٨- تنوير: ولا يحذف من المقاييس إلا ما يكون في قوة الكلام دليل عليه من مقدمة أو نتيجة أو قضية مستثناة. وهذا المحذوف قد يكون القصد به طي المقدمة التي يظهر فيها الكذب، وقد تكون مقدمات القياس كلها صادقة وتطوى إحداها لما ذكرته من قصد التخفيف خاصة.
٩- إضاءة: وقد يكون اقتضاء ما أبقي من القياس لما أميط عنه اقتضاء صحيحا. وقد يكون غير مقتض له في الحقيقة ويظهر في بادئ الرأي أنه مقتض له على الصحة. وأكثر ما يكون هذا في الاستثناءات الشرطية نحو قول امرئ القيس: (الطويل -ق- المتدارك)
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
ففي قوة هذا الكلام، على ما يترامى إليه غرض القول، أن يكون الاستثناء نقيض المقدم والنتيجة نقيض التالي، أي لكنك لم تسؤك مني خليقة فيوهم أنه منتج: فلا تسلي ثيابي من ثيابك. وهذا استثناء وإنتاج غير صحيحين، وإنما يستعمل هذا في الخطابة على جهة الإقناع. وإنما تصح نتيجة الشرطية المتصلة إذا استثني فيها عين المقدم فأنتج عين التالي، أو استثني نقيض التالي فأنتج نقيض المقدم. والمقدم هي القضية التي تلي حرف الشرط، والتالي هي القضية التي تكون جوابا للشرط.
١٠- تنوير: فإذا كان الاستثناء والإنتاج على هذا النحو الذي ذكرته آخرا وكانت القضايا صحيحة مسلمة كان القياس صحيحا وكان لزوم النتيجة لما تقدمها من أجزاء القياس واجبا، لأن القياس قول مؤلف من مقدمات وقضايا إذا كانت مسلمة ورتبت الترتيب الذي يجب في القياس الصحيح لزم عن ذلك القول المرتب لذاته قول آخر يسمى نتيجة.
١١- إضاءة: فما كان من الأقاويل القياسية مبنيا على تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو يعد قولا شعريا، سواء كانت مقدماته برهانية أو جدلية أو خطابية يقينية أو مشتهرة أو مظنونة. وما لم يقع فيه من ذلك بمحاكاة فلا يخلو من أن يكون مبنيا على الإقناع وغلبة الظن خاصة، أو يكون مبنيا على غير ذلك. فإن كان مبنيا على الإقناع خاصة كان أصيلا في الخطابة دخيلا في الشعر سائغا فيه. وما كان مبنيا على غير الإقناع مما ليس فيه محاكاة فإن وروده في الشعر والخطابة عبث وجهالة سواء كان ذلك صادقا أو مشتهرا أو واضح الكذب.
١٢- تنوير: وأكثر ما يستدل في الشعر بالتمثيل الخطابي. وهو الحكم على جزئي بحكم موجود في جزئي آخر يماثله، نحو قول حبيب: (البسيط -ق- المتراكب)
أخرجتموه بكره من سجيته ... والنار قد تنتضى من ناضر السلم
فالأقاويل التي بهذه الصفة خطابية بما يكون فيها من إقناع، شعرية بكونها متلبسة بالمحاكاة والخيالات.
١٣- إضاءة: والاستدلالات الواقعة في الشعر والأمثال المضروبة فيه إنما تجيء تابعة لبعض ما في الكلام، أو لما قد أشير إليه مما هو خارج عنه. فهي إما محاكاة لمتنوعاتها، أو تخييلات فيها أو من أجلها. فكثير من الأمثال أيضًا يكون قولا شعريا، ويكون منها ما هو قول حق، ومنها ما ليس بحق كما كان ذلك في المحاكاة والاستدلالات.
١٤- تنوير: وإنما اتسع في المحاكيات الشعرية، على هذه الأنحاء التي أشرت غليها وعلى ما نذكره بعد في أصناف المحاكيات وكيفيات التصرف فيها، في لسان العرب خاصة. فلذلك وجب أن توضع لها من القوانين أكثر مما وضعت الأوائل.
فإن الحكيم أرسطاطاليس، وإن كان اعتنى بالشعر بحسب مذاهب اليونانية فيه ونبه على عظيم منفعته وتكلم في قوانين عنه، فإن أشعار اليونانية إنما كانت أغراضًا محدودة في أوزان مخصوصة، ومدار جل أشعارهم على خرافات كانوا يضعونها يفرضون فيها وجود أشياء وصور لم تقع في الوجود، ويجعلون أحاديثها أمثالا وأمثلة لما وقع في الوجود. وكانت لهم أيضًا أمثال في أشياء موجودة نحوا من أمثال كليلة ودمنة ونحوا مما ذكره النابغة من حديث الحية وصاحبها. وكانت لهم طريقة أيضًا - وهي كثيرة في أشعارهم - يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه، وتنقل الدول وما تجرى عليه أحوال الناس وتؤول إليه.
فأما غير هذه الطرق، فلم يكن لهم فيها كبير تصرف، كتشبيه الأشياء بالأشياء، فإن شعر اليونانيين ليس فيه شيء منه، وإنما وقع في كلامهم التشبيه في الأفعال لا في ذوات الأفعال.
1 / 20