تأليف
عمر طوسون
الفصل الأول
مصر والسودان والمفاوضات
في السودان منابع النيل والجزء الأكبر من مجراه، وقد عاشت مصر بدون السودان أيام أن كان المتحكمون فيه قوما من الهمج، ليس عندهم معارف أوروبة ولا أغراضها الاستعمارية، ولا في إمكانهم حرمان مصر، أو نقص حظها من هذا النهر الذي كان يجري على طبيعته، فيفيض على هذا الوادي الخصب والخير. فمصر - كما قال هيرودوت - هبة النيل، ولولاه لكانت هي وصحراء لوبية في القحولة والجدب سواء.
وقد دام الاتصال بينها وبين السودان منذ أقدم عصور التاريخ إلى زمن محمد علي. فلما أحس - رحمه الله - مطامع الأوروبيين وتطلعهم إلى استعمار القارة السوداء، خاف أن يكون من وراء ذلك ضرر يلحق بلاده، فصمم على فتح السودان؛ حتى لا تتحكم في منابع النيل يد أجنبية يكون في قبضتها موت مصر وحياتها، بعدما علم أن مصر من السودان والسودان من مصر جزء لا يتجزأ.
قال المرحوم فوزي باشا في كتابه «السودان بين يدي غوردون» ما نصه:
قضى ساكن الجنان محمد علي باشا محيي الديار المصرية لبانتين من فتح السودان، بل تخلص من ورطتين كبيرتين؛ فقد علمت من شيخ ذي منصب معاصر لمحمد علي باشا، أن دولة أوروبية كانت تسعى لمعارضته باحتلال منابع النيل، فاهتم لهذا الخبر أكبر اهتمام، واستشار كثيرا من المهندسين الأوروبيين الذين جاء بهم من بلادهم إلى هذا القطر، فأقروا بالإجماع على أن وقوع منابع النيل تحت براثن هذه الدولة مما لا تحمد مغبته، حيث تصير حياة مصر في يدها، فصمم على إنفاذ حملة إلى السودان إلخ ... ا.ه.
فإن تركنا السودان أو تهاونا في أمره، وقعنا في المحظور الذي فر منه محمد علي، وألقينا بأيدينا إلى التهلكة.
والضرر من التهاون في السودان محقق لا ريب فيه؛ إذ ليس لاستقلالنا داخلا وخارجا أدنى قيمة في المستقبل إذا كان زمام النيل في قبضة يد غير مصرية، فالسودان هو الرأس الذي إذا بتر تكون مصر بعده جثة هامدة، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه ألزم لنا من نفس مصر، حتى إننا لنرضى أن يحكمنا السودانيون ولا ينفصلوا عنا.
Halaman tidak diketahui