وكانت لحانوته شهرة خاصة بهذه العصابات المطرزة التي كان النساء يدرنها حول رءوسهم، فيفتن بها الرجال، ويسحرن بها عيون الشباب، وكان المقدس ميخائيل يفيد من تجارته هذه اليسيرة ما يتيح له أن يكفل لأهله حياة إن لم تكن رخية كل الرخاء، فلم تكن ضيقة كل الضيق، وإنما كانت شيئا بين ذلك، يسمح لهذه الأسرة أن ترى نفسها من الطبقة المتوسطة، وأن تطمح إلى ما تطمح إليه هذه الطبقة من الآمال التي كانت في ذلك الوقت متواضعة أشد التواضع.
ولم تكن هذه الأسرة ضخمة ولا كثيرة العدد، وإنما كانت تأتلف من ميخائيل، وزوجه حنينة، وابنهما نصيف، وابنتهما صفاء، وواضح أن هذا الاسم لم يكن ينطق على هذا النحو الفصيح، وإنما كان ينطق به مقصور الألف لا ممدودها، وكان النطق به يثير في نفوس السامعين أنه مستعار من تلك الغدائر المعدنية التي كان النساء يصلنها بشعورهن ويرسلنها على ظهورهن، ويسمع لها حين يقمن ويقعدن ويسعين صليل يعجب الآذان.
وقد طمع ميخائيل أن يرفع ابنه عن المنزلة التي كتبت له هو في الحياة، فلم ينشئه في التجارة ليخلفه في الحانوت حين تقعد به السن، وإنما أرسله إلى المدرسة المدنية، بعد أن اختلف إلى الكتاب القبطي عاما وبعض عام، وأضمر فيما بينه وبين نفسه ألا يكتفي بالمدرسة الابتدائية، وأنه يرسله إذا استطاع إلى القاهرة ليتعلم في بعض مدارسها، وليكون موظفا من موظفي الحكومة، وليسلك بنفسه طريقا جديدة غير الطريق التي سلكها هو، وسلكها أبوه من قبله.
وطمعت حنينة في أن ترفع ابنتها عن المنزلة التي قسمت لها هي في الحياة، فأرسلتها إلى «المعلمة» كما كانت الأمهات في الطبقة المتوسطة يرسلن إليها بناتهن؛ ليتعلمن عندها فنونا من التطريز والتدبيج، والتأنق في التفصيل وصناعة الأزياء.
وقد اختلف الصبي إلى المدرسة، واختلفت الصبية إلى المعلمة، ورضيت الأسرة عن نفسها وعن تربيتها لابنيها أعواما. وظفر الصبي بالشهادة الابتدائية بعد جهد، وأخذ الصبية من فنون المعلمة ما استطاعت أن تأخذ، ونظرت الأسرة فإذا هي مضطرة أن ترسل الصبي إلى القاهرة، وإلى أن تمسك الصبية في الدار. والله يعلم ما تكلف المقدس ميخائيل من الجهد ليدبر ما يحتاج الفتى إليه من النفقات، وما احتملت حنينة من الحزن لفراق ابنها الوحيد. وقد ألحق الفتى بمدرسة ثانوية، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، عاما وعاما وعاما دون أن يصيب فيها نجحا، وإنما هي السنة الأولى يقيم فيها العام بعد العام، ثم تضطر المدرسة إلى فصله لكثرة ما أخفق، فيلحق بالمدرسة القبطية الكبرى التي كانت في ذلك الوقت تتلقى من تفصلهم المدارس الحكومية من الشباب المخفقين، أو من تحول السن بينهم وبين الالتحاق بالمدارس الحكومية، أو من تقصر أيدي آبائهم عن أجور التعليم في مدارس الدولة، وتطول مع ذلك آمال آبائهم، فيأبون ألا أن يتعلم أبناؤهم حتى يبلغوا الشهادة الثانوية، لعلهم أن يجدوا لأنفسهم مكانا في مدرسة من المدارس العالية، أو عملا في ديوان من الدواوين. وقد أقام نصيف في المدرسة الحرة عاما وعاما ولكنه لم يصب فيها نجحا كما لم يصب في المدرسة الحكومية نجحا، وثقلت النفقة على أبيه، وثقل الحزن على أمه، وضاق الفتى بأبيه وأمه ونفسه أيضا، وإذا هو يقترح على أبويه ذات عام أن يتحول عن التعليم الثانوي الذي لم يخلق له، إلى تعليم آخر يسير قريب، لا يحتاج إلى كثير من ثقافة، ولا إلى إلحاح في عمل، ولا إلى فضل من جهد، ولا إلى طويل من قوت، وإنما هو عام أو بعض عام، ثم يتقدم الطالب إلى الامتحان ويظفر بالدبلوم، ويشغل منصبا من مناصب الدولة. وكذلك التحق الفتى بمدرسة التلغراف، وما هي إلا أن ينفق فيها الفتى عاما أو أقل من عام، ثم يتقدم للامتحان فيصيب ما أراد من نجح، ويعود إلى أهله ومعه الدبلوم قد لفه لفا أنيقا، ووضعه في حرز أنيق اتخذ من الصفيح.
