من روائع القرآن
من روائع القرآن
Penerbit
موسسة الرسالة
Lokasi Penerbit
بيروت
Genre-genre
مقدّمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
1 / 4
الحمد لله بجميع محامده ما علمت منها وما لم أعلم، على جميع نعمه وآلائه، ما علمت منها وما لم أعلم.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبيّ الأميّ المبعوث رحمة إلى العالمين.
وبعد، فهذه طبعة جديدة لكتاب روائع القرآن، أقدمها إلى طلاب العربية وهواة الأدب العربي وكل من يعنى بدراسة القرآن.
ولقد تمنيت أن يتاح لي من الوقت ما يسمح لي بالتوسع في بحوثه والتعمّق في دراساته، بالقدر الذي يتفق مع روعة القرآن وعمق مراميه ودقة بيانه. ولكني على يقين بأن الزمن كله أضيق من أن يتّسع لشرح يتكافأ مع عظمته، والطاقات كلها أقل من أن تنهض باستيعاب دقائقه، والحياة كلها جزء يسير من مدّه الزاخر وإشراقه السامي ومعانيه التي لا تنقضي! ...
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (الكهف: ١٠٩).
ولقد شرّفني الله بتدريس القرآن وبلاغته بقسم اللغة العربية في جامعة دمشق ثم في جامعة اللاذقية، فما رأيت ذا رشد في فكره، وذوق في نفسه، يتاح له أن يعلم علما عن هذا الكتاب وأن ينصت إلى شيء من
1 / 5
بيانه، إلا وتهتز منه الجوانح طربا لرائع قوله وسمو إشراقه، ثم يقف مستسلما مشدوها تحت مظلة إعجازه! ... لا يحول دون استعلانه بذلك فكر عرف به أو هوى يميل إليه أو عصبية تسيطر عليه.
هذا، على الرغم مما انحدرت إليه الدراسات العربية من الضحالة والسطحية والضعف، ومع كل ما انتهى إليه طلابها من فساد الذوق وعجمة اللسان وفهاهة البيان.
وأشهد لو أن العربية كانت تعيش على ألسنة العرب اليوم أيام شبابها، إذا لكان للقرآن أثر فريد في حياتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
ولكن عدوا شرسا لهذه الأمة عرف كيف يسدد الطعنة إليها، وأدرك السبيل إلى تجفيف روافد العز في حياتها، فانحطّ في أسباب الكيد لثقافتها العربية وذاتيتها الإسلامية، عن طريق إبعادها عن سلطان هذا الكتاب وحجبها عن أسباب التأثّر به.
وإن التاريخ ليرصد السعي إلى هذه المكيدة بإحصاء دقيق، وإن ذهل عنه كثير من السادرين والسكارى من أهله، وإنه ليذكر ولا ينسى يوم وقف وزير المستعمرات البريطاني «غلادستون» بين زملائه في مجلس الوزراء يقول، وقد أمسك بيده قرآنا يلوّح إليهم به:
لن تحقّق بريطانيا شيئا من غاياتها في العرب والمسلمين إلا إذا سلبتهم سلطان هذا الكتاب أولا. أخرجوا سرّ هذا الكتاب مما بينهم تتحطم أمامكم جميع السدود (١)! ...
وبعد، فإن الإحاطة بأسرار هذا الكتاب وجوانب إعجازه، أمر
_________
(١) كان هذا التصريح عام ١٨٩٥.
1 / 6
عسير بل مستحيل تقف دونه قدرات البشر جميعا.
غير أن ما لا يدرك كله لا يترك كله؛ ولقد ساعدني التوفيق الإلهي على توسيع دائرة البحث في إعجاز القرآن من هذا الكتاب، بالقدر الذي سمح به الوقت وامتدّ إليه الجهد.
وكلّ ما زدته أو توسعت فيه من هذا البحث، ليس إلا بمثابة إصبع تشير من على الشاطئ إلى المحيط المتلاطم الذي لا يستبين له حدود.
وإنما المهم من دراسة الإعجاز القرآني أن يصل منها القارئ إلى ما يدرك معه أن صياغة هذا الكتاب ليست مما من شأنه أن يخضع للطاقة الإنسانية، وأن معانيه ليست مما قد يأتي بمثله الفكر الإنساني.
