مقدّمة
الحمد لله القوي القاهر والصّلاة والسلام على النبي الطاهر وعلى آله وأصحابه وبعد: فهذا هو الكتاب الثالث من سلسلة التراث الإصلاحي في العقيدة والشريعة وقد سبقه الجزءان: مصباح الظّلام، والقول الفصل النفيس.
وموضوع كتاب منهج التأسيس والتقديس كشف شبهات داوود بن جرجس في كتابه صلح الإخوان نقل فيه خمسين موضعًا من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما يزعم أنها تشهد له على استحباب دعاء الصالحين والاستنجاد بهم كما دافع المؤلف عن الشيخين ابن تيمية وابن القيم مما افتراه ابن جرجيس في تزوير كلامهما وحمله محمل التضليل والالتباس ليأخذ منه حجّة على الابتداع وتشريع ما لم يأذن الله بتشريعه ولداوود البغدادي يد في الإفساد والتضليل حينما استوطن نجدًا وقد التف حوله من يأخذ عنه فكان رائد تضليل فيما يكتبه ويلقيه فلهذا قام العلامة المجدد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بالرّد والردع في كتابه القول الفصل النفيس كما قام العلامة الشيخ عبد الله أبا بطين بالدور نفسه الذي قام به الشيخ عبد الرحمن في رد شبهات المفتري داوود وكتاب منهاج التأسيس والتقديس كالطابع لما سبق إلا أن المنية عاجلت الشيخ عبد اللطيف فلم يكمله وقد مضى في رده وردعه غالب الشبهات التي تضمنها كتاب صلح الأخوان. لهذا قام العلامة العراقي السيد محمود شكري الألوسي بإكمال الرد تتمة للفائدة وسماه فتح المنان في السرد على صلح الإخوان تتمة لمنهاج التأسيس، طبع الكتابان معا في مطبعة أنصار السنة المحمدية في مصر
1 / 5
عام ١٣٦٦هـ بمراجعة وتصحيح الشيخ محمد حامد الفقي على نفقة الأمير سعود بن عبد العزيز ولي العهد في وقته ولمضي زمن طويل على تلك الطبعة، ولما تدعو الحاجة إليه في دحض الشبهات فقد رأيت لزامًا إحياء هذا التراث ونشره وإعلانه سيما والحاجة تدعو إلى مثله وقد رفع دعاة الضلال راياتهم المنكسة وأعلنوها صيحة لإحياء ما كان عليه سلف المبتدعين وأهل التضليل والتخريف. ونقول لهم قول الله تعالى ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾ [لأعراف: من الآية٥٦] فقد أصلح الله هذه الجزيرة وطمس معالم الوثنية والخرافة والابتداع حاملا راية التوحيد الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب منذ القرن الثاني عشر. والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلاّ بالله نعم المولى ونعم النصير، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إسماعيل بن سعد بن عتيق
الرياض ١٣/١/١٤٠٨هـ
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل ونعتمد، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ويسر لهم من معالم الدين ومواهب اليقين ما فضلهم به واصطفاهم على العالمين. وفتح لهم من حقائق المعارف ومعارف الحقائق ما امتازوا به على من قبلهم من سائر الأمم الماضين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الصادق الأمين. صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنّ الله قد بعث محمّدًا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وكان الناس قبل مبعثه على أديان متفرقة ونحل متباينة، وطرائق مختلفة، وضلال مستبين، كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النّبيّ ﷺ: "إنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلاّ بقايا من أهل الكتاب" فقام ﷺ بأعباء النبوة والرسالة، وصدع بالإنكار على كافة أهل الجهالة والضلال، ودعا الناس إلى معرفة الله وتوحيده، وأمرهم بإخلاص الدين لله وتجريده. ولم يزل ﷺ إلى الله داعيًا وإلى سبيله هاديًا، حتى أظهره الله على سائر فرق المشركين الأميين منهم
1 / 7