وجعل الأب ينظر إلى الدبلوم يحاول أن يقرأ ما فيه، وجعلت الأم تنظر إلى الدبلوم تعجب بزينته، واختصم الأبوان بعض الاختصام أيهما يحتفظ بهذه العلبة من الصفيح، أتدسها الأم بين ثيابها، أم يخفيها الأب في درج من أدراج مكتبه القديم، ولكن المهم هو أن المقدس ميخائيل كان قد بلغ من الجهد أقصاه، فأنفق أكثر مما كانت تجارته تغل عليه، واحتمل من المشقة أكثر مما كانت سنه تستطيع أن تحتمل، وباع في سبيل هذا الفتى ما كان عند زوجه من الحلي المتواضعة، واضطر الأسرة إلى شيء من الفقر الضيق البغيض الثقيل الذي لا يطاق، لولا شيء من فسحة الأمل. ولم يدرك الفتى ما أدرك من نجح حتى كان المقدس الشيخ مضطرا إلى أن يقعد في داره، وينتظر الرزق من هذا المرتب الضئيل الذي كانت الدولة تجريه حينئذ على الموظفين في البرق أول ما ينهضون بأعمالهم.
وكانت الدولة بخيلة حقا في تلك الأيام؛ فقد كان حامل الدبلوم يلحق بمكتب من مكاتب البرق على سبيل التجربة والتمرين، ويؤجر في أثناء ذلك ثلاثة جنيهات في الشهر، لا تحسب له جملة، وإنما تحسب له مياومة أثناء التمرين، عشرة قروش في اليوم لا تزيد. ولم يكن حامل الدبلوم حرا في اختيار مكتب البرق الذي يعمل فيه، ومتى كان عمال الدولة وموظفوها أحرارا في اختيار المكاتب التي يعملون فيها؟ إنما كانت الدولة ترسل هؤلاء الموظفين والعمال حيث تشاء، وحيث يقتضي النظام أن يرسلوا، فأرسل الفتى إلى أقصى الصعيد، وأقامت أسرته في أدناه، وجعل الفتى يقبض أجره آخر الشهر، فيرسل نصفه إلى أسرته لتعيش، وينفق نصفه الآخر على نفسه. وعلم الفتى وعلمت أسرته أن الآمال لا تصدق أصحابها دائما، وإنما تكذبهم في كثير من الأحيان؛ فقد ظفر الفتى بالدبلوم وشغل منصبا من مناصب الدولة، وأصبح فردا ممتازا من هذه الطبقة الممتازة، طبقة الموظفين، ولكنه ما زال فقيرا بائسا محتاجا، وما زالت أسرته متوسطة ترد إلى الفقر يوما بعد يوم، وتدفع إلى الضيق عاما بعد عام، والفتى بعد ذلك فرد ممتاز من طبقة ممتازة، والامتياز يكلف أصحابه كثيرا من المال، فلا بد من أن يعيش الفتى بين أترابه عيشة ملائمة، ومن أن يتخذ من الزينة ما يلائم طبقته، ومن أن يحيا حياة لا ينظر إليها أترابه في شيء من الاستخفاف به أو الإشفاق عليه، وكان هذا كله يرهق الفتى من أمره عسرا، وربما اضطره بين حين وحين إلى ألا يرسل إلى أبويه ما تعود أن يرسل إليهما من النقد، أو أن يرسله إليهما منقوصا؛ فكان هذا يحفظ الأسرة ويغيظها ويضنيها، فلم تكن حاجتها إلى الحياة الملائمة بأقل من حاجة الفتى، والفتى وحيد، وهي أسرة مؤلفة من أشخاص ثلاثة، فحقها أن يرسل إليها أكثر المرتب، وأن يكتفي الفتى بأقله، فكيف إذا