وأنت ترى الخوف يخرج الناس عن أطوارهم، ويذهلهم عن أقدارهم، وينسيهم ما يحسن وما لا يحسن، ويخفي عليهم ما يجمل وما لا يجمل، ويلبس عليهم ما يليق بما لا يليق. والقوانين المشروعة تغفر لهم ما يدفعهم إليه الهلع والفزع من المآثم والموبقات. وقد هلع صاحبك حين رأى الأمر إلى من لا يحبك ولا يدانيك، فمال مع الريح، وانعطف مع المنفعة، وآثر نفسه بالخير، وضحى بالود القديم، فاغفر له، واصفح عنه، ولا تضع نفسك في موضعه، ولا تقل إنك قد امتحنت بمثل محنته فوفيت للصديق، وضننت بالإخاء، فليس كل الشجر يثبت للريح العاصفة، وإنما يثبت لها الشجر الضخم الذي رسخت أصوله في الأرض، وارتفعت فروعه في السماء. فقل إنك شجرة تثبت للريح، وإن صاحبك هذا نجم يميل معها كل ميل.
ولا تقل إن الناس يخطئون حين يسرفون في الصداقة، ومن حقهم أن يبخلوا بها، ويبذرون المودة، ومن حقهم أن يحرصوا عليها، ويقتصدوا فيها لأن حياتهم قصيرة، والصديق الوفي نادر قليل. فكل هذه خواطر وآراء لا تخطر إلا للذين تأصلت في نفوسهم الحضارة، ورسخت في قلوبهم المودة كما رسخت في الراحتين الأصابع على ما يقول قيس بن ذريح. وهؤلاء هم الصفوة القليلة التي لم تخلق لتشيع وتكثر، وإنما خلقت لتقل وتدخر، وتكون مضربا للمثل، وموضوعا لأحاديث الكتب، ومسرحا لخيال الشعراء. •••
وأنت قد قرأت الكتب، ورويت الأخبار، ووعيت الآثار، وحفظت الحكم النادرة، والأمثال السائرة، وعلمت فيما علمت أن من حماقة الناس أن يبخلوا بالمال، ومن حقه أن ينفق في وجوهه بغير حساب، وأن يسرفوا في الصداقة، ومن حقها أن يبخل بها أصحابها أشد البخل وأعظمه وأقساه، لأن المال غاد ورائح يذهب عنهم اليوم، وقد يعود إليهم غدا، ولأن الصداقة ليس من طبيعتها الغدو والرواح، ولا المجيء والذهاب، وإنما طبيعتها الثبات والاستقرار. فإذا رأيت من يبخل بالمال حين يجب إنفاقه، فاعلم أنه أحمق سفيه، وامنحه من نفسك ازدراءها في غير هوادة ولا رفق. وإذا رأيت من يسرف في الصداقة ويبذرها تبذيرا، فاعلم أنه شرير من إخوان الشياطين، وامنحه من نفسك مقتها وغضبها في غير مهل ولا أناة، وارفع نفسك على كل حال عن الاحتفال بمن يبخل بالمال، والالتفات إلى من يسرف في الصداقة، وكلهما جميعا إلى غرائزهما الجامحة وطبائعهما المنحرفة، لا تقدر لهما قدرا، ولا ترج لهما وقارا، ولا تحسب لهما حسابا، ولا تكلف نفسك في سبيلهما حزنا ولا ألما ولا عناء، فهما أهون من ذلك، وأقل شأنا. •••
أما بعد فقد تلقيت كتابك، وأنا أنعم بحياة راضية لا لغو فيها ولا تأثيم، قوامها القراءة ومعاشرة هؤلاء الأصدقاء الذين لا يملون، ولا يثيرون في أنفسنا الملل ... الذين يستجيبون لنا إذا دعوناهم، ويمنحوننا الروح إذا استرحنا إليهم. لا يمنون، ولا يتجنون، ولا يتكلفون المعاذير، ولا يتلمسون العلل، وإنما يستجيبون لنا هونا حين ندعوهم، وينأون عنا هونا حين ننصرف عنهم، لا يتعللون ولا يتعاتبون ولا يتكذبون ولا يفسدون علينا الحياة بالمكر والكيد والرياء والنفاق، يظهروننا على ذات نفوسهم في أصرح الصراحة، وأصدق الصدق، وأوفى الوفاء.
أتعرفهم؟ إنهم إخوان الصفا حقا، إنهم جديرون بأن نمنحهم ودنا في غير تحفظ، ونخلص لهم حبنا في غير اقتصاد. فلن نجني من ذلك إلا خيرا. إنهم الكتب يا سيدي! الكتب التي يكتبها الناس على اختلاف طبائعهم، وتفاوت حظوظهم من نقاء القلوب، وصفاء الطباع، واعتدال الأمزجة، وطهارة الضمائر.
أليس عجيبا أنك تقرأ الكتاب فتجد فيه غذاء قلبك وعقلك وذوقك؟ تجد هذا كله صفوا لا يكدره مكدر، ولا يشوبه شائب، فإذا بحثت عن كاتبه فعسى أن تعرف أنه كان أنكد الناس حياة، وأكدرهم طبعا، وأسوأهم مزاجا.
فاعجب للخير المحض يستخلص من الشر المحض، وللنقاء النقي يستخلص من الدنس الدنس. صدقني إذا ضقت بالناس فتعز عنهم بما يكتب الناس، واحمد لهم بعد هذا كله أنهم يسيئون كثيرا، ولكن بينهم قوما يحسنون كثيرا، وأنهم يجرحون القلوب، ولكن بينهم قوما يأسون الجراح.
فاعرف لهم ذلك، واغفر لمسيئهم شكرا لمحسنهم، واقبلهم آخر الأمر على علاتهم، واذكر دائما قول أبي العلاء:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء؟!
Halaman tidak diketahui