وأنا لم أذكر إلى الآن حق هؤلاء الصبية في أن يتعلموا، وفي أن يستمتعوا بصحة لا تجعلهم عرضة للأدواء المهلكة والأمراض المعدية، ولا تجعلهم مصدر خطر على من يتصل بهم من الناس.
هذه مشكلة لو كانت طارئة لظننت أن الحديث عنها قد يلفت إليها ويدعو إلى التفكير فيها والاجتهاد في حلها، ولكنها لم تطرأ اليوم، ولم تطرأ أمس، وإنما عهدها بنا بعيد، وإهمالنا لها متصل، وهي من أجل ذلك تنتج نتائجها المنكرة المخزية؛ فانتشار الوباء في غير مشقة، وانتشار الفساد الخلقي، وانتشار الرشوة، وانتشار السرقة، وتقطيع الصلات بين الناس، وانتشار الظلمة في الضمائر والقلوب، وانتشار اليأس حتى من روح الله، وانتشار الذلة والمسكنة والهوان، وانتشار الإذعان للظلم والاستسلام للعسف، والانقياد للاستبداد بالحرية والكرامة، والازدراء لكل ما يجعل الإنسان إنسانا، فضلا عن الازدراء لكل ما يجعل الإنسان إنسانا متحضرا ممتازا؛ كل هذه الآفات والمخازي ليس لها مصدر إلا هذا الشقاء.
ولأعد إلى هذا الموظف من موظفي الدولة، إنه كغيره من الموظفين؛ يغدو إلى مكتبه مع الصباح، ويروح إلى داره مع المساء، قد اتخذ ثيابا تلائم عمله، ولو بليت ثيابه فلم يجد ما يشتري به ثيابا أخرى لعوقب على ذلك، فالدولة حريصة على أن يكون موظفوها كراما في مظاهرهم على أقل تقدير. هو إذن يغدو ويروح في ثيابه تلك الملائمة، وعلى رأسه طربوشه، وفي رجليه حذاؤه الذي لا ينبغي أن يبلى، وهو يستقبل أصحاب الحاجات من الشعب، يبسم لهم أو يعبس في وجوههم، يخدمهم ناصحا أو يخدمهم متكرها، وهو يتحدث إلى زملائه فيبادلهم الدعابة حينا ويبادلهم الشكوى أحيانا، وهو على كل حال قبر متحرك، يحيا حياة ظاهرة ولكن قلبه ميت، قد أماته البؤس والشقاء والهم، وأكثر زملائه يشبهونه؛ فأعجب لدولة يخدمها موظفون تحيا أجسامهم، وتموت نفوسهم، وانتظر بعد ذلك من هذه الدولة أن تسلك بالشعب طريقه إلى العزة والكرامة والاستقلال الناقص أو التام. والمهم هو أننا عشنا حتى رأينا موظفي الدولة يطلبون الصدقة ويلتمسون الإحسان، يطلبون ذلك بألسنتهم، ويطلبون ذلك بأقلامهم، جاهدوا ما وسعهم الجهاد حتى أرغمتهم الحاجة على أن يتخففوا من هذه الكرامة التي منحها الله للإنسان، والتي تمنع الإنسان من أن يسأل ويلتمس الإحسان!
موظفو الدولة إذن يطلبون الصدقة ويلتمسون الإحسان، وأغرب ما في الأمر أن عامة الشعب يحسدون الموظفين على مرتباتهم هذه المقررة المنظمة التي تصرف لهم في أول الشهر، لا تتخلف عنهم ولا تبطئ عليهم، وإذا كانت هذه حال المحسودين فكيف تكون حال الحاسدين؟ أظن أنك قد رأيت الخطر الذي يسعى إلينا مسرعا، أو الذي نسعى إليه مسرعين، وأظنك توافقني على أننا بين اثنتين: إما أن نترك الأمور تجري على سجيتها فيكون ما لا بد أن يكون، ويجري علينا ما جرى على الأمم من قبلنا، وإما أن نستقبل من أمرنا ما استدبرنا، وأن نحاول الإصلاح لنعصم موظفي الدولة من طلب الصدقة والتماس الإحسان، فنعصم الشعب كله من طلب الصدقة والتماس الإحسان، وليس إلى ذلك إلا سبيل واحدة، هي أن نعيد النظر في نظامنا الاجتماعي كله، فيما تجبي الدولة من الضرائب، وفيما تمنح الدولة من المرتبات.
