تنوير: فأما السبب في حسن موقع المحاكاة من النفس من جهة اقترانها بالمحاسن التأليفية فهو أنه لما كان للنفس في اجتلاء المعاني في العبارات المستحسنة من حسن الموقع الذي يرتاح له ما لا يكون لها عند قيام المعنى بفكرها من غير طريق السمع، ولا عند ما يوحى إليها المعنى بإشارة، ولا عند ما تجتليه في عبارة مستقبحة، ولهذا نجد الإنسان قد يقوم المعنى بخاطره على جهة التذكر، وقد يشار له إليه، وقد يلقى إليه بعبارة مستقبحة، فلا يرتاح له في واحد من هذه الأحوال. فإذا تلقاه في عبارة بديعة اهتز له وتحرك لمقتضاه، كما أ، العين والنفس تبتهج لاجتلاء ما له شعاع ولون من الأشربة في الآنية التي تشف عنها كالزجاج والبلور ما لم تبتهج لذلك إذا عرض عليها في آنية الحنتم وجب أن تكون الأقاويل الشعرية أشد الأقاويل تحريكا للنفوس، لأنها أشد إفصاحًا عما به علقة الأغراض الإنسانية، إذا كان المقصود بها الدلالة على أعراض الشيء ولواحقه التي للآداب بها علقة.
والأقاويل غير الشعرية، وخصوصا ما قصد به التصديق والدلالة على ماهيات الأشياء، إنما تفهم منها في أكثر الأمر تلك اللواحق والأعراض على جهة الالتزام والتضمن. وليس ما يكون نصا على الشيء في تمكين إلقائه من النفس طبقا له مثل ما لا يفهم الشيء منه إلا بطريق ضمن أو لزوم.
وأيضا فإن الأقاويل الشعرية يحسن موقعها من النفوس من حيث تختار مواد اللفظ وتنتقى أفضلها وتركب التركيب المتلائم المتشاكل وتستقصى بأجزاء العبارات التي هي الألفاظ الدالة على أجزاء المعاني المحتاج إليها حتى تكون حسنة إعراب الجملة والتفاصيل عن جملة المعنى وتفاصيله، يكون التخيل كما قدمت، يجب فيه تخييل أجزاء الشيء عند تخييله حتى تتشكل جملته بتشكل أجزاء، فتقوم صورته بذلك في الخيال الذهني على حد ما هي عليه خارج الذهن، أو أكمل منها إن كانت محتاجة إلى التكميل.
وقد قال أفلاطون في كتاب السياسة له: "إنا لا نلوم مصورا إن صور صورة إنسان فجعل جميع أعضائه على غاية الحسن، فنقول له إنه ليس يمكن أن يكون إنسان على هذه الصورة، وذلك أن المثال ينبغي أ، يكون المثال".
وليس ما سوى الأقاويل الشعرية في حسن الموقع من النفوس مماثلا للأقاويل الشعرية، لأن الأقاويل التي ليست بشعرية ولا خطابية ينحى بها نحو الشعرية لا يحتاج فيها إلى ما يحتاج إليه في الأقاويل الشعرية، إذ المقصود بما سواها من الأقاويل إثبات شيء أو إبطاله أو التعريف بماهيته وحقيقته.
وإنما يثبت الشيء بغيره وربما هو خارج عنه مما له نسبة إلى ما يرجع غليه مما شأنه إذا ألفت العبارة فيه تأليفا محدودا أن ينتقل منه إليه ويصار به إلى معرفة ثباته أو ارتفاعه. وإذا عرف فإنما يعرف بقول يدل على ماهيته المشتركة والخاصة، وليس يدل على اللواحق والأعراض التي بها تشبث الآداب الإنسانية وعلقة الأغراض إلا على جهة التزم. وإذا خيل لك الشيء بالأقاويل المحاكية له فالمقصود محاكاة ما هو عليه من حسن أو قبح بأقاويل تخيل لواحقه وأغراضه التي بها علقة الأغراض، ومحاسن الشيء ومساويه راجعة غليه. فإذا حوكي الشيء بصفاته أو ما هو مثال لصفاته تصور بما يرجع إليه وبما له علقة بالأغراض مما يرجع إليه أو ما هو مثال لما يرجع إليه. وإذا قصد التعريف به أو الاستدلال عليه عرف بما ليس له علقة بالأغراض، واستدل عليه بما هو خارج عنه.
فمحصول ما عدا الأقاويل الشعرية إيقاع تعريف أو تصديق بما لا تشتد علقته بالأغراض أو لا تكون علقته بالجملة، أو مغالطة السامع وإيهامه أن ذلك واقع من غير أن يكون كذلك. ومحصول الأقاويل الشعرية تصوير الأشياء الحاصلة في الوجود وتمثيلها في الأذهان على ما هي عليه خارج الأذهان من حسن أو قبح حقيقة، أو على غير ما هي عليه تمويها وإيهاما، فأقوال دالة على ما يلحق الأشياء ويعرض لها مما هو خارج عن مقوماتها مما علقة الأغراض الإنسانية به قوية.
1 / 38