٦- تنوير: فالمتصورات التي في فطرة النفوس ومعتقداتها العادية أن تجد لها فرحا أو ترحا أو شجوا هي التي ينبغي أن نسميها المتصورات الأصلية. وما لم يوجد ذلك لها في النفوس ولا معتقداتها العادية فهي المتصورات الدخيلة، وهي المعاني التي إنما يكون وجودها بتعلم وتكسب كالأغراض التي لا تقع إلا في العلوم والصناعات والمهن. فالمعاني المتعلقة بهذه الطرق الخاصة ببعض الجماهير لا تحسن في المقاصد العامة المألوفة التي ينحى بها نحو ما يستطيبه الجمهور أو يتأثرون له بالجملة. فإذا استعملت فيها فإنها معيبة لكونها دخيلة في الكلام بحسب الغرض. وإنما تكون أصيلة في الشعر إذا كان غرض الكلام مبنيا على ذلك. فأما إذا لم يكن قصده بنية الكلام على تخييل ما لا يعرفه الجمهور ولا تتأكد علقته بالأغراض، ولكن يورد ذلك على سبيل التبعية على جهة من المحاكاة أو غير ذلك، فإن ذلك غير أصيل في الشعر، ويكون الكلام معيبا بذلك.
٧- إضاءة: والمعاني الشعرية منها ما يكون مقصودا في نفسه بحسب غرض الشعر ومعتمدا إيراده ومنها ما ليس بمعتمد إيراده ولكن يورد على أن يحاكى به ما اعتمد من ذلك أو يحال به عليه أو غير ذلك. ولنسم المعاني التي تكون من متن الكلام ونفس غرض الشعر المعاني الأول، ولنسم المعاني التي ليست من متن الكلام ونفس الغرض ولكنها أمثلة لتلك أو استدلالات عليها أو غير ذلك لا موجب لإيرادها في الكلام غير محاكاة المعاني الأول بها أو ملاحظة وجه يجمع بينهما على بعض الهيآت التي تتلاقى عليها المعاني ويصار من بعضها إلى بعض المعاني الثواني. فتكون معاني الشعر منقسمة إلى أوائل وثوان.
٨- تنوير: وحق الثواني أن تكون أشهر في معناها من الأول لتستوضح معاني الأول بمعانيها الممثلة بها، أو تكون مساوية لها لتفيدتأكيدا للمعنى. فإن كان المعنى فيها أخفى منه في الأول قبح إيراد الثواني لكونها زيادة في الكلام من غير فائدة، فهي بمنزلة الحشو غير المفيد في اللفظ، ولمناقضة المقصد الشعري في المحاكاة والتخييل يكون إتباع المشتهر بالخفي حيث يقصد زيادة المشتهر شهرة أو تأكيد ما فيه من الاشتهار مناقضا للمقصد من حيث كان الواجب في المحاكاة أن يتبع الشيء بما يفضله في المعنى قصد تمثيله به أو يساويه أو لا يبعد عن مساواته، وهي أدنى مراتب المحاكاة.
فالأول هي التي يكون مقصد الكلام وأسلوب الشعر يقتضيان ذكرها وبينة الكلام عليها. والثواني هي التي لا يقتضي مقصد الكلام وأسلوب الشعر بنية الكلام عليها.
٩- إضاءة: ومن المتصورات ما يليق بحقيقة مقاصد الشعر المألوفة وأغراضه المتداولة، وتصلح أن تورد فيها أوائل وثواني، ومنها ما لا يليق بها ولا يصلح فيها أن تورد أوائل ولكن تورد ثواني على ما تقدم ذكره. فالتي يصلح أن تورد أوائل وثواني هي ما تعلق المتصور فيه بشيء معروف عند الجمهور من شأنهم أن يرتاحوا إليه أو يكترثوا له، كان ذلك الشيء مدركا بالحس أو بغيره.
والتي لا يصلح أن تورد أوائل وتورد ثواني هي ما تعلق التصور فيها بحقيقة شيء لا تعم معرفته جميع الجمهور.
١٠- تنوير: فالأصيل في الأغراض المألوفة في الشعر من هذين الصنفين ما صلح أن يقع فيها أولا وثانيا متبوعا وتابعا، لأن هذا يدل على شدة انتسابه إلى طرق الشعر وحسن موقعه منها على كل حال. وهي المعاني الجمهورية. ولا يمكن أن يتألف كلام بديع عال في الفصاحة إلا منها.
1 / 6