ويل الشجي من الخلي، وويل العاملين من الكسالى، وويل الجاهدين من القاعدين.
أرح نفسك من الناس، وأرح الناس منك، وافرغ لحياتك الفارغة، وإذا لم تجد بدا من الكتابة إلي، فاكتب إلي بما يرضيني ولا يؤذيني، فإني لست منك، ولا من حياتك الفارغة في شيء ... وأنا أهدي إليك مع ذلك تحية فيها من الرثاء لك أكثر مما فيها من السخر منك.
لا ونعم
إن شئت حدثتك بما يرضيك، فللصديق عند صديقه كل ما يحب، وإن شئت حدثتك بما يؤذيك، فللصديق عند صديقه بعض ما يكره، والناس يخطئون حين يظنون أن الصديق لا ينبغي أن يلقى من صديقه دائما إلا ما يسره ويحبره. فالصداقة نصح، وليس النصح حلوا دائما. وما أرى إلا أن الصداقة أشبه شيء بالفلسفة، في رأي أفلاطون ... لا تخلص للحلاوة الحلوة، ولا تخلص للمرارة المرة، وإنما هي شيء بين ذلك يحلو ويمر، ولعله يحلو ويمر في وقت واحد.
فلك عندي إذن ما يسرك، ولك عندي إذن بعض ما يسوءك، ولقد رضيت عنك أمس كل الرضى في أول الضحى، وسخطت عليك أمس كل السخط حين أوشك النهار أن ينتصف. ولقد هممت أن أطوي عنك ما أرضاني وما أسخطني جملة، أو أن أطوي عنك ما أرضاني وما أسخطني حتى ألقاك، فنستأنف ما تعودنا أن نستأنف من الحديث الحر السمح كلما التقينا، ولكني أشفقت إن لقيتك ألا أصارحك بما في نفسي من لوم لك، ووجد عليك ... فأنت رجل حلو المحضر، عذب الحديث، خلاب جذاب، ماهر الجد، حلو الدعابة، تشغل محدثيك بمحاسنك الكثيرة عن عيوبك القليلة، وتلهيهم بالاستماع لك، والإعجاب بك عن التحدث إليك، فكيف بالعتب عليك ... ولقد سألت نفسي، وأطلت سؤالها، وتستطيع أنت أن تسأل نفسك، وتطيل سؤالها. فما رأيت، وما أحسبك سترى أني واجهتك قط بملامة أو عتاب، إنما أواجهك دائما بالثناء والتقريظ وبالإكبار والإعجاب ... فإن أنكرت منك شيئا طويت عنك إنكاري في أكثر الأحيان، وكتبت إليك ببعضه في أقل الأحيان.
فخذ كتابي هذا على أنه من الكتب القليلة التي أرسلها إليك، فلا تكاد تتلقاها حتى تعلم أنها تحمل إليك لوما أو عتبا أو نكيرا أو دعابة لا تخلو من مرارة مرة، وقد أنبأتني بأنك تتلقى هذه الكتب فتضيق بها أول الأمر، وتتثاقل عن قراءتها، لكنك على تضعها منك غير بعيد، وتختلس إليها نظرات فيها الرغبة وفيها الرهبة، فيها الطمع وفيها الخوف، وتمد إليها يدا تقدم لتحجم وتنبسط لتنقبض، ثم تندفع مغامرة فتفض الغلاف في عنف يكاد يفسد ما وراءه، ثم تلتهم عينك ما في الكتاب التهاما. فاصنع بهذه الرسالة ما تعودت أن تضع بأمثالها أو تعجل قراءتها، فأنت وما تريد من ذلك. ولكني واثق بأنك ستجد فيها إخاء الأخ العطوف، ووفاء الصديق الحميم، ومهما تثقل عليك قراءتها الأولى، فستخف عليك قراءتها الثانية؛ لأني أعلم أنك ستقرؤها مرتين، ولعلك أن تقرؤها أكثر من مرتين. لقد كنت رائعا أمس في أول الضحى، مروعا في آخره. •••
كنت رائعا حين كنت تتحدث إلينا عما امتازت به نفس غاندي من العزة السمحة، والإباء الوديع، وحين كنت تحدثنا بأن جمال الحرية، وجلال الكرامة، وروعة العزة والإباء خصال يظهرها اللين أكثر مما يظهرها العنف، ويجليها الأمن أكثر مما يجليها الخوف؛ لأنها لا تستكمل خصائصها إلا حين تظهر متحضرة مترفة مجلوة من كدر الغرائز، ووضر الطبائع الغلاظ.