وأحسب أنني قد أتيت من الحديث عن إعجاز القرآن (على إيجازه) بما يعطي القارئ هذا اليقين ويسلّمه إلى هذه الحقيقة.
أما سائر البحوث الأخرى فقد زدت في كثير منها بالقدر الذي أسعفني الوقت، كما غيّرت في بعض منها بالمقدار الذي يقتضيه التنقيح أو الإصلاح.
وإنني إذ أتقدم بهذه الطبعة الجديدة من كتابي هذا إلى طلابي قسم اللغة العربية، وسائر الإخوة القرّاء، آمل أن يجعله الله في أيديهم مفتاح عناية شاملة بالقرآن، وعكوف جادّ على دراسته واتقان تلاوته، وخضوع جديد تحت حكمه وسلطانه.
والله المستعان في كل هداية وتوفيق.
محمّد سعيد رمضان البوطي دمشق في ١٥ شوال سنة ١٣٩٥ ٢٠ تشرين أول سنة ١٩٧٥
1 / 7
مقدّمة الطبعة الثّالثة
الحمد لله وليّ كل نعمة، يمنّ بالتوفيق ثم يثيب عليه، ويلهم الحمد ثم يجزي به! .. وأشهد أن لا إله إلّا الله تفرّد بالربوبية المطلقة فلا ربّ ولا معبود ولا حاكم سواه. ظهر في آثاره وبديع مخلوقاته، فلو رأته العين لم يزدد برؤيتها له ظهورا، وخفي في كنهه وحقيقته، فمهما تأمله العقل وانساح وراء تصوره الخيال لم يبلغ العقل ولا الخيال منه شيئا.
والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وأسأله ﷾ أن يمتّعني بتوفيق من لدنه، وأن يهبني من نعمة الإخلاص لوجهه الكريم ما يقيني من حظوظ نفسي ويعتقني من سلطان كل مادح أو قادح.
وبعد: فقد شاء الله تعالى- وهو المتفضّل الكريم- أن أقدّم إلى القرّاء طبعة ثالثة من هذا الكتاب، بعد أن وفّقني ﷾، فأدخلت عليه تهذيبا تناول متفرقات كثيرة من جمله وألفاظه، وألهمني فزدت فيه بحثا من أهم ما يتعلق بآداب القرآن وعلومه، وهو: الأمثال في القرآن.
ولئن كان في ذلك ما يدلّ على أن الكتاب قد سار خطوة أخرى نحو الكمال، فإنه لدليل في الوقت ذاته على أنه كان ولا يزال يتّسم بالنقصان. وإنه لمن أجلى مظاهر الضعف والقصور في الإنسان أن يشعر
1 / 9
بالنقص في كل شئونه مع تصوره الكمال المطلق بعقله، فيشتدّ بها نحو غاية الكمال. وكلما ارتقى بها إلى درجة من درجاته اكتشف مزيدا من البعد بينه وبين غايته، فهو لا يزال يفرّ من النقصان لأن حبّ الكمال مغروس في كيانه، ولا يزال الكمال من فوقه لأنه من خصائص الخالق وهو مخلوق، ولأنه من صفات الربّ ﷻ وهو عبد ضعيف!.
فلئن وجدت أيّها القارئ في الكتاب- بعد هذا التهذيب الذي ذكرت- بقايا من مظاهر القصور والنقص- ولعلّك تجد منها الكثير- فذلك لأني لم أستطع أن أتحرر عن سمة النقص في ذاتي، وما دان لي ذلك، وليس لي من مطمع فيه. ولئن عثرت فيه على مظاهر التقدّم نحو الكمال، فذلك من فضل الله عليّ وتوفيقه. ولقد رأيت أن العبد كلما ازداد بصيرة بضعفه وركونا إلى عبوديته زاده الله ﷻ قربا إليه وتفضلا وإحسانا، وكلما ازداد نسيانا لضعفه وتعاظما في نفسه، زاده الله تعالى بعدا عنه ووكله إلى نفسه وشأنه فلم يأت منهما بطائل.
وإني إذ أشكر الله تعالى على أن ستر نقصي بتوفيقه، فإني لأشكر سائر الإخوة القرّاء الذين كانوا ولا يزالون يمنّون عليّ بملاحظاتهم واستدراكاتهم، ومن لم يشكر النّاس الذين ألهمهم الله تعالى تذكيره، لم يشكر الله الذي وفّقه للاستفادة من ذلك التذكير! ..
