نعم يا سيدي، أنت قد آثرت الخصلة الأولى، فلم تعرض نفسك للبيع، ولم تطرح أخلاقك للمساومة. وأنت ترى النفوس من حولك تباع، وترى الأخلاق من حولك تعرض للمساومة؛ فيؤذيك ما ترى، ويداخلك الشك فيما اخترت لنفسك من سيرة، وما سلكت بها من طريق.
وما أرى إلا أن هذا الروع الذي يملأ اليوم قلبك، ويفسد عليك أمرك؛ لأن صديقك هذا قد تحول عنك، وجزاك بالوفاء خيانة، وبالبر مكرا وكيدا، ليظفر بمنصب خطير يغل عليه مالا لم يكن يحلم بأقله، ما أرى إلا أن هذا الروع مظهر من مظاهر الشك الذي يخامر نفسك، ويداخل ضميرك، فأنت حائر لا تدري أمخطئ أنت أم مصيب؟ وأنت تسأل نفسك، ولولا الحياء لسألت الناس، أعاقل أنت أم مجنون؟
إن المنافع تسعى إليك، وإن الآمال تتراءى لك، خلابة جذابة براقة، وإنك ترى الناس من حولك يسعون إلى المنافع، ويتهالكون على الآمال، وإنك تهم أن تفعل كما يفعلون ثم ترد نفسك إلى الحزم، وتأبى عليها الهوان. وما أكره لك هذا الروع، وما أشفق عليك من هذا الشك، فلست أحب للرجل الكريم أن تكون كرامته عادة مألوفة، وشيئا يسيرا لا مشقة فيه، وإنما أحب له أن يكسب كرامته كسبا، ويأخذها غلابا، ويفرضها على الناس فرضا، وإن يعرض له الشك في كل يوم فلا يبلغ منه شيئا، وإن يلح عليه الإغراء في كل ساعة فلا يلين له فناة، فهو ناظر لنفسه في كل لحظة، ومدافع عنها في كل حين. فجدد الاختيار لنفسك بين الحياة السهلة اليسيرة الحلوة المواتية وبين الحياة الصعبة العسيرة المرة المجافية.
فإن اخترت الثانية فنعم الصديق، وإن اخترت الأولى فثق بأني لن أروع لفقدك كما روعت أنت لفقد صديقك؛ ذلك لأني وطنت نفسي على موت الأصدقاء، وهم أحياء، وعلى حياة الأصدقاء، وهم أموات، ولأني أنشد نفسي من حين إلى حين هذا الشعر الذي رد معاوية عن الانهزام يوم صفين:
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
كما أنت
كما أنت أيها الصديق الكريم، لا تقم إن كنت قاعدا، ولا تقعد إن كنت قائما، ولا تتحول عن مكانك إلى يمين أو شمال، ولا ترجع إلى وراء، وإنما امض إلى أمام إن أحببت المضي، فإنما هو كلام يقال في كل عصر، وفي كل جيل ... قلناه حين كنا شبابا، فلم نغير مما كان حولنا شيئا بالقول، ويقوله الشباب لنا الآن، فلا يغيرون مما حولهم شيئا بالقول، وسيبلغون في يوم من الأيام ما بلغنا من السن، وسيصلون إلى ما وصلنا إليه من المنازل، وسيقول لهم أبناؤهم وأحفادهم مثل ما يقولون لنا الآن، ومثل ما قلنا نحن لآبائنا وأجدادنا من قبل، فلا يغيرون شيئا بالقول، كما لم نغير نحن شيئا؛ لأن تغيير الأشياء لا يكون بالكلام الذي يقال عن إخلاص أو عن تكلف، وعن تفكير أو عن اندفاع، وإنما يكون بالعمل الذي ينقل الأشياء من طور إلى طور، ويضعها إلى حيث يجب أن تكون.
كما أنت إذن أيها الصديق الكريم، لا تغير من حياتك، ولا من سيرتك شيئا، بل لا تغير من رأيك في الأحياء والأشياء إلا أن يدعوك التفكير، وتضطرك الأحداث، وطبيعة الحياة إلى أن تغير من رأيك قليلا أو كثيرا. •••
كما أنت لا تزل عن ثغرك هذه الابتسامة السمحة التي ألفت أن تلقى بها الناس، وما يختلف عليهم من الأطوار، وما يلم من الخطوب، ولا تلق عن وجهك هذا القناع المشرق الوضاء الذي يزيده العزم إشراقا، والحزم وضاءة، والذي تلقى به المصاعب مجاهدا لها حتى تقهرها، وتظهر عليها.
Halaman tidak diketahui