٦- تنوير: وتتضاعف صور العبارات بما يوقع في معانيها من تحديدات ترجع إلى ما تكون عليه في نفوسها، من كونها عامة أو خاصة، كلية أو جزئية. وتتضاعف أيضًا بحسب الأحكام الواقعة في المعاني بعد تحديداتها، من نفي وإثبات ومساواة أو ترجيح أو غير ذلك، ومن جهة كيفيات المخاطبات في المعاني وكون ذلك يكون تأدية أو اقتضاء ونحو ذلك. وكل واحد من هذه له صيغ شتى يعبر بها عنه، فمع أن المعاني تتضاعف صورها بحسب ما تقدم فإن هذه الأشياء أيضًا مما تتضاعف بها الصيغ والعبارات عن تلك المعاني فيؤدي تنوع صور المعاني والعبارات- بجميع ذلك وبما قد ذكر أيضًا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب مما تتكاثر به صور المعاني- إلى وقوع المعاني على هيآت وصور يعز حصرها ولا يتأتى استقصاؤها لكثرتها. وإنما يعرف صحتها من خللها أو حسنها من قبحها بالقوانين الكلية التي تنسحب أحكامها على صنف صنف منها، ومن ضروب بيانها. ويعلم من تلك الجمل كيفية التفصيل. ولا بد مع ذلك من الذوق الصحيح والفكر المائز بين ما يناسب وما لا يناسب وما يصح وما لا يصح بالاستناد إلى تلك القوانين على كل جهة من جهات الاعتبار في ضروب التناسب وغير ذلك مما يقصد تحسين الكلام به.
٧- إضاءة: وللأفكار تفاوت في تصرفها في ضروب المعاني وضروب تركيبها من جميع هذه الجهات التي ذكرت. ويتقوى على ذلك بالطبع الفائق والفكر النافذ الرائق، وبالمعرفة بجميع ما يحتاج إلى معرفته في هذه الصناعة من حفظ الكلام والقوانين البلاغية التي تضمن هذا الكتاب جملة كبيرة منها.
٨- تنوير: وصور المعاني ضربان: صور متكررة وصور غير متكررة. والتكرار لا يجب أن يقع في المعاني إلا بمراعاة اختلاف ما في الحيزين اللذين وقع فيهما التكرار من الكلام. فلا يخلو أن يكون ذلك إما لمخالفة في الوضع: بأن يقدم في أحد الحيزين ما أخر في الآخر، أو بأن تختلف جهات التعلق في الحيزين، أو بأن يفهم المعنى أولا من جهة من جهات الإبهام ثم يورد مفسرا من الجهة التي وقع فيها الإبهام، أو بأن يجمل ثم يفصل -وهذا يجتمع مع ما قبله من جهة ويفارقه من جهة- أو بأن يفصل ثم يجمل الضرب من المقاصد، أو بأن يورد على صورة من الجمع والتفريق كما يقال: أنت وزيد بحران لكن أنت للعذوبة وذلك للزعوفة أو بأن تبان الجهتان اللتان توافى بهما الضدان على الشيء كقوله: (الطويل -ق- المتدارك) يخشى ويتقى يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق فعلى هذه الأنحاء وما ناسبها يقع التكرار في المعاني فيستحسن. وكثيرا ما تقع التفصيلات والتفسيرات والتقسيمات في المعاني التي تكون من هذا القبيل.
٩- إضاءة: فمن أحكم التصرف في هذا الضرب من المعاني المتكرر والضرب الآخر، وتصرف فيهما من جهات أنواع التركيبات التي أشرنا إليها في ما تقدم من هذا المعرف، كان كلامه ممتعا من كل فن من فنون البلاغة، وكان حسن الموقع من النفوس.
ومن كان له ذهن يتمكن به -له أن يفصل ما أجملت في هذا الباب ويفرع ما أصلت- انتفع بهذا الباب نفعا كثيرا في هذه الصناعة، إذ لم يمكنا نحن أن نتفرع إلى تفريع ذلك وتفصيله وتمثيله. فإن ذلك محوج إلى إطالة كثيرة. وإنما نتحرى أن نعل بين الأبواب أو نقارب العدل في ما نذكره، ليكون كل باب قد تضمن قسطا مقنعا مما يجب. فأما ما وراء الإقناع. فلا يمكن استقصاء ذلك في باب، فإن ذلك يضاعف حجم الكتاب، ويؤدي إلى إقطاع هذه الصناعة من عناية النفس فوق ما يجب لها إذ قدر العناية بالشيء إنما يجب أن يكون بإزاء قدر المستفاد منه، وفائدة هذه الصناعة بحسب ما سحب عليها الزمان من أذيال الإذالة وألحفها من معرة الخمول قليلة نزرة، بل غنما غاية محكمها إذاية أهل الفدامة له ممن يظن أن له قدما في الفصاحة، وهو منها بمنزلة الحضيض من السماك. فلذلك كان خليقا أن تكون العناية بهذه الصناعة غير بالغة أو تصرف عنها العناية بالجملة. ولا توفيق إلا بالله.
هـ- معلم دال على طرق العلم باستثارة المعاني من مكامنها واستنباطها من معادنها
1 / 11