والكتابيين، واستعلن الدين واستنار، وقهر الإسلام كل مشرك جبار فأكمل الله للأمة الدين، وأتمّ النعمة بما جاء به رسوله الأمين؛ فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وأشرقت الأرض بنور النبوة واهتزت طربًا وابتهاجًا، ومحا الله آثار الأصنام والأوثان، وخمدت معابد الصلبان والنيران، ورفعت أعلام السنة والقرآن حتى تركهم ﷺ على البيضاء ليلها كنهارها لا يضل سالكها، ولا تلتبس عليه مناهجها ومسالكها. ولم يزل خلفاؤه الراشدون ومن بعدهم من أهل تلك الأعصار الفاضلة والقرون، على هذا المنهج المنير متفقون، وبعروته مستمسكون، فاستمر الأمر على ذلك، ومضى الصّالحون على تلك المناهج الواضحة والمسالك؛ ثم نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ولم يميز بين شعب الشرك والأصول الإسلامية، فانتقضت من الدين عراه، وعزّ خلاصه وعظمت بالجهل محنته وبلواه، وآلت الرياسة إلى الجهال والأغمار، وجاءت دولة غربة الدين واشتد الإدبار، فوقع الشرك بالصّالحين وغيرهم صرفا لم يشب؛ هرم عليه الكبير ونشأ الصغير وشبَّ، واستحكم الأمر استحكاما لا مزيد عليه. حتى جزم الأكثر بكفر من أنكر ذلك وأشير به إليه. وهذا من أعلام نبوة نبينا المصطفى زاده الله صلاة وسلامًا وشرفًا، فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ". وجاء نحوه عن ابن عباس ﵄ وفيه زيادة: "وباعًا بباع" وفيه: "حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم جامع أمه في الطريق لفعلتموه" وفي الباب عن أبي هريرة وشداد بن أوس وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ﵃. فصار الأمر طبق ما أخبر به هذه الأمة نبيها، وظهر وجه الشبه بينهم وبينها، وانتهى الحال إلى أن قبل بالاتحاد والحلول، وكثرت في ذلك إشارات القوم والنقول، وصار هو مذهب الخاصة والخلاصة عند الأكثرين. ومن أنكره فهو عندهم ليس على شيء من العلم والدين.
1 / 8
وعبدت الكواكب والنجوم. وصنف في ذلك مثل أبي معشر وصاحب السر المكتوم (١)، وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد وعبدت تلك الضرائح والمشاهد، وجعلت لها الأعياد الزمانية والمكانية؛ وصرفت لها العبادات المالية والبدنية. ونحرت لها النحائر والقرابين؛ وطاف بها الفوج بعد الفوج من الزائرين والسائلين، وحلقت لأربابها رؤوس الوافدين؛ وهتف بدعائها ورجائها من حضر وغاب من المعتقدين والمحبين. واعتمدوا عليها في المهمات من دون الله رب العالمين وانتهكت بأعيادها وموالدها محظورات الشريعة والمحرمات، واستبيح فيها ما اتفقت على تحريمه جميع الشرائع والنبوات. وكثر المكاء والتصدية بتلك الفجاج والعرصات. وبارزوا بتلك القبائح والعظائم فاطر الأرض والسموات. وصنف في استحبابه بعض شيوخهم كابن المفيد وظنه الأكثر من دين الإسلام والتوحيد وأشير إلى من أنكره بالكفر الشديد، وقد ضمن الله تعالى لهذه الأمة أن لا تجتمع على ضلالة، وأن لا يزال فيها من يعبد الله قائما على أي وصف وحالة. وجاء الحديث عنه ﷺ بأنه تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدّد لها أمر الدين، ويقوم من الحجة بالواضح المستبين. فمنهم من قصّ علينا نبؤه ووصل، ومنهم من انقطع عنا خبره وما اتصل. وأحق أهل القرن الثاني عشر عند من خبر الأمور وسبر، ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر: من حصول الوصف الكاشف المعتبر شيخ الإسلام والمسلمين المجدد لما اندرس من أصول الملة والدين، السلفي الأول وإن تأخر زمانه عند من عقل وتأمل، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وأجزل له الثواب.
وكان قيامه ﵀ بعد الخمسين ومائة وألف؛ من سني الهجرة المحمدية. وايتداء التواريخ الإسلامية، فشمر ﵀ عن ساعدي جده واجتهاده، وأعلن بالنصح لله ولكتابه ولرسوله، وسائر عباده، وصبر على ما
_________
(١) هو المعروف بالفخر الرازي صاحب التفسير.
1 / 9
ناله من أعباء تلك الرتبة والدعوة، وما قصد به من أنواع المحنة والجفوة.