وليس العيب أن يعترف العبد بقصوره فيتلقّى بيد الشكر نصيحة الناصحين، وإنما العيب كل العيب ما قد يتلبس به أحد رجلين: رجل يستكبر عن قبول الحق فهو يتباهى بين الناس بالباطل الذي ألصقه فيه كبره، وآخر يلتقط مظاهر النقص في الآخرين فيشهرها بين الناس على رماح من ضغينته وحقده. ينبش السيئة من القبر الذي دفنت فيه وإن محاها ألف حسنة وراءها، ويدسّ الحسنات في التراب مهما كان للناس خير في تجليتها وظهورها! ..
1 / 10
فأنا أضرع إلى الله ﷿ أن لا يجعلني واحدا من هذين الرجلين، وأن يحشرني إليه بقلب سليم قد أخلص لله في دينه، وأخلص مع الناس في أخوّته لهم وصدقه معهم.
وأسأله سبحانه أن يمتّعني بمرضاته والإخلاص لوجهه، وأن يختم لي بصالح الأعمال إنه أرحم الراحمين وإنه وليّ كل فضل وتوفيق.
محمّد سعيد رمضان البوطي
1 / 11
تمهيد أوّل تعريف بهذا الكتاب وأهمّ ابحاثه
هذه تأملات علمية وأدبية سريعة في كتاب الله تعالى، أردت أن أوضح من ورائها بعض ما ينطوي عليه هذا الكتاب من روعة البيان وإعجازه، ومدى تأثيره في مختلف العلوم التي تزخر بها المكتبة العربية اليوم، مما لا بدّ للأديب ودارس العربية من الوقوف عليه.
وهي كما قلت، لا تزيد على أن تكون تأملات .. فلم أقصد منها استقصاء لبحث، ولا تحقيقا جامعا لفن، ولو قصدت إلى ذلك لضاقت بي السّبل واستعصى عليّ البحث، ولاحتاج الأمر إلى مجلدات واسعة عظيمة، وأنى لمثلي أن يأتي بتحقيق جامع لفنون هذا الكتاب المبين، أو أن يستقصي البحث في آدابه وبلاغته وعلومه؟! وإنما الذي قصدت إليه، هو أن أنال رشفة من بحر هذا البيان الإلهي، وقبضة من كنز علومه، أمتّع بهما الخاطر والنفس، وأسعد بهما الفكر والخيال.
وحسبي، وحسب القارئ، أن نقف من وراء ذلك وقفة المتأمل الخاشع عند شاطئ هذا اليم. نمتّع البصر فيما يعجز عن إدراك كنهه العقل، ونرهف السمع لهذا الذي سجد لبيانه البيان.
وكم من جمال تذوب تأثرا به النفس، ولا يحدّه الفكر والعقل. وكم من حقيقة جاثمة وراء حدود دلالة النطق والكلام، فلا يعبّر عنها إلا الحيرة الخاشعة ولا يتبيّنها سوى صادق الإحساس.
1 / 13
ثم إن هذا الكتاب الإلهي العظيم، ينطوي على علوم مختلفة هامة، تتعلق بمضمونه وتاريخ نزوله، كما ينطوي على صور رائعة من الجمال في تعبيره وأسلوبه وإنما يتعلق الغرض هنا بعرض سريع موجز لكلا الجانبين. إذ لا معنى لدراسة الأدب العربي بدون أيّ دراسة لينبوع هذا الأدب كله، وهو القرآن.
ولا قيمة لدراسة فنون العربية وعلومها بدون الرجوع إلى ميزان هذه العلوم ومعتمدها الأول ولا اعتبار لأدب أديب يترطن في تلاوة القرآن ولا يكاد يبين.
وهذا يعني أن الغرض إنما يتناول من ذلك كله، القدر الذي يخصّ العربية وعلومها وآدابها، أما ما يمتد من وراء ذلك إلى علوم الفقه وأصوله أو التفسير وعلم الكلام، فلا شأن لنا به في هذا المقام.
