صلى الله عليه وسلم ، ومع أنه لم ينفق يوما من أيامه إلا تصدق فيه بالكثير؛ أحب أن يستقر في قلوبهم أن الثراء إن ثقل على عبد الرحمن، مع أن النبي قد ضمن له الجنة في نفر من السابقين الأولين، فهو عليهم أثقل؛ لأنهم لم يسبقوا إلى الإسلام، ولم يجاهدوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، ولم يضمن النبي لهم شيئا إلا أنهم إن أحسنوا طاعة الله في أنفسهم وأموالهم، لم يضع عليهم مما قدموا شيئا. وإذا خاف النبي على عبد الرحمن ألا يبلغ الجنة إلا زحفا، وألا يعبر الصراط إلا بعد جهد، فنحن أجدر أن نخاف على أغنيائنا ألا يبلغوا الجنة زاحفين، وألا يعبروا الصراط جاهدين أو غير جاهدين.
فلينظر أغنياؤنا إلى ما حولهم من بؤس وشقاء ووباء وموت، وليفكروا في أن أموالهم عارية مردودة، وفي أن الذين يقرضون الله قرضا حسنا يضاعف لهم قرضهم يوم القيامة، وفي أن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله قد بشروا بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، ويقال لهم: هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون!
الفصل العاشر
سخاء
لست أدري أتصح هذه الأخبار كما أحب وكما أعتقد، أم لا تصح كما يحب المتشككون وكما يعتقدون، وهي سواء صحت أو لم تصح، تثير في نفسي كثيرا من الخواطر، وتثير في قلبي كثيرا من العواطف، وتدفعني إلى كثير من التفكير، كما تدفعني إلى كثير من الأحلام الحسان العذاب، التي إن صدقت كانت أحسن المنى، وإن لم تصدق كانت قد أتاحت لي أن أعيش ساعات حلوة كما يريد الشاعر القديم أن يقول.
وهذه الأخبار هي التي تتصل بكرم الكرماء، وجود الأجواد، وتبرم الأغنياء بما يتاح لهم من الغنى وما يساق إليهم من الثراء. والحمد لله الذي لم يخلق الناس جميعا حراصا على المال، بخلاء بما يملكون، لا ينالون من الغنى حظا إلا ليبتغوا حظا أوفر مما نالوا، ولا يحرزون من الثراء نصيبا إلا ليطلبوا أكثر مما أدركوا، ثم هم على كثرة ما يملكون وكثرة ما يحصلون وكثرة ما يتراكم عندهم من الغنى، أشبه شيء بالصخرة المصمتة، ذات القاع البعيد أو التي ليس لها قاع، فهي لا تجود بشيء مما يستقر فيها من الماء مهما يكثر، ومهما يركب بعضه بعضا، وإنما هي مصمتة من جميع جوانبها، ليس فيها أمل لمن يطيف بها إلا أن يحطمها تحطيما.
الحمد لله الذي لم يخلق الناس جميعا حراصا على هذا النحو من الحرص، بخلاء إلى هذا الحد من البخل، وإنما جعل منهم بين حين وحين من لا يكره الغنى، ولكنه على ذلك لا يفنى فيه ولا يتهالك عليه ولا يتخذه غاية، وإنما يتخذه وسيلة ينفع بها نفسه وينفع بها أهله، وينفع بها ذوي قرابته، وذوي مودته، وينفع بها أكثر عدد ممكن من الناس، حين يتاح له أن ينفع أكثر عدد ممكن من الناس.
هؤلاء الأجواد الأسخياء عزاء عن الحراص البخلاء، يلقون في روعك أن الإنسانية ليست شرا كلها، وأن حياة الناس قد تكون صحراء مقفرة مجدبة شديدة العقم، ولكنها على ذلك لا تخلو من الواحة التي تقوم فيها بين حين وحين، فتتيح للمسافر الذي عناه السفر وأضناه الجهد، أن يجد فيها من الظل والماء، ومن الراحة والروح، ما ينسيه بعض ما احتمل من المشقة، ويعينه على احتمال ما سيلقاه من الجهد حين يستأنف السعي في صحرائه تلك المجدبة المقفرة، ولولا هؤلاء الأجواد الأسخياء لكانت الإنسانية خليقة أن نبغضها أشد البغض وأعظمه بشاعة ونكرا.
