على أن للفلسفة - في رأيه - بعد هذا كله ثمرة مفيدة، وتلك أنها تشحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجج، لتحصيل ملكة البرهنة السديدة؛ «لأن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان» - على حد تعبيره - هو شرط عملية التفلسف بكل ما فيها من علوم طبيعية ورياضية؛ فلا بأس في دراسة الفلسفة على شرط التحرز من مزالقها «وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل أن يسلم لذلك من معاطيها.»
6
هكذا يختم ابن خلدون حديثه في الفلسفة، ولو صحت هذه النظرية لذهبت الفلسفة وذهب معها العلم الذي كان ابن خلدون من أساطينه.
فلاسفة معاصرون
كان الناشئ الإسباني الصغير قد تأثر بأبيه في إسبانيا أعمق الأثر قبل أن يعبر المحيط مع أمه إلى أمريكا؛ ذلك أن الوالد كان يصطحب ابنه الصغير في تنزهاته، ويحاول أن يبذر فيه بذور الأفكار الرئيسية التي كان يعتقد في صوابها، فبذر فيه كراهية للتفكير التأملي الشاطح، وحبا للتفكير القائم على الوقائع المباشرة، كما بث فيه - في نفس الوقت - حبا للشعر وتشككا في العقائد التي يولدها الخوف من المجهول ثم تنزل من عقول الجاهلين كأنها الحق اليقين.
فما أن ذهب ناشئنا إلى أمريكا وبدأ حياته الدراسية، حتى بدت منه بوادر النبوغ وأمارات التفرد بخصائص تميزه من بقية الزملاء، فهو - على خلاف هؤلاء الزملاء - يحب الدراسة الجادة في العزلة الهادئة، ولا يطمئن نفسا إذا ما وجد نفسه في حشد من الناس، حتى تعرض بسبب هذا الشذوذ لسخرية الزملاء الذين لا يرضيهم إلا أن يكون الكل سواء. لكن كان لفيلسوفنا الناشئ من حدة اللسان وغضبة الثائر ما كفل له الوقاية من لذعات الساخرين.
فلما فرغ سانتيانا من دراسته الثانوية ودخل الجامعة - جامعة هارفارد - وجد الفرصة سانحة لإشباع رغبتيه معا: رغبته في الدراسة الجادة، ورغبته في العزلة. وكان حتى ذلك الحين يعاني صراعا في نفسه عن الموقف الذي يقفه إزاء الإيمان بالدين: أيتنكر له ويتشكك فيه كما أوصاه أبواه؟ أم يفيء إلى ظله الوارف المريح؟ ولبث كذلك حتى فرغ من الدراسة الجامعية، وعندئذ حدد لنفسه موقفا صريحا، ولم يعد - كما كان من قبل على حد تعبيره هو - «واقفا من الكنيسة عند بابها.» لا يدخلها ولا يغادرها، إنه الآن فقط استقر قراره: نعم إن الإيمان الديني - كما قال له أبواه - من وهم الخيال، ولكنه خالف أبويه حين قال لنفسه: وماذا يعيب وهم الخيال؟ إن خلق الخيال البديع أمر لا مندوحة لنا عنه، ما دمنا لا نخلطه بأمور الواقع فنظنه منها. لا بل إن أمنيته أصبحت واضحة المعالم أمام عينيه، وهي أن يكف عن الشطح فيما هو فوق الطبيعة، وأن يكف عن الغوص في جلبة الحياة الواقعة، ليلوذ بعزلة يستطيع فيها أن يبدع بخياله صورا يعيش معها وفيها. وفي تلك الصور التي خلقها وأبدعها جوانب فلسفته وأركانها.
لم يكد سانتيانا يظفر بالدكتوراه في الفلسفة من جامعة هارفارد - وكان من بين أساتذته هناك وليم جيمس وجوزيا رويس - حتى عين بالجامعة نفسها محاضرا لمدة تسع سنوات، فأستاذا مساعدا لمدة تسع سنوات أخر، فأستاذا لكرسي الفلسفة بالجامعة بعد موت أستاذه جوزيا رويس. ولبث يشغل منصب الأستاذية حتى غادر هارفارد سنة 1912م، وكان عندئذ قد أوشك على الخمسين.
لم يكن فيلسوفنا سعيدا إبان مقامه بهارفارد؛ فلئن أحب الدراسة لذاتها، فقد كره التدريس، فتراه في القصة الوحيدة التي كتبها يقول عن بطلها إنه اضطر إلى مهنة التدريس لأنه لم يجد صنعة أخرى يشتغل بها. ويقول أحد أشخاص القصة: «إنه ينبغي للناس إما أن يتولوا تعليم أنفسهم بأنفسهم، أو أن يظلوا جاهلين، والكثرة الغالبة منهم تفضل البديل الثاني.» وهكذا نظر سانتيانا إلى تدريسه بالجامعة نظرته إلى الواجب الكريه الذي لم يكن له منه بد ليعيش أولا، وليدخر ما يعينه فيما بعد على حياة العزلة. وفي ذلك يقول: «الحق أني كنت دائما على غير طبيعتي في التدريس وفي المجتمع، ففي كليهما كنت أفتعل ما أقول افتعالا.» ولما كان فيلسوفنا وحيدا لم يتزوج قط، وعاش حياة زهد لا ترف فيها ولا إسراف، فقد استطاع أن يدخر ما يمكنه من الفرار من مهنته وهو لم يزل في سن صغيرة نسبيا، ذلك فضلا عما أخذ يأتيه من أرباح من كتبه المنشورة.
ويروي أنه ذات يوم، بينما كان في غرفة المحاضرة يلقي درسه على طلابه، حانت منه التفاتة خلال النافذة إلى الخارج، فنظر إلى طلابه وقال: «إنني على موعد مع الربيع.» وخرج من قاعة الدرس بخطوات سريعة ولم يعد بعدها أبدا. سافر إلى أوروبا حيث أقام حينا في أكسفورد (وكان ذلك إبان الحرب العالمية الأولى) وحينا آخر وأخيرا في روما، وبين الحينين أخذ يتنقل هنا وهناك في ربوع أوروبا، وخلال فترات عزلته الطويلة أخرج مؤلفاته الفلسفية الهامة التي منها يتكون مذهبه. فقبل مغادرته لأمريكا كان قد أصدر كتاب «الإحساس بالجمال
Halaman tidak diketahui