وعندي أن هذا المنطق معقول، وهو يثبت أن المسلمين المصريين أخلص دما وأوثق رابطة بالفراعنة من الأقباط الذين كثيرا ما نجد بينهم السحنة الرومانية. •••
وقد كان قاسم أمين فرعوني النزعة قبل أن نغرم نحن بهذا الهوى الجديد، وكان يرى أن دعوى الاختلاط بالعرب لا تنهض على أساس صحيح، وكان يقول إنه يكفي أن نضع عربيا قحا إلى جنب مصري لكي نرى الفرق العظيم بين السحنتين.
وكل من قرأ تاريخ مصر العربي يعرف كيف كان الملوك يتخلصون من العرب ويرشونهم لكي يرحلوا عن البلاد، وهم بالطبع لم يكن في ميسورهم أن يرحلوا لو كانوا قد اختلطوا بالسكان، وكل هذا يدلنا على أن المصريين - إلا الطبقات العالية - احتفظوا بدمهم الفرعوني. وفي بلادنا الآن عرب لا يختلطون بالفلاحين، وكلنا يعرفهم في الصعيد والفيوم والبحيرة والشرقية، حيث يمارسون من تجارة الإبل والغنم ورعايتها ما يخالف مألوف الفلاحين مخالفة الرحلة والانتجاع للإقامة والفلاحة. •••
وكما لكل فرد شخصيته التي تتألف من تراثه البيولوجي والاجتماعي،، كذلك لكل أمة شخصيتها التي تتألف من تاريخها وتراثها الثقافي والاجتماعي؛ ولذلك لا يمكننا أن ننظر للأمة إلا باعتبار ما لها من وحدة التاريخ. فدرسنا للتاريخ المصري هو درس للشخصية المصرية وللأخلاق المصرية، وللأثر الذي تخلفه البيئة الطبيعية لوادي النيل في سياسة الدولة ونزوات الحاكمين.
وهنا تحضرني ملاحظة أدلى بها المصرلوجي ويجال الذي مات في العام الماضي، فقد نظر إلى التاريخ المصري في مدى ستة آلاف سنة ماضية فقال - على ما أذكر - إن مصر بموقعها الجغرافي يجب أن تكون إمبراطورية إذا أرادت الاستقلال؛ فإن حدودها مفتحة الأبواب للعدو الذي يبغي غزوها سواء من الغرب أم من الجنوب أم من الشرق، وإن تاريخها أيام الفراعنة أو أيام الحكم العربي يدل على أنها كانت كذلك أو كانت العكس، فإما أن نملك السودان أو يملكنا، وإما أن نملك طرابلس أو تغزونا قبائلها، وإما أن نملك فلسطين وما والاها من الأقطار أو تملكنا هذه الأقطار، وهذا هو الذي حدث أيام الفراعنة في الدول القوية، وهذا هو الذي حدث أيام الإمبراطورية الفاطمية، أما حين لم نكن أقوياء فإن هذه الأمم المحيطة بنا غزتنا وحكمتنا. والمغزى أن مصر لا يمكنها أن تقف موقف الحياد والسلام للأمم المجاورة لها لأن حدودها لا تحميها، فهي إما أن تغزو هذه الأمم وإما أن تغزوها هذه الأمم، أو هذا على الأقل هو ما ينطق به تاريخها وموقعها الجغرافي.
والمستر ويجال يريد بالطبع مغزى آخر يتفق ونزعاته الإمبراطورية، ولكن هذا لا ينقص من قيمة هذا المنطق التاريخي الذي اعتمد عليه، وهو أننا لكي نفهم العوامل السياسية التي تتحكم في شئوننا يجب أن ندرس تاريخنا كله، ولا نقتصر منه على الحديث بل نرجع إلى أربعة الآلاف من السنين التي سبقت الميلاد المسيحي. •••
ولكن إذا كان واجبا على كل إنسان أن يدرس تاريخ بلاده فإنه يجب على المصري أن يدرس تاريخ مصر لا لأنه تاريخ مصر فقط بل لأنه تاريخ الدنيا، تاريخ الحضارة القديمة التي أخرجت الإنسان من العصر الحجري وجمع الطعام والرحلة في الغابات والبراري إلى عصر الزراعة واستنتاج الطعام والإقامة في المنازل وإنشاء الحكومة والأسرة.
فإن مصر هي - باعتراف طائفة كبيرة من المؤرخين - التي اخترعت الحضارة الأولى ، ونحن حين ندرس تاريخها القديم ندرس علما آخر هو الأنثروبولوجية ونعرف كيف نشأ الطب وما العلاقة بين تحنيط الجثة وبين توبلة الطعام، ولماذا أجمعت الأمم على الإكبار من شأن الذهب، وما علاقة هذا المعدن المشئوم بالأزمة الحاضرة، وكيف نشأت الملوكية وطبقات الأشراف، وكيف عرفت الراية للحرب والرنك للأسرة الشريفة، وما الذي بعث على التجارة بين الأمم، ولماذا تسمى الكيمياء الآن باسم مصر القديم، ولماذا أخذ الأوروبيون التقويم المصري، بل لماذا تقدس البقرة في الهند الآن.
كل هذا نستطيع أن ندرسه عندما ندرس تاريخ مصر؛ لأن الحضارة الأولى التي اخترعها جدودنا نقشت في العالم ولها آثار ليست في بلادنا فقط بل في جميع الأقطار في الصين وإنجلترا وأمريكا وأفريقيا الوسطى وإيطاليا وجزيرة العرب.
ونحن حين ندرس تاريخنا نقف منه على الأساليب التي يتخذها الذهن البشري في الابتكار والاختراع، كما نقف على السيكلوجية التي تتفشى بها العقيدة، فدراستنا لتاريخ جدودنا هي دراسة أيضا للتاريخ العالمي والفلسفة والأنثربولوجية والسيكلوجية.
Halaman tidak diketahui