والناس يلتمسون الراحة حيث يجدونها، وكما يستطيعون أن يجدوها، وهم لذلك يلتمسون العزاء حيث يجدونه وكما يستطيعون أن يجدوه؛ يلتمسونه من حولهم، فإذا لم يظفروا به أبعدوا في السعي والتمسوه في الأطراف النائية والأماكن المتباعدة، فإذا أعياهم أن يظفروا به في المعاصرين، من قرب منهم ومن بعد، التمسوه فيما مضى من الأيام وفيما سلف من العصور . وقد يظن القارئ أني أتكثر أو أتزيد، ولكني أؤكد له أني لست من التكثر والتزيد في شيء، وإنما استقبلت هذه الأحداث التي تحدث، والنوائب التي تنوب، وهذا البؤس الذي يأخذ كثرة المصريين من جميع أقطارهم، ويسعى إليهم من كل وجه، يعدهم للموت حتى يسلم بعضهم إليه، ثم يستأثر بمن بقي منهم فيمضي في إعدادهم للموت، متمهلا حينا ومتعجلا حينا، وجعلت أنظر فيمن حولي من الأغنياء، وأنظر في موقفهم من هذا الشقاء الملم، والبلاء المدلهم، والهول الهائل، والعذاب الشديد، فلم أر إلا حرصا وبخلا، وقسوة في القلوب، وغلظا في الأكباد، وجفوة في الطباع، وكدرا في الضمائر، ووجدت قوما ينفقون على كره للإنفاق، وقوما آخرين يترددون بين الكرم والبخل ثم يؤثرون البخل بعد طول التردد واتصال التفكير، وقوما آخرين لا ينفقون ولا يترددون ولا يفكرون، وإنما يجهلون من حولهم من الناس، ويجهلون ما حولهم من البؤس والضنك والضيق والموت، يضعون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا، ويجعلون على أبصارهم غشاوة حتى لا يروا، ويجعلون على قلوبهم أكنة وأقفالا حتى لا يصل إليهم ما يثير فيها شيئا من تضامن أو تعاطف أو رحمة أو إشفاق.
أولئك وهؤلاء يقبلون على لذاتهم ومنافعهم وآمالهم كما يتصورونها، لا يعنيهم أن يلذوا والناس من حولهم يألمون، ولا يسوءهم أن ينعموا والناس من حولهم يتجرعون الشقاء والبؤس والعذاب غصصا، فهم يرقصون على جثث المواطنين، ويسعدون بشقائهم، ولا يفرقون بين هذه الموسيقى البشعة المنكرة التي تأتي من شكاة الشاكين، وبكاء الباكين، وأنين المرضى، وحشرجة المحتضرين، وهذه الموسيقى الأخرى التي تصل إليهم من عزف العازفين، ونفخ النافخين، ورقص الراقصين، ولا يجدون بأسا حين يقبلون على كئوسهم المترعة المصفاة، أن يكون مزاجها من هذه الدموع الغزار التي لا ترى ولا تحس لأنها لا تنزف من أعين الناس، وإنما تنزف من أعين مصر كلها. ودموع الناس قد ترى وقد تحس فيضيق بها الذين يرونها والذين يحسونها، ولكن دموع الأوطان والشعوب والأجيال لا يراها ولا يحسها إلا الذين أتيح لهم شيء من رقة القلوب، وصفاء النفوس، ونقاء الضمائر، وتهذيب الطباع، وهؤلاء مع الأسف قليلون بل هم أقل من القليل.
Halaman tidak diketahui