وقرّر ﵀ أن الواقع الذي حكينا والصنيع الذي رأينا وروينا، عن عباد القبور والصالحين، هو بعينه فعل الجاهلية الوثنيين. وهو الذي جاءت الرسل بمحوه وإبطاله وتكفير فاعله ورد باطله ومحاله: وقال: إن حقيقة دين الإسلام وزبدة ما جاءت به الرسل الكرام، هو إفراد الله بالقصد والعبادة، وإسلام الوجه له بالعمل والإرادة، وترك التعلق على الأولياء من دونه والأنداد. والبراءة من عبادة ما سواه من سائر المخلوقات والعباد. وهذا معنى كلمة الإخلاص والتوحيد. وهو الحكمة المقصودة بخلق جميع الكائنات والعبيد، وقرر ﵀ أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة مع مخالفة ما دلت عليه من الأصول المقررة؛ ومع الشرك الأكبر في العبادة لا يدخل المكلف في الإسلام. إذ المقصود من الشهادتين حقيقة الأعمال التي لا يقوم الإيمان بدونها. كمحبة الله وحده، والخضوع له والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإفراده بالإستعانة والاستعانة فيما لا يقدر عليه سواه، وعدم الإشراك به فيما يستحقه من العبادات، كالذبح والنذر والتقوى والخشية، ونحو ذلك من الطاعات.
واستدل لذلك بنصوص قاطعة وبراهين واضحة ساطعة، وحكي الإجماع على ذلك عن الأئمة الفضلاء والسادة النبلاء، من سائر أهل الفقه والفتوى، وذكر عبارة من حكى الإجماع من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وألف في ذلك التآليف، وقرر الحجة وصنف التصانيف، وقد عارضه من الغلاة المارقين ومن الدعاة إلى عبادة الأولياء والصالحين، أناس من أهل وقته، فباءوا بغضب الله ومقته. وأظهره الله عليهم بعد الامتحان. وحقت كلمة ربك على أهل الكفر والطغيان. وهذه سنة الله التى قد خلت من قبل، وحكمته التي يظهر بها ميزان الفضل والعدل.
وقد جمع أعداؤه شبهات في رد ما أبداه، وجحد ما قرره وأملاه،
1 / 10
واستعانوا بملئهم من العجم والعرب، ونسبوه إلى ما يستحي من ذكره أهل العقل والأدب فضلًا عن ذوي العلم والرتب، وزعموا أنه خارجي مخالف للسنة والجماعة، كمقالة أسلافهم لرسول الله ﷺ أنه صابئ صاحب إفك وصناعة.
ومن سنة أربع وخمسين ومائتين يبلغنا ويرفع إلينا عن رجل من أهل العراق أنه تصدّى لجمع تلك الشبه من أماكنها وتتبعها من مظانها فصار يبدي من الشبهات ما يمج سماعه، ويكفي الناقد في رده نظره واطلاعه؛ ويظهر بطلانه ببدائه العقول ولا يتوقف الحكم بفساده على نظر في المعقول والمنقول. وقد رفع إليَّ رسالة سماها "صلح الإخوان" فيها من تحريف الكلم عن مواضعه والكذب على أهل العلم وعدم الفقه فيما ينقله ويحكيه من كلامهم ما يحصيه إلا الله. ورأيته قد زاد على من قبله من المعارضين بزيادات وضلالات تليق بتلك الفهوم والقلوب والمقفلات ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: من الآية٨] والمؤمن إذا وقف على كلام هذا الرجل عرف قدر ما هو فيه من نعمة الإسلام، وما اختص به من حلل الإيمان والإكرام. فازداد تعظيمًا لربه وتمجيدًا، وإخلاصًا في معاملته وتوحيدًا.
