نعم لست أدري كيف أدعوك! فلست أريد أن أسوءك، ولست أريد أن أسوء الحق، فالحق يعلم أنك كنت لي أخا عزيزا وصديقا كريما، ثم ألغيت الإخاء إلغاء، ومحوت الصداقة محوا. وما أحب أن أدعوك سيدي كما تعود الناس أن يدعوا من ليس بينهم وبينه صلة من مودة أو إخاء، فإني أشق على نفسي، وأكلفها أكثر مما تطيق أن دعوتك بهذا الاسم، وقد أشق على شيء هو أكرم علي من نفسي، وإن لم يكن عليك كريما، وهو الذكرى.
ولعلك لم تنس بعد ما كنا نتحدث به أيام الصفاء من أننا قد بلغنا السن التي يحرص الناس فيها على الذكرى كما يحرصون على أنفس الكنوز؛ لأنها خير من كل ما بقي لهم، أو هي خير ما بقي لهم من حياة قد مضى أكثرها، ولم يبق إلا أقلها، وليس إلى استئنافها من سبيل.
وكنا نقول في أيام الصفاء تلك أنا قد بلغنا السن التي يحتفظ فيها الرجل الكريم بشيئين أشد الاحتفاظ، ويحرص عليهما أعظم الحرص، ويضن بهما أكثر مما يضن البخيل بماله؛ وهما الذكرى التي تستبقي له حياته أو ما يمكن استبقاؤه من هذه الحياة، والصداقة التي تصل بينه وبين الدنيا حين تنقطع الأسباب بينه وبين الدنيا كلما مرت ساعة من ليل أو ساعة من نهار. وكنا نتواصى في أيام الصفاء تلك بأن يخلو كل واحد منا إلى نفسه ما استطاع، فيستحضر الماضي كله، ويعصره عصرا ليستخلص منه ما يستطيع أن يستخلصه من الذكرى، وليسجله في كتاب حتى لا تعبث به الأحداث، وحتى لا تذهب به الأيام، وحتى لا تمحوه هذه الشيخوخة التي تسرع إلينا أو نسرع إليها، والتي تفني كل شيء فينا قليلا قليلا، فكنا نريد أن نستخلص الذكرى من الأحداث والأيام والشيخوخة، ونكرها على البقاء؛ لأننا نجد العزاء كل العزاء في الرجوع إليها، والاستماع لما تقص علينا من أحاديث أنفسنا، والاستمتاع باستحضار ما عملنا، وما لا نستطيع أن نعمل.
وكنت أحبك أشد الحب، وأوثرك على الناس جميعا، وأوثرك على نفسي قبل أن أوثرك على الناس. وكنت تحبني أشد الحب، وتؤثرني على الناس جميعا، وتؤثرني على نفسك قبل أن تؤثرني على الناس. وكان كل واحد منا حريصا من أجل ذلك على أن يعرف من أمر صاحبه كل شيء.
كنت أنت قد بلغت الثلاثين، وكان بيني وبينها أعوام قليلة حين التقينا، وحين اصطفى كل واحد منا صاحبه على غيره من اللدات والأتراب. ومنذ ذلك الوقت لم يخف على أحدنا من أمر صاحبه شيء. ولكن كلا منا كان يجهل صبا صاحبه وشبابه، وكان يحرص على أن يعرف صبا صاحبه وشبابه. وكنا نتواصى في أوقات الصفاء تلك بأن نستقصي فنحسن الاستقصاء، وبأن نحصي فنتقن الإحصاء، وبأن نسأل الأهل عما كان من أمر طفولتنا حتى لا يفوت أحدنا من أمر صاحبه قليل أو كثير. كان كل واحد منا حريصا على أن يعمر قلبه بصورة من صاحبه كاملة إلى أقصى ما يتاح للأشياء الإنسانية من الكمال.
أتذكر هذا كله، أم نسيته كما نسيت كثيرا غيره من الأشياء؟ أما أنا فأذكره كما أذكر نفسي، وأنعم به كما أنعم بنفسي، وأشقى به كما أشقى بنفسي أيضا. فأنت تعلم أن الإنسان المتفكر يجد في نفسه ينبوعين يفيض أحدهما بالسعادة، ويفيض ثانيهما بالشقاء.
