حملقت في وجهي. حملقت في وجهي ذابلة غير مصدقة تعيسة غاضبة، فقلت ممعنا في وحشيتي: افعلي ذلك بلا تردد! - أنت تقول ذلك؟! - نعم. - إنه لمضحك، إنه لمبك، إني لا أفهم شيئا.
فقلت بيأس: فلنؤجل الفهم إلى حين. - لا يمكن أن تدعني بلا تفسير! - لا أملك أي تفسير.
انبثق شعاع غضب من أعماق عينيها الرماديتين وقالت: إنك تجعلني أشك في عقلك. - أعتقد أنني أستحق ذلك.
فصاحت بحنق: أكنت تعبث بي طيلة الوقت؟ - درية! - صارحني .. أكنت تكذب علي؟ - أبدا. - إذن هل مات حبك فجأة؟ - أبدا .. أبدا. - إنك تصر على العبث بي. - ليس عندي ما أقوله، إني أكره نفسي، هذا ما يجب أن أصارحك به، وعليك ألا تقتربي من رجل يكره نفسه.
عكست عيناها المحملقتان هبوطا في قواها الداخلية. ثم انتزعت بصرها من وجهي بازدراء وحنق. ولبثت فترة صامتة كأنما لا تدري ماذا تصنع بنفسها. ثم تمتمت وكأنما تحادث نفسها: إني حمقاء. وعلي أن أدفع ثمن حماقتي. لم تشعرني بالثقة قط، ولا الأمان، كيف تجاهلت ذلك؟ لقد دستني في اندفاعك المجنون. أجل، إنك مجنون.
تخشعت كطفل مذنب مطيع. ولذت بالصمت كذريعة أخيرة لإنهاء الموقف المعذب. تجنبت النظر نحوها. تجاهلت وقع عينيها، صوت أصابعها فوق حافة المكتب، نفخها المضطرم. تحولت إلى جثة هامدة.
وجاءني صوتها متهافتا: أليس لديك ما تقول؟
فثابرت على الموت. قامت بشيء من العنف فقمت بدوري. غادرت المكان فتبعتها حتى بلغنا الطريق. وعبرناه معا. ثم أوسعت خطاها معلنة رفضها لمرافقتي فتوقفت. أتبعتها عيني كمن ينظر في حلم. وتضخم الحلم وامتد رواقه. وتراجع الواقع حتى توارى وراء الأفق. رنوت إلى مشيتها المألوفة المحبوبة بغرابة، وبحزن، وحتى تلك اللحظة الجنونية لم يغب عني أن ذاك الكائن المخلخل المقهور الذي يختفي رويدا في تيار السابلة. لم يغب عني أنه حبي الأول وربما الأخير في هذه الدنيا. وباختفائها هويت إلى الحضيض. ورغم شقائي المؤكد فقد داخلني ارتياح غامض غريب. •••
البحر يترامى تحت سطح أملس باسم الزرقة، فأين العاصفة الهوجاء؟ والشمس تهوي إلى المغيب مرسلة شعاعا ماسيا يلتحم بأهداب سحائب رقيقة، فأين جبال الغيوم؟ والهواء يلاعب سعف النخيل في غابة السلسلة بمداعبات شفافة رقيقة، فأين الرياح الهوج المزلزلة؟
ونظرت إلى وجه زهرة الشاحب، ودموعها الجافة على الوجنتين، ونظرتها الكسيرة الذابلة، فخيل إلي أنني أنظر في مرآة، وأن الحياة تطالعني بفطرتها الخشنة الفظة الرهيبة، بإمكانياتها المجردة، بصمودها الصلب المغطى بالأشواك، بآمالها الخبيثة في قوقعة مسمومة الأطراف، بروحها الأبدية التي تجذب إليها المغامرين واليائسين فتقدم لكل غذاءه. لقد سلبت الشرف وهجرت بلا كبرياء. أجل، إني أنظر في مرآة.
Halaman tidak diketahui