لوشاء ربك كنت أيضًا مثلهم ... فالقلب بين أصابع الرحمن
وقد عنّ لي أولًا أن أطرح هذر كلامه وأن لا أعرج على رد إفكه وآثامه، لظهور هجنته في نفسه، وأنه مما يتنزه العاقل عن إفكه وحدسه. ثم بدا لي أن لكل ساقطة لاقطة. وقد قال رسول الله ﷺ لأصحابه لما قال أبو سفيان يوم أحد: أفيكم محمد أفيكم أبو بكر، أفيكم ابن الخطاب؟ "لا تجيبوه" تهاونا به وتحقيرًا لشأنه. فلما قال: اعلُ هُبل، قال لهم رسول الله ﷺ: "قولوا: الله أعلى وأجل" ولما قال: لنا العزّى ولا عُزى لكم قال لهم: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم" والبلاغة كما قيل: مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
1 / 11
فصل
اعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده. وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين. ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر. وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة. مثال ذلك: أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. والجهل بالحقيقتين أو إحداهما أوقع كثيرًا من الناس في الشرك وعبادة الصالحين، لعدم معرفة الحقائق وتصورها، وأن لساعد الجهل وقصور العلم عوائد مألوفة استحكمت بها البلية وتمكنت الرزية. وصار الانتقال عن العوائد والمشتهيات أعز شيء في الوجود وأصعب شيء على النفوس، مالم يعارض ذلك معارض قوي في نفسه، عظيم الصولة والقوة، سواء كان أمرًا خارجيًا كالقهر والغلبة والقتال والأسر "عجبت لقوم يدخلون الجنة بالسلاسل" أو أمرًا باطنيًا أو وازعًا إلهيًا كالتوفيق وقذف النور في القلب، وتصريف كصرف القلوب. وهذا النوع أقل مما قبله، كما في حديث ابن عباس في عرض الأمم وأنه ﷺ "رأى النّبيّ وليس معه أحد، والنّبيّ معه الرجل والرجلان، والنبي ومعه الرهط" الحديث بطوله.
1 / 12
فصل
اعلم أن العبد به فقر ذاتي وضرورة ذاتية لا تنفكان بحال إلى معرفة فاطره وبارئه وعبادته وحده لا شريك له. وهذا الفقر والضرورة لا مثل له فيقاس عليه فإن فقد معرفة باريه وعبادته وحده لا شريك له هلاك كلي أبدي، لا خير ولا سرور معه البتة بوجه من الوجوه. لكنه يشبه من بعض الوجوه فقر العبد إلى ما يقوم بدنه وتسلم به صحته من الطعام والشراب، والأمر أجل من ذلك وأعظم، فينبغي لكل عبد أن يهتم بذلك غاية الاهتمام. ولا يرضى لنفسه أن يعيش كسائمة الأنعام. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [لأعراف: ١٧٩] والكلام في هذا المبحث ليس كغيره، فربما خرج الإنسان من الإسلام بشبهة تحول بينه وبين ما يحب لله من التوحيد والإخلاص والبراءة من عبادة ما عبد معه من الأوثان والأصنام.
1 / 13
فصل
قال العراقي في أول رسالته:
يقول داود بن العالم المتضلع في سائر العلوم سليمان بن جرجيس:
أقول: قد اشتهر المثل السائر: كل فتاة بأبيها معجبة. أين آثار العلم في جهل هذا وأبيه بالتوحيد، فضلًا عن سائر العلوم؟ أيضًا ففي الحديث "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" هذا لو سلم له علم أبيه فكيف والمنع أوجه ﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الاحقاف: من الآية٤] .
ودعوة المرء تطفئ نور بهجته ... هذا بحق فكيف المدعي زللا؟
وانظر لتسمية جده بجرجيس؟ ومعلوم أن جرجس وبطرس ليسا من أسماء المسلمين، فما وجه التسمية بذلك؟
1 / 14
فصل
قال العراقي: قد اشتهر أن الشيخ ابن تيمية وابن القيم يحكمان على أهل السنة والجماعة ممن يتوسل بالأنبياء والصالحين من أهل القبور، ويناديهم ويستغيث بهم إلى الله، ويحلف بغير الله أو ينذر لأنبياء الله وأوليائه وما أشبه ذلك بالكفر والشرك المخرجين من الملة، وأنهما يحكمان بالتأثيم لفاعل ذلك، أخذًا من ظاهر كلامهما، حتى حصل بذلك فتن وتفريق بين المسلمين. ثم إني أمعنت النظر فوجدتهما قد تبرآ من ذلك، بل رأيتهما عذرا فاعل ذلك، إذا كان مجتهدًا أو مقلدًا وله حسن قصد. وربما قالا: مأجور في فعله. قال: وهما وإن أطلقا في كتبهما وشددا لكنهما خصصا في بعضها وقيدا. فالذي لا يمعن النظر في كلامهما يحكم بأنهما قائلان بالتكفير. وأطال الهذيان.