الضرائب قليلة جدا، أقل مما ينبغي، والمرتبات قليلة جدا، أقل مما ينبغي، والعدل يقتضي أن تضاعف الضرائب، وأن تضاعف المرتبات، وأن تكف الدولة عن الإسراف في الأموال العامة، وأن يكف الأغنياء عن الإسراف في أموالهم الخاصة. وليس إلى الإصلاح الاجتماعي من سبيل إلا إذا وجدت الأداة السياسية الصالحة التي تستطيع أن تنهض بعبئه، وتنقذه من مشكلاته، فهل ترى أن مصر تملك في هذه الأيام أداة سياسية صالحة تمكنها من محاولة هذا الإصلاح؟ هذا سؤال لست في حاجة إلى أن أجيب عليه.
الفصل الثامن
تضامن
لم يكن عمر بن الخطاب رحمه الله، يقدر حين صدر بالمسلمين من الحج سنة ثماني عشرة للهجرة، أنه يستقبل بالمسلمين من أهل بلاد العرب، ومن أهل الحجاز ونجد وتهامة خاصة، عاما أسود قاتما يمتحن المسلمون به في أنفسهم وأموالهم وأخلاقهم، وفيما أتيح لهم من الصبر على الشدائد والثبات للمكروه والنفوذ من الخطوب، وفيما أتيح لهم كذلك من هذا الشعور الكريم الممتاز الذي يجعل الإنسان إنسانا، ويرقى به إلى المنزلة العليا من منازل الكرامة، وهو شعور التعاطف والتآلف والتضامن الاجتماعي الذي يلقي في روع كل فرد مهما تكن منزلته، أنه عضو من جماعة يسعد بسعادتها، ويشقى بشقائها، ويأخذ بحظه مما يصيبها من النعماء والبأساء، وما ينوبها من السراء والضراء.
لم يكن عمر - رحمه الله - يقدر أن الغيب قد أضمر له وللمسلمين من أهل بلاد العرب هذه المحنة القاسية، يمحص بها قلوبهم، ويصفي بها نفوسهم، ويعلمهم بها أن الحياة ليست نعيما متصلا، ولا رضاء مقيما، ولا خصبا يتجدد كلما تجددت الفصول، وإنما هي مزاج من النعيم والبؤس، ومن اللذة والألم، ومن السعادة والشقاء، وأن سبيل المؤمن الذي مس الإيمان قلبه حقا، هو ألا يطغى إذا استغنى، ولا يبطر إذا نعم، ولا ييأس إذا امتحن بالبؤس والشقاء، وألا يؤثر نفسه بالخير إن أتيح له الخير من دون الناس، وألا يترك نظراءه نهبا للنوازل حين تنزل ، وللخطوب حين تلم، وإنما يعطي الناس مما عنده حتى يشاركوه في نعمائه، ويأخذ من الناس بعض ما عندهم حتى يشاركهم في بأسائهم، فالله لم ينشر ضوء الشمس ليستمتع به فريق من الناس دون فريق، والله لم يرسل النسيم لتتنفسه طائفة من الناس دون طائفة، والله لم يجر الأنهار ولم يفجر الينابيع لتشرب منها جماعات من الناس وتظمأ إليها جماعات أخرى، والله كذلك لم يخرج النبات من الأرض ليشبع منه قوم ويجوع آخرون.
وإنما أسبغ الله نعمته ليستمتع بها الناس جميعا، تتفاوت حظوظهم من هذا الاستمتاع، ولكن لا ينبغي أن يفرض الحرمان على أحد منهم، مهما يكن شخصه، ومهما تكن طبقته، ومهما تكن منزلته بين مواطنيه.
Halaman tidak diketahui