وهذه الحاجة المحدودة بهذا الشكل والقدر، هي التي ألجأتني إلى الكتابة في هذا الفن، رغم كثرة الشواغل والصوارف المختلفة. فقد رجعت إلى كل ما وقع تحت يدي من كتب هذا البحث مما ألّف قديما وحديثا، فما وجدت فيه شيئا يفي بحاجة من يقبل على دراسة الأدب العربي، وإن كان كلّ منها يقع موقعا من حاجته ويسدّ مسدّا فيها. فالبعض منها يتناول زاوية صغيرة محدودة من مجموع ما يتعلق به الغرض في هذا المقام، والبعض منها يطنب ويتوسع في أبحاث علوم القرآن حتى يتجاوز الأمر بالقارئ حدود العربية وآدابها إلى الإسلاميات وعلومها.
ولقد انتهى الضعف بطلاب العربية وعلومها في عصرنا إلى حدّ لا يكادون يستطيعون التعرّف فيه على شيء من هذه الكتب أو الأمّهات القديمة، ولا يكادون يملكون صبرا على قراءتها أو تصفحها، ويبدو أننا (ويا للأسف) لم ندرك بعد سرّ هذه الغاشية ولا علاجها.
فمن أجل كل ذلك اضطررت إلى أن أكتب بضع صفحات في هذا الفن، أتيمم فيها حاجة الأدب العربي وكفايته، واستهدف من ورائها أن يتذوق طلاب العربية هذا السموّ الرائع في البيان القرآني، تذوقا جيدا. فإنهم إذا تذوقوه طربوا له، وإذا طربوا له أقبلوا إليه قراءة وفهما، وإذا أقبلوا إليه بهذا
1 / 14
الشكل، استقامت ألسنتهم وتخلصت من عوج العاميّة ورطانتها وتذوقوا الأدب العربي في كل فروعه وجوانبه.
وتحقيقا لهذا الهدف، قسمت هذا الكتاب بعد المقدمة والتمهيد إلى ثلاثة أقسام:
(القسم الأول) ويتناول خلاصة لتاريخ القرآن وعلومه وهي تشمل:
١ - القرآن: تعريفه وحقيقته.
٢ - نزول القرآن منجّما والحكمة من ذلك ..
٣ - أسباب النزول ..
٤ - كيفية جمع القرآن وكتابته.
٥ - رسم القرآن.
٦ - الأحرف السبعة: خلاصة جامعة عنها.
٧ - القراءات والقرّاء: لمحة دراسية عنها.
٨ - المكّي والمدني.
٩ - التفسير: نشأته وتطوره ومذاهبه.
١٠ - المبهم والمتشابه في القرآن.
(القسم الثاني) ويتناول دراسة موجزة لمنهجه وأسلوبه، وتشمل هذه الدراسة الأبحاث التالية:
١"- أسلوب القرآن: نظرة عامة فيه، ثم دراسة لخصائصه.
٢"- إعجاز القرآن: بيانه ودليله ووجوهه.
٣"- موضوعات القرآن وطريقة عرضه لها: دراسة مختصرة سريعة.
٤"- التصوير في القرآن: مظهره ووسائله.
٥"- الأمثال في القرآن.
٦"- القصة في القرآن: أغراضها ومنهجها.
٧"- المنهج التربوي في القرآن.
٨"- النزعة الإنسانية في القرآن.
1 / 15
٩"- فلسفة القرآن عن الكون والإنسان والحياة.
١٠"- هل من الممكن ترجمة القرآن.
(القسم الثالث) ويتناول نماذج من النصوص القرآنية في بعض موضوعاته نتبعها بشرح أدبي مركّز، يكون تطبيقا للدراسات النظرية التي تناولها أبحاث القسم الثاني، ومثالا يحتذيه القارئ في شرح بقية آي الكتاب الكريم، مستعينا على ذلك بالرجوع إلى مختلف تفاسير الكتاب الكريم.
وأسأل الله ربّ العالمين، أن يوفّقنا لأن نجعل دراستنا للعربية خدمة لكتابه، ولا يتركنا ندرس كتابه خدمة للعربية، وأن يبصّر عقولنا بالحق، ويجبّب إلى قلوبنا اتّباعه والتمسك به. وحسبي الله ونعم الوكيل.
1 / 16
تمهيد ثان بتعريف أهمّيّة القرآن في الأدب العربيّ ووجوه ذلك
لعلّ البعض يتساءل عن وجه الحاجة إلى دراسة القرآن، في الأدب العربي، ولعلّه يحسب أن في ذلك خلطا بين الآداب والإسلاميات، لا وجه له ولا ضرورة إليه.