والجواب أن يقال:
(أولا) تسمية عباد القبور أهل سنة وجماعة جهل عظيم بحدود ما أنزل الله على رسوله وقلب للمسميات الشرعية، وما يراد من الإسلام والإيمان. والشرك والكفر. قال تعالى: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [التوبة: من الآية٩٧] وهذا وأمثاله أجدر من أولئك بالجهل وعدم العلم بالحدود، لغربة الإسلام وبعد العهد بآثار النبوة. وأهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام والتوحيد، المتمسكون بالسنن الثابتة عن رسول الله ﷺ في
1 / 15
العقائد والنحل، والعبادات الباطنة والظاهرة الذين لم يشوبوها ببدع أهل الأهواء ولا بزيغ أهل الكلام: في أبواب العلم والاعتقادات. ولم يخرجوا عنها في باب العمل والإرادات، كما عليه جهال أهل الطرق في مبتدع العبادات فإن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله ﷺ وما سنه أو أمر به من أصول الدين وفروعه. حتى الهدي والسمت، ثم خصّت في بعض الإطلاقات بما كان عليه أهل السنة من إثبات الأسماء والصفات خلافًا للجهمية المعطلة النفاة. وخصت بإثبات القدر ونفي الجبر خلافًا للقدرية النفاة وللقدرية الجبرية العصاة. وتطلق أيضًا على ما كان عليه السلف الصالح في مسائل الإمامة والتفضيل، والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله ﷺ وهذا من إطلاق الاسم على بعض مسمياته، لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أن المسمى ركن أعظم، وشرط أكبر كقوله ﷺ: "الحج عرفة" أو لأنه الوصف الفارق بينهم وبين غيرهم. لذلك سمى العلماء كتبهم في هذه الأصول: كتب السنة، ككتاب السنة للآلكائي، والسنة لأبي بكر الأثرم، والسنة للخلال، والسنة لابن خزيمة، والسنة لعبد الله بن أحمد، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم.
وإذا كان الحال كما ذكرنا فقوله: اشتهر أن الشيخ ابن تيمية وابن القيم يحكمان على أهل السنة والجماعة بالتكفير والإشراك: كذب ظاهر، وبهت جلي، ما قيل ولا صدر، فضلا عن كونه عرف واشتهر. وآحاد العامة - فضلا عن الخاصة - لا يخفى عليهم أن هذين الشيخين من أكابر أهل السنة والجماعة، لا ممن يكفر أهل السنة والجماعة، وأنهما تصديا للرد على المبطلين والمشركين من اليهود والنصارى والصابئة والفلاسفة؛ وعباد القبور والمشايخ، ولم يكفرا غير هذه الطوائف ومن ضاهاهم، كغلاة الجهمية والقدرية والرافضة، هذا يعرفه كثير من العوان. وهذا العراقي بلغه ذلك، ولكن ظن أن عباد القبور أهل سنة وجماعة، فأخذ في تحريف كلام الشيخين. والإلحاد في ذلك، بل وألحد في نصوص الكتاب والسنة، كما
1 / 16
سيأتيك عنه مفصلا إن شاء الله. قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [فصلت:٤٠] .
وقوله: ممن يتوسل بالأنبياء والصالحين من أهل القبور ويناديهم، ويستغيث بهم إلى آخره.
يريد به: ما سيأتي في كلامه من أن دعاء الصالحين والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله يسمى توسلًا عنده وتشفعًا. وهذا فرار منه أن يسميه شركًا وكفرًا وهذا من جنس جهله بالأسماء والمسميات. وسيأتيك رد كلامه هناك، وأن التوسل صار مشتركا في عرف كثيرين، وأن العبرة بالحقائق لا بالأسماء، وأن الله سمى هذا شركًا وعبادة لغيره في مواضع من كتابه. كل هذا يأتيك مفصلا، فإياك أن تغتر بالإلحاد وتغيير الأسماء؛ فقف مع الحدود الشرعية، واعتبر بالحقائق تعرف أن هؤلاء مشركون وثنيون، عباد قبور. لا يستريب في ذلك إلاّ جاهل بأصل الإسلام لم يدر ما جاءت به الرسل الكرام.
وهذا الضرب من الناس - أعني عبّاد القبور - يحسنون الظن بأنفسهم ويرون أنهم أهل سنة وجماعة. وهكذا أهل كل ملة ونحلة وبدعة. وقد قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:١٠٣ـ١٠٤]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [لأعراف: من الآية٣٠] .
وما أحسن قوله تعالى في قضائه بين إبراهيم وقومه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:٨٢] .
