٤- تنوير: وإذا حوكي الشيء جملة أو تفصيلا فالواجب أن تؤخذ أوصافه المتناهية في الشهرة والحسن إن قصد التحسين، وفي الشهرة والقبح إن قصد التقبيح. ويبدأ (في الحسن) بما ظهور الحسن فيه أوضح وما النفس بتقديمه أعنى، ويبدأ في الذم بما ظهور القبح فيه أوضح والنفس بالالتفات إليه أيضًا أعنى، وينتقل من الشيء إلى ما يليه في المزية من ذلك. ويكون بمنزلة المصور الذي يصور أولا ما جل من رسوم تخطيط الشيء، ثم ينتقل إلى الأدق فالأدق. وهذا في تخييلات الأشياء المقصود تخييل جزء جزء منها واجب، مثل أن يبدأ بتخييل أعالي الإنسان ويختتم بتخييل أسفله، لاسيما إذا كانت المحاكاة تفصيلية. فإن كانت الأوصاف المخيل بها متفاوتة لم يحسن الجمع بينهما كيفما رتبت إلا باستئناف أحدهما في حيز من الكلام منفصل عن حيز الآخر أو بمنزلة المنفصل، لأن النقلة من الأدنى إلى الأعلى المفاوت طفرة، ومن الأعلى إلى الأدنى المفاوت سقوط وانحطاط. فأما إذا تناسبت الأوصاف فالوجه تقديم ما عناية النفس به أكبر وهو عندها أشهر في الشيء وأظهر فيه بالنسبة على غرض الكلام.
فهذا هو الوجه في المحاكيات والأوصاف إذا تناسبت، وأن يقال منا قال حبيب: (الكامل -ق- المترادف)
إنا غدونا واثقين بواثق ... بالله شمس ضحى وبدر تمام
وكما قال المتنبي: (البسيط -ق- المتراكب) شمس ضحاها هلال ليلتها ويحبون عكس هذا، لكن هذا هو الوجه الذي كثر في فصيح كلام العرب.
فأما قول القائل: (الرجز -ق- المتدارك)
تالله لا كلمتها ولو أنها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي
فإنما كان النسق ههنا على سبيل الترقي لأن أو يذهب بها حيث يقصد تعجيب المخاطب من زيادة الشيء تعظيما بعد تعظيم أو تحقيرا بعد تحقير مذهب من تخطى الشيء على ما هو أبلغ منه في المعنى. فحسن هذا لما كان هذا المذهب مناسبا لمعنى (أو) وما ينحى بها نحوه.
٥- إضاءة: وإنما قدمت العرب أدنى المعنيين على الآخر في مواضع معلومة من كلامها لمعان أخر: إما لأن الأحقر من جهة ما متقدم على ما هو أجل منه من جهة أخرى، أو لأن أحدهما في ضمن الآخر ويخيل بعض ما خيل لا يكون بينهما تباين إلا من جهة الأزيد والأنقص والأعم والأخص. فذكر القاصر منهما بعد الآخر فضل، فلا يمكن أن يقون به إلا بتقديمه عليه، أو لأن الأحقر بالنسبة إلى غرض الكلام أبلغ نحو قولهم: ما أخذت منه قليلا ولا كثيرا لأن إنكار القليل أبلغ من جهة الجحود فكان القليل لذلك أولى بالتقديم، أو لأن الأحقر يكون فيه استدراج لذكر الأجل وتسبب له، ولمعان أخر يطول ذكرها. وكذلك التغليب في مثل القمرين إنما يغلب الأرجح من جهة الفصاحة أو البلاغة لفظا أو معنى. وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل، قد أغنى عن ذكره هنا ما أوردناه ونورده بعد إن شاء الله من قوانين الفصاحة والبلاغة. فهذا هو القانون الذي يجب أن يعتبر في ترتيب التخييل والأوصاف.
1 / 32