ومصر كأم رءوم، لا يكفيني في هذا الكتاب أن أقبلها وحدي، بل أريدك أن تقبلها معي وتلثم يديها وقدميها، وتسجد عندهما لتقدم فروض الشكر والعرفان والامتنان.
ومصر كوطن ولدت فيه وفيه أموت، هو عندي أغلى بقعة في الدنيا برمتها، بل هو عندي الدنيا بأركانها الأربعة، ببحارها ومحيطاتها ووديانها وجبالها .. وأمام وطني يهون كل شيء .. الدم والروح والمال والممتلكات .. أنا أمام وطني راكع خاشع وساجد عابد؛ أتعبد تماما كما يتعبد الناسك في محرابه، والشيخ في مسجده، والقس في كنيسته، والراهب في قلايته.
كتبت هذا الكتاب للشباب علهم يقرءونه فيستفيدون ويفيدهم .. ولعلهم يجدون فيه ضالتهم ويعلمون أن مصر فوق كل شيء .. فوق كل حب .. وفوق كل غادة حسناء فاتنة يشتهونها، وفوق كل وجبة دسمة يتناولونها، وكل جرعة شراب يشربونها.
من يجعل مصر قبلته، قبلة الله في فسيح جناته، ومن خاف أن يدنس أرض مصر، أغناه الله وأثراه وأغدق عليه وافر نعمه، ومن ذاد عن حمى مصر، حماه الله ووقاه من كل سوء، ووقاه شر ذلك اليوم ...
فيا قارئ هذا الكتاب، شيخا كنت أم فتى، إنني أناشدك أن تكون به رحيما كريما، محافظا عليه وحافظا له .. تعطيه ولدك من بعدك، أو تتركه لأخيك أو أختك فهو كتاب لا يموت؛ لأنه عن مصر الخالدة التي هي كنانة الله في أرضه، من مسها بسوء قصم الله ظهره .. وأي كلام عن مصر لا يمكن أن يموت أو يتطرق إليه الفناء فيبلى ويفوت .. هذا كلام سرمدي أبدي، كتاريخ مصر الضخم اللازب، الذي خلده الزمن وخلدته الأعمال الجسام التي قام بها شباب مصر وكهولها وشيوخها ونساؤها، قام بها فتيان مصر وفتياتها.
لم أضمن هذا الكتاب إحصائيات، ولم أذكر به أسماء إلا فيما ندر، فما هذا كتاب تاريخ أو تأريخ، بل جرعة من الأحاسيس الكريمة، اعتملت في باطني، فأخرجتها لأسجلها على الزمن كي تبقى على مر العصور .. عبرة لمن يعتبر وهداية لمن يهتدي، وقبسا لمن عاش في الضلال والظلام، ونسي في طياتهما جمال الزهر الباسم، وطلعة القمر المنير، ومشرق الشمس الأبلج، ومجرى النيل الطويل، وتاريخ مصر العريق الأصيل لهذا ولغيره من أهل مصر الأمجاد المباركين، أترك هذه السطور العارمة بحب مصر، والناطقة بمحاسن مصر، والمعبرة عن مفاتن مصر .. أتركها لهم ليستمتعوا بها ويرددوها في منامهم قبل صحوهم، وفي غفلتهم قبل سكرتهم لعلهم يهنئون ويهدءون ويستكينون ويلينون، ويغرقون في حبها مثلي، ويعشقونها أضعاف عشقي، ويموتون من أجلها كما مات غيرهم وغيري .. ولعلهم يفتقدونها وهم مسرورون مبتهجون جذلون، ويسهرون من أجلها كأي عاشق مفتون برح به الهوى.
هذا كتاب لكل مصري، يحب مصر ويعيش على أرض مصر، ويحلم بها كما أحلم بها أنا وأراها في منامي، ويذوب في حبها كما أذوب أنا .. ودعني أخيرا أقول معك: نموت وتحيا مصر ...
أول يناير 1979م
أمين سلامة
لماذا أنت حبيبتي يا مصر؟
Halaman tidak diketahui