ومن عادة هذا العراقي: أنّه إذا رأى عبارة في مدح أهل السنة والجماعة وعدم تكفيرهم ادّعاها لنفسه وشيعته من عباد القبور والصالحين، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
1 / 17
وأعجب من هذا في الجهالة وأبعد في التيه والضلالة أنه زعم أن هذين الشيخين لا يقولان بتأثيم من دعا الأولياء والصالحين واستغاث بهم من دون الله في حاجاته وملماته، وأنهما عذراه وقالا: هو معذور مأجور. ويل أمه، ما أكذبه، وما أضله عن الفهم الصحيح وأبعده. جميع عباراتهما، وكل مصنفاتهما ضريحة ظاهرة في تضليل فاعل ذلك والحكم عليه بالشرك الأكبر، وأنه ممن عدل بالله وسوى بربه غيره، وأنه يستتاب فإن تاب وإلاّ قتل مرتدًا، وأن الله سبحانه بعث جميع رسله وأنزل سائر كتبه ليعبد وحده لا شريك له، ويكفر بما عبد معه من الأنداد والآلهة. وهذا أصرح شيء وأظهره في الكتاب والسنة، وكلام علماء الأمة وفقهائها، لا سيما شيخ الإسلام وتلميذه، فإنهما قد اهتما بهذا الأصل وقرراه ووضّحاه وأقاما عليه من الأدلة والبراهين ما يعز جمعه واستفاؤه.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن مستند المسلمين في العقائد ومرجعهم في أصول الدين وفروعه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وإجماع من سلف من علماء الأمة. وأن التقليد في باب أصول الدين، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله لا يفيد ولا يجدي عندهم، وإن كان المقلَّد - بفتح اللام - فاضلًا عالمًا في نفسه. وهذا العراقي يظن أن المسلمين يكفرون أهل الشرك وعباد الصالحين ويقاتلونهم على التوحيد، تقليدًا للشيخ وغيره. وهذا لأنه لا يحسن سوى حرفة التقليد والكتاب والسنة عنده عن الاستدلال والاحتجاج بمكان بعيد، والمسائل التي يسقط الذم عن المخطئ فيها إذا اجتهد واتقى الله ما استطاع هي المسائل الاجتهادية، أي التي يسوغ الاجتهاد فيها أو ما يخفى دليله في نفسهن، ولا يعرفه إلاّ الآحاد؛ بخلاف ما علم بالضرورة من دين الإسلام، كمعرفة الله بصفاته وأسمائه وأفعاله وربوبيته ومعرفة ألوهيته وكتوحيده بأفعال العبد وعباداته؛ فأي اجتهاد يسوغ هنا وأي خفاء ولبس فيه؟
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
1 / 18
وجميع الكفار، إلا من عاند منهم، قد أخطأوا في هذا الباب واشتبه عليهم، أفيقال بعذرهم وعدم تأثيمهم أو أجرهم؟ سبحان الله! ما أقبح الجهل وما أبشعه.
هذه أربعة مواضع ضلّ فيها العراقيّ في أول بحثه في قدر ثلاثة أسطر من كلامه فسبحان مصرف القلوب.
قال ابن القيم ﵀ في الكلام على أهل الفترة عند حديث المنتفق، وقوله ﷺ: "إنّ أباك المنتفق في النار"؛ ولو لم يكن من الأدلة على توحيد الله ومعرفته إلا ما اعترفوا به من ربوبية الله واختصاصه بالخلق والإيجاد والإبداع لكفى بذلك دليلًا، أو نحو هذا الكلام.
وغلاة عباد القبور قد أثبتوا لآلهتهم وأوليائهم شركة مع الله في التدبير والتأثير كما قالته غلاة الرافضة. وعلى كلام هذا الضال هم معذرون مأجورون لأنهم اجتهدوا، فسبحان من طبع على قلبه، وحال بينه وبين رشده. وما أحسن قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الرعد:١٩] بل إطلاق هذا يدخل فيه اجتهاد النصارى فيما أتوا به من القول الشنيع والكفر الفظيع ويدخل في عمومه قول أهل الحلول والاتحاد، كابن عربي وابن سبعين والعفيف والتلمساني وابن الفارض وأمثالهم، ويلزم من هذا العراقي تضليل من كفّر المشركين وعبّاد القبور من علماء الأمة. وتضليل الفقهاء فيما ذكروه في باب حكم المرتد، وأن يخص كلامهم بغير المجتهد والمقلد؛ ومن له حسن قصد. فيجب على هذا تقييد ما أطلقوه وتحرير ما ضيعوه، ولم يضبطوه. وأن يكتب هذا القيد على ذكره الحنفيون والمالكيون والشافعيون والحنبليون في باب حكم المرتد وما يكفر به المسلم؛ ليظهر الحق إن كان ما زعمه العراقي حقًا، أو يشهد كافة أولي الألباب من العلماء والخلق أن هؤلاء قوم لا يعقلون؛ وأنهم في ضلالة عمياء؛ وجهالة صمّاء؛ وأن لهم نصيبًا وافرًا من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [لأعراف: ١٧٩] .
