعة واحدة أن تشن عليها الغارة تلو الغارة، وتنازلها في موقعة تلو موقعة، كما أن نظام القطائع لم يوسع لها مجال التكثر والازدياد، والسبب في هذا راجع إما إلى أن الرغبة في الكنز والاستجماع كانت في طبائع الناس خلال القرون الوسطى أضعف مما هي في العصور الحديثة، وإما أن الظروف التي كانت تجعل استجماع الثروات المالية أمرا مرغوبا فيه لم تكن متوافرة في ذلك الزمان.
ولا يذهب بك دكتور ليير بعيدا، بل يعود بك إلى سنة 1825 ليذكر لك أن أسطول «بريمن» - وهي ميناء في شمال ألمانيا - لم يكن في تلك السنة ليزيد من حيث حمولة الأطنان على شحن باخرة واحدة من البواخر التجارية التي تمخر الآن عباب البحار. ومن قبل أن يستخدم البخار ليقوم مقام عضلات الإنسان والسوائم في إيفاء الصناعات بما تطلب من قوة، كان السواد الأعظم من العمال عبارة عن مجموع من مهرة الصناع الذين يعتمدون على حنكتهم الذاتية وفنهم الشخصي، وكان كثير من الأسر في مستطاعها أن تعيش منفردة من غير احتياج إلى مساعدة غيرها معتمدة على قوة الابتكار في أفرادها ومرانهم على العمل والإنتاج، مكفية شر الحاجة مستقلة تمام الاستقلال في كل مرافق حياتها، فلما أن أدركت مدنية القرون الوسطى ثورة العصر الاقتصادي، كانت الخطوة نحو التغاير والانقلاب مقدورة على المتاجر القديمة التي نمت على مر القرون ونشأت كصناعات يدوية أولا؛ ثم تلتها المتاجر الحديثة كتجارة المطاط والسكر والأعمال الكيماوية ثانيا؛ ثم خروج اليد العاملة من صناعات الغزل والنسيج والدباغة وصناعة لبنات البناء والفخار ثالثا؛ وهي صناعات ظلت آلافا من السنين عبارة عن صناعات منزلية عادية. ومن ثم اختفت الأسرة المعتمدة على ذاتها المكفية شر الحاجة إلى غيرها المستقلة في إنتاجها؛ من عالم النظام الاجتماعي؛ لأن معامل الإنتاج الحديثة أخذت تحشد العمال حشدا، وتوارت عن الأعين الأكواخ القديمة بمعداتها، من مطبخ ومعمل وحديقة، وعلى الجملة - كما يقول دكتور ليير - إن الإنتاج الفردي قد أفسح المجال للإنتاج التعاوني، كما هدم مبدأ اقتسام العمل حياة الصناعات اليدوية، وقضى على الفنان المنتج المستقل بذاته، فأصبح بذلك نجاح العصر الرأسمالي بمقتضى هذا النظام قائما على ازدياد مقدار الصادر والوارد في التجارة.
يمضى دكتور مولر في مباحثه هذه شديد الاقتناع ثابت اليقين في مبدأ من مبادئ الفيلسوف «عمانوئيل كانت»، إذ يقول: «إن أوجه التقدم كلما ازدادت سرعة قصرت صورها»، فهو لهذا يعتقد أن الصورة الاجتماعية التي نعيش نحن اليوم مكتنفين بآثارها خاضعين لنظاماتها ستكون أقصر عمرا من الصور التي تقدمتها؛ فإن حالات الاندماج والتخالط، وعلى الأخص بين رأس المال والعمال، تزداد حدوثا، والإنتاج الاشتراكي الذي تلجأ إليه بعض الحكومات في بعض الظروف يزداد أهمية وخطرا. وما منع الناس من تجربة التساكن التعاوني إلا قوة المحافظة في نظام البيت الاقتصادي، على الرغم من أن التساكن التعاوني يعوض على النساء كثيرا مما يسرفن فيه من قوتهن العملية. غير أنه يعتقد أن الصعوبة التي تحول دون إخراج مثل هذه المشروعات من حيز النظر إلى حيز الفعل، محصورة في حساسيتنا الاجتماعية التي أصبحت فينا من المشاعر الوجدانية بحكم تراكم الطبقات الاجتماعية المقسومة في مراتب تفضل إحداها الأخرى، وفي ذلك الميل المؤصل في فطرة كل أسرة من حب المعاشرة لطبقات خاصة.
غير أنه يستحيل على الإنسان أن لا يشعر بحزن عميق صادق كلما ذكر أن الإنسانية فقدت المهارة اليدوية في الصناع الفنانين بحكم ذيوع الإنتاجية الميكانيكية، فإن الهمج المتوحشين يحاولون دائما أن يعرفوا من الرواد الذين يغشون مرابضهم عما إذا كانوا هم الذين صنعوا آلاتهم ومعداتهم بمهارتهم اليدوية، ويدهشون إذا صارحهم أحد منهم بأنه لا يستطيع أن يصنع شيئا منها، ولقد ذكر أحد السياح الإنجليز أنه رأى في جزائر تاهيتي أن الآهلين يمكنهم أن يصنعوا بيتا من الأغصان وأوراق الشجر، وأن الكساء يصنع خلال نزهة قصيرة يقضيها الهمجي باحثا وراء الثمار في غابة من الغابات، وقد تستولي على هؤلاء الهمج الحيرة والعجب إذا ما سمعوا بأن البريطاني المتمدين يضطر حكومته لأن تنفق ألفا من الجنيهات تبذلها من جيب دافع ضرائبها لتعد له بيتا يسكنه، وأنه يضطر إلى البقاء أشهرا بلا مأوى قانعا حتى يتم بناؤه. وفضلا عن هذا فإن الإنسان في حالته الطبيعية الأولى يمكنه أن يختار شكل المعيشة التي تلائمه وأن يشغل نفسه فيما يستخدم فيه كل قواه بالتساوي، فيحرك أطرافه كما يريد، وينبه قوة الملاحظة في خلايا مخه، ويستجمع قواه العقلية ليدرك ما هو بعيد عن إدراكه كما يشاء، على العكس من الحالة المدنية في عصر الإنتاج الميكانيكي، فإننا لا ننمو إلا من ناحية واحدة، فنصبح عبيد العمل لا أسياده المتحكمين فيه، إذ يقضي أحدنا العمر يحفر أو يخرز أو يطلي أو يكتب أو يلاحظ آلة ميكانيكية، في حين أنك تجد أن صيد السمك أو القنص البري، وهي من أولى الأشياء التي يعكف عليها الهمج، أصبحت في مدنيتنا الحديثة من الملاهي التي ينعم بها ذوو اليسار. •••
Halaman tidak diketahui