لا ترع يا سيدي، لا ترع، فإن هذا الأمر الذي يؤذيك، ويضنيك، ويشق عليك لا يجري عليك وحدك، وإنما يجري على غيرك من الناس انظر من حولك فسترى نفوسا تعرض للبيع، وأخلاقا تعرض للمساومة، منها ما يباع بثمن بخس، ومنها ما يباع بثمن لا بأس به، ولكنها كلها تباع على كل حال.
وما الذي تنكر من ذلك، وحياة الناس رهينة بمنافعهم ومآربهم، وحضارة الناس شيء مكتسب ليس من الضروري أن يمتزج بدمائهم، ويجري في عروقهم، ويصبح لهم مزاجا، وطبعا، وإنما هو شيء متكلف لا يؤمن به، ولا يؤمن له إلا الأقلون. فأما الأكثرون فيتخذونه وسيلة يتقي بها بعضهم شر بعض، وقد يبتغي به بعضهم شر بعض. •••
فكر، إن هذه الأزمات التي تلح على الناس منذ أول هذا القرن تلقي عليهم دروسا فيها الخوف، وفيها الإغراء، فيها اليأس، وفيها الرجاء ، فيها انتهاز الفرص، وفيها الثبات على الخلق الكريم.
إن هذه الأزمات تعلم الناس أن الحياة قصيرة هينة رخيصة، فمن الخير انتهازها، والانتفاع بها إلى أقصى آماد الانتفاع. هذه الملايين التي أرسلت إلى الموت ابتغاء العدوان، وهذه الملايين التي أرسلت إلى الموت ابتغاء دفع العدوان، وهذه الملايين التي عذبت في معتقلات الأسر، وهذه الملايين التي صب الموت والعذاب عليها صبا؛ لا لشيء إلا لإرضاء حاجة الإنسان إلى البغي، والإثم، واللذة البشعة.
كل هذه الملايين قد أقامت الدليل للناس على أن الحياة قصيرة هينة رخيصة، وأقرت في نفوس كثير من الناس أن الحزم إنما هو في انتهاز الفرصة، واقتضاء المنفعة، والاستمتاع باللذة، مهما تكن النتائج، ومهما تكن الظروف. فما الذي تنكر من أن يدعو هذا كله إلى إهدار القيم التي ألفتها، وضياع المقاييس التي نشأت عليها؟ وما الذي تنكر من أن يتحول عنك الصديق لأنهم لا يجدون عندك منفعة، ولا مأربا، أو لأنهم يجدون عند غيرك من المنافع، والمآرب أكثر مما يجدون عندك؟ •••
لا ترع يا سيدي، لا ترع، فليس في الأمر ما يدعو إلى الروع. وإنما أنت خليق أن تختار بين اثنتين، وأن يكون اختيارك عن حزم وبصيرة، وعن روية وتفكير، وعن أناة وتحفظ واحتياط. فإما أن تستبقي ما نشأت عليه من خلق، وما فطرت عليه من مزاج، فتمتنع على الغواية، وتقاوم الإثم، وتصون نفسك من أن تكون سلعة تعرض للبيع، والشراء، وتعصم أخلاقك من أن تكون موضوعا للمساومة، وما يكون في المساومة من ارتفاع الأثمان، وهبوطها، وإذن فأيسر ما يجب عليك إذا اخترت هذه الخصلة؛ أن ترضى بالقليل، وتقنع باليسير، وتروض نفسك على غدر الصديق، وخيانة الإخوان، وتحول الرفاق، وتنكر الخلان. تلقى ذلك باسما له، وساخرا منه إن كنت من أولي العزائم الماضية، والهمم العالية، وتلقى ذلك شقيا به محزونا له، ولكنك تحتمله على كل حال إن كنت من الصادقين الذين لم ترتفع نفوسهم إلى منازل النابغين والأفذاذ. وإما أن تدور مع الزمن، وتساير الحياة، وتنعم حين تساق إليك، وتعرض نفسك للبيع حين تسنح الفرصة لك، وتختطف اللذة حين تساق إليك، وتعرض نفسك للبيع فتبيعها بالثمن الغالي إن أتيح لك، وبالثمن الرخيص إن لم تجد بدا من قبول الثمن الرخيص.
لا ترع يا سيدي، لا ترع، فليس في الأمر ما يدعو إلى الروع. إنك قد اخترت الخصلة الأولى إلى الآن فلم تزدهك المنافع، ولم تستخفك اللذات، ولم يستهوك السلطان، ولم تبع نفسك مع البائعين. وقد لقيت في ذلك كثيرا من الأذى، وصبرت نفسك في ذلك على كثير من المكروه، ورأيت أصدقاءك من حولك تتخطفهم المنافع، ويصرعهم حب الشهوات.
ثم إنك تنظر في كل يوم فترى نفسك تسرع إلى الوحدة أو تسرع الوحدة إليها، وترى نفسك مقبلا على العزلة، ممعنا فيها، إما لأن الناس من حولك يضيقون بتحفظك وتزمتك؛ فينصرفون عنك، وإما لأنك تضيق بتهالك الناس، وتهافتهم، وتساقطهم على المنافع الوضيعة، كما يساقط الذباب على العسل أو كما تساقط الفراش في النار، فتنصرف عنهم، وتنشد قول الشاعر القديم:
حي الحمول بجانب الرمل
إذ لا يلائم شكلها شكلي
Halaman tidak diketahui