1 / 19
وأما دعواه أنه أمعن النظر في كلام الشيخين فقد يكون ذلك، لكن إنما ينتفع بالبحث والنظر أهل البصائر والأثر، وهل ضل من ضل قديمًا وحديثًا إلاّ من جهة فساد نظره، وضلال فكره، وغشاوة بصره، وطبع الله على قلبه؟ وعلى الشيخ وأمثاله بيان الحق؛ وكشفه وتقريره؛ وليس عليهم أن يفهم كلامهم كل ناظر فيه مطلع عليه.
عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر
قال ابن القيم رحمه الله تعالى - بعد أن ذكر كلام الزنادقة المكذبين للنصوص الواردة في عذاب القبر - قال: الأمر الثاني أن يفهم عن الرسول ﷺ مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه إلا على ما يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والتبيان.
قال ﵀: فقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب وما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده وسوء القصد من التابع، فيا محنة الدين وأهله. والله المستعان. وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر طوائف أهل البدع إلاّ سوء الفهم عن الله ورسوله حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام، والذي فهمه الصحابة ومن تبعهم عن الله ورسوله فمهجور ولا يلتفت إليه، ولا يرفع به هؤلاء رأسًا، ولكثرة هذه القاعدة تركناها، فإنا لو ذكرناها لزدات على عشرات ألوف؛ حتى إنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله مرادًا كما ينبغي في موضع واحد، وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس، وعرضه على ما جاء به الرسول. وأما من عكس الأمر فيعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده وانتحله وقلّد فيه من أحسن
1 / 20
الظن به؛ فليس يجدي الكلام معه شيئًا، فدعه وما اختار لنفسه وولّه ما تولى؛ واحمد إلهك الذي عافاك مما ابتلاه به. انتهى.
وما أحسن ما قال في الكافية:
فلقد نجا أهل الحديث المحـ ... ـض أتباع الرسول وتابعوالقرآن
عرفوا الذي قد قال مع علم بما ... قال الرسول فهم أولو العرفان
مدوا يدًا نحو العلى بتكلف ... وتخلف وتكبر وتوان
أترى ينالوها؛ وهذا شأنهم؟ ... حاشا العلاء من الزبون الفاني
1 / 21
فصل
قال العراقي: على أن ما أطلقاه وشددا فيه قد صرحا في مواضع متعددة أنه سد للذريعة، وأن المقصود الشرك أو الكفر الأصغر لا المخرج من الملة.
كما سنقف على عبارتهما في جميع كتبهما. ثم إن هذا الشرك إنما يكون عندهما محرمًا إذا لم يكن فاعله مجتهدًا ولا مقلدًا ولا عرضت له شبهات يعذره الله فيها. ولا متأوّلًا، ولا ابتلى بمصائب مكفرة، ولا له حسنات تمحو ذنبه، ولا شفيع مطاع، ولا كان جاهلًا. فبعد انتفاء هذه الشروط يحكم على فاعل هذه الأشياء المتقدمة بالشرك الأصغر، ولما نقلت هذا لبعض أهل الدين حثني على جمع هذه العبارات.
والجواب أن يقال لهذا:
كلامك هذا كله باطل، وجهل مركب، وبهت لهذين الشيخين. وليس فيه جملة واحدة توافق الحق أصلًا، فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه وجعلهم عبرة لأوليائه، وعباده المؤمنين.
وحينئذ فالجواب من طريقين، مجمل ومفصل.
أما المجمل فنقول: قد تقدم أن الأصل المعتمد في هذا الباب وغيره من أصول الدين وفروعه هو ما دلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة. هذه هي الأدلة الشرعية بإجماع، والقياس مختلف فيه. والجمهور على قبوله بشروطه، وليس المعول على كلام الآحاد من أهل العلم والدين، وإن علت
1 / 22
درجتهم، وارتفعت رتبتهم. ولا تصلح المعارضة بقول فلان وفلان من أهل العلم والدين، ولا ينتقض الدليل بمخالفة أحد كائنا من كان.
