١- إضاءة: ولما كان للإنسان كمالات في بدنه تحصل عن اعتياد ما يصدر عنها بعد تحصيلها أو ما ينحو نحوها ليحصلها عن اعتياد ما يصدر عنها بعد تحصيلها أو ما ينحو نحوها ليحصلها ملكات تصدر عنها أفعال، وكمالات في نفسه تصدر عنها أو تنحو نحوها أفعال وانفعالات، وكمالات في عقله تصدر عنها تمييزات وإدراكات، وكان الإنسان فيما يصدر عن تلك الكمالات وينحو نحوها لا يخلو من أن يروم حظا يوثر به نفسه على بدنه أو بدنه على نفسه أو غيره على نفسه أو نفسه على غيره، وكان المحمود من ذلك إيثار نفسه على بدنه وإيثار غيره على نفسه، والطرفان الآخران مذمومان، وكانت الأفعال المحمودة والمذمومة من جميع ذلك تختلف رتبها في مقدار ما يجب عليها من الحمد والذم بحسب اختلاف الأحوال المطيفة بها -والأحوال المطيفة بالأفعال هي: الزمان، والمكان، وما منه الفعل، وما إليه الفعل، وما عنده الفعل، وما به الفعل، وما من أجله الفعل. فأخذ أبي دؤاد الحق من ابنه وإقادته بحاره الذي قتله يربي على كثير مما يجل من فواضل الكرم ونوافه، وإن كان ذلك نصفة منه، وجود كعب على النمري بالجرع التي آثره بها على نفسه حتى مات عطشا في المكان الذي كانا فيه أعظم أثرا في الكرم من وجود غيره بكل حظ جليل لا تعود به السماحة عليه بمثل ما عادت على كعب.- وجب أن يكون الفعل معتبرا بتلك الأحوال المطيفة. فيكون بالنسبة إلى حال منها محمودا، وبالنسبة إلى حال أخرى مذموما، ويكون بالنسبة إلى بعض تلك الأحوال في أعلى درجات الحمد، وتارة في أدنى الدرجات من ذلك، ووسطا بين الحالين. وكذلك تختلف أيضًا حاله في درجات الذم بحسب اختلاف تلك الأحوال المطيفة.
٢- تنوير: ولما كانت الأشياء الصادرة عن تكل الكمالات والناحية نحوها منها ما للإنسان أني فعله، ومنها ما ليس إليه أن يفعله بل هو مضطر إليه، وكان ما ليس إليه أن يفعله منه ما يدل على وجود ما للإنسان أن يفعله، ومنه ما لا يدل على وجود ذلك له، والذي يدل على وجود ذلك له ولو بتقوية الظن في ذلك منه ما يدل على وجود الأفعال المحمودة، ومنه ما يدل على وجود الأفعال المذمومة، وجب أن تكون الأشياء التي تدل على وجود الأشياء المحمودة قد تستعمل في الحمد، كما أن الأشياء الدالة على وجود الأفعال المذمومة قد تستعمل في الذم وليت بأصلية في ذلك.
٣- إضاءة: وقد يجري مجرى هذه الأشياء، في كونها يحمد بها لدلالتها على ما يحمد، أشياء أخر خارجة عن أوصاف الشيء المحمود، كذكر كرم الأسرة وشرف السلف لكون فضل الأصل يدل على فضيلة الفرع في كثير من الأمر.
٤- تنوير: وأكثر ما تعتمد العرب به في المدح الأفعال التي تتجشم الأنفس فيها الضرر لنفع غيرها ممن له أدنى استحقاق أو حاجة على ذلك. ولهذا قال أبو الطيب المتنبي: (البسيط -ق- المترادف)
لولا المشقة ساد الناس كلهم، ... الجود يفقر، والإقدام قتال
٤- إضاءة: والأمور التي تتجشم فيها النفوس المشقة والضرر لتنفع بذلك غيرها وتريحها: إما أن تكون حقوقا ثابتة قبل المتجشم للمشقة فيها فيكون ذلك منه نصفة وعدلا، وإما أن تكون غير واجبة قبله بل يسمح بها تبرعا ويتفضل بها إيثارا فيكون ذلك منه نافلة وفضلا. وأحسن المدح ما كان بهذا الصنف من الأفعال.
٦- تنوير: وقد فرق الناس بين ما يكون المدح أو الذم حقيقيا، وما ليس بحقيقي من ذلك. وقسموا الفضائل التي يكون بها المدح الحقيقي إلى أربع خلال على ما أنا في ذكره.
فمن ذلك قول أبي الفرج قدامة، وقد سبقه القدماء إلى هذه القسمة قال: "لما كانت فضائل الناس، من حيث هم ناس -لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان- على ما عليه أهل الألباب، إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيبا وبما سواها مخطئا. وقد قال زهير: (الطويل -ق- المتدارك)
أخي ثقة لا تتلف الخمر ما له ... ولكنه قد يتلف المال نائل
لأنه قد وصفه بالعفة وبقلة إمعانه في اللذات وبأنه لا ينفذ فيها ماله وبإهلاكه ما له في البذل وانحرافه إلى ذلك عن اللذات وذلك هو العدل، ثم قال:
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أراد أن فرحه بما يعطي أكثر من فرحه بما يأخذ، فزاد في وصف السخاء منه بأن جعله يهش ولا يحلقه مضض ولا تكره لفعله ثم قال:
1 / 52