لم يرسل إليها إلا أقله؟! وكيف إذا لم يرسل إليها شيئا؟! وهي بعد ذلك قد أفنت عمرها وجهدها وكل ما ملكت في سبيل هذا الفتى ، فانظر إلى الأبناء كيف يجحدون حقوق الآباء، وانظر إلى الشباب كيف يكفرون بنعمة الشيوخ، وانظر إلى هؤلاء الفتيان الناشئين كيف يؤثرون أنفسهم بالخير ويختصونها باللذات، ويتركون آباءهم وأمهاتهم وأخواتهم يشقون بالنقص في الأموال والثمرات، بل يشقون بالبؤس والجوع والحرمان. وكذلك أنفقت الأسرة بعد نجح ابنها في الامتحان وظفره بالمنصب، أعواما ذاقت فيها من البؤس المادي والمعنوي ما لم تذقه حين كان الفتى صبيا يختلف إلى المدرسة الابتدائية، أو غلاما يختلف إلى المدارس في القاهرة.
أما الأسرة الأخرى فأسرة المعلم يونان، كان زعيمها كاتبا متواضعا في دائرة من دوائر الترك، ينفق نهاره عاكفا على دفاتره، أو محاسبا للناظر، أو مراقبا للمعاون، ويعود إلى أهله آخر النهار راضيا عن نفسه ولكنه متعب مكدود، فلا يكاد يصيب معهم شيئا من الطعام ويسمر مع جاره شيئا من سمر، حتى يأوي إلى مضجعه وقد بلغ الإعياء به أقصاه، ثم لا يكاد الصبح يتنفس حتى يراه في الطريق العامة غاديا على عمله في الدائرة أو في الحقول. وكان الأجر الذي يصيبه من هذا العناء قليلا ضئيلا لا يكاد يقيم الأود لأسرة تألفت من ثلاثة أشخاص، هم المعلم يونان، وزوجته مرجانة، وابنهما عبد السيد.
وكان المعلم يونان رجلا متواضعا، لا يرفع نفسه عن طبقته، ولا يحاول أن يرفع ابنه عن هذه الطبقة، وإنما حاول أن يعلم ابنه مهنته هو؛ ليكون كاتبا في الدائرة كما كان هو كاتبا في الدائرة، وكما كان أبوه من قبل كاتبا فيها أيضا. وكان أقصى همه أن يحسن الصبي الأخذ عنه والاقتداء به، حتى إذا أدرك أول الشباب استطاع أن يعينه على عمله، وأن يلتفت إليه المأمور لعله أن يرضى عنه ويعطف عليه، فيأجره قرشين أو قروشا في اليوم تعين الأسرة على احتمال أعباء الحياة. ولكن الصبي لم يكن ذكي القلب، ولا محبا للعمل، وإنما كان كلا خامدا، يؤثر اللعب حين تسنح له فرصة اللعب، فإن لم تسنح له آثر حياة هادئة هي إلى الذهول أقرب منها إلى أي شيء آخر، وكان ذلك يغيظ أباه ويحفظه ويدفعه أن يقسو عليه أحيانا، ولكنه كان وحيد أبويه، فكان المعلم لا يعنف به إلا ليرق له، ولا يشق عليه إلا ليرفق به.
والسن تتقدم بالمعلم حتى يحس الضعف عن النهوض بأعبائه، والفتى يتقدم في العلم بمهنة أبيه متباطئا متثاقلا، حتى إذا اضطر الشيخ إلى القعود في داره كان الفتى أجهل وأكسل من أن يقوم مقامه، فلم تستبقه الدائرة إلا رعاية لحق أبيه ورفقا بأسرته، ولم تمنحه من أجل ذلك إلا نصف ما كانت تمنح أباه من الأجر.
Halaman tidak diketahui