هذا الجلال ولا على الأوتاد (شوقي)
ما بنى إنسان بناء إلا وتداعى وفني بعد حين من الزمان، قصر أو طال ذلك الحين .. غير أن الإنسان المصري بنى الهرم فبنى شيئا غريبا في شكله، غريبا في تصميمه، غريبا في فنه، غريبا في عمره .. بنى بناء يتحدى الزمن .. بنى بناء لا يشيخ ولا يهرم؛ لأنه الهرم .. بنى الهرم يناطح السحاب والسماء معا من ناحية، ويناطح الزمان من ناحية أخرى. ولله در «شوقي» إذ قال:
كأن أهرام مصر حائط نهضت
به يد الدهر لا بنيان فانينا
إيوانه الفخم من عليا مقاصره
يفنى الملوك ولا يبقى الأواوينا
كأنها - تحت لألاء الضحى ذهبا -
كنوز فرعون غطين الموازينا
بنى المصري الأصيل الأهرام عبرة للناس في كل مكان .. بناها وكأنه كان يقول وهو يبني: أيها البشر في جميع أقطار الدنيا، ها هي أهرامي سوف تتحداكم وتتحدى الزمن معكم، فمن تعرض منكم للتحدي فليبن بناء مثله .. بيد أن أحدا لم يرفع صوته، ولا حتى تجرأ على أن يهمس لنفسه .. الهرم عنوان لأشياء كثيرة تفخر بها مصر من دون سائر بلاد العالم .. فني الدهر، وفنيت الأيام والسنون والقرون، والأهرام باقية .. انظروا إلى الهرم، أي هرم منها، تجدوه في شموخه يصور شموخ شعب مصر على مر القرون والأجيال .. انظروا إلى صخور الهرم، فإنها تمثل صلابة سواعد مصر وجبروت قلبها الجرانيتي الذي صمد أمام جميع النوائب والنوازل .. انظروا إلى قاعدة الهرم الفسيحة تريكم القاعدة العريضة التي تقف عليها أقدام مصر أم الدنيا بلا منازع ولا نزاع أو مناقشة .. انظروا إلى جوف الهرم تجدوه يمثل الرهبة والجلالة والمهابة في أروع صورها .. تمعنوا في ذلك الجوف، تجدوا الطهارة والخلود كامنين يتمثلان في الملك والمليكة الراقدين داخله ... كأن الهرم يقول للعالم: لن تجدوا في قلب مصر إلا مقبرة للغزاة، ولن تجدوا في جوف مصر إلا هدوءا كريما جليلا ينم عن الاحترام، ويدل على الرزانة والرصانة والاتزان.
انظروا إلى قمة الهرم، تجدوها مدببة كسن الرمح تطعن السحب، وتحيي السماء على الدوام في كل صباح وكل مساء .. هكذا أظافر المصريين مدببة وأسنانهم حادة، ولكنها إذا ما خدشت أو جرحت تتقي الله وتردد كلمة السماء العادلة .. كذلك بنى المصريون إلى جوار الأهرام بناء يشهد بتفوقهم .. بنوا أبا الهول الذي لن يقول فيه أحد بأحسن مما قال أمير الشعراء:
Halaman tidak diketahui