والجواب، أن لهذا الكتاب العظيم أهمية بالغة من جوانب مختلفة متعددة. فإن له جانبا تشريعيا هاما، لا ينفكّ عن الحاجة إلى دراسته كل متطلّع إلى دراسة الفقه والتشريع. وإن له مع ذلك جانبا متعلقا بالعقيدة والفلسفة والأخلاقيات، لا ينفكّ عن الحاجة إلى دراسته كل مقبل إلى دراسة العقائد أو الفلسفة أو الأخلاق، كما أن له مع ذلك جانبا أدبيّا أصيلا بعيد الجذور في تاريخ الأدب العربي، عظيم الأثر في توجيهه وتطويره وتقويمه، فمن أجل ذلك كان لا بدّ لمن أراد العكوف على دراسة العربية وآدابها من أن يعكف على دراسة القرآن وعلومه، وكلما ابتغى مزيدا من التوسع في العلوم العربية وثقافتها، احتاج إلى مزيد من التوسّع في دراساته القرآنية المختلفة.
وإليك ملخصا من وجوه هذه الحاجة وأسبابها:
السبب الأول-
أن هذا الكتاب العربي المبين، هو أول كتاب ظهر في تاريخ اللغة العربية (١) وإنما نشأت حركات التدوين والتأليف بعد ذلك على
_________
(١) مضمون هذا الكتاب، كلام الله الأزلي القديم، وهو من هذا الجانب لا يبدأ من تاريخ وليس له ميلاد ظهور أو تدوين، ولكننا نقصد بالكتاب في هذا المجال هذه الكلمات والأحرف والصفحات التي تضبطه وتحدّه والتي ظهرت ودوّنت في حقبة معينة من الزمن.
1 / 17
ضوؤه وسارت بإشراقه، وتأثرت بوحيه وأسلوبه. ومن أجل ذلك، كان مظهرا هامّا للحياة العقلية والفكرية والأدبية التي عاشها العرب فيما بعد. فكيف يتأتى أن يكون هذا الكتاب مع ذلك بمعزل عن العربية وعلومها وآدابها؟!
السبب الثاني-
أن اللغة العربية إنما استقام أمرها على منهج سليم موحد. بسر هذا الكتاب وتأثيره، وهي إنما ضمن لها البقاء والحفظ بسبب ذلك وحده. فقد كانت اللغة العربية من قبل عصر القرآن أمشاجا من اللهجات المختلفة المتباعدة، وكان كلما امتد الزمن، ازدادت هذه اللهجات نكارة وبعدا عن بعضها.
وحسبك أن تعلم أنّ: المعينية، والسبئية، والقتبانية، واللحيانية والثمودية والصفوية والحضرمية، كلها كانت أسماء للهجات عربية مختلفة، ولم يكن اختلاف الواحدة منها عن الأخرى محصورا في طريقة النطق بالكلمة، من ترقيق أو تفخيم أو إمالة أو نحو ذلك، بل ازداد التخالف واشتد إلى أن انتهى إلى الاختلاف في تركيب الكلمة ذاتها وفي الحروف المركبة منها، وفي الإبدال والإعلال والبناء والإعراب.
فقضاعة مثلا كانت تقلب الياء جيما إذا كانت ياء مشددة أو جاءت بعد العين، وكانت العرب تسمي ذلك: عجعجة قضاعة. ومن ذلك قول شاعرهم:
خالي عويف وأبو علجّ ... المطعمان اللحم بالعشجّ
وبالغداة قطع البرنج ... يؤكل باللحم وبالصيصجّ
وحمير كانت تنطق ب «أم» بدلا من «أل» المعرفة في صدر الكلمة، وكانت العرب تسمي ذلك طمطمانية حمير، ومن ذلك قول أحدهم لرسول الله ﷺ يسأله:
أمن امبر امصيام في امسفر؟ يريد أن يقول: هل من البرّ الصيام في السفر؟
وهذيل كانت تقلب الحاء في كثير من الكلمات عينا، فكانوا يقولون
1 / 18
أعل الله العلال بدلا من أحلّ الله الحلال ..
وهكذا دواليك .. فقد كانت كل قبيلة تختلف في النطق عن الأخرى بوجوه من الاختلافات كثيرة، حتى باعد ذلك بين ألسنة العرب وأوشك أن يحوّل اللغة الواحدة إلى لغات عدّة متجافية لا يتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها.
