كل قول قصد به محاكاة شيء ونحي بذلك منحى من الأغراض فإنه يجب ألا يتعرض فيه إلى ما هو أليق بمضاد الشيء المحاكى به وأخص به أو أخص بمناسب مضاده، وألا يتعرض في تخييل حال الشيء المحاكى به إلى ما هو أخص بحال مضاد ذلك الشيء أو مناسب مضاده، وألا يتعرض في القول وما دل عليه إلى ما هو أخص بمضاد الغرض الذي نحي به منحاه أو إلى ما هو أخص بمناسب مضاد ذلك الغرض، وألا يتعرض فيه إلى لفظ له عرف فيما يضاد المعنى الذي دل عليه أو الغرض الذي نحي به منحاه أو الشيء الذي قصدت به محاكاته ولا إلى ما يناسب مضادات جميع ذلك، فإن التعرض في القول لما يضاد معناه مدلوله وغرضه، أو إلى ما يناسب تلك المضادات، أو إلى ما له عرف في شيء من ذلك، ضروب من التدافع.
١- إضاءة: وأكثر ما يقع التعرض في أحد المتضادين إلى ذكر ما هو أليق بالآخر وأخص به إذا كان للمتعرض له علقة بما هو خارج عن غرض القول مما سوى ذلك من أغراض المتكلم أو الموصوف أو المخاطبين، فألم به لأجل تلك العلقة وسها عن كونه قادحا في غرض القول أو فيما يرجع على حال الشيء المحاكي، أو تسومح في ذلك القدر من القدح اختيارا، أو لز على المسامحة فيه اضطرار.
٢- تنوير: فالجهات التي يجب فيها أن يتوقى في الشيء ما هو أخص بمضاده وما جرى مجراها هي جهات التضاد والتخالف في الأفعال والانفعالات والهيئات والأحوال والتمييزات وأغراض الكلام المترامية على أنحاء هذه الأشياء نحو التهنئة والتعزية والمديح والهجاء.
٣- إضاءة: فمن المعاني التي قصد فيها الذم فأورد في العبارة عنها ما هو أليق بالمدح قول الفرزدق: (الطويل -ق- المتدارك)
بأي رشاء يا جرير وماتح ... تدليت من هامات تلك القماقم
فقال له جرير: "جعلتني أتدلى على قومك".
ومن الأبيات التي وقع فيها سوء أدب حيث يجب حسن الأدب قول جرير: (الرجز -ق- المترادف)
يا بشر حق لوجهك التبشير ... هلا غضبت لنا وأنت أمير
قد كان حقك أن تقول لبارق ... يا آل بارق فيم سب جرير
فقال بشر: ما وجد ابن اللخناء رسولا غيري!؟.
٤- تنوير: ومن ذلك أن تأتي العبارة في صورة ما يضاد الغرض، نحو ما حكي من أن بعض الشعراء أنشد الداعي في يوم المهرجان: (الرجز -ق- المتواتر)
تقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي، ويوم المهرجان
فأمر بضربه خمسين عصا وقال: "هذا أبلغ في إصلاح أدبه".
ومن ذلك استفتاح أبي نواس قصدته التي هنى فيها الفضل بن يحي ابن خالد بدار ابتناها فقال: (الطويل -ق- المترادف)
أربع البلى إن الخشوع لباد عليك وإني لم أخنك ودادي
فتطير الفضل من ابتدائه، فلما ختم القصيدة بقوله:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغاد
استحكمت كراهته لما سمع. فما مر أسبوع حتى نكب بنو برمك.
وحكي أن البحتري أنشد محمدا بن يوسف أو غيره من أمراء الثغور: (الطويل -ق- المتدارك)
لك الويل من ليل تطاول آخره ... ووشك نوى حي تزم أباعره
فقال له الممدوح: "بل لك الويل والحرب". على أن هذا البيت روى بالهاء بدل الكاف في قوله لك وهي أشبه من الرواية الأخرى.
وقد أنكر عبد الملك على جرير ما هو دون هذا حين أنشده: (الوافر -ق- المترادف) "أتصحو أم فؤادك غير صاح"؟ .
فقال له الملك: "بل فؤادك".
٥- إضاءة: وقد تكون للعبارة دلالة على أمر مكروه خارج عما جيء بها للدلالة عليه، إما باشتراك وقع في اللفظ، أو بعرف واستعمال حدث فيه ولو للعامة. فيجب أن يتحفظ من ذلك حيث تتهيأ تلك العبارة بنفسها أو مع ما يكتنف بها لأن يفهم منها بحسب الاشتراك الواقع فيها أو بحسب العرف والاستعمال أمر قبيح في حق ممدوح أو مندوب أو منسوب به أو نحو ذلك مما يكره في حقه القبح.
ومن ذلك قول الصاحب في عضد الدولة: (الطويل -ق- المتدارك)
ضممت على أبناء تغلب تاءها ... فتغلب ما كر الجديدان تغلب
فقال عضد الدولة: " يقي الله! ".
ومما أكد القبح في هذه اللفظة التي هي قوله تغلب وقوعها قافية، فإنها مقطع الكلام وموضع تخلي السامع وتفرغه لتفقد ما مر على سمعه مما وقع فيها. فالسمع أقرب عهدا به، وهو أشد ارتساما فيه. ولو وردت اللفظة التي أنكرها عضد الدولة في أثناء البيت لكان الأمر فيها أسهل.
1 / 48