والعنف يخرج الإنسان عن طوره، ويرده حيوانا لم تهذبه الحضارة، ولم يصف طبعه أدب أو فن، ولم ينق ضميره علم أو فلسفة أو دين. فحرية الإنسان العنيف في أوقات السلم والحرب ليست من الحرية الصحيحة في شيء.
وإنما هي الغرائز المندفعة، والطبائع الجامحة، والثورة المدمرة التي لا تبقي على شيء، وليس يعنيها أن تبقي على شيء؛ لأنها لا تصدر عن قلب ذكي، ولا عن ضمير نقي، ولا عن عقل رفيع نفاذ. إنما هي شيء يشبه عصف الريح، وقصف الرعد، وهياج البركان. فأما الحرية الحرة حقا، الحرية الخصبة المنتجة، الحرية الرائعة التي لا تكاد تظهر حتى تملأ القلوب شعورا، والنفوس نورا؛ فهي هذه الحرية المروية المستبصرة التي تتأثر بالتفكير والذكاء حتى كأنها هي التفكير والذكاء. وكنت تحدثنا بأن الإنسان الكامل في حريته وعزته وإبائه؛ يمكن أن يختصر كله على ما فيه من عسر وتركيب، وتعقيد في كلمة واحدة قصيرة يسيرة، ولكنها على ذلك شاملة خطيرة، وهي كلمة «لا».
وكنت تقول إن كلمة «لا» هذه كنز لا يفنى، وليس إلى فنائه سبيل؛ لأن حول الإنسان من ضروب الترغيب وألوان الإغراء والدعاء ما لا سبيل إلى إحصائه، ولأن ما يلائم عزته وكرامته من هذا كله أقل من القليل؛ فالإنسان الحر الكريم هو الذي يستطيع أن يقول بقلبه وضميره وعقله ولسانه: «لا» ... يقولها لكل ما يدعوه أو يغريه أو يرغبه فيما لا يلائمه من عمل أو قول أو سيرة أو تأثر أو تأثير، يقولها حين تدعوه المائدة إلى أن يأكل أكثر مما ينبغي، أو إلى أن يشرب أكثر من طوقه، ويقولها حين يدعوه الجمال إلى فتنة الحس، ويقولها حين تدعوه القوة إلى الطغيان والبطش والظلم، ويقولها حين يدعوه الضعف إلى الاستكانة والإذعان والذل، ويقولها حين يدعوه الثراء إلى الطمع والجشع والبخل، ويقولها حين يدعوه الإعدام إلى السؤال والإلحاف والسرقة والمكر ، ويقولها حين يدعوه السلطان والجاه إلى الأثرة والاستئثار والمحاباة، ويقولها حين يدعوه التفوق والامتياز إلى الاستكبار والغرور. وكنا نستمع لك معجبين بك، وقد اتصلت عقولنا بعقلك، وقلوبنا بقلبك، وتعلقت نفوسنا بشفتيك. وما أرى إلا أنك قد أخذت ترضى عن نفسك، وتعجب بها حين بلغت من قراءة رسالتي إلى هذا الموضع، ففيك شيء من الضعف للثناء عليك، يدعوك إلى شيء من العجب والتيه حين تحس الإعجاب بك والرضى عنك. •••
Halaman tidak diketahui