ولقد بلغ من تخالف هذه اللهجات وتباعدها، أن كثيرا من وفود هذه القبائل التي أخذت تفد في صدر الإسلام إلى رسول الله ﷺ كانوا يلقون كلمات وخطبا لا يكاد يفهمها القرشيون من أصحابه ﵊ ولقد قال عليّ ﵁ لرسول الله ﷺ، وقد سمعه يخاطب بني نهد:
يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لم نفهم أكثره! .. فقال ﵊: أدّبني ربي فأحسن تأديبي (١).
فلما نزل القرآن، وتسامعت به العرب، وائتلفت عليه قلوبهم، أخذت هذه اللهجات بالتقارب، وبدأ مظاهر ما بينها من خلاف تضمحل وتذوب، حتى تلاقت تلك اللهجات كلها في لهجة عربية واحدة، هي اللهجة القرشية التي نزل بها القرآن وأخذت ألسنة العرب على اختلافهم وتباعد قبائلهم تنطبع بطابع هذه اللغة القرآنية الجديدة. فكان ذلك سرّ هذا الشريان السحري العجيب الذي امتدّ في أجلها، فاستصلبت بعد ميعة، وقويت بعد تفكك، واتحدت بعد تناثر، ثم مرّت على مصرع أعظم لغة عالمية شاملة هي «اللاتينية» بينما تغلي هي حيوية وقوة وإشراقا. فكيف تمكن مع ذلك دراسة شيء من أدب هذه اللغة دون دراسة روحها التي تعيش بها وشريانها الذي يمتدّ فيها وينسأ من أجلها؟
السبب الثالث:
أن البلاغة والبيان وجمال الكلمة والتعبير- كل ذلك كان
_________
(١) هذا الحديث مروي بطرق مختلفة كلها تدور على السدي عن ابن عمارة الجواني عن علي بن أبي طالب ﵁. وصحّحه أبو الفضل بن ناصر، وقال عنه ابن حجر غريب، وقال عنه السخاوي سنده ضعيف ولكن معناه صحيح. وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي: ٢٩ وفيض القدير على الجامع الصغير: ١/ ٢٣٥.
1 / 19
عصر القرآن أسماء لا تكاد تنحطّ على معنى واضح متفق عليه. وإنما بلاغة كل جماعة أو قبيلة ما تستسيغه وتتذوقه، ولذلك كانت المنافسات البلاغية تقوم فيما بينهم وتشتد ثم تهدأ وتتبدد، دون أن تنتهي بهم إلى نتيجة، إذ لم يكن أمامهم مثل أعلى يطمحون إليه ولا صراط واحد يجتمعون عليه، ولم يكن للبلاغة العربية معنى إلا هذا الذي يصدرون هم عنه من كلام في الشعر والنثر، وهم إنما يذهبون في ذلك طرائق قددا، ويتفرقون منه في أودية متباعدة يهيمون فيها.
وهيهات، لو استمر الأمر على ذلك، أن توجد للبلاغة والبيان العربي حقيقة تدرك أو قواعد تدرس، أو قوالب أدبية تهذب العربية وتحافظ عليها.
فلما تنزل القرآن، والتفتوا إليه فدهشوا لبيانه، وسجدوا لبلاغته وسموّ تعبيره، وأجمعوا على اختلاف أذواقهم ومسالكهم ولهجاتهم أن هذا هو البيان الذي لا يجارى ولا يرقى إليه النقد- كان ذلك إيذانا بميلاد مثلهم الأعلى فيما ظلوا يختلفون فيه ويتفرقون عليه، وأصبحت بلاغة هذا الكتاب العزيز بعد ذلك هي الوحدة القياسية التي تقاس إليها بلاغة كل نص وجمال كل تعبير، ثم تعاقبت الدراسات عليه من أرباب هذا الشأن وعلمائه، فاستخرجوا منه قواعد البلاغة ومقوّمات البيان ومسالك الإعجاز فكانت هذه العلوم البلاغية التي امتلأت بها المكتبة العربية، وأصبحت فنا مستقلا بذاته. ولولا القرآن لما عرف هذا الفن ولا استقامت تلك الأصول والقواعد، ولتبدّد المثل البلاغي الأعلى في أخيلة فصحاء العرب وشعرائهم ... فكيف يستقيم مع ذلك، أن يدرس هذا الفن وأصوله بمنأى عن مثله الأعلى ومصدره العظيم الأول؟
السبب الرابع:
أن متن هذه اللغة، كان مليئا قبل عصر القرآن بالكلمات الحوشية الثقلية على السمع المتجافية عن الطبع. ولو ذهبت تتأمل فيما وصل إلينا من قطع النثر أو الشعر الجاهلي، لرأيت الكثير منها محشوّا بهذه الكلمات التي وصفت وإن كنت لا تجد ذلك إلا نادرا في لغة قريش.