لم أنس من هذا كله شيئا، ولن أنسى من هذا كله شيئا، وسأنعم بهذا كله فأجد شقاء في هذا النعيم لأنه لا يزداد ولا ينمو، ولا يتجدد، وسأشقى بهذا كله فأجد نعيما في هذا الشقاء؛ لأنه يستبقي لي سعادة قد بلوتها فحمدت بلاءها، وما زلت أذوقها، وأحرص على استبقاء هذا المذاق.
كل هذا أقوله لأني لا أدري كيف أدعوك ... فلست أخي العزيز، ولست صديقي الكريم لأنك لا تريد أن تكون هذا ولا ذاك، ولست سيدي؛ لأني لا أريد أن أدعوك بهذا اللفظ السخيف الفارغ الذي لا يدل على شيء. وما حاجتي إلى أن أدعوك! وما حاجتك إلى هذا الدعاء! وما يمنعني أن أكتب إليك دون أن أبدأ رسالتي بما تعود الناس أن يبدءوا به رسائلهم من هذه الألفاظ. إنك لتفهم عني، وإن لم أدعك، وإني لأوجه إليك القول، وإن لم تسمع دعائي. وما حاجتي إلى أن أدعوك، وأنا لن أرسل إليك هذا الكتاب في بيتك في القاهرة، أو في مصيفك في الإسكندرية، أو غيرها من مصايف مصر، فلست أعرف أين تصطاف، وقد مضى زمن كنت أسأل فيه عنك في أي فصل من فصول السنة، وفي أي شهر من شهورها، وفي أي يوم من أيام الشهر، وفي أي ساعة من ساعات اليوم، فأعرف أين تكون ... وأدل سائلي على مكانك من دارك، أو مكتبك، أو ناديك، أو ما شئت من هذه الأماكن التي كنت تضطرب بينها، وتختلف إليها. فأما الآن فأنا أجهل من أمرك كل شيء إلا هذه الأنباء التي أقرؤها في هذه الصحيفة أو تلك.
فأنت رجل تتحدث عنه الصحف فتكثر الحديث، وتروي أنباءه فتحسن رواية الأنباء. لا أعرف من أمرك إلا ما يعرفه كل قارئ للصحف، ولا ألقاك إلا حين تفرض علينا ظروف الحياة أن نلتقي في هذا الحفل أو ذاك. وقد يقبل أحدنا على صاحبه مكرها فيهدي إليه تحية فاترة ملؤها الاستحياء أو الاستخذاء، وفيها كثير من التعجل، وفيها كثير الرغبة في أن يطرأ طارئ أو يقبل مقبل أو يكون شيء من هذه الأشياء الكثيرة التي يفترق لها الناس بعد اجتماع، ويشغل بها بعض الناس عن بعض في هذه المواطن التي يقوم الأمر كله فيها على التكلف، والتجمل، والرياء. ولا أعرف من أمرك إلا ما يعرف الناس جميعا، ولا ألقاك إلا كما يلقى بعض الناس بعضا في هذه الاجتماعات السخيفة البغيضة التي تسوء أكثر مما تسر، وتغيظ أكثر مما ترضي، والتي لا أشهدها إلا رجعت منها بالسخط على نفسي، وعلى الناس.
أتذكر؟! لقد كنا نتحدث في ذلك فنطيل الحديث، نضحك منه كثيرا، ونحزن له كثيرا، ونسخر منه دائما. لا أعرف من أمرك إلا ما يعرف الناس جميعا، ولا ألقاك إلا في هذا الفصل الذي يلتقي الناس فيه حول مائدة من موائد الشاي أو موائد الطعام. لا أسمع صوتك في التليفون قبل أن يرتفع الضحى، ولا أسمع صوتك في التليفون حين يتقدم الليل، ولا تسعدني زيارتك حين أقيم، ولا تؤنسني رسائلك حين أغترب. ومن أجل ذلك أكتب إليك دون أن أضع عنوانك على هذا الكتاب، ودون أن أسلم هذا الكتاب إلى البريد؛ لأنا فقدنا عادة المكاتبة كما فقدنا عادة التزاور، وكما فقدنا عادة الحديث بالتليفون. وأنا مع ذلك أكتب إليك، وأسلم كتابي إلى مجلة الهلال؛ لأني واثق بأنه سيصل إليك دون أن تعرف مجلة الهلال لمن أكتب أو إلى من أسوق الحديث! ودون أن يعرف أحد من قراء الهلال لمن أكتب، وإلى من أسوق الحديث، إلا أنت، فستعرف حق المعرفة لمن أكتب، وإلى من أسوق الحديث.
Halaman tidak diketahui