فهذه قوانين في الحكم والأمثال قلما يشذ عنها من جزئياتها شيء. وقد أجملت القول فيها إجمالا، إذ لم يمكن تفصيله في هذا الموضع، إذ للكلام في تفريع الأمثال المترتبة عن هذه الأصول الكليات مجال متسع. وجريت في ذلك على ما اعتمدته في جميع جهات الكلام والنظر في هذه القوانين الكلية عن تتبع جزئياتها.
هـ- معلم دال على طرق العلم بتحسين هيآت العبارات والتأنق في اختيار موادها، وإجادة وضعها ورصفها.
والتهدي إلى العبارات الحسنة يكون بأن تكون للشاعر قوة يستولي فكره بها على جميع الجهات التي يستكمل حسن الكلام بالترامي به إلى كل جهة منها والتباعد عن الجهات التي تضادها. وتلك الجهات هي اختيار المواد اللفظية أولا من جهة ما تحسن في ملافظ حروفها وانتظامها وصيغها ومقاديرها واجتناب ما يقبح في ذلك وقد تقدم، واختيارها أيضًا من جهة ما يحسن منها بالنظر إلى الاستعمال وتجنب ما يقبح بالنظر إلى ذلك واختيارها بحسب ما يحسن منها باعتبار طريق من الطرق العرفية وتجنب ما يقبح باعتبار ذلك.
١- إضاءة: ومن ذلك حسن التأليف وتلاؤمه. والتلاؤم يقع في الكلام على أنحاء: منها أن تكون حروف الكلام بالنظر إلى ائتلاف بعض حروف الكلمة مع بعضها وائتلاف جملة كملة مع جملة كلمة تلاصقها منتظمة في حروف مختارة متباعدة المخارج مترتبة الترتيب الذي يقع فيه خفة وتشاكل ما، ومنها ألا تتفاوت الكلم المؤتلفة في مقدار الاستعمال فتكون الواحدة في نهاية الابتذال والأخرى في نهاية الحوشية وقلة الاستعمال، ومنها أن تتناسب بعض صفاتها مثل أن تكون إحداهما مشتقة من الأخرى مع تغاير المعنيين من جهة أو جهات أو تتماثل أوزان الكلم أو تتوازن مقاطعها، ومنها أن تكون كل كلمة قوية الطلب لما يليها من الكلم أليق بها من كل ما يمكن أن يوضع موضعها.
٢- تنوير: وقد تعدم هذه الصفات أو أكثرها من الكلم وتكون مع ذلك متلائمة التأليف لا يدرى من أين وقع فيها التلاؤم ولا كيف وقع، ليس ذلك إلا لنسبة وتشاكل يعرض في التأليف لا يعبر عن حقيقته ولا يعلم ما كنهه، إنما ذلك مثل ما يقع بين بعض الألحان وبعض وبعض الأصباغ وبعض من النسبة والتشاكل ولا يدرى من أين وقع ذلك.
٣- إضاءة: ومن ذلك التسهل في العبارات وترك التكلف. والتسهل يكون بان تكون الكلم غير متوعرة الملافظ والنقل من بعضها إلى بعض وان يكون اللفظ طبقا للمعنى تابعا له جارية العبارة من جميع أنحائها على أوضح مناهج البيان والفصاحة. هذا إذا لم يكن المقصد إغماض المعاني. ومعرفة تفصيل هذا الإجمال تستفاد من أبواب قد قدمتها.
والتكلف يقع إما بتوعر الملافظ أو ضعف تطالب الكلم أو بزيادة ما لا يحتاج إليه أو نقص ما يحتاج، وإما بتقديم وتأخير، وإما بقلب، وإما بعدل صيغة عن صيغة هي أحق بالموضع منها، وإما بإبدال كلمة مكان كلمة هي أحسن موقعا في الكلام منها.
ومن هذا إبدال الضمير المخاطب من ضمير الغائب في مثل قول الشاعر: (الطويل -ق- المترادف)
فتاتان بالنجم السعيد ولدتما
وقول المتنبي: (الكامل -ق- المترادف)
قوم تفرست المنايا فيكم ... فرأت لكم في الحرب صبر كرام
وإما بتكرار، إما بالحيدة عن معنى تقصر العبارة عنه إلى معنى مؤد عن مثل تأديته تطول العبارة عنه.
٤- تنوير: ومن ذلك إيثار حسن الوضع والمبني وتجنب ما يقبح من ذلك. فمن حسن الوضع اللفظي أن يؤاخى في الكلام بين كلم تتماثل في مواد لفظها أو في صيغها أو في مقاطعها فتحسن بذلك ديباجة الكلام.
وربما دل بذلك في بعض المواضع أو الكلام على آخره. ومن ذلك وضع اللفظ إزاء اللفظ الذي بين معنييهما تقارب وتناظر من جهة ما لأحدهما إلى الآخر انتساب وله به علقة، وحمله عليه في الترتيب. فإن هذا الوضع في تأليف الألفاظ يزيد الكلام بيانا وحسن ديباجة واستدلالا بأوله على آخره.
ومن قبح الوضع والتأليف أن تكون الألفاظ مع عدم تراخيها بعيدة أنحاء التطالب شتيتة النظم متخاذلا بعضها عن بعض كما قال: (الخفيف -ق- المترادف)
لم يضرها، والحمد لله، شيء ... فانثنت نحو عزف نفس ذهول
٥- إضاءة: ومن ذلك ألا يزاد على قدر الحاجة من كل ما يستحسن وألا يجعل التمادي عليه سببا إلى السآمة له والغرض منه.
1 / 71