وإليك هذه القطعة النثرية نموذجا لكلامهم في الجاهلية، أو لكلام الأعراب الذين أدركوا الإسلام ولكن ألسنتهم ظلت على ما انطبعت عليه في نشأة الجاهلية، وهي كلمات قالها أعرابي وقف بين الناس يستجدي مالا.
1 / 20
(أما بعد فإني امرؤ من الملطاط الشرقي المواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون محش، فاجتبّت الذرى وهمشت العرى وجمشت النجم وأعجّت البهم، وهمّت الشحم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا والضّهل جراعا، والمقام جعجاعا، فخرجت لا أتلفّع بوصيدة، ولا أتقوّت بمهيدة، فالبخصات وقعة والركبات زلعة، والجسم مسلهم، والنظر مدرهم، فهل من آمر بمير أو داع بخير) (١).
فلما تنزل القرآن، وأقبلت إليه الآذان، أخذت هذه الكلمات الجافية تختفي عن ألسنة العرب رويدا رويدا، وأصبح متن اللغة العربية كله مطبوعا بالطابع القرآني، ونما ذوق عربي في نفوس العرب أنبته لديهم القرآن وأسلوبه.
ومردّ ذلك إلى أن كلمات هذا الكتاب المبين، رغم أنها كانت عربية لم تتجاوز حدود هذه اللغة وقاموسها، تمتاز، في صياغتها وموقع كلّ منها مما قبلها وبعدها بجرس مطرب في الآذن لم يكن للعرب عهد به من قبل، هذا إلى أن كثيرا من الاشتقاقات والصيغ الواردة فيه، تكاد تكون جديدة في النطق العربي، وهي مع ذلك توحي بمعناها إلى الفطرة والطبع، قبل أن يهتدي السمع إليها بالمعرفة والدرس. وسنسهب في إيضاح هذا إن شاء الله عند حديثنا عن إعجاز القرآن.
_________
(١) الملطاط، حرف من أعلى الجبل أو جانب منه. والمواصي، أي المتصل. وأسياف جمع سيف يقال لساحل البحر. ومحش بمعنى محرق أي أحرقت الزرع والكلأ. وفاجتبت بمعنى قطعت. والعرى جمع عروة وهي القطعة من الشجر وجشت بمعنى حلقت، والنجم النبات الذي لا يستقيم على ساق، وأعجت البهم أي جعلتها عجايا وهي جمع عجي وهو ما فقد أمه من الإبل، وهمت الشحم: أذابته، والتحبت اللحم أي قشرته عن العظم أي عوجته فصيّرته كالمحجن. وغادرت التراب مورا أي يمور مورا بمعنى يجيء ويذهب، والغور: الغائر، والأوزاع: الأقسام المشتتة، والضهل: الماء القليل، وجراعا جمع جرع وهو ما لا يروي من الماء، والجعجاع: المكان الذي لا يطمئن من قعد فيه. لا أتلفع: لا أشتمل، بوصيدة: أي بأي شيء منسوج، والمهيدة: حب الحنظل، والبخصات جمع بخص: لحم باطن القدم، ووقعه من قولهم وقع الرجل إذا اشتكى لحم باطن قدمه، والزلعة جراحة فاسدة تكون من تشقق اللحم في القدم أو الركبة. ومسلهم:
ضامر متغير. ومدرهم من ضعف بصره بسبب جوع أو نحوه، والمير: العطية من الطعام. هذا وراجع المزهر للسيوطي لتقف على نماذج كثيرة من هذا القبيل.
1 / 21
فكان من أثر ذلك أن انصرفت الأذواق إلى الاستفادة من كلماته والجديد من صياغته، وهجرت تدريجا ما استثقل وغلظ من الألفاظ والتراكيب.