إذا عرفت هذا، فالجواب المفصّل أن نقول: قوله إن الشيخ وتلميذه صرّحا أن ما قالاه في دعاء الصالحين وعبادتهم مقصودهما سد الذّرائع وأنه من الشرك الأصغر، وأنه لا يكون محرمًا إذا كان فاعله مجتهدًا أو مقلدًا أو مخطئًا.
كلام كذب محض مردود على قائله. وهذه الدعوى من هذا العراقي يكفي في ردها وإبطالها المنع، لأنها عارية عن الدليل والبرهان. والدعوى المجردة يكتفي بمنعها. وما ذكره العراقي فيما سيأتي لم يفقه المراد منه ولم يدر ما قصد به. فوضع كلامه في غير موضعه. وعارض بعضه ببعض، وصادم ما ذكره الشيخ في الشرك الأكبر بما ذكره فيما دونه من الشرك الأصغر والسيئات، والبدع التي فشت في الأمة، وجعل هذا من باب التقييد للمطلق. لجهله بالصناعة. فإن حقيقته تعاؤض محض وتناقض ظاهر على زعم هذا العراقي. وهذا مما ينزه عنه آحاد المسلمين فضلا عن العلماء المحققين. وعلى زعم هذا العراقي أنه أيضًا لا يكون شركًا أصغر ولا محرمًا على المجتهد، بل هو مأجور في ذلك، وأنّ الشرك والكفر والفسوق لا يتحقق مسماها ولا يكون إثما إلا إذا عوقب صاحبه بالنار، فإن منع مانع من العقاب انتفى الاسم والحكم. فسبحان الله والله أكبر؛ ما أقل حياء هذا الرجل وما أغلظ فهمه وما أكثف حجابه، وسيأتيك ما سننقل من كلامهما صريحًا واضحًا لا يقبل تأويل هذا الملحد بوجه من الوجوه.
وهب أنه لا يعاقب، فما الذي منع تحريمه، وقلب مسماه، وأحاله أن يكون شركًا؟ وكلام الشيخ صريح في أن المراد بعباراته ما يقع من ذنوب أهل الإسلام مما دون الشرك وعبادة الصالحين. وعباراته ظاهرة في ذلك، ليست على ما نقله العراقي، بل فرضها في أهل الإسلام، وما حدث من البدع التي على ما نقله العراقي، بل فرضها في أهل الإسلام، وما حدث من البدع التي تنازع الناس في تكفير أهلها، وما وقع من بعض الصحابة مما يدعى أنه من
1 / 23
جنس الذنوب. فإنه لما منع الدعوى وذكر أن الواقع من الفتن والقتال إنما صدر عن اجتهاد ورأي، وأن المجتهد في مثل هذا - يعني مسائل الإمامة والطلب بدم عثمان، ونحو ذلك - مما يعذر فيه المجتهد إذا كان هذا حاصل علمه واجتهاده ولم يقصد معصية الله ورسوله.
ثم قال بعد ذلك: والعقاب في الدار الآخرة قد يرتفع عن المسلم - أو قال المؤمن - بأسباب عشرة، فذكر التوبة والاستغفار، والعمل الصالح الذي ترجح به حسناته، والمصائب المكفرة في الدنيا والمصائب المكفرة في البرزخ، والمصائب المكفرة في عرصات القيامة؛ ودعاء المؤمنين واستغفارهم؛ وشفاعتهم له في الدار الآخرة وشفاعة سيد الشفعاء، ومغفرة الله ورحمته. فإن لم تقوَ هذه الأسباب ومنع مانع من جهة العبد؛ فلا بدّ من دخوله النار وتطهيره من آثار الذنوب فإذا طهر ونقي دخل الجنة.
وهذا معنى كلام الشيخ في المنهاج وغيره، فمن أراد المراجعة فالعبارة معروفة في محلها.
وقال شيخنا في بعض رسائله: لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان؛ وبإجماع أهل العلم أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم.
ومعلوم أن كلام من الطائفتين - أهل العراق وأهل الشام - معتقدة أنها على الحق والأخرى ظالمة وكان من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف - أترى أهل الشام لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم لو امتنعوا أترى أحدا من الصحابة يشك في كفر من التجأ إليهم ولو أظهر البراءة من اعتقادهم؟ وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان.
فتفكر في هذه القصة فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته انتهى.
1 / 24