فلا تنفذ لنفسك أمرا تتلقاه منها حتى تتدبره، وتفكر فيه فتطيل التفكير. ومهما يواتك الحظ فاذكر حالك قبل أن يواتيك، وقدر أنك قد تعود إلى مثل ما كنت فيه، واذكر رأيك في أصحاب الرأي قبل أن تكون منهم، ونقدك لهم، وحكمك عليهم قبل أن ترقى إلى مكانك بينهم. واعلم أن الناس يقولون فيك مثل ما كنت تقول فيهم، ويحكمون عليك بمثل ما كنت تحكم عليهم. واذكر في أول ما تذكر أن لك ضميرا يرضى ويسخط، ويعرف وينكر، ويحمد ويذم، وأن أعباء الحكم قد تشغلك عنه أو تشغله عنك؛ ما امتدت لك أسباب القوة. ولكنك ستفرغ له كما أنه سيفرغ لك ذات يوم أو ذات ليل، فاحرص على ألا تسمع منه إلا خيرا. •••
وأنت بعد ذلك محتاج إلى نصح الصديق، ومعونة الخليل فيما أحدث الحكم بينك وبين الناس من صلات، فأنت تدبر أمورهم، وترعى مرافقهم، تسوسهم باللين حينا، وتسوسهم بالشدة أحيانا. فأنت تطمع وتخيف، وأنت تشيع الرعب، وتشيع الرهب، وأنت تمد أسباب الرجاء، وترسل إلى القلوب صواعق اليأس. فالناس بين مبتغ إليك الوسيلة، ومتربص بك الدائرة، ومنتهز فيك الفرصة. كلهم يظهر لك المودة، وأكثرهم يضمر الموجدة عليك، ويطوي قلبه لك على شر ما تطوى عليه القلوب .
وأخوف ما أخاف عليك من الناس؛ سعيهم عندك بالنميمة، ومشيهم إليك بالوقيعة، وابتغاؤهم رضاك بالوشاية. فالناس يبتغون إلى الحاكم كل وسيلة، ويتقربون إليه من كل سبيل. يتنافسون فيما عنده، ويغريهم ذلك بأن يكيد بعضهم لبعض، ويمكر بعضهم ببعض، ويتكذب بعضهم على بعض، كلهم يريد أن ينال من الحكومة أكثر مما ينال غيره من النظراء، وهم من أجل ذلك في هم مقيم، وتحاسد متصل، وتباغض ملح، يسعون إلى آمالهم بما يستقيم من الطرق وما يعوج، وبما يباح من السيرة وما يحظر، وبما يحسن من القول والعمل وما يقبح، يتبادلون المساءة فيما بينهم، ولكنهم يختصونك بشر ما يتبادلون من النكر والسوء، ويفسدون قلبك على الناس فيفسدون قلوب الناس عليك، ويسيئون رأيك فيهم فيسيئون رأيهم فيك. ثم ينتهون آخر الأمر إلى أن يفسدوا عليك أمرك، ويسيئوا رأيك في نفسك، ويباعدوا بينك وبين ضميرك، وينغضوا عليك راحة الليل، ونشاط النهار. •••
وإذا أوجب عليك أن تحذر نفسك، وأن تحذر الناس، فقد يستبين لك أن الحكم نقمة لا نعمة، ومحنة تبتلى بها النفوس، وتفتن بها القلوب، وتمحص بها الضمائر، فهو عناء لا راحة، وهو شقاء لا سعادة، وهو قلق لا هدوء، وهو خوف لا أمن. واذكر - أصلحك الله - أيام كنا نلتقي فنذكر فلانا وفلانا من الحكام الذين سبقوك، نعيبهم كثيرا، ونثني عليهم قليلا، ونرثي لهم دائما، ونتمنى للصديق منهم أن يجلي الله عنه الغمرة، ويفرج عنه الكربة، ويحط عنه أعباء الحكم وأوزاره، ويرده إلى الحياة الحرة السمحة التي لا يحمل الإنسان فيها إلا أوزار نفسه، والتي لا يثقل الإنسان نفسه فيها بأوزار الناس، وما أكثر أوزار الناس!
ولقد تبسم راضيا أو ساخطا حين تعلم أني أكتب إليك هذه الرسالة، وفي نفسي من الحب لك، والرفق بك، والإشفاق عليك، ما يحملني على أن أسأل الله لك العافية، وأتمنى عليه أن يضع عنك إصر الحكم وأغلاله، وأن يردك إلي من هذه المحنة سالما موفورا، وقانعا من الغنيمة بالإياب. فخير غنيمة للحاكمين أن يخرجوا من الحكم أتقياء كما كانوا قبل أن يدخلوا فيه، لم يغنموا منه إلا سلامة بالإياب.
رسائل وقعت لي لم أعرف، على طول البحث وشدة الاستقصاء، كاتبها ولا من كتبت إليه.
رسالة إلى ...
لست أدري كيف أدعوك! فقد كنت فيما مضى من الأيام أدعوك بالأخ العزيز، والصديق الكريم، وأنا أخشى أن أسوءك، وأن أسوء الحق أن دعوتك بهاتين الصفتين؛ إحداهما أو كلتيهما.
أخشى أن أسوءك بإثارة الحزن، والأسى في نفسك، وبإثارة الندم فيها أيضا، فأنت تعلم أنك لم تبق لي أخا عزيزا لأنك ألغيت هذا الإخاء، ولا صديقا كريما لأنك قطعت أسباب هذه الصداقة. وقد يسوءك تذكيرك بما مضى، وقد يحزنك ردك إلى ما سلف، وقد يشق على نفسك أن تتبين أن لا سبيل إلى استدراك ما فات، ولا إلى استئناف ما فرط، فلأمر ما أرسل القدماء مثلهم المعروف «سبق السيف العذل».
وقد يثير الندم في نفسك إن تصدقك الذكرى بعد أن بعد العهد، وسكت الغضب، ورضيت الأطماع، وتغيرت الظروف، فتنبئك بأنك قد تجنيت في غير موضع للتجني، وتكلفت القطيعة في غير مقتض لتكلفها، وأقدمت عليها حين كان كل شيء يدعوك إلى أن تحجم عنها، وترفع نفسك عن إثمها ...
Halaman tidak diketahui