وإنك لتدرك هذا جيدا حينما نعرض للمقارنة نصّا أدبيا من العصر الجاهلي وآخر من العصر الإسلامي. فستجد أن الأول يمتاز بتضاريس من الجمل والكلمات الثقيلة الخشنة وأن الثاني قد صقلته البلاغة القرآنية في كلّ من الأسلوب والجمل والكلمات.
فهذه خلاصة عن وجوه أهمية دراسة هذا الكتاب العظيم وأثرها في دراسة الأدب العربي.
وإذا كنت تؤمن اليوم بهذا الذي ذكرناه من الناحية النظرية والعقلية المجردة؛ فلسوف تؤمن بذلك على أساس من البرهان التجريبي والتطبيقي عند ما تمارس هذا الكتاب الإلهي تلاوة مستمرة ودراسة دقيقة وتأملا هادئا.
1 / 22
القسم الأول تاريخ القرآن وعلومه
1 / 23
تاريخ القرآن
القرآن تعريفه، وحقيقته
القرآن هو: اللفظ العربي المعجز الموحى به إلى محمد ﷺ المتعبّد بتلاوته والواصل إلينا عن طريق التواتر.
إذا تأملت في هذا التعريف، وجدت فيه قيودا أربعة، هي:
المعجز، الموحى به، المتعبد بتلاوته، المتواتر.
فلنشرح كلّ واحد منها على حدة، لنتبين حقيقة القرآن الكريم من وراء هذا التعريف، ونقف على ضبطه وحدوده.
أولا- المعجز: ويقصد منه ما اتصف به القرآن من البلاغة والبيان اللذين أعجزا بلغاء العرب كافّة عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، رغم التحدي المتكرر، ورغم التطلّع الشديد لدى الكثير منهم إلى معارضته والتفوق على بيانه. وللقرآن وجوه غير هذا الوجه في إعجازه، ولكن الوجه المقصود منها عند التعريف هو هذا. ولن نطيل هنا في شرح معنى الإعجاز القرآني وتحليله، فإن لذلك موضعا خاصا به في هذا الكتاب إن شاء الله.
ثانيا- الموحى به: ومعناه المنزّل عليه من الله ﷿ بواسطة جبريل، وهذا أهم قيد في تعريف القرآن وتحديد ماهيته.
وإذا كان «الوحي» عنصرا هاما في حقيقة القرآن وتعريفه، فلا بدّ من دراسة وافية- وإن كانت موجزة- لهذه الكلمة، وتحليل صادق لحقيقتها. ومن أهم أسباب هذه الضرورة أن دراسات مختلفة حديثة حامت حولها، لا قصدا
1 / 25
لتفهمها، بل بغية مدّ غاشية من الغموض عليها، ثم الوصول بها إلى المعنى الذي يراد ربطها به، وإن لم تكن منه في شيء.
فلنتنبه بفكر موضوعي مجرد وعقل علمي متحرّر، ولنتساءل مع المتسائلين:
ما هو هذا الوحي الذي جاء بهذا القرآن فوضعه بين يدي محمد ﵊؟
أهو نوع من الإلهام النفسي أم هو حركة فكرية داخلية؟
أم هو إشراق روحي جاءه عن طريق الكشف التدريجي؟
أم هو ضرب من الصرع والجنون كان ينتابه كما قد قيل؟
أم هو استقبال لحقيقة ذاتية مستقلة عن كيانه يتلقاها من خارج فكره وشعوره؟
ونحن لا نملك سبيلا علمية صحيحة للإجابة على هذه الأسئلة إلّا بالرجوع إلى حقائق التاريخ الثابتة الواصلة إلينا عن طريق النقل الصحيح.
وإذا رجعنا نسأل حقائق التاريخ فإنها تضعنا أمام حديث قصة بدء الوحي الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
والحديث طويل، وحسبنا أن نجتزئ منه في هذا المقام ما يكشف لنا سبيلا صحيحة للإجابة على هذه الأسئلة.
ففي الحديث أن ملكا فاجأه في غار حراء يتعبد، فقال له: اقرأ، فقال:
ما أنا بقارئ، فأخذه الملك فغطّه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، وتكرر هذا من الملك والرسول ﵊ ثلاث مرات، وفي المرة الثالثة قال الملك: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم) فكان ذلك أول ما نزل من القرآن.
وفي الحديث أيضا أنه ﵊ نزل عقب ذلك من الغار
1 / 26